٤

كانت الشمسُ في الصباح تخترقُ سقفَ الكوخ المصنوع من القَش، استيقَظ تانيا، وتمدَّد بجسده قليلًا وقد شعَر بالوهن، كان العُشب فوق سريره قد تلاشى تقريبًا، فأصابته خشونةُ السرير الخشبي بالأرق … لا بُد أن أمه قد بلغَت من الكِبَر ما جعلَها تنسى أن تضع عشبًا جديدًا في سريره، كما كانت تفعل دائمًا عند عودته.

نظر إلى المدفأة المكوَّنة من أحجارٍ ثلاثة، وابتسم حين رؤيته لذلك الإناءِ القَذر، كانوا يُعِدون عصيدةَ الموز للإفطار، فتذكَّر أمه حين كانت تصنع نفس الوجبة دائمًا، وكان يقول لها برقَّة وحب: «الحياة القديمة الفقيرة … الحياة القديمة الفقيرة والجميلة.» كانت تتلمَّس طريقها في ظلام الفجر كي تصنع إفطار الأطفال، المكوَّن دائمًا من الموز الأخضر وزيت الفول السوداني والماء، الذي لا تملك سواه.

استيقظ تانيا، ونظر بحذَر في اتجاه باب الكوخ الصغير، فأبصر أمه تجلس فوق الأرض مقيَّدة القدمَين، ترتدي قطعةً من القماش القطني الذي لا تملك شيئًا غيره، وتلفُّه في حجرها، كانت تتثاءب بسأمٍ ونفادِ صبرٍ في الشمس الفاترة التي لم تنعم بها أبدًا، وراح تانيا يتطلع إلى جسدها النحيل وهي تنحني وتُطرقِع القملَ بين أظافرها القَذِرة، وقال: «إلهي … إلهي.» ثم وقف إلى جوارها وهمَس: «صباح الخير يا أمي.»

مسحَت الدم بسرعة من فوق أظافرها، وحاولَت أن تغطِّيَ صدرها، ثم قالت بخجلٍ طفولي: «صباح الخير.» … كانت دائمًا قليلة الكلام، وهي التي قالت ذات مرةٍ بأن على المرء أن يُعانيَ في هدوء.

سألت تانيا: هل تناولتَ إفطارك؟

أجاب: لا.

شعَرَت بالأسى، وقالت: لقد ادَّخرتُ لكَ لبنَ الماعزِ طَوالَ الأيام الثلاثة الماضية.

أجاب ببطء ودون شعورٍ بالفخر: شكرًا يا أمي.

عاودَت طرقعة النمل، وساد صمتٌ غريبٌ راح تانيا من خلاله يتفحَّصها، فأفزَعه شكلُها القبيح وجلُدها القديم الذي يكسو عظامَها، وعيناها اللتان فقدتا إشراقهما، ورأسها الخالي من الشعر، الذي كانت تقصُّه دائمًا حدادًا على أقربائها الموتى، والذي قالت أونيا ذات مرة وهي تسخر منها بأنها تفعل ذلك للحصول على مزيدٍ من الشمس، لكنها لم تفهم أن أونيا تضحك معها؛ لأنها لم تكن تعرف الضحك والدفء العائلي أبدًا … ركع تانيا بجوارها، وراح يساعدها في تعقُّب القمل الهارب، وقد جعلته يفقد صوابه حين أبصر يدَيها ترتعشان وهي تتبعُ القملةَ التي اختفت في جرحها القَذر … فكَّر تانيا أن يغسل لها ذلك القماش القطني الذي ترتديه، لكنه تذكَّر بأنها لا تملكُ شيئًا آخر ترتديه.

قالت: كان ينبغي أن ترى والدَك بالأمس.

– لقد فعلتُ لكنه كان نائمًا.

– نعم. وقد قال إنكَ كنتَ تدخلُ وتخرجُ مثل شخصٍ يدخل ويخرج من دورة المياه.

كرَّر تانيا: كان نائمًا.

إنه لم يكن طيبًا معك أو معي وحتى مع نفسه؛ فلقد أطبقَت عليه روحٌ غريبة، وكنتُ أراه يبكي حين يكون مخمورًا في محاولةٍ يائسةٍ منه للقضاء على ذلك الثقل الغريب في روحه، لقد كان طفلًا حزينًا سيِّئ الحظ، وعندما كان يشرب كانت تُطبِق عليه تلك الروح الغريبة، فيصبح قاسيًا مثلما فعل في ذلك اليوم الذي قتل فيه أمك.

أغلق تانيا عينَيه لذلك المشهد الرهيب الذي امتثل أمامه مرةً أخرى، ثم استطردَت: قال لي والعَرَق يغطِّي حواجبه بأن شيئًا بشعًا كان يثقل صدره في الليلة الفائقة لدرجة يصعُب معها التنفُّس.

وضعَت أصابعَها النحيلة فوق فخذ تانيا القوي، وهمسَت إليه بهمساتٍ ملؤها الألم وكأنها تقول سرًّا نهائيًّا عن حياتها: «ابني … حين تُصبِح كبيرًا في مثل عمري …»

بصقَت وتوسَّلَت إلى السماء المشرقة، وأضافت: «سوف تفهَم وتتعلَّم الغفران، وستتناول الحياةَ بجديةٍ أقل؛ فوالدك هو ابني، وكم حملتُه هنا (تشير إلى رحمها السقيم) في أوقاتٍ عصيبةٍ لمدة تسعة أشهر، ثم أنجبتُه في وقت المجاعة، وقد جاهدتُ في الذهاب إلى الكهوف هناك (أشارت إلى تلال كاشا وانجا البعيدة) لأبحث عن العسَل من أجله، وقد كنتُ أخفي العسَل عن أبيه النهِم؛ فإنكم معشرَ الرجالِ تصبحون نهِمين عندما تجوعون (استدعَت اسم جدها قائلة: سابولاي، الذي لم يكن يعرفُه أحد).» ثم أضافت: لقد لسَعَني النحل كثيرًا حتى تصوَّرتُ أنني سأموت، وكان جدُّك يبتسم من غبائي … كبر أبوك بعد ذلك، وكنتُ أطعِمه جيدًا، كما أنني كنتُ بأسنانٍ بيضاءَ قوية، كنتُ أطعِمه من فمه حتى صار يمشي على أربع، وكما تعرف فإنه كان ابني الوحيد. ولقد صار ولدًا بدينًا لكنه كان ناعمًا كالبنت. وأتذكَّر الآن قول أبيه: «لن يصبح رجلًا لأنه بدين.» ثم مات أبوه وتركَني له، وعند القبر بكيتُ دموعًا من عيني فقط، أصبح أبوك شابًّا، ورحتُ أبحث له عن فتاةٍ في القرية كلها، فالتقيتُ بأمك.

استطردَت والدموعُ تبلِّل عينيها: كانت صبيةً جميلةً تتمتَّع بالصحة والعافية والسعادة، وتزوَّجها أبوك، وأنجبك أنت وإخوتك، ثم … ثم … هو … (بكت بدون دموع، ووضعَت وجهَها في الأرض كمن تُخفي نفسها من الشمس الدافئة).

اقترب تانيا محاولًا أن يُمسِكَها كما حاول في الليلة الماضية، لكنها دفعَتْه بعيدًا، وقالت: «لا … يجب أن نُعاني بمفردنا، اذهب الآن لرؤية أبيك، فإذا تخلَّيتَ عنه الآن فإنك أيضًا ستموت في الحقل وحيدًا وفمُك مفتوحٌ في الشمس، اذهب لرؤيته؛ فالإنسان يحتاجُ في لحظات الموت إلى شخصٍ ما يُمسِك بيده، اذهب لمشاهدتِه فلقد غادرَتْه الروح وعليك برؤية ما تبقَّى منه، هيا اغرُب عن سمائي!»

شعر تانيا بألم في معدته مع أنه لم يتناول إفطاره بعدُ، فقد كان دائمًا يشعُر بالمرض، ويُصيبُه الدُّوار في مثل هذه اللحظات التي تُوقِظ روحه، أصبحَت الأمورُ أكثر وضوحًا بالنسبة له، فأغلق عينَيه تجنبًا للشمس المشرقة.

كان تانيا ابن «رواتا بندرا» الواقف على حافة الهاوية وفي طريقه للسقوط، لكن جدَّته التي يدعونها بماما ما تزال حية وكذا أختاه.

استطاع تانيا أن يُبصِر تحديقَ الرجلِ العجوزِ إلى الذباب، فجلس تحت ظل الكوخ متصببًا بالعرق. إنه «تانيا رواتا» فيجب إذن أن يراه … تحرَّك إلى داخل الكوخ دون أن يفتَح عينَيه إلى حيث يرقد أبوه، فكان من اليسير رؤية العرق المتصبِّب فوق وجهه، والذي يوحي بمعاناته الداخلية. جلس تانيا بجوار السرير الموشك أيضًا على السقوط، فانتبه أبوه، واستدار بألمٍ حتى أصبح في مواجهة ابنه، وحاول أن يتمعَّن النظر فيه، لكن كلاهما ظل مندهشًا أثناء تبادل النظرات، التي بدت مشرقةً كنظرات الموتى المعتادة … ارتبك كلاهما وشعر بالذنب، أغلق العجوز عينَيه ومد ذراعه التي تشابكَت مع ذراع تانيا كالسلسلة في الظلام، كان العجوز هو الذي مد ذراعه أولًا وهو مُوشِك على الموت، وكانت شفاهُه الجافة تتحرك فقط دون أن يتكلم؛ فلقد فشلَت كل محاولاتِه في الكلام ولم تثمر عن شيء سوى مزيدٍ من العَرق فوق وجهه … اقترب تانيا من والده أكثر، ولم يستطع أن يسمع سوى تهتهات العجوز وهو يُناجي مكرِّرًا: «ابني … ابني … ابني …»

تبلَّلَت أياديهما بالعَرق، وفتَح العجوز عينَيه ناظرًا إلى ابنه مثل قطةٍ جائعة، ثم سحَب يده واستدار ببطء نحو الحائط بينما قال تانيا متلعثمًا: «أبي … أبي.»

كان العجوز قد عاد إلى نومه.

أبصر تانيا جدَّته وهي تنسحب من دخل الكوخ ببطء ويدُها فوق فمها … كانت تراقبهما بعينَيها الضعيفتَين، توقَّف تانيا وألقى نظرةً أخيرةً إلى أبيه النائم، ثم خرج يتجول حول الكوخ بلا هدف، وبعد لحظةٍ سار في شمس الظهيرة التي تخطفُ البصر وقشعريرة روحه، وكان سَيرُه هذه المرة في خطٍّ مستقيم حتى إنه لم يستمع إلى صوت جدَّته الضعيف وهي تزعق: «إلى أين أنت ذاهب؟» كانت تتبعُه بانحناءٍ مقاوِمةً ضعفَها حتى سقطَت فوق التراب دون أن يشعُر بها تانيا، الذي كان يُواصِل سيره بلا هدف، مكرِّرًا لنفسِه بصوتٍ عالٍ ما قالَه والدُه: «ابني … ابني … ابني …»

كانت تلك هي كل ما استطاع والدُ تانيا أن يقولَ من كلماتٍ عندما التقيا بمفردهما، وتبادلا التحية والعرق، رغم كثرة ما كان يُوجَد للقول وكثرة ما كان يُمكِن اكتشافُه وإدراكُه.

اكتشف تانيا أنه يقف تحت شجرة الباوباب الكبيرة التي عرفها صغيرًا، وقالوا له بأنهم يحدِّدون قبر جده بأحد أغصانها، ولم يكن يدري كيف ولماذا جاء إلى هنا، لكنه تذكَّر نفسه حين اختبأ عندها وهو ولدٌ صغيرٌ حين ماتت أمينة، وتذكر أيضًا أن ذلك المكان عند الشجرة أصبح مكانًا مقدَّسًا منذ اللحظة التي دفنوا فيها جدَّه، كما قالت له أمُّه.

جلس تحت الشجرة واضعًا رأسَه بين فخذَيه وإحدى يدَيه تُغطِّي عينَيه، واليد الأخرى تمتد وكأنها تستقبل شيئًا، وكان صدى الصوت الضعيف داخل نفسِه يقول: لقد قبلت لعنتي وتجوَّلتُ عَبْر العالم كالنعامة العرجاء التي تلتقط البذور من أرضٍ جافَّة، وكانت البذور التي التقطتها ذات نواةٍ مُرة المذاق، وها أنا ذا اليوم أتوقُ لمعرفة السبب وراء قصوري، والسبب في جفافِ أرضي، لقد ضربوني ولم أشكُ، وأسأل الله أن يَمسحَ دموعي، وأريد أن أعرفَ خطيئتي.

هكذا كان يتوسَّل بصوتٍ عالٍ، ثم رفع رأسه فجأةً إلى السماء مثلما تفعل النعامة عند إصابتها بالفزع، وظل مُحدِّقًا في السماء متمنيًا أن تتصدَّع كما تصدَّعَت من أجل المسيح، نظر إلى قاعدة شجرة الباوباب، لكنَّ أحدًا من أجداده لم يظهر، وإنما ساد صمتٌ ساخر وحرارةٌ شديدة، وبالكاد تتحرك إحدى أوراق الشجرة.

تطلَّع تانيا إلى نفسه مرارًا في حر الظهيرة الشديد وقلة الهواء، ثم أبصر الماشية المُثقَلة بقرونها الطويلة وهي تستريح تحت ظلال الأشجار المتعدِّدة الألوان، وبعض الأولاد الصغار الذين تلفحهم الشمس وهم ينامون إلى جوار الماشية جائعين … كان أحد الأولاد يرتدي قطعةً من قماش البفتة حول خصره ملطَّخة ببقعةٍ بيضاءَ حديثة، فتذكَّر أيام أن كان مثل أولئك الأولاد، وكم كان وقتَها جائعًا، وعاودَه ذلك السرورُ الكبيرُ الذي كان ينتابُه حين كانت أمه تبيع كثيرًا من الموز، وتشتري له بشلنَين قطعةً من القماش القطني الأبيض.

بدأ في نزول التل متجهًا نحو البيت، وكانت رؤية الماشية المُثقَلة بقرونها ما زالت تُلاحِقه، جلس عند ركن الغابة حيث التقى صديقه القديم «موجيا مابيبا» بصحبة امرأةٍ ترتدي قُبعةً من القش وحذاءً ثاقبًا لا بُد أنه من خارج كاشا وانجا، وكان موجيا يرتدي طربوشًا ممزقًا وقميصًا مليئًا بالثقوب، ولا يرتدي حذاءً، ويبدو في انحنائه كالبطة الكبيرة ويوحي مظهره بحياةٍ طائشة؛ فوجهُه مليء بالندوب، ومشيتُه عرجاء، كما أن أغطية ركبته مليئة أيضًا بالثقوب، ربما من كثرة الركوع والصلاة والتوسُّل.

أصابت موجيا الدهشةُ لرؤية تانيا، فتَمتَم بكلماتٍ قليلة، ثم توقف على إثر ضحكةٍ طفوليةٍ من رفيقته، فبدا تابعًا هَزْليًّا، وقال ببهجة: تصوَّرتُ أنك ميتٌ يا رجل!

تبادلا الضحكات وهما يتصافحان، ثم قال تانيا بدون تفكير: كنتُ سأخبرك.

ضحك موجيا أكثر وهو يهتزُّ فظهَرَت أسنانُه البيضاء، ثم توقف فجأة ونظر إلى المرأة، وقال: إنها امرأتي لهذه الليلة، وأنا لا أعرفُ حتى اسمَها.

قال ذلك وانفجر ضاحكًا مرةً أخرى.

تفحَّص تانيا المرأة جيدًا حتى التقت الأعين، وبدا أن ثمَّة أشياءَ كانت تُوحي بالرغبة والاشتهاء، كانت عيناها بنيتَين كبيرتَين كأنهما تتوسَّلان طلبًا للراحة، ابتسَم لها وانحنَى برأسه حتى لا يُصافِح ذراعها القَذرة، كان ثديُها كبيرًا جدًّا وفكُّها السفلي بارزًا وقدماها نحيلتَين لا يكسوهما اللحم مما جعل الحذاء يبدو كبيرًا.

توقَّف موجيا عن الضحك، ومسَح دموعَه بظهر يده المليء بالندوب، ثم نظر هو والمرأة إلى تانيا وسألاه: ماذا حدث؟

– لا شيء … لا شيء على الإطلاق.

– إذن دعنا نذهب مع امرأتي؛ فهي تؤجر بيتًا بجوار شجرة آبائك المقدَّسة، تلمَّس موجيا جيوبه البارزة، وأخرج عشرة شلنات، ثم أضاف: أملكُ بعض المال الكافي لطعامنا وشرابنا الليلة، كما أن امرأتي ستُحضِر لك امرأة … أليس كذلك يا امرأتي؟!

لم يسمعها موجيا وهي تقول نعم بصوتٍ خفيض؛ فقد كان مشغولًا بالضحك مرةً أخرى، ثم قال وهو يُربِّت فوق كتف تانيا: لدينا اليوم وقتٌ يا رجل، وأنت تستحقُّه.

توقَّف موجيا فجأة، وتنفَّس هواءً حزينًا، وتطلَّع إلى تانيا في عينَيه، ثم وضع ذراعه فوق كتفه، وقال: ماذا حدث بالضبط يا صديقي، هل مات أحد؟

طلَب من المرأة أن تترُكَهما لحظة.

قال تانيا: لا … لا … دعها يا موجيا؛ فلا شيء يفيد، كما أن أحدًا لم يمُت في عائلتنا منذُ زمنٍ بعيد.

لفَّ موجيا إحدى ذراعَيه حول خصر امرأته النحيل، وذراعَه الأخرى حول خصر تانيا، وبدءوا يتحركون.

كانت ماريا تُؤجِّر البيت الذي كان محلًّا للبيرة، ثم حوَّلَته ببراعتِها إلى استخداماتٍ أكثر جاذبية، وكان بيتًا واسع الشرفات في النهاية الغربية لكاشا وانجا، ويُخفي نفسَه تحت شجرة على بُعد خطواتٍ قليلةٍ من الطريق الرملي؛ حيث يمارسون كل الأشياء التي لا ينبغي أن يفعلوها، كان السقفُ من الحديد المتجعِّد بدلًا من الأعشاب والأرضية من الأسمنت، وكانت الحجراتُ فارغةً إلا من بعض المقاعد القليلة، وفي المنتصف كان باستطاعة المرء أن يتَّكِئ للشراب أثناء المداوَلة.

كان الحاضرون يتحدَّثون بهدوء أو يُحدِّقون في الأرض، وعندما دخل الثلاثة ساد الصمت، ورفعوا أعينهم إلى ماريا، التي بدت كأنها طيرٌ يعود إلى عُشِّه محمَّلًا بالطعام في منقار، بادلَتْهم التحية، وأغدقَت عليهم بابتسامتها المزيَّفة، بينما وقف تانيا بجوار الباب واضعًا إحدى يدَيه فوق وجهه تجنبًا لشمس الظهيرة، وراح يُحدِّق بغير حماسٍ إلى رجالِ ماريا المختلفين، فتوقَّف أمام ذلك العجوز الجالس عند الركن بقدمَيه المعروقتَين، ولاحظ أن إحدى قدمَيه بثلاثة أصابع فقط، كانت تجلس فتاةٌ جميلة في حوالي السادسة عشرة فوق حجر العجوز ذي الرأس الأصلع المليء بالخدوش، وعندما لاحَظ موجيا أن تانيا مهتمٌّ بالعجوز اقترب من أذنَيه كاتمًا ضحكاتِه وراح يهمس له عن الرجل الذي لا يعرفه أحد: تقول الإشاعات إنه كان ابنًا لأحد زعماءِ قريةٍ بعيدةٍ في الجنوب وإنه كان ميسورًا في المال والأبناء والإمكانات التي تجعل منه زعيمًا، ثم التحق أخوه الكبير بوظيفةٍ حكومية، وبدأ حملةً ضد وجود الزعماء، وعندما سمع أبوه العجوز عرف أن قوَّتَه تنهار على يد أحد أبنائه، فأصابتهم اللعنة وبدأَت الماشية تموت حتى أصبح غارقًا في الشراب الذي كان يصنعه من الذرة ويشربه في البيت، عندما سئم بكاءَ زوجته تحت قدمَيه وذهولَ أبنائه. راح يشرب في الحانات بعد أن يبيعَ جزءًا من أرضه، عاد ذات يومٍ إلى البيت فوجدَه محترقًا بكل أولاده، وشاهد زوجتَه ترقُص بجنون وهي تتألم فنظر إليها واتجه نحو الشمال بينما كانت هي ترقص في اتجاه الجنوب، حتى وصل إلى هذا البيت الغامض؛ حيث احتوته ماريا بقلبها الطيب كجدٍّ للجميع، وفي يومٍ ما شاهد تلك الفتاة، وتعاطف كلاهما مع الآخر؛ فقد رأى فيها ابنتَه التي عوَّضَته قليلًا عن اللعنة التي أصابته، كما وجدَت هي فيه الحماية من أهوائها وأهواء الرجال، حتى إنه كان يرتق ملابسها ويزيل البراغيث من قدمَيها الجميلتَين، رغم أن كليهما لم يكن يعرف اسم الآخر، وكانا يتبادلان الحديث بصعوبة فيما عدا أسئلةً من نوع: «حبيبتي، هل أنتِ جائعة؟» أو: «هل أقدِّم لك بعض البيرة؟» وكانت الإجابة ثابتةً لا تتغير: «لا يا أبي.»

هزَّ تانيا رأسَه تعاطُفًا مع هذه الحكاية الحزينة، فقال موجيا: هناك إشاعةٌ أخرى تُحكَى عن أن هذا العجوز كان «دون جوان»؛ فقد كان يقوم بدور الرسول والمساعد في كل الوظائف التي تتطلب النشاط وخفَّة الحركة؛ مثل ربط عناقيد الذرة في الأشجار، أو مساعدة الماشية المريضة. وهكذا اقترب من قلوب النساء اللاتي كن يفتحن له الباب بترحاب عندما يطرق الباب في الموعد المحدَّد، لكنه حين كبر أصبحَت النساءُ تسخَر منه، خاصة حين وجدن مَن هم أصغر منه سنًّا، واعتبرَتْه النساء مهرجًا، وكن يقلن له في وجهه إنه عاجز لا ينجب، فأصابه اليأس ووجد ضالَّتَه عند ماريا، ولم يتبقَّ له سوى أن يصُب مشاعره في تلك الفتاة الصغيرة، وكأنها مرآةٌ تاريخيةٌ لحياته، حاول الاستئثار الكامل بها، وكان من الغريب أنها أيضًا تعلَّقَت به كما يتعلق أبو جلمبو بمحارةٍ ميتة.

قبل أن ينتهي موجيا من سرد تلك الإشاعة إلى تانيا تدخَّلَت ماريا وقالت وهي تشكو من حَلْقها: «قلتُ قبل ذلك بأن هذه الأشياء لن تكون أثناء النهار، لن تكون أبدًا؛ فأنتم لستم حيوانات أو كلابًا، ولكنكم آدميون.»

ضحكوا جميعًا فظهَرَت لثة العجوز الأرجوانية وأسنانه البنية وتلعثَم قائلًا: «إن شباب اليوم ذوو دمٍ ساخن.»

لم ينتبه أحدٌ لما قاله العجوز؛ فقد كان الجميع يتطلع إلى ماريا وهي تدفع امرأةً أمامها قالت بأنها ستكون امرأة تانيا لهذه الليلة، ضحكوا مرةً أخرى وابتعد تانيا قليلًا، ثم اقترحَت ماريا طاسةً لكل شخص احتفالًا بأنها ما زالت تعيش.

وضعَت امرأة تانيا إناء البيرة المليء بالرغوة فوق الأرض، وراحت تصُب للحاضرين في الطاسات بادئةً بالكبار.

زعق موجيا قائلًا: «الموسيقى … الموسيقى» فهبَّت الفتاةُ الصغيرةُ من فوق حجر العجوز، وتحرَّكَت برشاقةٍ كالقطة نحو الصندوق الأسود، وقامت بتغيير الإبرة، ثم نظرت إلى الحاضرين لئلا يريد أحدهم اختيارًا خاصًّا، لكنهم كانوا مشغولين بالشراب، وكانت الرغوة تنسكب فوق الأرض وهم يتحدثون بأصواتٍ ضعيفة، أو يشيرون برءوسهم بالموافقة. كان تانيا هو الوحيد الذي ما يزال واقفًا عند الباب ممسكًا بطاسته، ومحدِّقًا في الشمس التي لا تبعُد كثيرًا عن بيته في الجبال الغربية.

وقفَت الفتاةُ الصغيرةُ بجوار الجرامافون، وبدأَت الموسيقى، فتوقَّف الجميع عن الحديث، وكانت طاساتُ البيرة تفرغ بسرعة، مما دعا موجيا إلى أن يهمسَ للمرأة المتوسطة العمر بأن تدورَ عليهم بجرعاتٍ أخرى.

كان الكبار يهزُّون رءوسهم بإيقاعٍ أمريكيٍّ مكسور دون أن يفهموا شيئًا، وكانت الأغنية تقول: «الجلوس … الجلوس انتظارًا لرنين جرس التليفون طوال الليل … أين يُمكِن أن تكوني يا عزيزتي، با … با … بو … با … با … با … بو.»

أما الصغار فقد كانوا يحرِّكون خصورهم وأكتافهم بقوة وتناسُق، وكان موجيا يتناول طاسةَ البيرة الثالثة فاضطربَت حركاتُه، وراح يترنَّح بعضلاتِه المشدودة غيرَ مدركٍ للبيرة المنسكبة فوق رباط ركبتَيه، وبدا على تانيا التعب وهو يبتسم.

أصبح الجميع مخمورين فيما عدا تانيا، ولم تتوقَّف الموسيقى، وحين أصبحَت النغمات شاذةً تدفَّقَت الرمالُ من الأرضية، وصار لونُها ذهبيًّا في الضوء القادم من الباب، ومن أشعة الضوء المنبعث من ثقوب السطح المتجعِّد والحائط الطيني.

شاء تانيا ألا يصبح مخمورًا، وكان الوحيد الذي لم يفقد توازُنه، والوحيد الذي لاحظ أشعة الضوء الذهبية وذرات التراب القليلة التي تتساقط في رغوة البيرة، وكان العجوز يتجرَّع البيرة ضاحكًا باستهزاء بينما يهمس تانيا لنفسه: «من التراب وإلى التراب، من التراب وإلى التراب.» أصبحَت حركات موجيا طائشة، ولم يستطع أن يفتح عينَيه، وامتلأ وجهه بالعَرق، وكان يتلوَّى بشدةٍ مثل النحلة، ويمصُّ قدمَه العارية وهو يفتح ذراعَيه بإيقاعٍ منتظم.

كانت نهاية الأغنية تقول: «حبيبتي سو»، صفَّق الجميع لموجيا الذي فقد توازُنه وأصبح عنيفًا، زعق موجيا وهو يرتشف جرعةً أخرى من طاسته الرابعة: «الموسيقى … الموسيقى».

جلس تانيا فوق عتبة الباب، واتَّكأَت الفتاةُ الصغيرةُ فوق حجر العجوز وهي تُمسِك له بالطاسة التي لم تَنتهِ بعدُ، قدَّمَت الفتاة الشابة نفسها قائلة: «تريسا»، فكان ذلك غريبًا؛ لأن أحدًا لم يكن يعرفُ اسمَها، حتى العجوز الذي كان نائمًا في الركن فاتحًا فمَه، غير مدركٍ للضوضاء من حوله، لا بُد أن شيئًا ما قد أثارها في تانيا حسيًّا كان أم عاطفيًّا، ربما كان الانفعال الواضح في هدوء تانيا، ذلك الهدوء الذي يشبه البيضة حين تُوشِك على الانشطار إلى قِطعٍ غير معروفة … اندهشَت النساء وبخاصةٍ الصغيراتُ منهن لذلك الانجذاب غير المتوقَّع، ولم تستطع تريسا إخفاء دهشتِها تجاه تانيا.

وضع موجيا طاسته الفارغة فوق الأرض، وصرخ مرةً أخرى: «الموسيقى … الموسيقى»، أبصر تريسا متكئةً فوق حجر تانيا، فغمز إلى ماريا التي كانت تفكِّر وهي تتجه نحو التسجيل، ثم قالت: «دعهم وشأنهم فإن الظلام سيسود حالًا، وهما طفلان متعبان، وعليهما أن يتخيَّلا الراحة.»

قال موجيا ببهجة: «أوه … إنه ماسينجوا».

كان ماسينجوا يضرب الهواء كالحصان المربوط في شجرة، وطلبَت ماريا الرقص مع موجيا الذي فرد ذراعَيه، وهزَّ أكتافَه ورأسَه، وكان خصرُه يتلوَّى بحماسٍ كالنحلة، رقصَت ماريا حوله بطريقةٍ ميكانيكيةٍ في البداية، ثم أغلقَت عينَيها، وبدت بحركاتها الصافية كأنها تذوب في سائل، كانت ترقص كملكة النحل حول مليكها وهي تميل بصدرها الكبير وتمُد ذراعَيها وتسحبُهما بايقاعٍ منتظمٍ دون أن تلمسَ مليكَها، لكنها كانت تُحس بالموجات النابضة في الهواء، كانا كموجتَين ترقصان حول بعضهما بحركاتٍ صافية، وكانت كل خلية في جسدَيهما تنبض بالحركة، وكأن ماسينجوا كان يعزف هذه المقطوعة من أجلهما، أو من أجل هذه المناسبة أو اللحظة التاريخية … كان كلاهما قد عانى المتاعب في طفولته، وهكذا توهَّما أنهما يُخفِّفان عن أنفسهما … ارتفعَت إيقاعاتُ ماسينجوا، وعلا صوتُه الرتيب في نشوة، حتى أصبح الراقصان كالرمح المشدود، وارتقى كل جزء من جسدَيهما إلى مستوى الكمال، ثم طلب ماسينجوا من الجميع مزيدًا من الحركة والانحدار، وكان أن فعَلوا ما أمر به، وربما أكثر.

كانوا جميعًا مستندين إلى الحائط، والبعض يُغمِض عينَيه وهو يهتز أو يصفِّق غيرَ مدركٍ لانسكاب الطاسات فوق الأرض والملابس والأجساد العارية … كان تانيا ما يزال مستندًا إلى إطار الباب يلفُّ إحدى ذراعَيه حول خصر تريسا، ويُمسِك الطاسة بالذراع الأخرى، دون أن يثير انتباهَه شيء، وكان يتجول في المكان كأنه شيطانٌ ملعون وقد ساورَتْه مشاعرُ القلقِ من لعنته.

فتح تانيا فمه وهو يهتزُّ بإيقاع مع الراقصين ويدقُّ قدمَيه العاريتَين فوق الأرض كالآخرين، وراح يحدِّق إليهم دون أن يراهم، لم يلحظ ذلك الهدوء العجيب فوق وجه ماريا، رغم أن كل شخصٍ في الحجرة كان متصببًا بالعرق والإرهاق، لكن وجه ماريا دائمًا يبدو متفردًا ومنعزلًا، منعزلًا من شدة الألم أو من السرور خاصةً حين لا تضحك أو تبتسم، كان وجهُها يوحي بمعاناةٍ كبيرةٍ يصعُب التعرُّف عليها أو تسجيلُها؛ لأنها ترفض أن يعرفَ معاناتَها أحدٌ، أو ربما لأنها نوعٌ من المعاناة لا يَقْدر على ارتداء قِناع الأسى.

كان وجهُها هادئًا كالمومياء أو كأنه وجهُ ميت، إنه الخوف الدائم من الموت الذي يتجلى في نبضاتِ الجسدِ الراقصِ حول موجيا، كانت ذرات الرمل تمتصُّ فقاقيعَ العَرقِ من فوق ذراعَيها وقدمَيها العاريتَين.

توقَّف ماسينجوا عن العزف فجأة، فتوقف الجميع عن الرقص، فبدا الأمر كأن زلزالًا قد توقف لكن الرعشات كانت مستمرة، وكذا صدى الإيقاعات المتكرِّر عَبْر وادي الأرض المنغمسة في الملذات، وكان موجيا وماريا يواصلان الرقص وبقية الحاضرين يُومئون ويدقُّون الأرض دون أن يتوقف التصفيق في المكان، كان الرقص بلا موسيقي كالنار المحترقة التي لا يغذِّيها الوقود، ففتح أحدُهم عينَيه ببطء ثم تبعَه آخر، وتوقَّف آخرُ عن دق الأرض وعن التصفيق، وهكذا حتى انتهى الأمر، ثم فتح موجيا عينَيه، وكذلك فعلَت ماريا، وتوقَّفا عن الرقص، وساد صمتٌ غريبٌ بضع لحظات مثل صمتِ الطفل الذي يكتشف نفسَه فجأةً في مكانٍ خطأ.

ضحك موجيا بمتعةٍ وإحساسٍ بالنصر والتخفيف عن الذات، وتبعه الآخرون بضحكاتٍ مختلطة، ثم ربَّت الرجال فوق كتفه، وحدَّقَت فيه النساء بعيونٍ ملؤها الرغبة، وكان تانيا أيضًا يضحك؛ فقد كانوا سعداء.

اثنان فقط لم يشاركا في ذلك الصخب؛ أولهما العجوزُ الذي كان نائمًا عند الحائط، والذبابة ترقُص فوق فمه المفتوح، وكان من العسير أن يتخيل المرء كيف يستطيع أن ينام في مثل تلك اللحظة، لكنه كان رجلًا كبيرًا وأصلع، كما أن تريسا لم تعُد تجلس فوق حجره. وثانيهما تريسا التي بدَت منعزلةً عن كل شيء، كانت تُحدِّق في غروب الشمس وهي مستندة على تانيا، وقد انتابتها فجأةً رجفةٌ هادئةٌ وقوية بلغَت ذروتها عند صدرها وأكتافها، ولم تكن تعبأ بالحاضرين وضحكاتهم كما أنهم لم يكونوا مدركين ما بها؛ فلم يكن يسيرًا التعرُّف على ما يُقلِقها، ربما كانت خائفةً من غروب الشمس التي قد لا تشرق مرةً أخرى؛ فهي تخاف الظلام مثل كثيرٍ من الناس، وتخشى ما يحدُث في الظلام والنتائجَ التي يجب مواجهتُها حين تُشرِق الشمس … من يدري؟

توقَّف الضحك، وساد الهدوء، وتفرقوا إلى جماعاتٍ يشربون ويتحدثون بهدوء وهم يمسَحون العرق من فوق وجوههم بأصابعَ قذرة، ثم ساد الظلام فدخلَت المرأة الشابة أو امرأة تانيا التي كانت مختفيةً طوال الوقت، وكانت تبدو مخمورةً رغم وجهها الهادئ، وبدأَت تجاهد في إشعال الفوانيس الثلاثة المعلَّقة فوق الخطَّاف الخشبي عند الحائط الطيني دون أن تتوقَّف عن محادثة نفسها.

تلألأ الضوءُ عَبْر الحجرة واختفَى، ثم تلألأ مرةً أخرى أكثر وأكثر، وسيارةٌ ما كانت تتوقف عند المدخل، فاندفعَت ماريا إلى حجرة الجلوس بعد أن كانت مختفيةً عند الحاجز مع موجيا، وصاحت: «يا أبناء الزنا، أيها الأوغاد.»

كانت ماريا تكره البوليس فهُرعوا جميعًا لإخفاء أنفسهم، وكذلك فعل العجوز الذي استيقظ فتلألأَت عيناه من الإضاءة، وركع ليُصلي، ثم نهض وراح يجري هنا وهناك باصتباك كالدجاجة حتى اختفى خلف الباب، بينما وقفَت ماريا بدون قلق ووضعَت يدَيها فوق خاصرتها في حالة انتظار، وكان موجيا يقف خلفها ممسكًا بالعصا، أما تريسا فكانت ما تزال مستندةً إلى تانيا دون التوقُّف عن التحديق إلى حين تغيب الشمس.

خرج من السيارة رجلان بنظارةٍ سوداء فضحك موجيا، ولم يقدر على إنهاء جملته حين قال: «إنهما ليسا من البوليس ولكنهما من موظَّفي الحكومة.» ظهر عندئذٍ المختبئون وهم يشعرون بالراحة، ثم استطرد موجيا: «كنتُ أقول دائمًا إن الجنسَ البشريَّ بأكمله يلتقي عند نقطتَين هما الجنس والموت.» فضحكوا جميعًا، وهكذا استقبلوا القادمين لكنهم شعَروا بالارتباك، وخاصة تريسا التي كانت غارقة في أفكارها وتأمُّلاتها فلم تتحرك بوصةً واحدة … حاوَلوا أن يتمالكوا أنفسهم، وراحوا يتطلعون إلى الرجلَين بريبةٍ وكراهية، فلم يتلقَّيا الترحيبَ الكافي، ولم يُنادوا عليهما بلقب «السيد»، أو يقفوا في طابورٍ كما يحدُث في المكاتب الحكومية.

خلع أحدُهما نظارتَه، واكتفى بالنظر إلى تانيا، وبدا واضحًا أنه جيمس الذي قال بدهشة وكأنه وجد القَشَّة التي يتعلق بها: «لماذا نبحثُ عنكَ طَوالَ المساء؟»

ابتسم تانيا، ومد ذراعه بازدراء ليصل صديقَه بأولئك الناس الذين فقدوا الشعور بالراحة، والذين يحتقرهم جيمس بالنهار لكنه يبحث عنهم ويحلُم بهم في الليل. توقف الحاضرون عن الكلام وقد فقدوا سعادتهم، ربما لأنهم كانوا خائفين لما سوف يتفوَّه به موظَّفا الحكومة عن البطالة أو تطوير القرية، وربما خوفًا من الحديث عن الموت.

تحسَّس موجيا جيوبه، وأخرج نقودَه الأخيرة، ثم طلب كوبًا من البيرة لكلَيهما، فانحنيا له بامتنان، وراحا يشربان بسرعة دون أن يتوقَّفا بين رشفة وأخرى، ودون مشاركة لأحد، وكأنهما لم يشربا طوال اليوم، ثم أخرج كلٌّ منهما منديلًا من جيبه وجلس عليه. استيقظَت تريسا من تأملاتها، وبدأَت تُحدِّق في تلك الندبة الواضحة تحت عينَي جيمس، ثم ضحكَت بصوتٍ عالٍ فاتجهَت كل الأنظار إليها.

طلب جيمس بيرة لكل واحد منهم لكن أحدًا لم يمتَنَّ أو ينحنِ كما فعل هو وزميله، وإنما شربوا بنفس الطريقة؛ لأنه من العيب أن يرُد المرءُ الهدية، كان تأثير الشراب واضحًا، وكلما زاد التأثير ضاقت الفجوة بين المجموعتَين، وراحوا جميعًا يتحدثون بأصواتٍ عاليةٍ عن هذا وذاك، وكان صوتُ العجوز أعلى الأصوات وهو يُعاوِد الحكي عن تاريخه المكسور أو تاريخه الوهمي، وبدا أن أحدًا لا يسمع، بما فيهم تريسا، التي كانت راقدةً حينئذٍ فوق حجْرِ موجيا.

لعبتَ البيرة برأس جيمس فانطلق لسانه، وراح يمثل هاملت مرة ويستشهد بالإنجيل مرةً أخرى، ثم توقف فجأة، وظل يستمع باهتمامٍ لقصة العجوز الشجية التي انتهت بالدموع، توجَّهَت تريسا نحو العجوز وركعَت تحته في محاولةٍ لإيقافه عن الكلام؛ لأنها تعرف مدى الجرح الذي أصابه من الحديث، خاصة وأنه لم يسبق أن أخبر أحدًا بقصة مجده وسقوطه، كما كانت تعرف أن المرء لا يستطيع أن يجلدَ نفسَه ويعيش، لكنه رفض التوقُّف عن الكلام، وقال مداعبًا شعرها: «ابنتي العزيزة … يا ملاكي … إنه يوم حسابي، ويجب أن أسدِّد ديوني، فدعيني إذن أتكلم، وسوف أقول كل شيء … كل شيء، ويمكنك أن تكوني سيدةً لي، أو يمكنك القول بأنه كان يعرف المكان الذي تتحطَّم فيه السلسلة، كما تستطيعين أن تتساءلي عن السبب في ضرورة أن يموت في ماخور.»

شعَروا جميعًا بالدهشة والذنب ثم استطرد: نعم … تستطيعين القول بأنه قال الحقيقة أخيرًا، وأنه مات حكيمًا ليس من أجل الحكمة ذاتها وإنما ليكتشف فوق سرير الموت المكانَ الذي تكسَّرت فيه السلسلة، وليعرف كيف تكون الأشياء … إنه لعَزاءٌ كبير.»

وقفوا حوله كما يفعل الناسُ عند وقوع حادثة، وجفَّفَت تريسا دموعَه بنهاية فستانها، وقالت متوسلة: «أرجوك يا بابا لا تفعل … لا تفعل.»

ظل يتحدث ويُقلِّب الأفكار في رأسه دون أن ينسى أية تفاصيل، حتى إنه تذكَّر لونَ فستانِ الفتاةِ التي خدَعَها بالحب في آخر مرة، وأضاف كيف أنه عاش حياةَ الجنسِ التي كان يتمتَّع بها الشعراء والموسيقيون في القرن الحاديَ عشَر بفرنسا وشمال إيطاليا.

توقَّف قليلًا من التعب ثم قال: «يجب على المرء أن ينظر إلى الوراء للوقوف عند بعض التفاصيل، وهذا ما فعلتُه بالدموع. لا أندم على شيء.»

بكَى كثيرًا، وكان من اليسير سماعُ تنهُّدات الحزن في أرجاء الحجرة، وانتاب الجميعَ إحساسٌ بأن العجوز كان يتحدث عن حياتهم الخاصة، فتلاشى تأثيرُ البيرة، وظلوا يُحدِّقون إلى الأرض وإلى العجوز، وأغلق البعضُ عيونَه مُحدِّقًا داخل نفسه، لكن جيمس قال: «إن العالم عبارةٌ عن كرسيٍّ مستدير حيث يجلس الكبار، ويعبثون بشواربهم الرمادية حتى تتقرح جلودهم، ثم يستديرون لسرد ماضيهم … يا له من تعبٍ أن يجلسَ فوق الكرسي ويعبثَ بشاربه عندما يكون أصلع و…»

تطلَّعوا جميعًا إلى جيمس بدهشة، وشعَروا بأنه إما أن يكون مجنونًا أو أنه يُسيء إليهم، ففقَد موجيا أعصابه ودفَع جيمس بأكتافه إلى خارج الباب مثل كلبٍ وقح، وتبعَه زميله، ثم انطلقا بالسيارة بدون إضاءة أنوارها الأمامية.

نظروا إلى تانيا بعيونٍ ملؤها الاتهام لكون جيمس رفيقًا له، فشعَر تانيا بالذنب، وأصابت العجوزَ حالةٌ من الغيبوبة، فحاولَت ماريا وتريسا نقلَه إلى الفِراش؛ لأن الجميع يجب أن يموتَ فوق الفِراش، وسارع تانيا بمساعدتهما ليُخفِّف عن نفسه وطأة الذنب.

عاد تانيا وتريسا وماريا إلى حجرة الجلوس، وبدأ الحاضرون في الخروج واحدًا بعد الآخر ببطء وهدوء، حتى اختفَوا جميعًا في الظلام منكسرين، وأكثر حزنًا مما جاءوا؛ إذ لم يُشبِعوا رغباتهم العنيفة، وقد أصابهم الهزال من الخوف الكامن في قلوبهم كل الوقت، والذي فجَّره حديثُ العجوز، وكذلك خرج موظَّفا الحكومة دون تحقيق رغباتهما المكبوتة، لكن أحلامهما لم تتحطم على أية حال كالآخرين، ولم يتملَّكْهما الندم والخوف.

كان تانيا آخر من غادر المكان وقد أصابه الارتباك الشديد حتى إنه لم يسمع ماريا وهي تقول له: «طابت ليلتُك.»

توقَّفَت تريسا عند الباب ناظرةً إلى ماريا وتانيا في محاولة لأن تفهم شيئًا، ثم تبعَت تانيا في الظلام وهي مخمورة تمامًا، دون أن يدرك تانيا، الذي بدأ في السير في خطٍّ مستقيمٍ لا يعرف نهايتَه.

سمع صوتًا يقول: «أردتُ أن أقول …»

كانت الأفكار تُسيطِر عليه فهزَّ رأسه، ونظر خلفه، لكنه لم يُبصِر سوى الظلام، وسمع نفس الصوت مرةً أخرى: «أردتُ أن أقول بأنني لا أستطيع الحضورَ معك هذه الليلة رغم أنني أتمنَّى ذلك، لكن العجوز يموتُ ويحتاجُني إلى جواره، وعلى أية حال فإنني أريدُ أن أراك مرةً أخرى، وفي أسرع وقت.»

سارعَت بالعودة، وبعد لحظةٍ قصيرةٍ أبصر تانيا نقطةً سوداءَ تختفي في ضوء البيت الأصفر، ثم وقف بعض الوقت محاولًا أن يفهم تلك الكلمات وهو يكرِّر بصوتٍ عالٍ: «أريدُ أن أراك مرةً أخرى، وفي أسرع وقت.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤