مقدمة: الجدل النظري

الهدف من هذا الكتاب مزدوج؛ فهو يرمي إلى تتبُّع الأسس الثقافية للأمم في فتراتٍ مختلفةٍ من التاريخ عن طريق تحليل عملياتها الاجتماعية والرمزية ومصادرها الثقافية، بالإضافة إلى تسليط الضوء على بعض المسائل المعقدة المتمثلة في تعريف «الأمة» وتحديد تاريخ ظهورها. وهاتان المسألتان مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا؛ لأن كلتيهما تتعلق بموضوعٍ أكثر جوهريةً يتمثل في إمكانية الحديث عن وجود مفهوم واحد للأمة، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يرتبط ذلك المفهوم بالأشكال المتعددة للأمة في فتراتٍ مختلفة من التاريخ.

سأوضح أن أنماط المجتمع القومي تعتمد على تقاليدَ ثقافيةٍ معينة نابعة من العصور القديمة التي كوَّنت الأخلاقيات وحِس الهُوية القومية لدى أفرادها. بَيْدَ أننا قبل أن نتمكن من استعراض تلك التقاليد نحتاج إلى التركيز على مسألتَي تعريف الأمة والتحقيب الزمني لتاريخها. وهاتان المسألتان، بدوريهما، جزءٌ لا يتجزأ من مناهج نظرية مختلفة؛ لذلك، في هذه المقدمة، سوف أوضح أولًا في اقتضابٍ المناهجَ الأساسية في هذا المجال وحلولها لإشكالية «تأريخ ظهور الأمة». وسيمثل هذا مدخلًا لموضوعَين أساسيَّين، هما: تعريف فئة «الأمة»، والتكوين الاجتماعي للأشكال التاريخية للأمم. وهذا بدوره سوف يسمح لنا بالبدء في إجراء دراسة علم اجتماع تاريخي على تكوين المجتمعات القومية واستمرارها، في فترات مختلفة من التاريخ.

تعد مقالة ووكر كونور القصيرة التي نُشِرت عام ١٩٩٠ تحت عنوان «متى تنشأ الأمة؟» نقطة انطلاقٍ جيدة؛ إذ قال في هذه المقالة إن الباحثين طالما ركزوا على سؤال «ما الأمة؟» لكنهم أهملوا سؤالًا عل القدر نفسه من الأهمية والإثارة، ألا وهو «متى تنشأ الأمة؟» حتى لو كان السؤال الأول له الأسبقية منطقيًّا، فإنه في حد ذاته، باعتباره تعريفًا لمفهوم الأمة، لا يمكنه حسم إشكالية تحديد الوقت الذي تكوَّنت فيه أمم بعينها. بالإضافة إلى ذلك، تَطلَّب هذا الأمر بياناتٍ تاريخيةً وأيضًا نموذجًا أو نظريةً لتكوُّن الأمة. وقدَّم كونور كلًّا من تعريف الأمة والنموذج الذي يوضح، على أقل تقدير، كيفية تكوُّن الأمم الحديثة.1
يرى ووكر كونور أن الأمم جماعاتٌ عرقية تتمتع بوعيٍ ذاتيٍّ حقيقي. وتُشكل الأمة أكبر جماعة مؤسَّسة على اعتقاد أفرادها أن بينهم صلات قرابة تعود إلى سلف مشترك. إن احتمالية عدم وجود صلة قرابة تعود إلى سلف مشترك فيما بينهم، أو احتمالية نشوئهم أيضًا من سلالات عرقية مختلفة، كما هي الحال في أغلب الأحيان؛ من الاحتماليات غير المطروحة من الأساس. إنه ليس تاريخًا وقائعيًّا، بل تاريخ محسوس يشمل عملية تكوين الأمم؛ ولهذا السبب يُشبِّه القوميون المعاصرون الأمةَ بأسرة كبيرة، ولهذا السبب فإن توسُّلهم ﺑ «صلة الدم» يثير دائمًا تعاطف أعضاء الأمة. كيف تتكون الأمة من أساسها العرقي؟ يرى كونور أن هذه العملية قد تكون مطولةً للغاية؛ لأن الأمم تنشأ على مراحل. إلا أن التحديث (التحوُّل إلى الحداثة) يعمل محفزًا قويًّا يُسَرِّع من هذه العملية؛ نظرًا لأنه يجعل الكثير من الجماعات يتواصل عن كثب وبانتظام، بالإضافة إلى أنه منذ الثورة الفرنسية حرَّضت أفكارُ السيادة الشعبية واعتبار حكم الأجنبي حكمًا غير شرعي جماعاتٍ عرقيةً متعاقبة على التطلع إلى تكوين أمم مستقلة. رغم ذلك، لا يمكننا حقًّا الحديث عن نشوء أممٍ إلا بعد أن يكون لدى غالبية أعضائها وعي بمن يكونون ومن لا يكونون، والأهم من ذلك أن يكون لديهم شعور بالانتماء إلى الأمة وأن يشتركوا في حياتها. ومن منظور الديمقراطية، يكون معنى ما سبق أننا لا يمكننا الحديث عن أمةٍ قبل أن يُمنح غالبية أفرادها حق التصويت كأحد حقوق المواطنة، وهذا أمر لم يشرع حدوثه إلا مع نهاية القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين. وقد تكون الجماعات العرقية «من ثوابت التاريخ»، وموجودة في كل حقبة، لكن الأمم القائمة أمم حديثة، وقريبة العهد تمامًا.2

(١) الحداثة

يتوافق تأريخ كونور لظهور الأمم مع التاريخ الذي حدَّده غالبية الباحثين في الوقت الحاضر، هؤلاء الباحثون الذين من الممكن أن يُطلَق عليهم «حداثيون» لهذا السبب. من منظور الحداثيين، فإن كلًّا من الأمم والقوميات قريبة العهد وحديثة، وكلتاهما ثمرة «التحديث». ويختلفون بطبيعة الحال في الأسباب الدقيقة التي تجعل الأمم قريبة العهد وحديثة؛ فالبعضُ يبحث عن الأسباب في الرأسمالية الصناعية، والبعض الآخر يبحث عن الأسباب في نشأة الدولة المركزية المُحنكة، وغيرهم يبحث عن الأسباب رغم ذلك في طبيعة وسائل الإعلام الحديثة والتعليم العلماني. إلا أن ما يهمني في هذا الصدد ليس أسبابهم، بل طريقة تقسيمهم للفترات والافتراضات التصنيفية التي أرَّخوا تَكَوُّن الأمم على أساسها.3
من منظور الحداثيين، فإن الأمم لا توجد ولا يمكن أن توجد قبل نشأة الحداثة، أيًّا كان تعريف الحداثة. وهذا يعني من الناحية العملية أننا لا نستطيع الحديث عن الأمم أو القومية قبل أواخر القرن الثامن عشر، وليس قبل ذلك. وحسب ما ذكره إرنست جيلنر، فمن غير الممكن أن تكون الأمم قد ظهرت قبل فجر الحداثة. في المجتمعات التي يُطلَق عليها المجتمعات «الماهرة في الزراعة»، كانت قلة نخبوية تحكم قاعدة هائلة من منتجي الطعام، وكانت الثقافة المكتوبة لهذه النُّخَب مختلفة تمامًا عن الثقافات الكثيرة «المتدنية» والشفهية والعامية لعوام الفلاحين. ولم يكن لدى النُّخَب رغبة في نشر ثقافتهم، ولا اهتمام بذلك، وحتى رجال الدين الذين كان لديهم اهتمام بنشر الثقافة كانوا يفتقرون إلى وسائل القيام بذلك. لم يَخلق الحاجةَ إلى «الثقافات الرفيعة» المكتوبة المتخصصة التي يجعلها جيلنر مناظرة لظهور الأمم إلا سهولةُ الحركة والنقل التي تتطلبها المجتمعات الصناعية.4
بالنسبة إلى الحداثيين الآخرين، أمثال جون بروييه وإريك هوبزبوم، فقد كان لدى العوام في فترة ما قبل الحداثة ولاءٌ محلي وديني صِرف. وعلى أحسن تقدير، من الممكن أن نصف بعض مجتمعاتهم بأنها مجتمعات «قومية بدائية». إلا أنه — كما يحاول هوبزبوم أن يوضح — لم يكن يوجد رابط حتمي بين تلك المجتمعات المحلية أو اللغوية أو الدينية وبين الأمم الإقليمية الحديثة. ليس بإمكاننا التفكير في احتمالية وجود صلة في العصور السابقة بأي هُوية قومية حديثة، باستثناء تلك الحالات القليلة التي كان بها علاقة مستمرة على نحو ما بدولة أو كنيسة في العصور الوسطى. لكن في العموم، لم يكن من الممكن انتقال كتلة السكان وشعورهم بالولاء لمجتمعات قومية أوسع نطاقًا إلا مع نشأة الدولة الحديثة والتحضر والنمو الاقتصادي.5
في حقيقة الأمر، إذا أردنا البحث عن الأسباب المباشرة لتوقيت نشوء الأمم، فإن بحثنا يجب ألا يتجاوز النُّخبة المثقفة القومية. إن القوميين هم من يخلقون الأمم، وليس العكس، كما يقول جيلنر، مثلما كان التنوير — وفقًا لما ذكره إيلي كيدوري — هو ما شَكَّلَ الثقافة العلمانية للأمم وأسفر عن النُّخبة المثقفة المقلدة والمتفاعلة في أنحاء أوروبا أولًا ثم حول العالم. وهذا يمثل نقطة التحوُّل في تاريخ القومية. ونظرًا لأن التنوير خَلَقَ خارج البلاد التي نشأ فيها جيلًا من الشباب المنعزل والمحبَط — «رجالًا مهمشين» — شعروا بأن الرفض الأرستقراطي أو الاستعماري حرمهم فرصهم في وظيفة ومكانة قَيِّمتَين متوافقتَين مع تعليمهم العلماني؛ ومن ثَمَّ أدت حالة السخط الناجمة عن ذلك إلى أن يبحثوا في القومية عن حل سياسي يمتد لآلاف السنين. وكانت النتيجة مناشداتٍ من موجاتٍ متعاقبة من المفكرين القوميين ﻟ «جماعاتهم» التي يشاركهم أفرادُها نفس الثقافة من أجل تكوين الأمة السياسية التي يكون للمفكرين في ظلها دورٌ قيادي مضمون. لم تتمكن تلك المناشدات من البدء في إثارة العوام إلا بعد الثورة الفرنسية، بدايةً بالرومانسيين في ألمانيا، وهو ما سيُرجِع مجددًا تاريخ تَكَوُّن الأمم إلى القرن التاسع عشر.6
يتضمَّن تحليل بينيدكت أندرسون لدور «رأسمالية الطباعة» في نشأة الأمم والقومية إشارةً لرؤيةٍ مشابهة عن تاريخ تَكَوُّن الأمم وطريقة تَكَوُّنها. يرى أندرسون أن الاتحاد بين الطباعة والرأسمالية في إنتاج الكتب ربما بدأ في أواخر القرن الخامس عشر. إلا أن دخول أعدادٍ كبيرة من الناس إلى معترك السياسة، وتَمَكنهم من البدء في «تخيُّل» الأمة باعتبارها تضامنًا له حدود وسيادة ويضم طبقاتٍ مختلفة، لم يكن إلا في القرن الثامن عشر، مع الإنتاج الشامل للصحف (مطبوعات اليوم الواحد). وساعدهم في ذلك حدوث ثورة في تصوُّراتنا عن الزمن؛ إذ تحوَّل من إدراك سابق مسيحاني كوني للزمن قبل ظهور الحداثة، فأصبحنا الآن نرى أن الزمن يتحرك حركةً خطية، من خلال «زمن فارغ متجانس» يُقاس بالساعة والتقويم.7

(٢) فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة

بطبيعة الحال، فإن هذه الحداثة الواثقة لا يشترك فيها العالم أجمع؛ فمثلما عارضَ الحداثيون عقيدة ما قبل الحرب السابقة التي مالت إلى اعتبار الأمم، إن لم تكن القومية، خالدةً ومتكررةً في كل حقبة تاريخية وفي كل قارة، فقد شنَّ تيار صاعد من مؤرخي فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة، لا سيَّما في بريطانيا، هجومًا مضادًّا قويًّا على افتراضات الحداثيين.

وقد طرح الراحل أدريان هستنجز حجتهم العامة بمنتهى الإقناع؛ فقد أوضح أننا يمكن أن نجد الأمم نابعةً عن عرقياتٍ شفهية موجودة منتشرة، لكنها متغيرة، نتجت بدورها عن تقديم أعمال أدبية مكتوبة باللغة العامية؛ ذلك أن الأدب يُثَبِّت اللهجة العامية، ويحدد الجمهور القارئ أو الأمة القارئة لها. في الحقيقة، يزعم هستنجز أن الأمم والقوميات كانت سائدةً في العالم المسيحي. وكان ذلك نتيجةً لسمتين من سمات المسيحية؛ تمثلت السمة الأولى في أن المسيحية، على النقيض من الأديان الأخرى، سمحت باستخدام اللغات والترجمات العامية. بينما تمثلت السمة الثانية في أن المسيحية تبنَّت العهد القديم بسرده لنموذج أمة وحدوي في إسرائيل القديمة؛ نموذج مزج الأرض بالشعب باللغة بالدين.8
بالنسبة إلى هستنجز، وكذلك بالنسبة إلى باتريك ورمالد، وجون جيلينجهام، وحتى سوزان رينولدز، توجد أدلة كافية، لا سيَّما في حالة إنجلترا، لتقويض الزعم القائل بأن الأمم وكذلك القومية ناتجتان عن «الحداثة». وعلى الرغم من أنهم قد يختلفون في التاريخ المحدد الذي نشأت فيه الأمة الإنجليزية، فإنهم جميعهم يتفقون على أن تحديد أواخر القرن الثامن عشر أو التاسع عشر كتاريخٍ لظهور الأمة يُعَد تاريخًا متأخرًا جدًّا؛ ذلك أن إحساسًا قويًّا بالهُوية القومية وُجد قبل ذلك بفترةٍ طويلة في إنجلترا، وربما أيضًا في اسكتلندا وأيرلندا وربما ويلز، وفي الحالة الإنجليزية، كان ذلك الإحساس بالقومية واضح المعالم في إنجلترا في أواخر العهد النورماني والعصور الوسطى بدايةً من القرنين الثالث عشر والرابع عشر على أقل تقدير وما بعدهما، إن لم يكن واضح المعالم مع أواخر الفترة الأنجلوساكسونية بالفعل. بالنسبة إلى مؤيدي فكرة ظهور الأمة في العصور الوسطى، فإن المصادر واضحة إلى حدٍّ بعيد؛ فمصطلح «أمة» كان مستخدَمًا على نطاقٍ واسع في العصور الوسطى، ليس فقط في المجالس الكنسية ولفيف الطلاب في الجامعات، بل أيضًا في الوثائق القانونية والكنسية، والمراسيم الملكية وقصص الرحلات، وأيضًا في المراسلات العامة. وحقًّا، كانت كل هذه الأعمال نتاج قلة نخبوية؛ إذ لم يترك السواد الأعظم من الناس، الفلاحون الأميون والمعزولون، أيَّ سجلاتٍ مكتوبة. ورغم ذلك، كم عدد السجلات التي تركها الفلاحون في القرن التاسع عشر، ذلك القرن الذي يمثل ذروة التكوُّن السريع للأمم، وفقًا لمعظم الحداثيين؟9
هذا يعيدنا إلى الزعم الأساسي لووكر كونور الذي يقول إن الأمم والقومية «ظواهر جماهيرية»، وإنه نظرًا لأن جماعات الفلاحين في حقب ما قبل الحداثة كانت أمية و«صامتة»، فلا مجال للحديث عن وجود أمم في الفترات التي سبقت دخول الفلاحين المعترك السياسي للأمة، وذلك لم يحدث في حالة الأمم الحالية إلا مع نهاية القرن التاسع عشر؛ يقرُّ كونور باحتمالية وجود أمم في فتراتٍ سابقة من التاريخ نظرًا لوجود أدلةٍ كافية على ذلك. ثَمَّةَ العديد من الردود على حجة كونور. بدايةً، إن غياب الدليل ليس كدليل الغياب، وحجة عدم وجود الوثائق تكون في الغالب سلاحًا ذا حدَّين. بالنسبة إلى أتباع فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة، فإن هذا الصمت يمكن أن يُفَسَّر إما على أنه قَبول، أو تسليم، من جانب الفلاحين بروابطهم العرقية أو الوطنية، أو على أنه افتقار تام للشعور بالانتماء الوطني. علاوةً على ذلك، فإننا إذا زعمنا، مثلما فعل كونور، أن «تصوُّرات النُّخَب عن الأمة في أغلب الأحيان لا تبلغ العوام»، فإن هذا الزعم يتجاوز ما لدينا من أدلة، ويوحي بأن معرفتنا بمعتقدات العوام في فترة ما قبل الحداثة تفوق معرفة النُّخَب المعاصرة لها. في هذا الزمن السحيق، لا يمكننا ببساطةٍ أن نجزم بما إذا كان عوامُّ الفلاحين في العصور الوسطى أو ما قبلها يشاركون النُّخَب في تصوراتهم. ومثل هذه الحجج العامة لا تسمح لنا باستنتاج أن السواد الأعظم من الفلاحين لم يستطيعوا امتلاك، أو لم يمتلكوا، هذا النوع من المشاعر العرقية أو حتى الوطنية في أزمنة بعينها.10
كخيار بديل، فإنه من الممكن التشكيك في علاقة شعور عوام الفلاحين بتأريخ نشأة الأمة؛ إذ يمكن على النحو نفسه أن نزعم أنه نظرًا لغياب الفلاحين من التاريخ والسياسة في معظم الحقب، فإن مسألة ما إذا كان الفلاحون قد حملوا مشاعر أو أفكارًا تجاه الأمة، وماهية تلك المشاعر أو الأفكار، غير ذات أهميةٍ إلى حدٍّ بعيد؛ فالثقافات والسياسات تُكونها الأقليات التي تكون في العادة نُخبة من نوعٍ ما أو آخر. كل ما يهم هو ضرورة أن يشعر عدد كبير من الناس خارج نطاق الطبقة الحاكمة بأنهم ينتمون إلى أمةٍ معينة، كي يُقال إن تلك الأمة موجودة. من ناحيةٍ أخرى، يمكننا أيضًا الإشارة إلى حقيقة أننا نعرف بالفعل بعض الأمور عن المعتقدات الأعم ﻟ «بعض» الفلاحين في أوقات متعددة، مثل ميلهم إلى النهوض دفاعًا عن الدين، مثلما حدث في فونديه عام ١٧٩٣، أو إعجابهم بذكريات فيلهلم تِل في حرب الفلاحين السويسريين عام ١٦٥٣؛ ومن ثَمَّ، إذا لم يكن الفلاحون «صامتين» دائمًا، فإنه يجب أن نحذر من أن نرفض مسبقًا «اعتمادًا على استنتاج مفترض» احتمال أن بعضهم ربما شعر بنوعٍ من الارتباط ﺑ «جماعة عرقية» أو أمة محلية جامعة كما كانت الحال على نحوٍ واضح في القبائل الإسرائيلية القديمة في أزمان مختلفة، أو بين الأعداد المتزايدة لسكان الوادي السويسريين، على الرغم من احتفاظهم بالولاء لكانتوناتهم.11
مرة أخرى، من الممكن معارضة فكرة أن الأمم والقومية «ظواهر جماهيرية» من خلال تذكُّر أن معظم القوميات، أيًّا كانت طريقة تعبيرها عن دعواها، كانت على نحوٍ واضح شئونًا خاصة بأقليات حتى وقتٍ كبير من القرن العشرين. على سبيل المثال، يمكن أن نُحصي عدد القوميين عند متاريس ثورات ربيع الأمم التي اندلعت عام ١٨٤٨ بالمئات على أفضل تقدير، كما أن جُل أعمال العنف السياسي المرتكَبة في جزر البلقان — على سبيل المثال — في أوائل القرن العشرين ارتكبتها كوادر قليلة مخلصة من القوميين المتحمسين. أما فيما يخص الأمم نفسها، فعلى الرغم من أنه وفقًا لنظرية الأمم، كلُّ عضوٍ مواطنٌ أو ينبغي أن يكون مواطنًا، فإن هذا الشرط في كثيرٍ من الحالات لم يكن مستوفًى إلا في بعض أماكن دون غيرها، وفي العقود الأخيرة. ومن الناحية العملية، نحن على استعدادٍ للتحدث عن أمم موجودة قبل تجسُّدها الجماهيري بوقتٍ طويل، وما نشير إليه غالبًا هو دخول «الطبقات الوسطى» الأكثر ثراءً إلى المعترك السياسي، وهذا أمر يمكن أن يعود إلى القرن السابع عشر في أجزاء من أوروبا الغربية. وهذا اتجاه آخر للحجج سأعود إليه.12
إنَّ مسألة «المشاركة الجماهيرية» ليست إلا إحدى مسائل عديدة تفصل الحداثيين عن أتباع فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة. ومن المسائل الأخرى مسألة الاستمرارية المؤسسية. وحتى الحداثيون أمثال إريك هوبزبوم، كما رأينا، على استعدادٍ لإضفاء قيمةٍ على فرضية أنه في حالاتٍ قليلة — تتمثل في روسيا وصربيا وإنجلترا وفرنسا حسبما يذكر هوبزبوم — كان يوجد أساسٌ للدولة القومية الحديثة في فترة ما قبل الحداثة؛ لأنها استطاعت احتضان الاستمرارية المؤسسية للدولة أو الكنيسة أو كلتيهما منذ العصور الوسطى، وعلى نحوٍ أكثر تحديدًا فإن هوبزبوم مستعد، نتيجةً لذلك، للتحدث عن إمكانية وجود شعور بالوطنية تجاه أسرة تيودور المالكة في إنجلترا. بالنسبة إلى جون بروييه أيضًا، فإن استمرارية المؤسسات تلك من الممكن أن تُمثِّل أساسًا ما قبل حداثي للأمم الحداثية، لكن هذا أمر استثنائي. وفي العموم، يؤكد بروييه، أن الهُوية خارج الوسائط المؤسسية (التي يَزعُم أن معظمها حديث) «مُشرذَمة ومتقطِّعة ومُراوِغة بمقتضى الحال.» وفيما يخص الهُوية العرقية في فترة ما قبل الحداثة، فإن «دورها ضئيل فيما يتعلق بالتجسد المؤسسي إذا تجاوزنا المستوى المحلي.»13
في الحقيقة، حسبما يميل مؤرخو العصور الوسطى إلى الإشارة، كان يوجد قدر كبير من الاستمرارية المؤسسية في حقب ما قبل الحداثة، وبعضها كان مرتبطًا بالعرق والدين. على سبيل المثال، لفتت سوزان رينولدز الانتباه إلى العديد من «الممالك» البربرية التي خلفت الإمبراطورية الكارولينجية في أوروبا الغربية، ووصفتها بأنها مجتمعات يجمعها القانون والتقاليد والنَّسب، ومرتبطة بالبيت الحاكم وسلالته؛ مشيرةً إلى الأنجلوساكسونيين، والفرنجة، والقوط الغربيين، والنورمانديين، والساكسونيين. أصبحت أساطير النَّسب، التي تشير عادةً إلى إينياس الطروادي أو إلى نوح، مهمة كمسوغات تُكسِب الشرعية لمزاعم الانتساب إلى سلالة الزعماء البربريين وعائلاتهم. إلا أنه على النقيض من فترة ما بعد الإمبراطورية الرومانية السابقة، التي شهدت عمليات سياسية وعرقية أكثر تغيرًا، فإن القرن العاشر وما بعده شهد عملية تأصُّل سياسي وعرقي، وبدايات تلك الانقسامات العرقية السياسية التي أسفرت لاحقًا عن الدول القومية القائمة على العرق في أوروبا الغربية. وعلى الرغم من أن سوزان رينولدز تُفضِّل استخدام مصطلح «ممالك» بدلًا من «أمم» معتبرةً أن من المحتمَل جدًّا إساءة التفسير الغائي للمصطلح الأخير ودمج أفكار العصور الوسطى بالتصوُّرات الحديثة المألوفة إلى حدٍّ بعيد عن الأمة، فإنه واضح أنها وغيرها من مؤرخي العصور الوسطى يشيرون إلى أشكال من الاستمرارية العرقية السياسية، التي قد تمثل أو لا تمثل أساسًا للدول القومية اللاحقة. يشبه ذلك — إلى حدٍّ ما — الحال مع تحليل جوسيب إيوبيرا للنطاقات الجغرافية والإدارية لبريطانيا، وبلاد الغال، وجيرمانيا، وإيطاليا، وهسبانيا في العصور الوسطى. ذلك أنه على الرغم من تأكيد إيوبيرا على الطبيعة المؤقتة — بل الوهمية — لما قد يبدو أنه استمراريات قومية في تلك النطاقات، فإنه لا يألو جهدًا أيضًا ليوضح أن القوميات الحديثة «جذورها متأصلة في ماضي العصور الوسطى، حتى إذا وُجِدَ احتمال أن تكون روابطها بذلك الماضي معقدة وملتوية على الأغلب.»14
توجد نقطة إضافية: إن مصطلح «مؤسسة» قد لا يشير فقط إلى الأشكال الاقتصادية والسياسية والقانونية المألوفة لنا في العالم الحديث، بل أيضًا إلى الأشكال الثقافية التي حلَّلها جون أرمسترونج في كتابه الرائد عن العرقية في الإسلام والمسيحية في العصور الوسطى، ويتمثل جانب من تلك الأشكال في أساليب الحياة، والارتباط ﺑ «الوطن»، و«الأساطير المحركة» الإمبراطورية، والأنماط واللغة والتعليم الخاصة بالحضر، والمؤسسة الدينية والطقوس الدينية، والتقاليد الفنية. وهذا يعني أن تَصوُّر المؤسسات لدى الحداثيين أمثال جون بروييه وإريك هوبزبوم مُقيَّد جدًّا، ويحتاج إلى أن يشمل أي مجموعةٍ من الأدوار المتبادلة القائمة على توقعات عرفية وثقافية نمطية.15
الأمر الثالث الذي يُفرِّق الحداثيين عن أتباع فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة يتعلق بدور الدين. بالنسبة إلى كثيرٍ من الحداثيين، فإن الدين فئة متبقية في العالم الحديث، ومرتبطة بطريقة عكسية بالأمم والقومية. حتى بينيدكت أندرسون، الذي بدأ بالتوضيح غير المباشر لأهمية الأمة باعتبارها طائفةً تقوم على فضيلةٍ كامنةٍ قادرةً على أن تظل خالدة ولا يطويها النسيان، يدير ظهره للدين كمتغير تفسيري. ومع تطوير حجته، يصبح من الواضح أن الدين لا يمكن أن يلعب دورًا في أمرٍ يمثل في نهاية المطاف تفسيرًا ثقافيًّا للقومية قائمًا على أساسٍ مادي.16

الآن، على الرغم من أن الرؤية الحداثية الضيقة لدور الدين قد تكشف عن تفسيرٍ معين للثورتين الفرنسية والأمريكية، وكذلك تأثير أطروحة العلمنة التي سادت عقود ما بعد الحرب، فإنه لا يمكن أن يمثل دليلًا على مكان الدين في حقب ما قبل الحداثة ذات التكوين العرقي والقومي، أو على الإحياء الحديث ﻟ «القوميات الدينية» خارج الغرب وداخله. في كلتا الحالتين، لعب الدين و«المقدسات» دورًا حيويًّا، ومن المستحيل فهم معاني الأمم والقومية دون فهم الروابط بين الموضوعات الدينية المتكررة والطقوس الدينية وبين الأساطير والذكريات والرموز العرقية والقومية اللاحقة. ومن الواضح أنه لا يكفي أن نقول إن الأمم والقوميات نشأت من رحم الأنظمة الثقافية الدينية العظيمة في عالم العصور الوسطى، ومناهضةً لها. يجب أن ندرك تعقيد العلاقات المستمرة بين الأديان وأشكال المقدسات من ناحية، والرموز والذكريات والتقاليد القومية من ناحيةٍ أخرى، والطرق التي من خلالها ما زالت الأمم المعاصرة ممزوجةً بالمعاني المقدسة. وهذا موضوعٌ آخر سأعود لتناوله في الفصول القادمة.

(٣) البدائية

على غرار الحداثيين، يسعى أتباع فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة إلى بناء حُججهم وأطروحاتهم على أساس الدليل التاريخي، ويَحذرون التفسيرات التي تُقدِّم مستويات شرح أخرى أبسط كثيرًا. حتى الروايات الأكثر تعميمًا من بين رواياتهم، مثل اعتقاد هستنجز أنه يوجد أساس مسيحي للأمم والقومية، تظل على مستويات التفسير من منظورَي التاريخ وعلم الاجتماع. رغم ذلك، يرى آخرون أن هذا التكتُّم المنهجي لا يمكن أن يتوافق مع الانتشار الواسع للموضوعات التي تثيرها العرقية والقومية وقُوَّتها الصِّرفة، ولا سيَّما تلك الموضوعات التي يثيرها السؤال الذي يتجنَّبه الحداثيون، المتمثل في السبب الذي يجعل كثيرًا من الأشخاص، ولو على نحوٍ نسبي، على استعدادٍ للتضحية بأنفسهم حتى يومنا الحاضر من أجل الأمة، مثلما كانوا على استعدادٍ للتضحية بأنفسهم من أجل دينهم.

يكمن الجواب عن هذا السؤال في مفهوم «البدائية». كان إدوارد شيلز هو من قدَّم هذا المفهوم من الأساس، وقد حدَّد أنواعًا مختلفة من الروابط — الشخصية والمقدسة والمدنية والبدائية، ثم تولى فكرة الروابط البدائية كليفورد جيرتس، الذي سعى لتفسير سبب المشاكل التي تؤرِّق الدول الجديدة في أفريقيا وآسيا من ناحية الصراع بين رغباتهم في نظامٍ فعَّال عقلاني يقوم على «الروابط المدنية» وبين انشقاقاتهم المستمرة وارتباطاتهم «البدائية» ﺑ «مُسلَّمات» اجتماعية وثقافية معينة — متعلقة بالقرابة والعِرق والدين والعادات واللغة والأرض؛ مما أسفر عن انقسام الكيانات السياسية الجديدة انقسامًا تامًّا. كان جيرتس نفسه حريصًا على التأكيد على أن الأفراد هم من نَسَبوا إلى مثل هذه الروابط البدائية صفاتٍ ملزمةً ومسيطرة وأقوى وأجلَّ كثيرًا من أن يمكن وصفها. إلا أن هذا لم يمنع بعض النُّقاد من انتقاد «البدائية» (وهو مصطلح لم يستخدمه جيرتس مطلقًا) باعتبارها تمويهًا غير اجتماعيٍّ للتفاعلات بين البشر.17
ردَّ ستيفين جروسبي مدافعًا عن شيلز وجيرتس، وكان جروسبي حاول أن يبنيَ منهجًا ﻟ «الروابط البدائية» يقوم على أساس معتقدات البشر وإدراكهم للخواص المعزِّزة للحياة التي تختص بها سمات ثابتة معينة تُميِّز حالتهم. يرى جروسبي أن اثنتين من تلك السمات ضروريتان، وهما: القرابة والأرض، وربما تكون الأرض ضروريةً أكثر من القرابة، نظرًا للاعتقاد الشائع المتعلق بصفات الأرض ومنتجاتها التي تدعم الحياة وتحافظ عليها. بالنسبة إلى جروسبي، فإن المجموعات العرقية والقوميات موجودة «بسبب وجود تقاليد عقائدية وفعلية متعلقة بالأشياء البدائية مثل السمات البيولوجية والموقع الإقليمي بصفةٍ خاصة»؛ ومن ثمَّ، فإن «الأسرة، والموقع، و«قوم» المرء وعشيرته يصنع كلٌّ منها الحياة وينقلها ويحفظها.» لهذا السبب، يَخْلَع البشر صفة القداسة على الأشياء البدائية، ولهذا السبب ضحَّوا في الماضي وما زالوا يُضحُّون بحياتهم من أجل الأسرة والأمة. ويسعى جروسبي إلى توضيح أن مثل هذه الخواص لا تزال جوهريةً إلى وقتنا الحاضر؛ ومن ثمَّ يمكننا أن نتحدث عن عنصر البدائية المستمر حتى في المجتمعات الحديثة المعقَّدة، وهذا العنصر من الحماقة أن نغفل عنه، ومن الضلال السعي إلى تفكيكه.18
حقيقيٌّ أن «البدائية» «في حد ذاتها» لا يمكن أن تخبرنا إلا بالقليل عن أصول الأمم وشكلها الثقافي (على الرغم من أنها تشرح عمليات التكوُّن العرقي والتفكك العرقي). وندرك ذلك عندما نتأمل عمل «بيير فان دن بيرج» الأكثر راديكاليةً مِن بين مَن شرحوا وجهة النظر تلك. على الرغم من أنه حاول مؤخرًا الإجابة عن سؤال أصل «الأمم»، فإنه يَصوغ نظريته الأساسية المتعلقة بدوافع التناسل الجينية على المستوى البيولوجي، وتضم النظرية كل مجموعات القرابة الممتدة. علاوةً على ذلك، نظرًا لأن هذه المقاربة متعلقة بالأفراد، فإنها تؤدي إلى صرف الانتباه عن الأسئلة التاريخية الأسمى حول تكوين الأمم. ومع ذلك، يُخصِّص فان دن بيرج كذلك جزءًا للثقافة، في صورة علامات مثل الملبس واللون والكلام، وهذه العلامات تُميِّز بين الأجناس والجماعات العرقية، وتُقدِّم أدلة على القرابة الجينية، وتصاحبها أساطير سلف السلالة التي يزعم أنها تعكس خطوط نَسَب فعلية. على الرغم من ذلك، فإنه يُعبِّر عن نظريته الأساسية من ناحية سمات بيولوجية مثل زواج الأقارب، ومحاباة الأقارب، و«الأهلية الشاملة»، والإجاباتُ عن الأسئلة المتعلقة بأصول «الأمم» وأنماطها هي عامةٌ بالضرورة ومأخوذةٌ من عوامل خارجية إضافية مثل ظهور الدولة.19
يتمثل الإسهام الفريد الذي قدَّمه أتباع الفلسفة البدائية في تركيز انتباهنا على الحماس والشغف الذي تثيره في أغلب الأحيان العرقيةُ والقومية؛ هذان الأمران اللذان يفشل الحداثيون في مواجهتهما حتى عند إدانتهم لهما. من ناحيةٍ أخرى، تترك البدائية أسئلةً أخرى مثل تلك المتعلقة بوقت نشوء الأمم وطابعها دون جواب، بالإضافة إلى أن تركيزها الضيق الأفق وإصرارها العام على أن العرقية والأمة توجد «ببساطة» في الطبيعة البشرية؛ يَحُولان دون إجراء تحليلٍ تاريخي يهتمُّ على نحوٍ أكبر بأسباب وتاريخ تكوُّن الأمم وشكلها.20
يمثل العمل التاريخي لستيفين جروسبي استثناءً لهذا التعميم. إن أبحاثه الأكاديمية المتعلقة بوجود «الجنسية» في العالم القديم، لا سيَّما في إسرائيل القديمة، التي سوف أتناولها بمزيدٍ من التفصيل لاحقًا، تكشف كيف يمكن للاهتمام بالروابط البدائية أن يكون مصدرَ إلهام، وتوضيحًا لتحليل تاريخٍ مفصَّل لأمثلة واقعية، متعلقة في هذه الحالة بالجماعات العرقية والجنسيات في الشرق الأدنى القديم. في رأي جروسبي، فإن «الجنسية» (كما يُفضِّل أن يُطلِق عليها) واحدة من فئاتٍ تحليلية عديدة، بالإضافة إلى الإمبراطورية، والدولة المدينة، والاتحاد القَبَلي. وعلينا أن نُفرِّق جيدًا بينها وبين تلك الفئات الأخرى، من الناحية العامة ومن ناحية السياق الواقعي الغامض — في الغالب — للشرق الأدنى القديم. في هذا الصدد، يوضح جروسبي نقطة جوهرية يمكن أن تمثل دليلًا وتحذيرًا — من تأكيدات الحداثيين العقائدية وناقديهم — بقدر ما تُذكِّرنا بالصعوبات الكامنة المتعلقة بربط تصنيفاتنا وتعريفاتنا بالأدلة المأخوذة من الهُويات الثقافية الجمعية في سجلاتنا التاريخية، والتي غالبًا ما تكون أدلةً ضئيلة؛ وذلك لأن من بين أهدافه الأساسية في أبحاثه في التاريخ وعلم الاجتماع توضيحَ الحقيقة المتمثلة في أنه حتى في العالم المعاصر تكون الحدودُ التي تفصل بين تصنيفات الدراسات التي تُجرى على الجماعات التاريخية المتنوعة قابلةً للاختراق. ويُعبِّر عن هذا قائلًا: «نادرًا ما تتلاءم الجماعة بدقةٍ مع فئةٍ تحليلية معينة. وهذا الأمر لا ينطبق فقط على جماعات العصور القديمة، بل على الدولة القومية الحديثة أيضًا.»21

خاتمة

يعيدنا هذا مرةً أخرى إلى موضوع التعريف الذي لا مفرَّ منه؛ إذ يبدو أنه عند محاولة تقديم إجابةٍ لسؤال: «متى تنشأ الأمة؟» ذلك السؤال الذي يبدو بريئًا، فتحَ ووكر كونور البابَ لإجراء مزيدٍ من الأبحاث المتعلقة بعددٍ هائل من المسائل، وهي مسائل متعلقة بموارد النُّخَب، ومشاركة العوام، والاستمرارية المؤسسية، والدين، والمقدسات، والبدائية، والأقاليم. لكن لعل المسألة الأصعب من بين هذه المسائل هي تلك المتعلقة بالتصنيفات والتعريفات نفسها التي نوظِّفها، وعلاقتها غير المؤكَّدة بالجماعات التي نسعى إلى دراستها. وهذا يعني أننا لا يمكننا التهرُّب من المسألة المألوفة المتمثلة في تحديد مفهوم الأمة. إن سؤال «متى تنشأ الأمة؟» في حد ذاته يتطلب محاولة سابقة لحل السؤال المعقَّد والمألوف الخاص بعلم الاجتماع المتمثل في «ما الأمة؟» عندها فقط يمكننا أن نلتفت إلى الموضوع المحوري المتعلق بالظروف التي نشأت الأمم في ظلها، وندرس التقاليد الثقافية التي شكَّلت ظهورها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤