٣

تذكَّر تانيا صديقَ طفولتِه الذي عاد إلى القرية، واستقَر بها ممثلًا لأولئك الرجال ذوي الملابس الأنيقة الذين يعمل عندهم الخدَم، وفكَّر في زيارته لقضاء المساء حتى يُصيبَه التعب، خاصة وأنه يعيش قريبًا عَبْر الوادي.

كان جيمس يذهب إلى المدرسة في المدن البعيدة، فأصبح رجلًا متعلمًا، ظل تانيا يتذكَّر أيامه معه المليئة بالاكتشاف واللحظات الشقيَّة، فأبصَر الابتسامة التي كانت ترتسم فوق وجهه، وذلك التألُّق الشيطاني في عيونه الأفريقية الكبيرة، والتي كانت تختزنُ كثيرًا من المعرفة.

طرق تانيا الباب ثلاثَ مراتٍ لكن ضوضاء كثيرة كانت بالداخل جعلَت من العسير على أحدٍ أن يسمع الطرقات … توقَّف لسماعِ ما يحدُث، فكان جيمس يتناقش بطريقةٍ رسميةٍ عن خطة رد الاعتبارات والحقوق الجديدة، وبالنظر من خلال شقٍّ في الباب شاهَد جيمس جالسًا إلى طاولة كتابته الناعمة يُقلِّب في ملفات رسائله الرسمية، وأبصَر نفس الطوابع التي كان يراها عند مستخدمه الأخير … كان جيمس في وضع بين الجالس والواقف وكأنه يخشى أن تتجعَّد بدلتُه الغالية، وكان الفلاحون الكبار يُحيطونه وهم راكعون إلى جواره نصف عرايا متطلعين بشغفٍ إلى فرصتهم في الكلام.

لم يستطع تانيا أن يرى ويسمع في وقتٍ واحد، وكان عليه أن يُصيخَ السمع أو يضع عينَيه أمام شقِّ الباب تمامًا. شعَر بجمود الحجرة؛ فقد نَفِد صبرُ الفلاحين، خاصةً ذلك العجوزَ الذي يرتدي معطفًا من مخلَّفات الجيش يبدو أقدمَ منه، وكان العجوز جالسًا القرفصاء فوق الأرضية الأسمنتية الباردة يرسمُ بأصابعه فوق الأرض ليشغَل نفسه بعضَ الشيء من أجل أن يجد لما يدور في ذهنه سبيلًا بطريقةٍ يتجنَّب بها فقدانَ أعصابه، حتى يصبح مثل ذلك الذي فقَد أعصابَه مع جيمس ومع الحكومة، والذي أرسلوه بعيدًا عن القرية تمامًا.

وضع عينَه في شقِّ الباب فأبصَره حين كان ولدًا صغيرًا وبدينًا ذا عينَين كعين الفيل المختبئة، وله خدَّان كالأنثى، وهو يلعب في الطين بمفرده؛ لأن بقية الأولاد كانوا يحتقرونه، نعم … هكذا أبصره تانيا، وقد كبر الآن فجأة، ويرتدي بدلة من الصوف الاسكتلندي، ويجلس بصفةٍ رسميةٍ فوق مكتبه المليء بالطوابع الحكومية، ويقول لأولئك القرويين الجهلاء كيف يُحسِّنون من أحوالهم.

كان الفلاحُ العجوزُ يبصُق فوق الأرض مرةً تلو الأخرى رغمَ نظراتِ جيمس المعارضة، وأوشَك صبرُه على النفاد، وكان الكوخ الكبير مليئًا بالأحداث حتى صار صغيرًا، وبدا أن جيمس مستعدٌّ جدًّا أو سعيدٌ جدًّا لما يحدث، ثم فجأة هزَّ العجوز إصبعه بغضب مشيرًا إلى جيمس، واهتزَّ جسده داخل معطفه العسكري الكبير مثل الثعبان، وكانت شفتاه المرتجفتان تتوقفان كلما شرع في الحديث، وكأن شيئًا ما كان مختنقًا في حلقه، ثم كالثعبان سارَع بالبصق على الأرض وكأنه قام بتسليك حلقه وتوسَّل إلى جدَّته مرتَين، فتدفَّقَت الكلماتُ من فمه بسرعةٍ وصوتٍ عالٍ: «أنا لا أفهمك، ولا أفهم جنسك، ولا حتى ما يحدُث لبلدك … نحن لا نفهمُ الرجل الأبيض فهو من قبيلةٍ أخرى أما أنت …!»

كانت الكلمات غامضة، وعندئذٍ أشار إليه بحماسٍ أقلَّ واستطرد: «أنت وُلدتَ هنا ورضَعتَ من لبننا، واليوم تُخبرنا بوجوب رحيل القرويين عن هذه الأرض التي منحَها لنا آباؤنا. هذه الأرض!»

تحسَّس الأرضَ الأسمنتيةَ بسرعة وأضاف: «هذه الأرض حيث أمنا وأمهاتكم وحيث أطفالنا، لا … إن الرجل الذي لا يعرفُ قبر أبيه كي يبكي عليه ليس برجلٍ على الإطلاق، قل لحكومتك إننا سنموت هنا، وعليهم أن يجدوا مكانًا آخر يزرعون فيه القطن.»

وقف بقية الرجال الكبار، ورفع العجوز رأسه بيأس وفتور، ثم فتح الباب، واندفع إلى الخارج حيث تبعه بقية الفلاحين برءوسٍ منحنية، وراحوا يتطلعون بعضهم إلى بعضهم، فعرفوا ما يربطهم، ثم اختفَوا في الظلام الذي اختفى فيه آباؤهم من قبلهم.

كان جيمس لا يزال جالسًا إلى طاولته الفخمة يكتب ملاحظاته وتقريراته إلى الحكومة، دون أدنى اهتمامٍ بحضور أو ذهاب الرجال الكبار. تفحَّص تانيا ملامحَه وهيئتَه فكان كبيرًا قبيح الشكل ذا بطنٍ مستديرٍ وعضلاتٍ يُزيِّنها اللحم مثلما يُزيِّنون أنفسَهم بعرباتهم الرشيقة وخدَمهم. كما استطاع تانيا أن يُلاحِظ تلك الندبةَ تحت عين جيمس، التي خلَّفها له حين كان ولدًا صغيرًا عاريًا يلعب في الطين.

تردَّد تانيا في الدخول وفكَّر أن يعود للبيت، لكنهما كانا صديقَين في الصغر يلعبان ويبكيان ويتصارعان معًا … نعم، لكن ذلك أيضًا كان منذ زمنٍ بعيدٍ لم يكن فيه جيمس موظفًا حكوميًّا يرتدي تلك الملابس الثمينة.

قرَّر الدخول، فطرق الباب مرتَين، ودون أن يرفع جيمس رأسَه أجاب: «ابتعِد عن هنا فأنا الآن أكتب للحكومة، وسترى كم هي قوية.»

تنحنح تانيا، فرفع جيمس عينَيه، وسارع بالعودة إلى ملفاته، لكنه أدرك بسرعة أن الطارق فلاحٌ مختلف، إنه زميلُ اللعب القديم … مد ذراعَيه بدون إحساس وقد كان رجلًا فارع الطول فبدا وكأنه ينظر إلى تانيا من أعلى، أو كأنه يسلِّم على مريضٍ فوق السرير، ولم يكن ذلك ما توقَّعه تانيا الذي لم يكن يعرف توقُّعاته تمامًا، لم يكن تانيا يتوقَّع عناقًا لكنه لم يتوقَّع أيضًا ترحيبَ جيمس الفاتر حين قال: «هالُّو تانيا … بعد كل تلك السنوات.»

ظَل عقلُ تانيا يدور بسرعةٍ كبيرة، وكانت الصور تملأ الحائط، وكثيرٌ من الدبابيس فوق خريطة القرية، كما أن الحجرة لم تكن فخمةً تمامًا. وأصابت تانيا الدهشةُ من تلك الكتب الكثيرة المغطَّاة بالتراب، وقد نالت الحشراتُ من بعضها … نظر تانيا إلى جيمس مرةً أخرى، فابتسم جيمس ابتسامةً مزيفةً جعلَت الندبةَ فوق وجهه تشبه الثقب.

قال: «اجلس … كيف حالك؟»

لم يعرف تانيا بأي شيءٍ يجيبه، ثم تذكَّر مرةً ثانيةً أولئك الأولاد الصغار وهم يلعبون في الطين، وعاودَه صدى صوتِ جيمس: «اجلس … اجلس … اجلس» وكأنه صوتُ ضوضاء عَبر وادي «واشيتا»، ثم أحَسَّ بالظلم، نعم هو لم يتوقَّع عِناقًا لكنهما كانا رفيقَين مدةً طويلةً في الماضي، ولم يكن الأمر كما هو عليه الآن.

لم يهزَّ جيمس يدَه الناعمةَ واللزجة كثدي امرأةٍ قذِرة، فشعَر تانيا بعدم وجود أيةِ صلةٍ بين ذلك الموظف الحكومي بأوراقه الرسمية وبين الولد الذي كان يلعب معه، حتى إنه لا يستطيع الآن أن يسأله اللعب معه عاريًا في المطر … ارتبَك تانيا بشدة فعقد يدَيه وجلس يُتمتِم وكأنه يريد أن يقدِّم نفسه شارحًا بأنه لم يمُت بعدُ.

تبادلا قليلًا من المزاح مثلما كانا يفعلان طوال سنواتٍ عشرٍ مضت، وظلا يتحدثان بصوتٍ هادئ، وقد فشلا في إخفاء حقيقة أن أحدهما يتحدث كموظفٍ حكومي وأن الآخر عاطلٌ آخر في القرية.

كان جيمس يقرأ الجريدة ويفكِّر في أهل القرية الذين يتحدثون دائمًا عن الفشل وسوء الحظ والموت، وتذكَّر آخرَ فلاحٍ جاء إليه متوسلًا من أجل إطعام أطفاله الجوعى فطرده لأنه كسول، ولم يكن يتحدَّث إلا عن الموت، وقد وجده جيمس في اليوم التالي مُعلَّقا في الشجرة الكبيرة أمام منزله، كان يحدِّق في جيمس وهو ميت.

نظر الرجلان كلاهما إلى الآخر، ثم تصافحَا مرةً أخرى بودٍّ كما كانا يفعلان في الماضي، فسارع تانيا بالحديث متطلعًا إلى صديقه: «إنني في حاجة لصديقٍ يا جيمس؛ فبعض أصدقائي ماتوا، والبعض الآخر يعملون خدمًا في أماكنَ بعيدة، إنني أتوقُ لصديقٍ مثلما أمسكتُ بيدك وعُدتُ بك إلى المنزل وأنت خائفٌ في الظلام. لقد مرَرتُ بأحداثٍ كثيرة، وكثيرًا ما أشعُر بدوارٍ في قلبي، أحتاج لشخصٍ ما يقف بجانبي؛ فأبي يموت وأنت تعرفُ بأنني لا أحبُّه، لكنه أبي وهو يموت، ولم يعُد قويًّا، ولا يقدر الآن على ضربي. إنه يرقد فوق السرير ينظُر ولا يرى، ويُحرِّك شفتَيه دون أن يتكلم، أحتاج لشخصٍ ما يقف إلى جوار قبره، فأرجوك ساعدني.»

اطمأنَّ جيمس لأن تانيا لم يكن عازمًا على الانتحار، وإنما كان الموضوع خاصًّا بأبيه الفقير الذي يُوشِك على الموت.

قال جيمس: «سأقف إلى جوارك بالتأكيد في أي شيء يا «بارانيا». هكذا ناداه بلقب الطفولة، ثم استطرد: «أي شيء. وآسفٌ لأنك عانيتَ كثيرًا لكننا جميعًا نعاني … أليس كذلك؟ ... دائمًا يموت شخصٌ ما ودائمًا الخوف من الموت، إن أمي أيضًا تُوشِك على الموت ونحن ندفنُ عقولَنا في الوظيفة، لكننا نُواجِه الموت في كل لحظة فلا يجب أن تخاف، ها نحن ندفنُ خوفَنا في هذه الملفات.»

ألقى بالملفات فوق الأرض، وأضاف: «وحتى في هذه البيوت الكبيرة حيث الشراب والصُّراخ في الخدَم، فإننا أيضًا نخشى الموت حين يسود الظلام، ونصبح منفردين، ونشعُر بالخوف كما حدث في ذلك اليوم وأنت تُمسِك بيدي يا «بارانيا».»

هزَّ جيمس «بارانيا» بيده، وعانقَه عند كتفه، وكانت يدُه هذه المرة ناعمة ولكنها ليست لزجة. لقد تحوَّل موظَّف الحكومة فجأةً إلى رجل، ووقف كلاهما في مواجهة الآخر، وتصافَحا بحرارة … تصافَح موظَّف الحكومة مع الفلاح المُنكسِر.

شعَر تانيا باضطرابٍ في معدته، وأصابه الغثيان، فابتعد بذراعه عن جيمس، وبدا أن المرضَ سيُصيبه فوق الأرضية الأسمنتية، فقال: «يجب أن أذهب الآن … يجب أن أمضي.» ثم سارع بالخروج.

لحق به جيمس في الظلام قائلًا: «سأسير معك حتى البيت.» فقد تانيا إحساسَه بالمرض، ولم يكن يعرف ما حدث في معدته، ربما كانت تلك الصورة فوق الحائط، أم أنها طوابع الحكومة المهترئة، أم هو ذلك التحوُّل الكبير والسريع الذي طرأ على موظَّف الحكومة، لم يكن تانيا يعرف سوى أن معدتَه توقَّفَت الآن عن الألم.

سارا معًا بهدوء دون أن يتبادلا كلمةً واحدة، وكان الفرقُ كبيرًا بين هذا المشي وذلك الذي كان منذ زمنٍ بعيد؛ حيث كانا يضحكان خوفًا من المجهول في الظلام، وخشيةَ أن ينفصل كلاهما عن الآخر.

كان كلاهما يفسِّر بخبرته ذلك الفرقَ الكبيرَ الذي حدث، ثم أبصَر تانيا حافةَ الصبارِ التي تُحدِّد شجرة الموز الخاصة بأبيه، فقال: «إلى اللقاء بارانيا.»

وقال جيمس: «إلى اللقاء بارانيا.»

وانفصل كلٌّ منهما في طريق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤