خيانة النص

الساعة تشير إلى التاسعة صباحًا، يمكنه الآن في ضوء النهار أن يرى الخربشة التي على جدران الكهف، قال في نفسه: ربما طالت أظافرهم واستوحشت وهم يتقلبون على مرقدهم، يمدون أناملهم فيخدشون الحائط الحجري دون وعي وهم نائمون. لكن عندما تمعن الرسم جيدًا تمكن من ملاحظة اسم دقيق أنيق متوازن فنيًّا في مهارة فائقة؛ إنه كلبهم.

فإذا كان سلطان تيه في حالة نفسية جيدة أو طبيعية، لاستطاع بنظرة مركزة فاحصة أن يرى أن هنالك ستة رسوم أخرى على جدران الكهف، ستة رجال نائمون، هل خربش كل واحد منهم رسمه على الحائط؟ بالتأكيد قبل أن يذهب الفتية اليهود في نومهم الآمن تحدثوا قليلًا عن الوضع السياسي في أورشليم، لا بد أن مكسيما أكد لهم — كما رأى في الحلم في الليلة السابقة — أن أنتيخوس الذي يحب دائمًا أن يسميه نابيفانيس الإغريقي الوثني عابد الحجر، سيكون مصيره مصير حكام بابل وآشور وفراعنة مصر الذين سبوْا وعذبوا جدودهم مئات السنين، الفناء هو مصير الروم، وتلا من التوراة: سوف تحطمين يا بابل.

سعيد هو الرجل الذي يفعل بك ما فعلتِ بنا.

الذي يحمل أطفالك ويضرب بهم الصخرة.

أما فليستطيونس الراعي، كان مشغولًا بصبيَّة راعية التقى بها عَرَضًا على ضفاف نهر كيشون بينما هي تقود أغنامها متوجهة إلى جبل كارمل، هو من جبل كارمل، يود عبور النهر، حافية تلتف بثوب من الكتان، خشن من البرد، وجهها الخمري حلو وجاف، به عينان أجمل ما رأى، أو هكذا خُيِّل له، عندما استوقفها لاحظ ذلك، لاحظ أيضًا أنها لا تحمل عَصَاة كعادة الرعاة، سألها: أين تذهبين؟

قالت: إلى السفح.

– لماذا أنت وحدك؟

قالت: معي الرب.

قال: أين هو؟

أشارت إلى شجرة بعيدة بإبهامها.

قال لها: منذ صغري وأنا أبحث عن الرب، أريد أن أراه، هذه أول فرصة تتاح لي، هيا نذهب إليه.

قالت: فلنذهب.

لكن لمن تترك أغنامك؟ سيأكلها الذئب.

أما أنا فهو في طريقي.

قال: طالما كان الرب ليس ببعيد فليشمل بحمايته أغنامي أنا أيضًا.

– ولكن ربما تضرع الذئب إلى الله.

قال: لا بأس، إني أريد أن أرى الرب، لكن لا بد من تضحية.

ومضيا نحو الشجرة، سارا لنصف الساعة لم يدركاها، سارا لمسيرة يوم كامل ولم يدركاها، قضيا الليل مشيًا، عند الفجر كانت ليست ببعيدة عنهما، فسارا للظهر ولم يدركاها. حينها أدرك سرًّا غامضًا، نظر خلفه، لدهشته أن أغنامه ليست ببعيدة عنهما، يستطيع أن يسمع ثُغَاءَها، نظر إلى عمق عيني الفتاة الصغيرة، نظر بعمق، قالت له: قبِّلني …!

قبَّلها.

عاد إلى أغنامه. كلما التفت إلى الخلف كان يراها تلوِّح إليه بيدها مودعة، ظل على هذا الحال يومًا كاملًا، ثم يومين، ثم نصف اليوم، إلى أن غادر وادي كيشون، عندما حكى لمرطونيوس صديقه صائد الأسماك هذه الحكاية سرًّا، همس مرطونيوس في أذنه: قل لي، هل مسستها يا فليستطيونس، هل مسستها؟

قال محتارًا: ماذا تعني «مسستها»؟

قال مرطونيوس بشكل واضح: هل ضاجعتها؟

قال وبفمه جفاف وطعم ملح: لا، لم أفعل، فقط كما قلت لك قبَّلتها، طلبت مني ذلك بنفسها.

– إنها بطلبها منك أن تقبلها زوجتك نفسها.

ثم أضاف بحسرة مرة: كان بإمكانك أن تصبح أبًا لنبي ينقذ بني إسرائيل من الرومان ويحقق أحلامهم، يا لك من تعيس!

وأخذ يبكي بكاءً مُرًّا!

ومنذ ذلك اليوم أقسم فليستطيونس أنه إذا حدث وصادف أية فتاة أو أية امرأة وحدها في المرعى أو النهر، أو … أقسم على أنه لن يدعها تذهب ما لم يضاجعها، حتى ولو يؤدي الأمر إلى المجازفة بحياته.

وكم تردد على وادي كيشون وجبل كارمل وأودية أخرى مقدسة وجبال، وزار حتى الوادي المقدس بسيناء! لكنه لم يجد الفتاة ولا الشجرة، كلما رأى شجرة خيِّل إليه أنها شجرة الرب، مشى نحوها، عندما يدركها يدرك أنها ليست الشجرة.

كان سلطان تيه يحاول أن يرسم تمساحًا ليخلده في الكهف، وقبل أن يحار في كيفية الحصول على الإزميل أو كيف يرسمه لأنه لا يعرف شيئًا عن النحت، إذا به يسمع وقع أقدام قرب باب الكهف، قبل أن يسأل من القادم هتف سؤال بذهنه: كيف تمكن فتية الكهف من الوصول إلى هنا، وبينهم وبين هذا الكهف بلاد وبحار وتعب؟ لكنه استطاع أن يقول لنفسه: إنهم بينوا مجرد بيان.

•••

أنا فلوباندو ومعي سنيلا، هل تأذن لنا بالدخول؟

في لمح البصر نسي كل شيء عن قمطير، فليستطيونس، مرطونيوس، الكهف، نسي كل شيء وهتف في لهفة: سنيلا!

ثم أحس أنه فضح نفسه أكثر مما يجب فأضاف بهدوء: سنيلا وفلوباندو، تفضلا، ادخلا، أهلًا …

كانت سنيلا الجميلة جميلة!

كانت فلوباندو الجميلة قبيحة!

وكان هو سعيدًا بحزن عميق، سعادة لا يحدها عمق الحزن، هذه هي الفتاة التي حلم بها كثيرًا في كهفه، هي الآن أبعد ما تكون عنه، وسيفقدها الآن ذاته. حاولت فلوباندو أن تعرفه بها أو تعرفها به وهي تعلم أنها تعرفه، فهو أشهر من في القرية كلها؛ الغريب الآتي من الشرق، قاتل الذئب. هو يعرفها، يعرف كل عضلة أدت رقصة البحيرة، كانت كفها خشنة بعض الشيء، لاحظ ذات الملمس في كف فلوباندو.

حينما خاطبها بلغة أمها الإنجليزية كانت تنظر إليه في بَلَه وغباء، إلى أن أنقذت فلوباندو الموقف قائلة: إنها لا تعرف غير لغة «اللالا» بلهجة الدغل الأوسط والشمالي فقط …

قال مندهشًا: أليست هي ابنة الجين؟

نعم، نعم.

لكن الأمر يحتاج لشروحات كثيرة؛ لأنه عندما تخلى مستر ومسز جين عن لغتهما واعتنقا لغة ودين القبيلة، فرضا ذات اللغة على سنيلا وبانارودونادو اللذين ولدا في قمة سقوط الجين.

سقوط؟!

نعم، هكذا سمى قوم «لالا» الحالة التي وصل إليها آل جين، عادا إلى قرون كثيرة إلى الوراء، كان الأجدر بهما أن يقودا القبيلة إلى عصر جديد، فقط لو أنشأ بيتًا للتعليم وآخر للعلاج، أو شجعا الكواكيرو مجرد تشجيع لمواصلة برامجه في إرسال أبناء القبيلة للتعلم في أنحاء الدنيا الكثيرة، خيَّبا أمل القبيلة فيهما.

كان يعرف أن فلوباندو ستسهب في الحديث عن آل جين، يريد أن يعرف عنهما الكثير، لكن الآن يريد سنيلا، فقط سنيلا.

وكأنما سنيلا قرأت ما في ذاته حينما سألت فلوباندو: عن ماذا تتحدثان؟

قبل أن تجيب فلوباندو سأل هو فلوباندو: ماذا قالت لك سنيلا؟

– سألتني عن ماذا نتحدث.

– قولي لها: إنه يقول إنك جميلة، جميلة، جميلة، مثل، مثل شجرة الباباي، جميلة مثل القمر، أو أي شيء تعرفه هي بأنه جميل.

قالت فلوباندو باستياء: ولكنها برصاء، ألم تلحظ ذلك؟

– أنا أعرف، أعرف أنها جميلة، وما عليك إلا أن تقولي لها ذلك، جميلة مثل أجمل شيء عندكم …

– كلب الصيد مثلًا؟

قال مندهشًا: كلب!

– ألا تريد أن تقول إنها جميلة؟

– لا بأس، قولي لها ما تشائين؛ كلبة صيد، ذئب براري، حمار وحشي، أيًّا كان.

كانت سنيلا تتابع الحوار بانتباه عميق واهتمام حقيقي، وبعد أن رطنت لها فلوباندو بكلمات قليلات حَنَت رأسها، ثم قطرت دمعة حارة على خدها الناعم الحلو، ثم بنظرة بها بؤس العالم كله رمقته: كاب بوقو واوا!

– ماذا قالت؟ أخبريني يا فلوباندو ماذا قالت، إنها قالت شيئًا.

قالت فلوباندو بهدوء: تقول: إنك رجل طيب.

قال منفعلًا: إذن تظنني أجاملها، فقط مجاملة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤