صفته وأخلاقه

إذا صحَّ أن أسلوب الكاتب مرآة أخلاقه وطبعه، فلا شك أن ابن المقفع كان حسن الخلق سهل الطبع كريم السجية حلو المعاشرة وافر المروءة، وقد وصفها الجاحظ بكونه جوادًا فارسًا جميلًا، وما أظنُّ أديبًا عمل بما كان يقول كابن المقفع، قال: «ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بِشْرك وتحيتك ولعدوك عدلك، وضنَّ بدينك وعرضك عن كل أحد.» ولقد بذل هو دمه وماله في سبيل المروءة والكرم والصداقة، وأي إيثار أبلغ من إيثاره لعبد الحميد بن يحيى كاتب بني أمية؟ فقد صحَّ أن عبد الحميد لجأ إلى ابن المقفع بالبحرين بعد مقتل مروان بن محمد، ففاجأه الطلب وهو في بيته، فقال الذين دخلوا عليهما: أيكما عبد الحميد؟ فقال كل منهما: أنا. مخافة على صاحبه، وأوشك الجند أن يقتلوا ابن المقفع لولا أنْ صاح بهم عبد الحميد قائلًا: ترفَّقوا بنا، فإن لكل مِنَّا علامات، فوكِّلوا بنا بعضكم، وليمض البعض الآخر إلى مَنْ وجهكم فيذكر له تلك العلامات. ففعلوا، وأُخِذَ عبد الحميد فقُتِلَ سنة ١٣٢.

وقال ابن قتيبة في عيون الأخبار: بلغ ابن المقفع أن جارًا له يبيع دارًا له لدين رَكِبَه وكان يجلس في ظل داره، فقال: ما قمت إذًا بحرمة ظل داره إن باعها معدمًا وبتُّ واجدًا. فحمل إليه ثمن الدار وقال: لا تَبِعْ.

لم يُشْهَر ابن المقفع بالمجون والخلاعة، ولكنه كان يصحب مَنْ عُرِفُوا بذلك، قال صاحب الأغاني: كان مطيع بن إياس ويحيى بن زياد الحارثي وابن المقفع ووالبة بن الحباب يتنادمون ولا يفترقون، ولا يستأثر أحدهم على صاحبه بمال ولا ملك، وكانوا جميعًا يُرْمَون بالزندقة. وهؤلاء الذين صحبهم كانوا معروفين أيضًا بالخلاعة، ولكنه هو كان إلى الحشمة والتصوُّن أميل.

وروى صاحب الأغاني أيضًا أن معن بن زائدة وروح بن حاتم وابن المقفع اجتمعوا يومًا عند ابن رامين، فلما غنَّتهم جاريته الزرقاء بعث معن إليها بدرة فصبت بين يديها، وكذلك فعل روح، أما ابن المقفع فبعث فجاء بصك ضيعته وقال: هذه عهدة ضيعتي خذيها، فأمَّا الدراهم فما عندي منها شيء.

وهكذا كان الغناء يبعث صبوته ويهز أريحته، وله في الفكاهة جواب يدل على أنه نال حظًّا منها، قال الجاحظ في كتاب البخلاء: روى أصحابنا عن عبد الله بن المقفع قال: كان ابن جذام الشبي يجلس إليَّ، وكان ربما انصرف معي إلى المنزل، فيتغدى معنا ويقيم إلى أن يبرد، وكنت أعرفه بشدة البخل وكثرة المال، فألحَّ عليَّ في الاستزارة وصمَّمت عليه في الامتناع، فقال: جُعِلْتُ فداك، أنت تظن أني ممن يتكلَّف وأنت تشفق عليَّ، لا والله إن هي إلا كسيرات يابسة وملح وماء الحب. فظننت أنه يريد اختلابي بتهوين الأمر عليه، وقلت: إن هذا كقول الرجل: يا غلام، أطعمنا كسرة وأطعم السائل خمس تمرات، ومعناه أضعاف ما وقع اللفظ عليه، وما أظن أن أحدًا يدعو مثلي إلى الحربية من الباطنية ثُمَّ يأتيه بكسرات وملح. فلما صرت عنده وقرَّبه إليَّ١ إذ وقف سائل بالباب فقال: أطعمونا مما تأكلون أطعمكم الله من طعام الجنة. قال: بورك فيك. فأعاد الكلام، فأعاد عليه مثل ذلك القول، فأعاد عليه السائل، فقال: اذهب ويلك فقد ردُّوا عليك. فقال السائل: سبحان الله ما رأيت كاليوم أحدًا يردُّ مِنْ لقمة والطعام بين يديه! قال: اذهب ويلك وإلا خرجت إليك والله فدققت ساقيك. قال السائل: سبحان الله ينهى الله أن يُنْهَر السائل وأنت تدق ساقيه! فقلت للسائل: اذهب وأرِحْ نفسك، فإنك لو تعرف من صدق وعيده مثل الذي أعرف مِنْ صدق وعده لما وقفت طرفة عين بعد ردِّه إياك.

هذا وفي انصرافه إلى المواضيع الأخلاقية في أكثر ما ألَّف وترجم وحثه على الوفاء والصدق والمروءة والإيثار والشجاعة والتقوى. وترك الكذب والحسد. وتقبيح الجبن والبخل؛ دليل على كرم أخلاقه وشرف نفسه، ولقد رفع من قدر الكتابة بمقدار ما غضَّ الشعراء في زمانه من قدر الشعر حين أسرفوا في المدح والقدح، فابن المقفع يمثِّل الأديب الشريف.

١  وفي المحاسن والأضداد للجاحظ أيضًا: لم أجد في بيته إلا كِسَرًا يابسة وملح جريش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤