رميه بالزندقة

ما من أحد ترجم لابن المقفع أو أشار إليه إلا روى أنه كان يُرمى بالزندقة، حتى إن بعض مترجميه كعبد القادر البغدادي صاحب خزانة الأدب عرَّفه بالزنديق، وابن خلكان ذكره بمناسبة زندقة الحلاج، وقد زعم الناقلون أنه كان منافقًا في إسلامه، لم يسلم إلا ابتغاء عَرَض الدنيا، وأنه كان يضمر المجوسية، والتمسوا للمنصور وسفيان بن معاوية عُذرًا في قتله؛ لأنه أفسد على الناس دينهم، وحجتهم في ذلك ما رُوِيَ عنه من أنه مرَّ ببيت نار المجوس بعد أن أسلم، فتمثَّل بقول الأحوص:

يا بيت عاتكة الذي اتعزل
حذر العدا وبه الفؤاد موكل
إنِّي لأمنحك الصدود وإنني
قسمًا إليك مع الصدود لأميل

وأنه قال في رثاء يحيى بن زياد:

لقد جرَّ نفعًا فقدنا لك أننا
أمنا على كل الرزايا من الجزع

فعزوا ذلك إلى مذهب الزنادقة في أن الخير ممزوج بالشر والشر ممزوج بالخير؛ لأن مبدأ العالم على قول ماني كَوْنَان، أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنه بدا له أن يعارض القرآن فألَّف الدرة اليتيمة، وأنه كان يصحب المتهمين في دينهم كمطيع بن إياس ويحيى بن زياد ووالبة بن الحباب، وأن المهدي قال: ما وجدت كتاب زندقة قط إلا أصله ابن المقفع.

وكل ذلك أدلة لا يُقام لها وزن في تكفير المؤمن وإخراجه من رِبْقة الإسلام. نعم، ليس من المعقول أن يتفق المترجمون على زندقة ابن المقفع من غير سبب معقول، ولكن ذلك السبب خَفِيَ عليَّ فلم أتبينه، قد يُقال: إن ابن المقفع وُلِدَ على المجوسية وشبَّ عليها، وإنه قضى من عمره فيها أكثر مما قضى في الإسلام، وإن المتحوِّل من دين إلى آخر قد تعاوده عقيدته الأولى من غير قصد كما حدث لابن المقفع لما أخبر عيسى بن علي بعزمه على الإسلام، فاستمهله عيسى إلى الغد، ثُمَّ حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجعل يأكل ويزمزم على عادة المجوس، فلما استعظم عيسى ذلك منه اعتذر اعتذار فَطِن لبق، فقال: كرهت أن أبيت على غير دين. ولكن كل ذلك أسباب واهية وفرضيات لا يأبه الإسلام لها.

ارجع إذا شئت إلى ما وصل إلينا من كلام ابن المقفع وامنحه فرط تدبُّر وأَعِرْهُ فضل تفهُّم، واقرأ ما بين السطور كما يقولون، فإنك لن تجد فيه جملة تنز إلى المجوسية بعِرْق أو تضرب من الزندقة على وتر، فما أدري بعد ذلك من أين استدل الناس على زندقته وكيده للإسلام؟ فإن كان من كلامه فليس هنالك مغمز إلا ذلك التأويل البعيد الذي أوَّلوا به قوله:

لقد جر نفعًا فقدنا لك أننا
أمنا على كل الرزايا من الجزع

وهو معنى عربي شائع لا يمتُّ إلى مذاهب الفرس بسبب، ومثله قول أعرابية:

فأمَّا وقد أصبحت في قبضة الردى
فشأن المنايا فلتصب من بدا لها

وقول أبي نواس:

وكنت عليه أحذر الموت وحده
فلم يبق لي شيء عليه أحاذر

وإن كان استدلالهم على زندقته بأفعاله، فلم يرشدونا إلى شيءٍ مقنع منها، والإيمان — كما لا يخفى — أمر وجداني لا يمكن لأحد أن يحكم عليه بطريق الحدس والتخمين.

إذا قصدوا بالزندقة جحد أركان الإسلام ومخالفة أحكامه والطعن عليه والكيد له، فابن المقفع لم يثبت عليه شيء من ذلك، وإن أرادوا بها التهاون بالفرائض وصحبة المتهمين في دينهم والتفكير الحر، فقد يكون ابن المقفع زنديقًا.

لا أُنْكِر أن الفُرْسَ أدخلوا شبهات كثيرة على الإسلام، وأن بعضهم دعا إلى مقالات تخالفه، وأن بعض آراء المانوية استهوت بعض الناس، ولكن الباحث لا يقدر أن يثبت بالبرهان شيئًا من ذلك على ابن المقفع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤