الفصل الأول

مفهوم الأمة وأشكالها المتنوعة

قبل الشروع في دراسةٍ موضوعية لعلم الاجتماع التاريخي للأمم والقومية، يجب أن يكون لدينا أولًا فكرة واضحة عن الموضوعات التي ندرسها. ثانيًا: ينبغي علينا دراسة العمليات الاجتماعية والموارد الثقافية لتكوُّن الأمم واستمراريتها. ثالثًا: تتطلب مسألة أمم ما قبل الحداثة نظرة تاريخية عميقة ودراسة ثقافية في علم أنساب الأمم تعود إلى الشرق الأدنى القديم والعالم الكلاسيكي، إذا كنا سنقيِّم التقاليد التي تكوَّنت من خلالها أنواعٌ مختلفة من الهُويات القومية في أوائل العصر الحديث. تلك إذنْ مهام كل فصلٍ من الفصول الثلاثة القادمة.

يرى التصوُّر الحداثي للأمة أنها الشكل السياسي الأساسي للمجتمع البشري الحديث. بالنسبة إلى معظم الحداثيين، فإن الأمة تتصف بما يلي:
  • (١)

    إقليم واضح المعالم، ذو مركزٍ ثابت وحدودٍ مرسومة بوضوح ومُراقَبة.

  • (٢)

    نظام قانوني موحَّد، ومؤسسات قانونية مشتركة داخل إقليم معين، تخلق مجتمعًا قانونيًّا وسياسيًّا.

  • (٣)

    مشاركة من قِبل كل الأعضاء أو «المواطنين» في الحياة الاجتماعية وسياسات الأمة.

  • (٤)

    ثقافة عامة جماهيرية تُنشر من خلال نظام تعليمي جماعي موحَّد عام.

  • (٥)

    حكم ذاتي جماعي راسخ في دولة إقليمية ذات سيادة لأمة معينة.

  • (٦)

    عضوية الأمة في نظام «دولي» لمجتمع الأمم.

  • (٧)

    إقرار شرعية الأمة، إنْ لم يكن خلقها، من خلال أيديولوجية القومية.

هذا، بطبيعة الحال، نوعٌ خالص أو مثالي لتصوُّر الأمة الذي تتشابه معه أمثلة بعينها، ويمثل معيارًا للأمة في حالاتٍ محددة. وعلى هذا النحو، أصبح تقريبًا وعلى نحوٍ مُسلَّم به «المعيار» الحاسم الذي يمثل أيُّ تصورٍ آخر غيره انحرافًا عنه.1

(١) مشاكل التصوُّر الحداثي

إلا أنَّ الاستقصاء بمزيدٍ من الكثب يكشف أن التصوُّر الحداثي للأمة ذو خصوصية تاريخية. وعلى هذا النحو، فإنه يتعلق فقط بشكلٍ واحد من الأشكال التاريخية للمفهوم، وهو «الأمة الحديثة». وهذا يعني أنه شكل مختلف معين من المفهوم العام للأمة، له سماته الاستثنائية، التي قد يشترك في بعضها فقط أنواعٌ أخرى أو أشكالٌ مختلفة من المفهوم العام.

هل يمكن أن نكون أكثر تحديدًا فيما يخص أصل النوع المثالي ﻟ «الأمة الحديثة»؟ إن إلقاء نظرةٍ على سماته البارزة — الإقليمية، والوحدة القانونية، والمشاركة، والثقافة الجماهيرية والتعليم الجماعي، والسيادة، وغيرها — يضع هذا التصور مباشرةً فيما يطلق عليه التقليد «الإقليمي المدني» لأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. لم يصبح تصوُّر الأمة الذي تَميَّز بالثقافة المدنية العقلانية لعصر التنوير — لا سيَّما المرحلة الأخيرة منه المتعلقة بالاختيار ما بين الأسلوب «الأسبرطي» وأسلوب «الكلاسيكية الحديثة» المرتبطة بالفلاسفة روسو وديدرو وديفيد — شائعًا إلا في عصر الثورات والحروب النابليونية. وكما وثَّق هانز كون منذ سنواتٍ عديدة، فإن هذا التصوُّر للأمة ازدهر أساسًا في تلك الأجزاء من العالم التي تولت فيها الطبقة البرجوازية القوية مهمة الإطاحة بالحُكم الملكي المتوارَث والامتياز الأرستقراطي من أجل «الأمة». ليس هذا هو نوعَ الأمة المتخيَّلة، ولا حتى المكوَّنة، في أجزاءٍ أخرى كثيرة من العالم، كانت فيها تلك الظروف الاجتماعية أقل اكتمالًا أو غائبة تمامًا.2

الآن، إذا كان مفهوم «الأمة الحديثة» وسماته الاستثنائية مستمدًّا من ظروف القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر في الغرب، فإن النموذج المثالي الحداثي متحيِّز حتمًا؛ لأنه يشير إلى نوعٍ فرعيٍّ محدد من المفهوم العمومي للأمة، وهو نوع «الأمة الحديثة»، وإلى نوعٍ واحدٍ فقط من القومية، وهو نوع القومية الإقليمية المدنية. وهذا يعني أن نسخةً معينةً من مفهوم عام تُمثِّل النطاق الكامل من الأفكار التي يشملها ذلك المفهوم؛ نسخة تحمل كل سمات الثقافة الخاصة بزمانٍ ومكانٍ مُعَينَين. وهذا يعني أيضًا أن التأكيد على حداثة الأمة ليس إلا إطنابًا، وهو إطنابٌ يستبعد أي تعريفٍ منافس للأمة يخرج عن إطار الحداثة والغرب. لقد أصبح التصوُّر الغربي للأمة «الحديثة» مقياسًا لإدراكنا مفهوم الأمة «في حد ذاتها»؛ مما أسفر عن جعْل كل التصوُّرات الأخرى غير مشروعة.

بعيدًا عن الأسباب المنهجية، فإن ثَمَّةَ عددًا من الأسباب التي تستوجب رفض مثل هذا الشرط التعسُّفي. في المقام الأول، مصطلح أمة باللاتينية «ناشيو» مشتقٌّ في نهاية الأمر من فعل «ناشي» الذي يعني «يُولَد»، ولمعنى هذا المصطلح تاريخٌ طويل، إنْ لم يكن معقدًا، يعود إلى قدماء الإغريق والرومان. وكما رأينا، له استخدامه الذي لم يكن مقتصرًا على طلاب في جامعات العصور الوسطى يوصفون بِناءً على موقعهم الجغرافي، أو على أساقفة مجتمعين في المجالس الكنسية وُلِدوا في أجزاءٍ مختلفة من العالم المسيحي. إنه مستمَدٌّ من ترجمة الفولجاتا اللاتينية للعهد القديم والعهد الجديد، ومن كتابات آباء الكنيسة الذين جعلوا اليهود والمسيحيين في مواجهةٍ مع الأمم الأخرى الذين يُطلَق عليهم في مجملهم «تا إثني» وتعني الأمميين. استخدمَت الإغريقيةُ القديمة نفسها مصطلح «إثنوس» لكل أنواع الجماعات المشتركة في صفات متشابهة (وليس البشر فقط)، لكن المؤلفين أمثال هيرودوت استخدموا أحيانًا المصطلح الشبيه «جينوس». وفي هذا الصدد، لم نكن مختلفين عن اليهود القدماء، الذين استخدموا في العموم مصطلح «آم» للإشارة إلى أنفسهم — آم إسرائيل — واستخدموا مصطلح «جوي» للإشارة إلى الشعوب الأخرى، لكن هذا النمط لم يكن متسقًا إلى حدٍّ بعيد. كان الرومان أكثر اتساقًا؛ إذ خصُّوا أنفسهم بتسمية «بوبيولوس رومانوس» — وتعني الشعب الروماني — وخصَّصوا المصطلح الأقل أهميةً «ناشيو» — ويعني أمة — للإشارة إلى غيرهم، لا سيَّما القبائل البربرية البعيدة. إلا أنه مع الوقت أصبحت كلمة «ناشيو» تشير إلى كل الشعوب، بما فيهم قوم المرء وعشيرته. لا يمكننا اعتبار استخدامات ما قبل الحداثة لكلمة «ناشيو»/أمة استخداماتٍ خاصةً بوصف الأجناس البشرية على نحوٍ صِرف؛ فهي على النقيض من المفهوم السياسي للاستخدام الحديث؛ لأن هذا لا يمثل على نحوٍ كافٍ مجموعة حالات العالم القديم وعالم العصور الوسطى التي جمعت بين كلا الاستخدامين، بدايةً من إسرائيل القديمة. على الرغم من أن معانيَ المصطلحات تمر غالبًا بتغييرٍ كبير مع تعاقُب الأزمنة، فإننا ما زلنا عاجزين عن صَرف النظر بسهولةٍ عن التاريخ الطويل للاستخدامَين السابقَين للمصطلح قبل ظهور الحداثة.3
تتعلق مشكلة أخرى بالتصوُّر الحداثي ﻟ «أمة العوام». لقد تناولنا ذلك جزئيًّا فيما يتعلق بفرضية ووكر كونور التي تقول إن مشاركة العوام في حياة الأمة هي معيار وجودها؛ ومن ثَمَّ، في ظل الحكم الديمقراطي، فإنه توجد حاجة إلى منْح حق التصويت لأغلبية السكان كشرط لوصفها بالأمة. إلا أن الأمر يتجاوز هذا الموضوع بعينه. يَعتبر الحداثيون أمثال كارل دويتش، وإرنست جيلنر، ومايكل مان «أمة العوام» الشكلَ الأصلي فقط للأمة؛ ونتيجةً لذلك يتعاملون مع الأمة على أنها ظاهرة حديثة تمامًا. وبطبيعة الحال، فإن واضعي النظريات مؤهلون على نحوٍ تام لوصف ظاهرة معينة — «أمة العوام» في هذه الحالة — بأنها «الحقيقة» السياسية الوحيدة، واعتبار كل نسخة أخرى ثانوية وغير حقيقية، إن لم تكن مضلة. إلا أنه إذا استطاع مؤرخو العصور الوسطى إظهار الأساس التاريخي والأهمية التاريخية للنسخ الأخرى، وهذه بالضبط نقطة محل بحث من قِبل أتباع فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة، فإن موقف الحداثيين يصبح مرة أخرى متعسفًا ومقيدًا على نحوٍ غير ضروري. وهذا ينطبق أيضًا على الزعم الأضعف القائل إن أمة العوام الحديثة هي النسخة «الأكثر تطورًا» للأمة، وأن كل النسخ الأخرى ناقصة إلى حدٍّ ما، هل هذا يعني أننا لا يمكننا التفكير في أنواعٍ أخرى من الأمم استُبعد منها العوام؟ على أي حال، حتى وقتٍ طويل في الحقبة المعاصرة قليلٌ من الأمم المعروفة يمكن وصفه بأنه «أمم عوام»؛ لأن أعضاءً كثيرين من سكانها، لا سيَّما الطبقة العاملة والنساء والأقليات العرقية، ظلوا فعليًّا مستبعَدين من ممارسة الحقوق المدنية والسياسية؛ لذلك، يجب على الأقل أن نكون مستعدين لقَبول احتمالية وجود أنواع أخرى من «الأمم» بعيدًا عن «أمم العوام».4

ثَمَّةَ مشكلة أخرى تنبع من التأكيد الحداثي الشائع القائل إن الأمم ناتجة عن القوميات (بمساعدة الدولة أو دون مساعدتها)، ونظرًا لأن «القومية»، باعتبارها حركة أيديولوجية، لم تظهر قبل القرن الثامن عشر، فالأمم لا بد أن تكون حديثة أيضًا. إلا أننا حتى لو قبلنا أن القومية، باعتبارها أيديولوجية منهجية، لم تظهر قبل القرن الثامن عشر، فإن افتراض أن القوميين فقط هم من يُكوِّنون الأمم هو افتراض مشكوك فيه، وهذا صحيح حتى لو عرفنا حركة القومية «الأيديولوجية»، بالإضافة إلى الأيديولوجيات الأخرى بمصطلحات «حداثية» نسبيًّا، وأعتقد أننا يجب أن نفعل ذلك فقط من أجل تجنُّب الخلط بينها وبين مفاهيم أكثر عموميةً مثل مفهوم «الحس الوطني» أو مفهوم «الوعي الوطني».

الآن، عند قول «القومية» فإنني أقصد «حركة أيديولوجية للحصول على الاستقلال الذاتي والوحدة والهُوية والحفاظ عليها نيابةً عن سكان يعتقد بعض أفراد منهم أنهم يُكوِّنون أمة فعلية أو محتملة.» وبالمثل، أعتقد أننا نستطيع تحديد «عقيدة أساسية» للقومية؛ أي مجموعة مبادئ عامة يتمسك بها القوميون، على النحو الآتي:
  • (١)

    العالم مقسَّم إلى أمم، لكلٍّ منها تاريخها، ومصيرها، وشخصيتها.

  • (٢)

    الأمة هي المصدر الوحيد للسلطة السياسية.

  • (٣)

    من أجل الحرية لا بد أن ينتميَ كل فرد إلى الأمة ويمنحها ولاءً أساسيًّا.

  • (٤)

    يجب أن تمتلك الأمم أقصى قدرٍ من الاستقلال الذاتي والتعبير عن الذات.

  • (٥)

    العالم العادل والسلمي يجب أن يكون قائمًا على تعدديةٍ من الأمم الحرة.

على هذا النحو، لم يتبنَّ الكُتَّاب والمفكرون في أوروبا الغربية وأوروبا الوسطى من روسو وهيردر إلى فيشته وماتسيني أيديولوجياتِ «القومية» إلا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر؛ ومن ثَمَّ، فإن القومية مذهب حديث، والعلامة الأيديولوجية المميزة لتلك الحداثة تكمن في الافتراضات الحديثة نسبيًّا المتعلقة بالاستقلال السياسي والأصالة التي يقوم عليها هذا المذهب، وطريقة تضافرها مع الأنثروبولوجيا السياسية.5 إلا أن هذا لا يجعلنا ننكر أن بعض عناصر ذلك المذهب تعود إلى أبعد من ذلك بكثير. على سبيل المثال، كانت أفكار الأمة والمجاملات الدولية حاضرةً بوضوحٍ في مجمع كونستانس عام ١٤١٥، ويمكننا العثور على الكثير من الإشارات إلى الأمم وعلاقاتها في قرونٍ سابقة، تعود إلى العصر القديم، حتى لو كان تفسيرها يُمثل مشاكل خطيرة. هذا يعني أن بعض التصوُّرات عن الأمة تسبق بعدة قرون ظهورَ القومية وتفسيراتها الخاصة للأمة؛ ونتيجةً لذلك فإن مفهوم الأمة لا يمكن أن يكون مشتقًّا ببساطةٍ من أيديولوجية «القومية». إن قصر مفهوم الأمة وممارسته على عصر القومية، واعتبارهما من نتائج هذه الأيديولوجية الحديثة، هو مرةً أخرى تعسُّف وتقييد زائد عن الحد.6 إلا أن أخطر عيوب النوع المثالي الحداثي ﻟ «الأمة الحديثة» قد يكون التعصب العرقي المتأصل. وقد أدرك كثير من أصحاب النظرية هذا الأمر بطبيعة الحال. ورغم ذلك، فقد استمروا في التعامل مع النوع الإقليمي المدني من الأمة الحديثة وقوميتها على أنها المعيار، واعتبروا الأنواع الأخرى انحرافات. وكان هذا هو أساس تقسيم القوميات إلى «غربية» و«غير غربية» المذكور سابقًا الذي قدَّمه هانز كون ولاقى احتفاءً. القوميات غير الغربية، على النقيض من نظائرها العقلانية، المستنيرة، الليبرالية، تميل إلى أن تكون عضوية، وصاخبة، وسلطوية، وصوفية غالبًا، وتلك مظاهر تقليدية لنُخبة مثقفة ضعيفة ومعزولة. وكان من بين المُنظِّرين الذين اتبعوا تقسيمَ كوهن جون كلٌّ من بلاميناتس، وهيو سيتون واتسون، ومايكل إيجناتياف، وكثيرٌ غيرهم ممن يرَوْن أن الفرق الشائع بين القوميات «المدنية» والقوميات «العرقية» يتضمن هذا التقليد المعياري.7
الآن، على الرغم من أن هؤلاء المُنظِّرين قد يعترفون بأن القوميات «العرقية» تتشارك مع القوميات «المدنية» في بعض سمات مثل الارتباطات الجماعية ﺑ «الوطن»، بالإضافة إلى مُثُل الاستقلال الذاتي والمواطنة بالنسبة إلى «الشعب»، فإنهم يُسلِّطون الضوءَ أيضًا على اختلافاتٍ كبيرة جدًّا. في النسخة «العرقية» من القومية، تُعتبر الأمة ممتلكة لما يلي:
  • (١)

    روابط النسب: على نحوٍ أكثر تحديدًا، هي روابط مفترضة بسلالة عرقية تعود عبر الأجيال إلى سلف مشترك واحد أو أكثر؛ ومن ثَمَّ وجود عضوية في الأمة من ناحية الأصل المفترض.

  • (٢)

    ثقافة محلية: ثقافة ليست عامة ومميزة فحسب، بل أيضًا أصيلة في الأرض والشعب من ناحية اللغة والتقاليد والدين والفنون.

  • (٣)

    تاريخ للسكان الأصليين: إيمان بفضائل التاريخ الأصلي وتفسيره الخاص لتاريخ الأمة ومكانتها في العالم.

  • (٤)

    الحشد الشعبي: إيمان بأصالة «الشعب» وطاقته وقيمه، والحاجة إلى إثارة الشعب وتحفيزه لخلق ثقافة وطنية وكيان سياسي وطني حقًّا.

هذا يدل على أن الأمة، من منظور القوميين العرقيين، موجودة بالفعل عند ظهور كلٍّ من الحداثة والقومية في شكل جماعاتٍ عرقية قائمة من قبلُ متاحة وجاهزة لدفعها إلى عالم الأمم السياسية، إن جاز التعبير؛ لذلك، في ظل نظرة أتباع فلسفة الحكمة الخالدة الحديثة على سبيل المثال، فإن الأمة العربية، المنحدرة من قبائل تتحدث العربية في شبه الجزيرة العربية، استمرت عبر التاريخ، على الأقل منذ وقت النبي، وتظهر السمات التقليدية للأمة «العرقية» المتمثلة في روابط الأصل النسبي المفترض، وثقافة محلية أصلية تقليدية (أبرزها الثقافة العربية القرآنية)، وتاريخ عرقي عربي أصيل، ومثال «العرب» المسلمين الذين يُحتذى بهم بوصفهم مصدر الحكمة والفضيلة والذين يجب تعبئتهم فحسب من أجل تحقيق الاستقلال السياسي. في هذه الحالة والحالات المشابهة، نشهد فشل الحداثة في تضمين هذا التصوُّر العرقي للأمة المختلف كثيرًا، وهذا الفشل بدوره نابع من رفضها النظري لأي ربط ضروري بين العرقية والأمة.8

(٢) الفئة والوصف

من المشاكل الرئيسية للتصوُّر الحداثي فشلُه في إدراك أن مصطلح «الأمة» يُستخدم بطريقتين مختلفتين تمامًا؛ فهو، من ناحية، يدل على فئة تحليلية تُميِّز بين الأمة وغيرها من فئات الهُوية الثقافية الجمعية الأخرى المشابهة، ومن ناحيةٍ أخرى، يُستخدم باعتباره مصطلحًا وصفيًّا يُعدِّد سمات نوع تاريخي من المجتمع البشري. ويزيد من صعوبة هذه المشكلة حقيقة أن النوع التاريخي من المجتمع البشري الذي يدل عليه مصطلح «الأمة» إما ثقافي أو سياسي أو كلاهما، وهذا يعني أنه يصف نوعًا من المجتمعات البشرية يُعتقد أنه يملك هُوية ثقافية جمعية أو هُوية سياسية جمعية، أو كلتيهما.9
بالطبع لا يوجد شيء غير صحيح في استخدام مصطلحات مثل «الأمة» لوصف سمات أنواع معينة من المجتمع التاريخي. بل تنشأ المشكلة عندما يُقيِّد الوصف على نحوٍ تعسفي نطاق الأمثلة التي يمكن إدراجها تحت النوع المثالي للأمة الذي يُعتبر فئةً تحليلية. وبطبيعة الحال، فإن تحديد إلى أي مدًى تبلغ خطورة هذا العيب هو مسألة خاضعة للتقدير الشخصي. إلا أنني أعتقد أن معظم الحداثيين، من منطلق موقفهم النظري، قد بالغوا في التوجُّه نحو التقييد التعسفي وغير الضروري للمصطلح. فلو أنهم اكتفَوْا بوصف مجموعةٍ فرعية من الفئة العامة للأمة، أي «الأمة الحديثة»، لما وُجدت مشكلة. إلا أنهم يواصلون التأكيد على أن هذه المجموعة الفرعية تُمثِّل الكل، وهنا يصبح المصطلح التاريخي الوصفي متداخلًا مع فئةٍ تحليلية عامة. وهذا لا يعني تبنِّي منهج فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة الذي قد يُصعِّب علينا التمييز بين النوع القومي وغيره من أنواع الهُوية الثقافية أو السياسية الجمعية الأخرى، أو تحديد أمثلة المجتمعات والهُويات التي تندرج تحت وصف «قومي». وهذه هي بالضبط نوعيات الفروق التي قد يمكننا تمييزها من خلال محاولة إبقاء «الأمة» باعتبارها فئة تحليلية منفصلة عن استخدامها كمصطلح وصفي.10

نظرًا للتبعات المعقدة لمفهوم الأمة، فإن فصل الفئة التحليلية عن الوصف التاريخي للأمة ليس بالمهمة السهلة؛ فالاستخدام الوصفي للمصطلح سيكون ضروريًّا كي نُعدِّد سمات الأنواع الفرعية المختلفة للأمة باعتبارها فئة عامة. إلا أننا قبل الشروع في هذا الوصف التاريخي نحتاج إلى فهمٍ واضح للأمة باعتبارها فئة تحليلية عامة مختلفة عن الفئات الأخرى ذات الصلة.

ومن ثَمَّ، فالخطوة الأولى هي تحديد مفهوم الأمة في إطار نموذجي مثالي؛ ومن ثَمَّ إدراك الطبيعة الثابتة للفئة التحليلية بصفتها نموذجًا مثاليًّا يتجاوز الحدود التاريخية. في هذا الصدد، يمثل مصطلح «أمة» فئةً تحليلية تقوم على عملياتٍ اجتماعية عامة «يمكن» من الناحية النظرية أن تتمثل في أي فترة من فترات التاريخ. من خلال التمييز بين الأمة باعتبارها فئة تحليلية وفئات الهُوية الجمعية الأخرى، يمكن أن نتجنب وصف كل أنواع المجتمعات والهُويات بأنها «أمم». وفي الوقت نفسه، يتيح هذا الإجراء فرصة لتخليص فئة الأمة هذه من القيود غير الضرورية، وتتيح إمكانية العثور على أمثلة للأمة قبل العصر الحديث وخارج نطاق الغرب، إذا أشارت الأدلة إلى ذلك؛ ومن ثَمَّ، فإن مفهوم الأمة، مثل مفهوم الجماعة الدينية والانتماء العرقي، يجب أن يُعامَل في المقام الأول كفئة تحليلية عامة، من الممكن تطبيقها من الناحية النظرية على كل القارات وكل الفترات التاريخية. من ناحيةٍ أخرى، فإن مضمون «الأمة»، كنوع تاريخي من المجتمعات البشرية، مُمثَّل في سماتٍ محدَّدة لأنواعها الفرعية، سوف يختلف باختلاف السياق التاريخي. فمع كل حقبة يمكننا أن نتوقع اختلافات مهمة في سمات الأمم، لكنها سوف تتفق رغم ذلك مع النوع الأساسي للفئة. ونظرًا لأن النموذج المثالي للأمة يُمثِّل في الوقت نفسه فئةً تحليلية قائمة على عمليات اجتماعية عامة، وأيضًا نوعًا تاريخيًّا من المجتمعات البشرية يتميز إما بهُوية ثقافية جمعية أو هُوية سياسية جمعية أو كلتيهما معًا، فمن المُحتَّم أن يكون هذا النموذج المثالي من الأمة معقدًا وإشكاليًّا؛ ولهذا السبب يكون بناؤه مهمة صعبة محاطة بالشكوك، ويتضمَّن بالضرورة عنصرًا اشتراطيًّا.11
من هذا المنطلق، أقدم التعريف النموذجي المثالي التالي ﻟ «الأمة»؛ إنها «مجتمع بشري له تسمية وتعريف ذاتي، يبني أفرادُه أساطيرَ وذكرياتٍ ورموزًا وقِيمًا وتقاليدَ مشتركة، ويقطنون موطنًا تاريخيًّا يتماهَون معه، ويخلقون ثقافةً عامة مميزة وينشرونها، ويلتزمون بأعراف وقوانين عامة مشتركة.» وعلى نحوٍ مشابه، من الممكن أن نُعرِّف «الهُوية القومية» بأنها «إعادة إنتاج وإعادة تفسير مستمرتان لنمط القيم، والرموز، والذكريات، والأساطير، والتقاليد التي تُكوِّن التراث المُميِّز للأمم، وتماهي الأفراد مع ذلك النمط وذلك التراث.»12
ثَمَّةَ ثلاثة افتراضات هي التي أدَّت إلى اختيار سمات النموذج المثالي؛ الافتراض الأول هو: محورية العمليات الاجتماعية والمصادر الرمزية في تكوين الأمم واستمراريتها، ومنْحها شخصيتها المميزة والمرنة. الافتراض الثاني هو: أن كثيرًا من سمات النموذج المثالي مشتقٌّ من رموز، وتقاليد، وأساطير عرقية، وعرقية دينية سابقة، وأن الذكريات المشتركة بين السكان لا بد أن تكون متشابهةً أو مترابطة. وكلا الافتراضين معًا يُجيبان عن سؤال: «ما الأمة؟» أي ما الشخصية الفريدة للأمة التاريخية؟ أما الافتراض الثالث، فهو أن تلك العمليات الاجتماعية والمصادر الرمزية، رغم خضوعها للتغيير الدوري، فإن صداها يمكن أن يتردَّد بين الجماعة السكانية على مدار فتراتٍ طويلة من الزمن. وهذا يعني أن تحليلنا لتكَوُّن الأمم واستمرارها يتطلب، كما بيَّن جون أرمسترونج جيدًا، دراسةً تدقيقية للعمليات الاجتماعية والرمزية عبر الحقب التاريخية المتعاقبة على «المدى الطويل».13

إن الإصرار على تحليل العناصر الاجتماعية والثقافية على المدى الطويل يعني، في المقام الأول، معاملة الأمم على نحوٍ منفصل عن «القومية»، وأن تكوين الأمم ينبغي أن يُدرَس بمعزلٍ عن نشأة الحركة الأيديولوجية المتمثلة في القومية. ثانيًا: من خلال الجمع بين الماضي (التاريخ)، والحاضر، والمستقبل (المصير)، يصبح الطريق مفتوحًا أمام تحليلٍ طويل المدى لظاهرتَي العرقية والقومية عبر حقبٍ مختلفة. وهذا بدوره قد يشير إلى طرقٍ مختلفة يمكن من خلالها ربط السمات الاجتماعية والثقافية ﻟ «العرقيات» (الجماعات العرقية) والأمم.

توجد ثلاث طرق أساسية يمكن من خلالها تحقيق هذه الروابط. أوضح هذه الطرق، وهي الطريقة التي ينتهجها معظم مؤرخي الأمم والدول، هي من خلال «استمرارية» الشكل، إن لم يكن المضمون. في هذا الصدد، نتحدث عادةً عن الروابط بين مجتمعات العصور الوسطى (نادرًا ما تكون مجتمعات العصور القديمة) وبين «الأمم الحديثة». وكما سنرى، حتى مؤرخو مجتمعات العصور الوسطى والقديمة يميلون إلى قياس مستوى «الأمة» بمقياس خصائص «الدولة الحديثة»؛ وذلك فقط من أجل إنكار وجود الأمم في فترة تلك المجتمعات. يتضمَّن هذا نوعًا آخر من «القومية الاسترجاعية»، وفيها يُعتبر الماضي مرآةً للحاضر كما يقول بروس روتليدج؛ ومن ثَمَّ، فالطريقة العادية لزعم استمرارية أممٍ معينة هو تتبُّع أنساب الشكل الحديث للأمة وجذوره حتى العصور الوسطى، بالطريقة التي نصح بها أدريان هستنجز وأتباع فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة لأوروبا الغربية. وكبديل آخر، يمكن للمرء أن يزعم أن بعض هذه الأمم الحديثة اعتمدت على السمات والمصادر الاجتماعية والرمزية ﻟ «عرقيات» سابقة يزعمون أن صلة قرابة تربطهم بها، ويشعرون أنهم أسلافهم؛ ذلك الزعم الذي زعمه أنصار السلافية وغيرهم في أواخر عهد روسيا القيصرية عندما أعربوا عن وجود صلة قرابة قوية تجمعهم بدوقية موسكو القديمة (قبل عصر بطرس الأكبر)، وجماعة إحيائيي الغال الذين عثروا على مصادر الأمة الأيرلندية الحديثة ممثلةً في ثقافة الرهبنة المسيحية في أيرلندا في العصور الوسطى المبكرة. في مثل هذه الحالات، يُشكِّل فهمُ الماضي العرقي تصوُّرات الحاضر اللاحقة بقدر ما يختار الحاضر من سمات ذلك الماضي، ومهمة المُحلِّل هي محاولة إجراء نوع من التقييم للروابط التاريخية الموثقة، وكذلك الانقطاعات.14
يتطرق النوع الثاني من الارتباط على «المدى الطويل» لفكرة «تكرُّر» الأشكال العرقية والقومية، بالإضافة إلى عناصرها الثقافية الاجتماعية الأساسية، على كلٍّ من المستوى الخاص والمستوى العام. ومن هذا المنظور، فإن كل الأمم وكذلك «العرقيات»، بالإضافة إلى الأنواع الأخرى من الهُويات الجمعية الثقافية أو السياسية، هي ظواهر متكررة الحدوث؛ بمعنى أنها نماذج من المجتمع الثقافي والتنظيم السياسي الذي يمكن أن يوجد في كل فترة وفي كل قارة، والمعرضة لمد وجزر لا يتوقفان، فتظهر وتزدهر، ثم تتدهور وتختفي مرةً أخرى، لتظهر مرةً أخرى في بعض الحالات (بمساعدة القوميين أو دون مساعدتهم). مرةً أخرى، يجب أن نلتفت إلى صفحات جون أرمسترونج من مجلده الهائل وعرضه الشامل للهُويات العرقية والعناصر المكوِّنة لها في العالم المسيحي والعالم الإسلامي في العصور الوسطى؛ لكي نفهم كلًّا من استمرارية وتكرُّر الهُويات العرقية والقومية على «المدى الطويل».15
أخيرًا، يمكن تحقيق الروابط بين الماضي والحاضر من خلال «اكتشاف» التاريخ العرقي و«الاستحواذ» عليه. وهذا موضوعٌ مألوف في الأدبيات التي تناولت القومية، يوجد عادةً في الفصول التي تتحدث عن «الصحوة القومية» أو «الإحياء». إن المفكرين، بصفتهم كهنة الأمة الجُدد وكَتَبَتَها، يوضحون فئة المجتمع القومي؛ ولهذا السبب يختارون السمات الرمزية والاجتماعية من الثقافات العرقية السابقة التي من المفترض أنها «مرتبطة» بمجتمعاتهم وسكانهم المحددين. ويحدث هذا غالبًا من خلال اختيار لهجات أو تقاليد أو تراث شعبي أو موسيقى أو شعر من العناصر المحلية البارزة الخاصة لتمثل الأمة كلها، كما حدث في أجزاء من أوروبا الشرقية. المعيار هنا هو مذهب «الأصالة»، فمن أجل إعادة بناء المجتمع كأمة أصيلة صِرف، يصبح من الضروري اكتشاف واستخدام السمات الثقافية التي يبدو أنها أصيلة وأصلية تمامًا، وغير متأثرة بالتراكمات الأجنبية أو التأثير الأجنبي، والتي تمثل المجتمع «في أفضل صوره». الأمر المثير هو أن مثل هذه المذاهب لها مثيلاتها في فترة ما قبل الحداثة. سعت معظم حركات ما قبل الحداثة إلى خلق مجتمعاتٍ تُحاكي رُؤًى من ثقافاتٍ عرقية دينية سابقة، مثل: رغبة آشور بانيبال الشديدة في إعادة خلق حضارة بابلية عظمى في أواخر عهد الإمبراطورية الآشورية، أو استحضار كِسرى الثاني للأسطورة والطقوس والتقاليد الإيرانية الأصلية في أواخر عهد الدولة الساسانية في بلاد فارس. إلا أننا وجدنا أيضًا في أواخر عهد الجمهورية الرومانية أكثر من مجرد رغبة نابعة من الحنين إلى الماضي لاسترجاع الطرق الأصلية والعقيدة البسيطة الخاصة بالأسلاف والأجيال السابقة، إلى أشخاص من أمثال كاتو الأصغر وسكيبيو الأفريقي، من أجل اكتشاف ماضٍ عرقي مبجل وفضيل والاستحواذ عليه.16

(٣) الأمة باعتبارها موردًا ثقافيًّا

سألتفت الآن للاستخدام الرئيسي الثاني لمفهوم «الأمة»، كمصطلح وصفي لشكل من أشكال المجتمعات البشرية التاريخية. تتمثل السمة البارزة للأمة بوصفها شكلًا من المجتمعات يتسم بالهُوية الثقافية أو السياسية أو كلتيهما معًا في دورها كنموذج لتنظيم اجتماعي ثقافي. إذا كان يَتعيَّن اعتبار الأمة فئةً تحليلية على المستوى المفاهيمي، فمن الممكن اعتبارها أيضًا على المستوى التاريخي المجرد موردًا اجتماعيًّا وثقافيًّا، أو من الأفضل اعتبارها مجموعة مصادر ونموذجًا يمكن استخدامهما بطرقٍ مختلفة وفي ظروفٍ متنوعة؛ فكما كانت إمبراطورية هان في الصين والإمبراطورية الأكدية في بلاد الرافدين نموذجَين ومصدرَين ثقافيَّين لمحاولاتٍ لاحقة لبناء إمبراطوريات في تلك المناطق وغيرها، فإن مملكتَي إسرائيل ويهوذا، والدول المدن في أثينا القديمة وأسبرطة والجمهورية الرومانية مثلت جميعًا نماذج وأدلة يُهتدى بها لمجتمعاتٍ لاحقة. وهذا ليس من أجل الحكم مسبقًا على سؤال ما إذا كانت تلك المجتمعات نفسها من الممكن وصفها بأنها مجتمعات «قومية»، أو إلى أي مدًى يمكن وصفها بذلك، فقط من أجل القول بأن كثيرًا من الأمم اللاحقة نظر إلى تلك الأمثلة كنماذج للأمة وأخذ منها مصادر معينة: مُثُلًا ومعتقداتٍ وانتماءات، واعتبرها أيضًا نماذج للتنظيم الاجتماعي والثقافي.

لعل أفضل مثال على ما يجول في خاطري هو القَبول الأوروبي لروايات الكتاب المقدس عن إسرائيل القديمة، وهذه نقطة أَوضَحَها هستنجز لكنه لم يستفض فيها على نحوٍ كافٍ. إن المسيحية لم تأخذ فحسب نموذج الكيان السياسي في العهد القديم — مملكة إسرائيل القديمة كما زعم — بل إن حُكام العصور الوسطى ونُخَب الإمبراطوريات، والممالك، والإمارات في أوروبا من إنجلترا وفرنسا إلى بوهيميا ودوقية موسكو، وأيضًا الكنائس والجامعات؛ أخذوا واستخدموا الأفكار والمعتقدات والارتباطات الخاصة بمجتمع بني إسرائيل القديم الذي «أصبحوا» يدركون أنه مجتمع «قومي». وقبل الإصلاح البروتستانتي بوقتٍ طويل، أصبحت إسرائيل القديمة تمثل النموذج والدليل نحو خلق جماعاتهم المختارة وأقاليمهم التاريخية، ونشر ثقافاتهم المميزة.17
كيف يمكن — من الناحية العملية — إثبات أن المجتمعات السابقة تمثل مصادر ونماذج للمجتمعات اللاحقة؟ توضح حالة إسرائيل القديمة أهمية النصوص المقدسة، وتوضح أيضًا أهمية القوانين والطقوس والمراسم والصلوات الموصوفة في تلك النصوص. من أنواع المصادر الثقافية الأخرى التقاليد والأعراف، والرموز مثل الكلمات والألقاب، واللغات وأنظمة الكتابة، والأعمال الفنية مثل المسلات والمعابد، والرايات والشارات، والأيقونات والتماثيل، والموضوعات والأساليب الفنية الأكثر عمومية، مثل تلك التي تخص الحضارتين الإغريقية والرومانية، اللتين شهدتا إحياءً وتجديدًا في حقب لاحقة. على الرغم من أن هذه المصادر العامة يمكن أن تُستخدم في مجموعةٍ متنوعة من المجتمعات وليس الأمم، فإن الفكرة الأساسية هي أنها كانت موجودةً بالفعل، وبعضها كان مرتبطًا بمجتمعاتٍ بدت، من بُعد، مشابهةً لأمم أوروبا اللاحقة الطَّموحة واستطاعت أن تكون نماذج يُقتدى بها لهذه الأمم. ربما لم تكن الرسائل المرتبطة بتلك النصوص والطقوس والرموز والأعمال الفنية هي الرسائل الأصلية لمن ابتدعوها أو لمستخدميها الأصليين، وربما كان تذكر هذه الموارد انتقائيًّا إلى حدٍّ بعيد. ورغم ذلك، فإن صداها ظل يتردد بين نُخَب الأجيال المتعاقبة كموروثات ثقافية وعناصر اجتماعية قادرة على أن تمثل مصادر مقدسة للهُوية الجمعية للأمم.18

(٤) الأمة باعتبارها «مجتمعًا ماديًّا»

ما قلته حتى الآن هو ضرورة التمييز بين «الأمة» باعتبارها فئةً عامةً وبين المظاهر التاريخية للأمة باعتبارها مجتمعًا بشريًّا يتخذ أشكالًا مختلفة، ويكشف عن سماتٍ متعددة في حقبٍ مختلفة بالإضافة إلى السمات الأساسية للنموذج المثالي. في هذا الاستخدام الثاني لمصطلح الأمة، باعتبارها نوعًا من أنواع المجتمعات البشرية يتميز بهُويةٍ ثقافية أو سياسية أو كلتيهما، يمكن أن نعتبرها مجموعةً من المصادر الاجتماعية والثقافية التي يمكن أن يوظفها أفرادها، فتُمكِّنهم — بدرجات متفاوتة — من التعبير عن اهتماماتهم واحتياجاتهم وأهدافهم؛ وهذا يعني أننا يمكننا أيضًا أن نَصِف الأمة بأنها «مجتمع» يتخيَّله أفراده ويريدونه ويُحسُّونه.

مثل هذه اللغة تثير الشكوك حتمًا في الجوهرية والتَّشَيُّؤ، حتى عندما ندرك أنها تمثل اختصارًا لجُمَل عن أعدادٍ كبيرة لأفراد وسياقاتهم المعيارية. يُقال إن الأمم لا تمثل مجتمعاتٍ كبيرةً متجانسة مستمرة ذات سماتٍ ثابتة واحتياجات أساسية، بل مجرد فئاتٍ عملية تفرضها دول حريصة على تصنيف أعدادٍ كبيرة من سكانها والإشارة لهم بطرق مناسبة، مثل ما حاولت سياسات الجنسيات السوفييتية السابقة فعله وحققته إلى حدٍّ ما. في الحقيقة، وفقًا لوجهة النظر التي قدَّمها روجرز بروبيكر، فإننا يجب ألا نحلل الأمم على الإطلاق في حقيقة الأمر، بل نحلل القوميات، ونعامل «الأمم» على أنها ممارسات مؤسسية، وفئات، وأحداث محتملة الوقوع.19
إلا أن هذا يجعلنا نغفل عن أمرٍ مهم أثناء تغاضينا عن أمرٍ غير مهم؛ فبعيدًا عن محاباة الدولة (بوصفها في حد ذاتها فكرةً في وجدان شعبها)، فإن هذا إغفال تام عن تصوُّرات ومشاعر والتزامات أعدادٍ كبيرة من الناس تجاه «أممهم»؛ مما يُصَعِّب مثلًا شرح السبب وراء استعداد كثيرٍ من الأشخاص لتقديم تضحياتٍ كبيرة (بما فيها التضحية بحياتهم نفسها) من أجل أممهم، إلا لو كان ذلك بسبب الإكراه الجماعي. لكي نحاول استبيان السبب في أن الأمم والهُويات القومية تبدو مميزة وملزمة وراسخة في قلوب وعقول كثيرٍ من أفرادها، لسنا مضطرين لتبني تصوُّرات ومشاعر أعضاء الأمم كفئاتٍ لتحليلنا، فضلًا عن استخدامها بطبيعة الحال، ولسنا مضطرين لافتراض أن الأمم متجانسة، وبالتأكيد لسنا مضطرين لافتراض أن لها «جوهرًا» أو «مقومات أساسية» أو «طبيعة ثابتة». بَيْدَ أننا يجب أن ندرك أن أفراد الأمم المتماثلين هم مَنْ يتخيلون، ويريدون، ويشعرون بالمجتمع، على الرغم من أنهم يفعلون ذلك في الغالب داخل حدودٍ اجتماعية وثقافية معينة. وبحسب ما وثَّق مايكل بيليج، نظرًا لأن المؤسسات والتقاليد والطقوس والخطابات القومية تستمر عبر الأجيال، فإن كثيرًا من الناس يميلون إلى قَبول الضوابط والتصوُّرات الأساسية لمجتمعاتهم المأخوذة عن أسلافهم.20
ليس المقصود الإيحاء بأن الأمم التاريخية لم تمرَّ بكثيرٍ من الصراعات والتغييرات، أو أن «مصائرها» لم تكن مركز تنافُس النُّخَب وتسابُق العامة؛ فمثل كل المجتمعات والهُويات، تخضع الأمم والهُويات القومية بصورةٍ دورية إلى إعادة تفسير لمعانيها وإلى تغييرات في الهياكل والحدود الاجتماعية، وهذا بدوره يُغيِّر محتويات ثقافاتها. ويجب ألا نتخيَّل أن الهُويات القومية لا تقف في تحدٍّ مستمر مع أنواعٍ أخرى من الهُويات الجمعية؛ كهُوية الأسرة، والمنطقة، والدين، والطبقة، والنوع، بالإضافة إلى الانتماءات فوق القومية والحضارات الدينية. بَيْدَ أن هذين التحذيرين لا يُلهيان عن التأثير التاريخي للأمم باعتبارها مجتمعاتٍ «نعيشها ونُحسها». مما لا شك فيه أن القومية على المستوى «الفردي» ليست إلا مجرد واحدةٍ من عددٍ من الهُويات، لكنها الهُوية التي يمكن أن تكون الفاصلة والحاسمة في الغالب. قد يمتلك الأفراد «هُويات متعددة» وينتقلون من دور لآخر ومن هُوية لأخرى، حسبما يتطلب الموقف، إلا أن الهُويات «القومية» يمكن أيضًا أن تكون «متغلغلة» فتتضمن، وتشمل، وتصبغ كلَّ الأدوار والهُويات الأخرى، ولا سيَّما في أوقات الأزمات. علاوةً على ذلك، لا يبدو أن أي نوعٍ آخر من الهُويات — باستثناء الدين — أو المجتمعات يثير قدرًا أكبر من الشغف والالتزام، بما في ذلك التضحية الجماعية بالأرواح، أكثر من مجتمع الأمة.21
على المستوى «الجمعي»، فإن دور الأمة وتأثيرها لَأكثر إثارةً للدهشة. في هذا الصدد، يمكن أن نتحدث عن الصمود على المدى الطويل في وجه التغيرات في كلٍّ من «العرقيات» والأمم، وهذا أمر لا يمكن أن ينبع ببساطةٍ من اختيارات أفراد هذه الأمم والعرقيات وميولهم؛ وذلك أننا مثلما لا نستطيع قراءة شخصية أفراد الأمة من ثقافتها السياسية، فإننا كذلك لا نستطيع استنتاج الثقافة السياسية للأمة من الناتج الإجمالي لاختيارات أفرادها أو طباعهم؛ لأن الثقافات السياسية ﻟ «العرقيات» والأمم لها أعرافها وتقاليدها، ورموزها وقوانين التواصل الخاصة بها. وهذا يساعد في تفسير حقيقة أن المجتمعات العرقية والأمم يمكن أن تصمد عبر فتراتٍ طويلة، على الرغم من هجرة أعدادٍ كبيرة من أفرادها، أو تعرُّضهم للإبادة الثقافية، أو الإبادة الجماعية، ولماذا يمكن أن تستمر الثقافات حتى في غياب معظم ممارسيها. فبعد وقتٍ طويل من تدمير قرطاجة في نهاية الأمر عام ١٤٦ قبل الميلاد وبيع سكانها في سوق العبيد، استمرَّت الثقافة البونيقية في شمال أفريقيا، حتى القرن الخامس الميلادي.22

(٥) مجتمعٌ سياسي؟

يمكننا الآن العودة إلى نقطة البداية المتمثلة في التصوُّر السياسي للأمة الذي طرحه كثيرٌ من الحداثيين، ونسأل: هل يمكن اعتبار الأمم مهمة فقط لكونها تُعتبر أول وأهم أشكال المجتمع السياسي والهُوية السياسية، أم هل يجب أن نعتبرها أنواعًا أساسية من المجتمعات والهُويات الثقافية؟

بالنسبة إلى معظم الحداثيين، كما رأينا، فإن الأمة فئة سياسية من الطراز الرفيع، ليس فقط من ناحية المعنى العام لمجتمع السلطة، بل من الناحية الأكثر تحديدًا المتمثلة في المجتمع الذاتيِّ الحكم المؤسَّس في دولةٍ إقليمية ذات سيادة. وفي هذا الصدد، فإنهم يستمدون الإلهام من اعتقاد ماكس فيبر في أولوية الإجراء السياسي والمؤسسات السياسية في تشكيل العرقية والأمة. بالنسبة إلى فيبر:
الأمة مجتمع وجداني يمكن أن يُظهِر نفسه على نحوٍ ملائم في صورة دولةٍ خاصة به؛ ومن ثَمَّ، فإن الأمة مجتمع يميل عادةً إلى إنتاج دولةٍ خاصة به.23
على النحو نفسه، يرى الحداثيون أمثال جون بروييه ومايكل مان أن «القومية» حركة سياسية في الأساس ويَعتبرون بُعدَيها الاجتماعي والثقافي أمرَين ثانويَّين. والسبب في ذلك يرجع إلى أن الأمم بالنسبة إلى الحداثيين هي ثمار الدول والقوميات؛ ومن ثَمَّ فإنها ظواهر سياسية بطبيعتها، وتكتسب أهميتها بحسب درجة استغلالها لصالح الدول. وفيما يخص صفاتها الثقافية، فإنها في جوهرها تسبق وجود السياسة، وذات أهميةٍ خاصة في وصف الأعراق البشرية.24
إذًا، فإنه لَحقيقيٌّ أن الأمم، شأنها شأن الأنواع الأخرى من الهُويات الثقافية الجمعية، عبارة عن مجتمعات من القوة والطاقة، ويمكنها جذب ولاء واستقطاب طاقات أعدادٍ كبيرة من الرجال والنساء. ويمكن أيضًا رؤية الأمم باعتبارها مجموعات صراع، وحَّدتْها الحربُ ضد الجموع الأخرى، لا سيَّما الأمم والدول القومية الأخرى. إلا أن هذا لا يعني أن كل الأمم تسعى إلى تكوين دولٍ خاصة بها، أو أن الدولة ذات السيادة هي محل تركيز وهدف كل مَساعي الأمة. لا تنطبق هذه الحالة، على سبيل المثال، على الشعب الفلمنكي والشعب البريتوني، والاسكتلنديين والشعب الكتالوني، والويلزيين والباسكيين، على الرغم من الظهور (المتفاوت) لأحزاب وحركات فيما بينهم تسعى إلى إقامة دولة مستقلة لهذه الأمم؛ ففي كلٍّ من هذه الحالات، يكون التطلع المحموم للحصول على الاستقلال الداخلي أو «الحكم الداخلي» مصحوبًا بالتزامٍ بالبقاء جزءًا من دولةٍ متعددة القوميات أوسع نطاقًا ما دامت تلك الشعوب مستقرةً في كنفها على مدار التاريخ؛ وذلك إما لأسبابٍ اقتصادية أو لأسبابٍ سياسية. في الواقع، إن تطلُّع تلك الشعوب إلى الاستقلال الداخلي أمرٌ ذرائعي إلى حدٍّ ما؛ فهو يمثل وسيلة لتحقيق أهدافٍ أخرى اجتماعية واقتصادية وأخلاقية وثقافية محل قيمة في حد ذاتها، بل تفوق قيمتها قيمة السيادة السياسية. ووفقًا لما حرَّره جون هتشينسون، فإن هذا ينطبق بصفةٍ خاصة على القوميين الثقافيين المُصرِّين على إحياء مجتمعاتهم القومية بعد قرونٍ من الخمول والتدهور.25
مرةً أخرى، صحيحٌ أن بعض الأمم نشأت في بوتقة الدولة، أو بالتوازي مع تكوُّنها. وهذه هي الحال بصفةٍ خاصة في أوروبا الغربية في أوائل العصر الحديث؛ حيث في كلٍّ من إنجلترا وفرنسا، وإلى حدِّ أقل إسبانيا، يمكن أن نتتبع ظهور مجتمعات قومية جنبًا إلى جنب مع نشأة قوى المركزية والبيروقراطية للدولة. مجددًا، يمكننا أن نرى كيف ساعد سياق جغرافي تاريخي بعينه في تحديد وتشكيل التصوُّر الحداثي للأمة، مستبعدًا السياقات والتصوُّرات التاريخية الأخرى.26

إلا أننا على القدر نفسه، ينبغي ألا نبالغ في التعميم استنادًا إلى هذا السياق وتصوُّر الأمة المرتبط به؛ ففي السياقات التاريخية الأخرى — سياقات ما قبل الحداثة أو السياقات غير الغربية — تكون محتويات المجتمع التاريخي للأمة، ومن ثَمَّ تصوُّراتنا عنها، مختلفةً تمامًا. في هذه السياقات، كانت العناصر الاجتماعية والثقافية والدينية ذات تأثيرٍ وأهميةٍ أكبر في الغالب من الأبعاد والتصوُّرات السياسية المفضَّلة في الغرب. وإذا تعاملنا معها على أنها أقل أهميةً نوعًا ما، فإن هذا يكشف مرةً أخرى عن التعصب العرقي الذي كان سمةً مميزةً للتصوُّر الحداثي للأمة، والذي ثبت أنه يَحُول دون تكوين فهمٍ أوسع نطاقًا للأمم والهُويات القومية.

لهذه الأسباب يجب اعتبار الأمم التاريخية المنتمية إلى أنواعٍ مختلفة من الفئة العامة للأمة أنماطًا من المجتمعات البشرية التي تتصف بهُوية جمعية ثقافية أو سياسية أو كلتيهما. بصياغةٍ أخرى، إذا كان من الممكن اعتبار بعض الأمم في الأساس أشكالًا من المجتمع السياسي، تتطلع إلى أن تصبح دُوَلًا ذات سيادةٍ أو منضمة إلى تلك الدول بالفعل، فإن أفضل توصيفٍ للأمم الأخرى هو أنها أشكال من المجتمعات الثقافية والإقليمية التي لا تتمتع بمثل هذه الشراكة السياسية أو الطموح السياسي، المتعلقَين على وجه التحديد بمطالب إقامة دولة ذات سيادة. إنَّ دافعها إلى الحصول على الحُكم الذاتي يُركِّز على أهداف اجتماعية واقتصادية وثقافية ويتطلع إلى السيطرة على إقليم معين، دون اللجوء إلى الاستقلال والسيادة المطلقَين. يجب أن نحذر من اعتبار تلك «الأمم التي ليس لها دول» وقومياتها أقل شأنًا من تلك التي لها دولها الخاصة أو تتطلع إلى ذلك؛ حيث إن تلك الأولى تكون في الغالب بوتقة تسييس العرقية في المستقبل.27

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤