الخاتمة

كانت نقطة الانطلاق في هذا البحث هي مسألةَ التحقيب الزمني للأمم: أي الحقبة أو الحقب التي ظهرت فيها وازدهرت المجتمعات التاريخية التي نُسمِّيها «أممًا». وسرعان ما اتضح أن أنواعًا مختلفة من الأمم أو المجتمعات القومية ظهرت في فتراتٍ مختلفة؛ ومن ثَمَّ، أصبحت المشكلة تتعلق بتفسير العلاقة بين فترات ظهورها وأشكالها الثقافية المتنوعة: أي العلاقة بين ما يمكن أن نُسمِّيَه «التأريخ» للأمم و«تشكيلها».

افترضت هذه الصياغة استمرار استخدام مصطلحات مثل «الأمة» و«الهُوية القومية» بوصفها فئاتٍ تحليليةً إلى جانب فئات الهُوية الثقافية الجمعية الأخرى. ومن أجل الوضوح والتحديد، أصبح تعريف مفهوم الأمة وفقًا لمصطلحاتٍ نموذجية مثالية خطوةً أوَّلية ضرورية؛ وسمح لنا هذا، بدوره، بتعريف أنواعٍ مختلفة من الأمة بوصفها مجتمعًا تاريخيًّا يُفترض أنه يمتلك هُوية ثقافية و/أو سياسية. ووفقًا لذلك، عرَّفتُ فئة الأمة بأنها مجتمع إنساني له اسمٌ وتعريفٌ ذاتي، يبني أفرادُه خرافاتٍ وذكرياتٍ ورموزًا وقيمًا وتقاليدَ مشتركة، ويُقِيمون في وطنٍ تاريخي يتَّحدون معه، ويخلقون ثقافةً عامة مميَّزة وينشرونها، ويراعون تقاليدَ وقوانينَ عامةً مشتركة. في هذا السياق، كان من المهم الفصل بين فئة «الأمة» وفئة «القومية» التي عرَّفناها بأنها حركة أيديولوجية للحصول على الاستقلالية والوحدة والهُوية والحفاظ عليها من قِبل مجتمعٍ سكاني إنساني يرى أفرادُه أنه يُكوِّن أمة فعلية أو محتمَلة. والسبب في ذلك أن نظرية القومية وأيديولوجيتها حديثتان نسبيًّا على الرغم من أن بعض عناصر القومية ظهرت قبل وقتٍ طويل من تأريخها التقليدي المحدَّد بأواخر القرن الثامن عشر. من ناحيةٍ أخرى، على الرغم من أن غالبية الأمم الحالية ظهرت في القرنين الأخيرين، فإن كلًّا من مفهوم الأمة وبعض الأمثلة المعروفة من المجتمعات القومية والمشاعر القومية يعود تاريخه إلى وقتٍ أقدم بكثيرٍ من وقت ظهور الحداثة.

من خلال تبنِّي مقاربة تؤكِّد أهمية الروابط العرقية، والرموز والخرافات والذكريات والتقاليد العرقية، يمكننا تدوين العمليات والموارد الثقافية التي شجَّعت تشكيل الأمم واستمرارها، بالإضافة إلى تتبُّع أشكالها التاريخية المختلفة؛ نتيجةً لذلك، أصبح من الممكن إبراز الفترات والمواقع التي أصبحت فيها الأمم والهُويات القومية واضحةً ومنتشرة، ليس فقط في ضوء العمليات المتمثلة في التعريف الذاتي، وبناء الرموز، والأَقْلَمة، والثقافة العامة، وما شابه ذلك، لكن أيضًا من خلال وجود الموارد الثقافية المختلفة واستخدامها؛ خرافات الاصطفاء العرقي، وذكريات العصر الذهبي، ومُثُل التضحية، وتقديس الأوطان.

في العالم القديم، في العالم اليوناني والروماني الكلاسيكي وفي الشرق الأدنى، كانت الروابط والهُويات العرقية سائدة، بالإضافة إلى الارتباطات بدولٍ مدنٍ وقبائل، وبإمبراطورياتٍ بدرجةٍ أقل، لا سيَّما في اليونان القديمة وبلاد فارس. وفي المقابل، كانت العمليات المُفضية إلى نشأة الأمم (فضلًا عن القومية) غائبةً في العموم. رغم ذلك، وُجِدَت استثناءاتٌ قليلة: مصر القديمة، وأرمينيا المسيحية القديمة، ومملكة يهوذا بصفةٍ خاصة قُبيل النفي البابلي وبعده. وفي الحالتين الأخيرتين، ساعد خلقُ الموارد الرمزية والثقافية المختلفة في ضمان بقاء المجتمع المعياري، وإنْ كان في أشكالٍ بديلة، بعد نفي كثيرٍ من أفراده من أوطانهم.

ربما كان العامل الأهم في تكوين الأمم لاحقًا هو تلك الموروثاتِ التي تركها العالم القديم للفترات اللاحقة. وفي هذا الصدد، اخترتُ ثلاثة تقاليد ثقافية أساسية من الثقافة العامة، هي: تقليد الهرمية، وتقليد العهد، وتقليد الكومنولث أو الجمهورية المدنية. كان النوع الأول، بطبيعة الحال، مسيطرًا ومنتشرًا في أنحاء الشرق الأدنى القديم والبحر المتوسط، من المملكة المصرية القديمة وإمبراطورية سرجون الأكدي، وحتى الممالك الهلينستية والإمبراطورية الرومانية. قَدَّم تقليد الهرمية مثالًا للتفاوت المقدس والحكم المقدس، وعند ارتباطه ﺑ «عرقية» مسيطرة، وذكرى ملوك إسرائيل ويهوذا المنحدرين من نسل الملك داود، استُخدم مثال للمَلَكية المقدسة، كما في فرنسا القروسطية؛ ذلك التراث الذي انتقل من الإمبراطورية الرومانية، واستُخدم مرارًا وتكرارًا طوال العصور الوسطى منذ عصر بيبان وشارلمان وحتى عصر شارل الخامس وهنري الثامن.

كان النوعان الآخران من التقاليد الثقافية على القدر نفسه من الأهمية على المدى الطويل. نُشِرَ مثال إسرائيل القديمة العهدي من خلال الكتاب المقدس العبري والترجمة السبعينية أولًا، ثم من خلال الكنيسة في الشرق الأرثوذكسي اليوناني والغرب الكاثوليكي اللاتيني، ولا سيَّما الإيمان بالاصطفاء العرقي والوحدة وبالرسالة الإلهية. على نحوٍ مشابه، استقى النموذج المدني للجمهورية أو الكومنولث إلهامه من وطنية المدينة الإغريقية وتضامُن مواطنيها، لا سيَّما أثينا القديمة، ومن البساطة البطولية والتضحية بالذات الموجودتين في الجمهورية الرومانية المُصوَّرة بطريقة مثالية. ومع إحياء هذا النموذج في جمهوريات المدن الإيطالية القروسطية، تبنَّته كوميوناتٌ حرة كثيرة في ألمانيا وسويسرا والفلاندرز في العصور الوسطى.

رغم ذلك، فإن أجزاءً كبيرة من الكتلة الأرضية الأوروبية، وكذلك الشرق الأدنى، كانت في أغلب الأحيان ساحةً للإمبراطوريات المتعاقبة. وهنا، لم تُطَوَّر العمليات الأساسية لتشكيل الأمم، ونادرًا ما كانت الهرمية مرتبطةً بمجتمعٍ عرقي منعزل أو مسيطر. وحيث أصبحت الهرمية مرتبطة ﺑ «العرقية» المسيطرة، بعد تفتُّت العالم المسيحي الأوروبي وظهور الدول المركزية، كما حدث في دول مثل موسكوفي، وإسبانيا، وفرنسا، وإنجلترا، والدنمارك، والسويد، ساعدت في توفير الأساس لنوعٍ هَرمي من الأمم، نجد فيه أنه على الرغم من حقيقة أن مشاعر جمهور السكان لم تُدوَّن إلى حدٍّ بعيد، فقد تجلى إحساسٌ قوي وحصري بالهُوية القومية بين الحُكام والنُّخَب. هذه المشاعر القومية، بدورها، شجَّعتها المنافَسة التجارية والحرب، كما ساعدت في تأجيجهما، بين الدول الأوروبية المتنافسة التي عبَّأَت الجيوش بدورها، وبثت فيهم فضيلة التضامن والحاجة إلى الدفاع عن «أراضيهم» القومية، وأمدَّتهم بخرافات المعارك والأعمال البطولية. وبهذا المعنى، يمكننا الحديث عن وجود «أمم هرمية» في أواخر العصور الوسطى، بدأت فيها «الوطنية المرتكزة على التاج» تنتقل إلى الطبقات الوسطى الحضرية، مقدِّمةً نقطة ارتكاز لمشاعر قومية قوية داخل إطار إقليم قومي يزداد تحديدًا ومركزيةً، ونظام قانوني مُوحَّد المعايير، وثقافة شعبية متميزة.

كان الإصلاح البروتستانتي هو ما قَدَّم «الاختراق» إلى كلٍّ من الأمم الشعبية وأول أنواع «القومية». وأعاد رجوعُه إلى العهد القديم في النسخ الإصلاحية الراديكالية، لا سيَّما الكالفينية، تقديمَ النموذج العهدي، ذلك المفهوم الديني العريق، إلى الاتجاه السياسي السائد. في اسكتلندا وإنجلترا وهولندا، وفي كثيرٍ من المستعمرات الأمريكية والمدن السويسرية أيضًا، في أواخر القرن السادس عشر والقرن السابع عشر، أصبح المثال العهدي وسرد الخروج المذكور على نحوٍ بالغ الوضوح في الكتاب المقدس المكتوب بالعامية، هو المحرِّكَ للتغيير الجذري سعيًا للخلاص الفردي والاصطفاء الإلهي الجمعي، شاملًا اصطفاء الأمم. من جوانب عدة، هذه الفترة محورية في نشأة كلٍّ من الأمم والقوميات. وبالبناء على المشاعر القومية الموجودة سابقًا بين النُّخَب، تمكنت «الأمم والقوميات العهدية» من تقديم تصوراتٍ للأمة ومُثُلها أوسع نطاقًا وأكثر فعالية — بل كوَّنتا كومنولثاتٍ جمهورية — ومن ثَمَّ تمكنتا من تعبئة أعدادٍ كبيرة من الأشخاص من أجل برامجَ سياسيةٍ وعمل عسكري.

للوهلة الأولى، يبدو أن «الأمة الجمهورية المدنية» العلمانية الحديثة تُمثِّل انشقاقًا عن كل الأشكال التاريخية السابقة للأمة، مثلما بدت قوميتها مختلفة تمامًا، في الطابع والأسلوب، عن القومية العهدية السابقة. وهذا مشابهٌ للطريقة التي قدَّمتْ بها الوطنية الجمهورية في العالم اليوناني الروماني القديم تقليدًا ثقافيًّا، ومشاعر جمعية، ونموذجًا مجتمعيًّا تختلف كثيرًا عما حولها. إلا أن الأشكال والأيديولوجيات الجمهورية الحديثة تعتمد في واقع الأمر على الأمثلة، وتستخدم الكثير من رموز الأمم والقوميات العهدية السابقة وقيمها وتقاليدها. وبهذا المعنى، أفضل تصوُّر للقوميات الحديثة، بدايةً بالثورة الفرنسية، هو أنها نوعٌ من أنواع الدِّين العلماني للشعب، إلى جانب التقاليد الدينية أو مقابلها. أما ما يعطيها طابعها الراديكالي فهو تَنَصُّلها من الهرمية، وما يصاحب ذلك من برنامج ثوري مناهض ﻟ «النظام القديم» الذي أسهمت فيه المَلَكية المقدسة إسهامًا كبيرًا. إلا أنه لم يوجد عداءٌ تجاه الأمم والقوميات العهدية على النحو الذي أظهرته صيحة مراسم أداء القَسَم والعهود المقدسة. والواقع أن كثيرًا من العناصر المشتقة في النهاية من زمن العهد القديم ظل متأصلًا في كثيرٍ من القوميات الأوروبية والغربية. وحتى بعض تقاليد الأمم الهرمية مثل المَلَكية أُبقِيَت، ولو في صورة مُضعَفة، وهي تَفْرِض، إلى جانب التقاليد العهدية، تحديًا للتقدم العالمي للأمة الجمهورية. على نحوٍ مشابه، قد تُلْهِم الخرافات والذكريات المتعلقة ﺑ «عصور ذهبية» هرمية أو عهدية مصائرَ بديلةً بين قطاعاتٍ عريضة في المجتمع؛ ومن هنا ينبثق الطابع المتعدد المصادر غالبًا في كثيرٍ من الأمم التي يمكن اعتبارها ألواحًا كثيرة كُتِبت عليها مواضٍ وتقاليد ثقافية جمعية مختلفة.

ما الدروس التي يمكن أن نستقيَها للعالم المعاصر من هذا السرد للأمم والقوميات؟ الدرسُ الأول هو: استمرار قدرة المجتمع والهُوية العرقيَّيْن على أن يُشَكِّلا أحد أسس التضامن الاجتماعي والسياسي الراسخة على مدار التاريخ وحتى يومنا هذا. وحتى في هذه اللحظة، لا توجد أي إشارةٍ على انحسار الروابط العرقية الذي تنبَّأ به كثير من المراقبين الليبراليين. بل لعلَّ ضغوط العولمة، من خلال الهجرة الواسعة النطاق ووسائل الاتصال الجماهيري، أَحيَت الروابط والمشاعر العرقية عبر العالم.

الدرسُ الثاني هو: الطبيعة المتعددة الأوجه لمعظم الأمم والقوميات، والطابع المتعدد الطبقات غالبًا لتقاليدها الثقافية، الذي يُعَدُّ نتيجةً للتطور التدريجي أو للتغيير الجذري والثورة. ويعكس هذا، بدوره، الأهمية المستمرة للتقاليد الثقافية المختلفة، لا سيَّما تلك المتعلقة بالعهد والجمهورية؛ إذ إنها تمنح المجتمعات القومية ثراءً وتنوعًا يتعارضان غالبًا مع محاولات القوميين خلقَ ثقافاتٍ موحَّدة ومواطنين متماثلين. إلا أن هذا التنوُّع لا يُقلِّل من الطبيعة المميَّزة للثقافة الشعبية الأساسية لأمةٍ ما، أو تفرُّد مخزونها الخرافي والرمزي؛ لأن التقاليد الثقافية الثلاثة الرئيسية تُحوِّل أساسها السياسي العرقي إلى تباديل وتسلسلات مختلفة.

الدرسُ الثالث هو: طول عمر الأمم وصمود التصوُّرات القومية. حتى إذا لم نتمكن إلا من العثور على أمثلة قليلة للأمم في العالم القديم، فإن فكرة الأمة المُعبَّر عنها على نحوٍ بالغ الوضوح في الكتاب المقدس العبري ظلت جزءًا من المفردات السياسية للنُّخَب الأوروبية على مدار ما يزيد على ألف سنة، وكانت موجودةً قبل ذلك بكثيرٍ في الشرق الأدنى. ربما كان الواقع ثقافيًّا عرقيًّا (أو إمبراطوريًّا أو حضريًّا) لكن الطموح كان قوميًّا في الغالب. ويبدو أن ما كان ناقصًا، حتى بين المجتمعات العرقية، كان بعض هذه العمليات والموارد التي تُشجِّع تشكيل الأمم — أو كلها — وهي: أَقْلَمة الذكريات والارتباطات، وتكوين ثقافة شعبية مميَّزة ونشرها، ومراعاة قوانين مُوحَّدة المعايير وتقاليد مشتركة، وكذلك تقاليد العصر الذهبي أو الرسالة والتضحية. إلا أن هذا لم يُقلل من جاذبية نموذج الأمة؛ لأنه كان مُمثَّلًا ومنقولًا في الكتاب المقدس العبري من خلال التقاليد المسيحية، عبر قرونٍ كثيرة من الاضطراب والتغيُّر. وهذا يعني أن الفكرة والنموذج القوميَّيْن يسبقان الثورة الفرنسية بزمنٍ طويل، ويمتلكان استمراريةً لا بد أن تُحذِّرنا من حكم مُبتسَر للغاية بزوالهما المبكر.

أخيرًا، وربما على نحوٍ بالغ الأهمية، فإن حقيقة أن القومية، بصفتها أيديولوجية وحركة، نشأتْ في أعقاب الإصلاح البروتستانتي، بوصفها جزءًا من ثورةٍ شعبية أكبر ومحفزًا لها ضد سلطة الكاهن والملك المتأصلة؛ يجب أن تنبهنا إلى دورها المحوري والمستمر في العالم الحديث. وعلى الرغم من أن تعبيرات القومية والهُوية القومية زادت ونقصت بفِعل الحربين العالميتين وغيرهما من الأحداث الكبرى، فإن جوهر الأيديولوجية القومية ظل سليمًا منذ دخولها لأول مرةٍ في سياسة أوروبا الغربية في القرن السابع عشر. ومنذ ذلك الحين، عزَّزت تصوراتٍ ومشاعرَ قومية قديمة، وقدَّمت نموذجًا للمجتمعات العرقية لكي تتحوَّل إلى أممٍ سياسية. وبانفصال القومية عن مواطنها التاريخية المبكرة، أصبحت متاحة لأغراض التحفيز الشعبي وإضفاء الشرعية في كل قارة، ومن المحتمل أن تستمر في فعل ذلك ما دامت الحاجة مستمرةً إلى الهُوية الثقافية ممزوجةً بالسعي إلى السيادة الشعبية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤