٢

شخصٌ ما كان قد أخبَره في المدينة بأن والدَه مريض، ويُوشِك على الموت، ويتمنَّى رؤيةَ ابنِه ليُبارِكه ويخلِّف له شئون العائلة، فسارع تانيا — دون تفكيرٍ أو اهتمامٍ كبير — ببَيع البنطلونَين الوحيدَين اللذَين يملكُهما، ثم بلا إدراكٍ أو اهتمامٍ أيضًا جازَف بفقد ستين شلنًا في الشهر أجر وظيفته، بعد أن رفض رئيسُه الموافقةَ على الإجازةِ لزيارةِ والدِه المريضِ قائلًا: «ليس ذنبي أن والدك يُوشِك على الموت؛ فإما وظيفتك أو وجودك بجوار سرير أبيك.» ثم ألقى تحتَ قدمَيه بآخر شلنَين هما كلُّ ما تبقَّى له بعد الذي سحَبه من راتبه مقدمًا، ظل تانيا يتساءل عما إذا كان والدُه قد مات أم لا، يا الله … والده! إنه لم يعرف أبدًا ما تعنيه كلمةُ أب في أي وقتٍ من الأوقات مثلما لا يفهم أبدًا سبب مجيئه إلى هنا، ولم يكن قلقُه على أبيه أو تضحيتُه بعمله احترامًا من الابن لأبيه، أو نوعًا من التديُّن والورَع؛ فتلك أشياءُ لا تعني بالنسبة له شيئًا، لم يكن تانيا يعرفُ أباه جيدًا، ذلك الرجل الذي طردَه مئاتِ المراتِ وهو جائعٌ ومُهلهَل الثياب، الرجل الذي تسبَّب في وفاة أمه بضربها الدائم العنيف، لكن حق الرجل الوحيد أن يُطالِب بالأبوة التي يُعاني تانيا من جرَّائها؛ لأننا حين نُعاني معًا نكون عندئذٍ أقرباء.

«لا … أنا لا أبكي من أجل أبيك؛ فأنا وأبوك ننتمي للقديم، وسنموتُ بالطريقة القديمة، سنموتُ لنُخفِّف عن أنفسنا متعَ وندوبَ الحياة.»

وبيدٍ مرتعشةٍ تحسَّسَت أونيا، أخت تانيا، حبَّاتِ القلادةِ القديمة التي فسدَت حلقاتُها، والتي كانت ترتديها وهي فتاةٌ صغيرة، ثم استطردَت: «ها أنا ذا أفعل مثل أولئك الغرباء الذين جاءوا إلى القرية بدينٍ جديد … كنتُ أسمعُهم وهم يعُدُّون الحبات ويُتمتِمون بكلماتٍ مقدَّسة فوق شفاهم لكي يتجنَّبوا المحن، إن كل شخصٍ يجمع حبَّاتِ ندوبِه ويعُدُّها لتجنُّب المحن، وأحيانًا يصل الأمر إلى حد الملل خاصةً إذا ما كان عدَد الحبات كثيرًا، فيرغب المرء في التوقف عن زحزحة الحبَّات بأصابعه، لا … أنا لا أبكي من أجل أبيكَ وإنما من أجلكَ أنت، من أجل حبَّات الخرز التي حصلتَ عليها، والحبَّات التي أثقلتَ نفسك بها، وتلك التي ستَرثُها فيما بعدُ.»

ثم أضافت وهي تناجي نفسها: «لا بُد أنك جائعٌ وظمآن، سوف أجد لك شيئًا تأكلُه وتشربُه.»

اختفت بسرعة داخل المطبخ المُحاط بالعشب، والذي بناه تانيا منذ عامٍ مضى، ثم بدأَت أم تانيا في البكاء، وأطبقَت أصابعُها فوق الأرض بشدةٍ متوسلةً إلى كل الأرواح والأقرباء الموتى أن يرحموا تانيا الذي هو ليس مسئولًا عن سوء حظه، وعندئذٍ شاركَها الأولادُ والبناتُ الصغارُ في البكاء، وكانت شفاهُهُم تتحرَّك بالدعاء المقدَّس من أجل مشاكل الكبار التي لا يفهمونها، وربما من أجل أنفسِهم.

تدفقَت مشاعرُ تانيا بالحب والأسى، وتدلَّت شفتاه إلى أسفل وهو يحبسُ دموعَه، وكانت أمه تهتزُّ مثل أوراق الشجر حين زحَف وأمسَك ذراعَيها برقَّة جعلَتها تذوب أو تتجزأ إلى قطعٍ صغيرة.

عادت أونيا بطاسةٍ كبيرة من اللبن الحامض وتركَتْها جانبه فشعر بجفاف حلقه، كانت يداه مشغولتَين فرفعَت أختُه الطاسةَ إلى فمه، وسرعان ما ابتلَعها بنهمٍ كما تبتلعُ الصحراء ماء النيل … هزَّ رأسه راضيًا وكأنه طفلٌ انتهى لتوِّه من الرضاعة من صدر أمه الحنون، أمسَك أمَّه برقَّة أكثر فأمكَنه سمعُ ضرباتِ قلبها العجوز، ثم توقفَت عن البكاء ورقدَت بسلام فوق عظام تانيا الكثيرة والمتشقِّقة … نهض تانيا بهدوء كي لا يُوقِظَها من السلام الوقتي الذي تنعَم به، وحتى لا يصطدم بجروحها، ورافقَها إلى سريرها الذي أعدَّته أونيا من جلد البقرة، مضى تانيا يطوف بذكرياته، فأبصَر أمه وهي فتاةٌ صغيرةٌ وبدينةٌ حين كانت تذهبُ للنوم في هدوءٍ حاملةً البطاطينَ المثقوبةَ التي تتغطَّى بها.

اتجه تانيا نحو النار وكان مصابًا بالدُّوار شاعرًا بتعَب اليوم فوق أكتافه، وراح يحرِّك جمراتِ النار المنطفئة، ثم استدعى أخاه الصغير، واقترب من أذنه هامسًا له بأشياءَ لم يستطع أحدٌ أن يسمعها، لكن الصغير أدركَها، وطافَت فوق شفتَيه الهزيلتَين ابتسامةٌ صغيرة … كان الجميعُ يجلسُ حول تانيا واضعين أياديَهم فوق كتفه، وكانوا في وضع انحناءٍ يُعبِّر عن إحساسٍ بالتضامُن، ولم يُحاوِل أيٌّ منهم أن يكسر الصمت بالكلمات.

مدَّد تانيا كلتا قدمَيه الطويلتَين باتجاه النار المنطفئة، وانفجَر أخوه الصغير في الضحك، ثم توقَّف وجلس في مواجهة أخيه أمام النار، فطوَّقه تانيا بذراعه، وشدَّه إلى جانبه، وظلوا جميعًا في انتظار من يكسر الصمتَ الذي ساد الكوخ مثل صمت القبور، حتى تلاشى وهجُ النارِ الذهبيُّ في الظلام، وابتلعهم الصمتُ واحدًا بعد الآخر، وراحُوا في النوم وقد علَّق أصغرُهم رأسَه ورقبتَه المترهِّلة فوقَ فخذ أخيه، ولم يعُد سوى تانيا هو المتيقِّظ الوحيد؛ فقد كان جسدُه وعقلُه مشبعَين بالأحاسيس.

تمالَك قوَّته ووضَع كلًّا منهم في فِراشِه المحدَّد فوق الأرض الباردة والعارية إلا من أوراق الموز، مردِّدًا لنفسِه وكأنه يؤكِّد براءتَه: «سوف أضعُهم جميعًا في الفِراش، ها أنتَ ترى يا إلهي أنني أضعُهم في الفراش بهدوء ورقَّة.»

كانت أونيا، ذات الأربعةَ عشرَ عامًا، مستغرقةً في النوم فبدَت كسيدةٍ غيرِ متأنقة، وبالنظر إليها عرف تانيا أنها جميلةٌ وفاتنة، أشعَل عودَ الثقابِ لرؤيتها بوضوحٍ أكثرَ فأبصرها امرأةً كبيرة، وكانت علاماتُ الإجهاد مرتسمة فوق وجهِها الشيكولاتي، وصَدرُها المخروطيُّ تحت ثيابها الرخيصة كان حادًّا كالدبوس، كانت قويةَ البنية وبدينةً بما يكفي لأن تلدَ كثيرًا من الأطفال؛ فالخصوبة والقوة من سمات العائلة.

ظل يفكِّر وأقسَم بأنه سيقتُل من يتزوَّجها إذا ما أساء معاملتَها مثلما كان يفعل أبوه مع أمه، نظر إليها مرةً أخرى وهو يقاوم النومَ الذي يُغالبه في ضَوء عود الثقاب، تزايدَت ضرباتُ قلبه في صدره أمام جمالِ أخته فتذكَّر القصةَ القائلةَ بأن الرجل إذا رأى الرب فإنه سيموت، تفحَّصَها بعناية حتى احترق عودُ الثقاب وارتعَش بين أصابعه، فألقى به بسرعة، وظل يلعق أصابعه، ثم ركع إلى جوارها في ظلام الكوخ وإحدى ذراعَيه تحت رقبتها اللينة والذراع الأخرى تحت أردافها المستديرة البارزة، رفعها ببطءٍ كجندي يرفع زميلَه المصابَ في الحرب، ومضى بها إلى هيكل السرير الخشبي الذي صنعَه بنفسِه منذ وقتٍ لا يدريه، استيقظَت وألقت بذراعيها فوق كتفه وهي ترتعش وتقول: «يجب أن تكون قويًّا من أجلنا … أنت رجل، يجب أن تكون قويًّا.» ثم عادت للنوم.

حدَّق تانيا في ظلام الكوخ دون أن يرى شيئًا، فعاود التحديق في ظلام روحه؛ حيث أبصر قليلًا من الضوء يُعلِن عن بزوغ الفجر.

كانت أحداث اليوم والساعات القليلة الماضية التي أحسَّها ساعاتٍ طويلةً قد بدأَت تُعكِّر مزاجه، وبدأَت تتلألأ معها خبراتُه التي تحتاج لمزيد من التركيز … يجبُ على المرء أن ينتظر، وعليه أن يعُد أصابعَه مرةً تلو الأخرى حتى تشرق الشمس.

كان الكوخ هادئًا، وكم كان غريبًا ذلك الهدوء الذي تذكَّر خلالَه ضوضاءَ الحياة في ظلام القرية؛ حيث كان الأولاد من والبنات يلعبون «الاستغماية» و«الضبع والأسد» تحت ضوء الأعشاب المُشتعِلة، فهل كانت الضوضاءُ في كل مكانٍ أم أنه هدوءُ الكوخ الذي ساعدَه على سماعها أكثر؟!

تمطَّى تانيا قليلًا فلاحظ أن عضلاته ما تزال قوية رغم السير الطويل، ولم يعُد يشعُر بالإجهاد … كانت أوامرُ عرَّافِ القرية ألا يُزعِج أحدٌ والده المريض الراقد في الناحية الغربية من الكوخ، لكنه شعَر فجأةً بضرورة رؤية أبيه، أو حتى مجرد النظر إليه من بعيد، حاول أن يستعيدَ صورتَه في رأسه، وكانت دهشتُه كبيرةً حين لم يستطع، فحاوَل أن يُغلِق عينَيه ويستعيدَ ملامحَه، لكنه فشل مرةً ثانية، فبادر بالتوجُّه إلى واجهة الكوخ ببطء عَبْر الشجيرة المزروعة في كوخ أبيه، وأزاح بابَ الكوخِ المصنوع من ألواح الخشب، فسمع أنفاس أبيه الضعيفة، ثم أشعل عودًا من الثقاب وأحاطه بكفَّيه، كانوا يُغطُّون الرجل المريض بجلد الماعز، وكان وجهه عاريًا وكذا قدماه … اقترَب أكثر فأبصَر فمَ أبيه مفتوحًا عن آخره، وشعره البني كحبَّات الخرز مثل «الهوتينتوت» Hottentot وشيءٌ ما في هيئة الرجل العاجز جعل تانيا يشعُر بالغثيان والازدراء والكراهية والشفقة، شيءٌ ما ليس كعجُزِ ماما تانيا.

كان عجُز الرجل العجوز مختلفًا … أطال تانيا النظر إليه فكان شبيهًا بالموتى؛ حيث فقد وجهُه القوي والقبيح بريقَه وعنفه، وكان جلدُه مُهلهَلًا بطريقةٍ تعافُها النفس، وندبةٌ كريهة فوق خده الأيسر تشبه المغارة، وكانت عيونه غارقة، تلك العيون التي كانت ذات يومٍ حمراءَ مُشرِقة من الغضب أو الشراب ومشغولةً على الدوام بالبحث عن شخصٍ ما تتصارع معه أصبحَت الآن غارقةً وكأنها تُخفي نُفسَها من الفضيحة.

تحرَّر تانيا من المرارة التي كانت تعتريه، ونظر بارتيابٍ إلى ذلك الشبَح المُنكسِر، وتمنَّى لو تعود أمُّه من موتها لحظةً قصيرة لتكون شاهدةً على ما يرى، وعاودَتْه ذكرى وقوعِ أمِّه على الأرض منذ زمنٍ بعيد، حين تفجَّر الدم من فمِها على إثر الضربات القوية لأبيه المخمور، وهي تقولُ له مستسلمةً لموتِها الفظيعِ المُوشكِ بأن قوَّتَه لا بُد ستنتهي يومًا ما، تذكَّر ذلك اليوم جيدًا رغم بُعد المسافة الزمنية، كما تذكَّر يوم أن فاضَت روحُه بالظلام، وأمسَك قبضَته بإحكام، وقال لنفسه بغضبٍ إنه في يومٍ ما سيقتُل والده.

ها هو أبوه يرقُد بلا حولٍ ولا قوة، وتمنَّى مرةً أخرى لو أن أمه ما زالت تعيشُ لترى ولو للحظةٍ قصيرةٍ ما صار إليه الرجلُ الذي ظلَّت تخدمُه بإخلاصٍ ثم قتلَها.

كان تانيا واقفًا يفكِّر ويتذكِّر، فتحرَّك والده كالماء الذي يشُق الأرض ببطء، وكانت حركةً يائسةً من رجلٍ وجد نفسَه فجأةً وحيدًا في الصحراء، حاول العجوز بيأسٍ وضعفٍ أن يستدير في نومه، وفكَّر ثانيًا في مساعدته، ومد يدَيه حتى لامَسَه لكنه لم يستطع، شيءٌ ما كان يعوقُه عن المساعدة، ربما كانت تلك المرارة أو ذلك الانتقام الذي يملأ قلبه، وربما … لم يكن يعرف شيئًا سوى أنه لم يستطع أن يمُد يدَيه لمساعدة أبيه، وأنه كان يرتعش، كما أن الدموع تدفقَت فوق وجهه … كان يرتعش ولم يقدر على الحركة، وأخيرًا اضطرب فجأةً دون سببٍ محدد وكأنه يمشي مسرعًا في حُلمٍ مزعج، اندفع مسرعًا نحو الخارج بلا وعيٍ فاصطدمَ رأسُه بقوة في سقف الكوخ المنخفض … كان القمرُ خجولًا، وبدا متلألئًا رغمًا عنه، حتى لم تستطع أشعتُه أن تضيءَ تلال كاشا وانجا الغربية.

كان الأطفالُ مشغولين بألعابهم، وكان الأزواجُ والأولادُ والبناتُ يتصارعون هنا وهناك … دائمًا كانوا يتصارعون، كان الوقت متأخرًا وتساءل تانيا بينه وبين نفسه: «هل سيُمضون الليل بكامله هكذا خوفًا من النوم المجهول؟» تذكَّر أن غدًا هو الأسبوعُ الثاني من الشهر التاسع، وأنه بداية موسم الحصاد؛ حيث يظلون ساهرين للاحتفال بموسم الحصاد كما يحدث كل عام … إنهم يعملون حتى الموت في الزرع من أجل ليلةٍ واحدةٍ فقط وحصادٍ واحدٍ يتقدَّمون فيها بالشكر لكل الأرواح التي تحتكر كل شيء، وتقفُ إلى جانب الشر.

لم يستطع أن ينام؛ فثمَّة شيءٌ يجب أن يراه بوضوحٍ وهو يقِظ.

يجب أن يشغَل نفسَه بشدة تجنبًا لما يمورُ بداخله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤