الفصل الثاني

الجذور العرقية والدينية

ينطوي البحث في أصول الأمم وأنواعها على مبحثَين من نوعيَن مختلفَين. يتعلق المبحث الأول بعلم الاجتماع. وفي هذا الصدد، يتطلب منَّا الأمر أن نعرف الظروف التي نشأت الأمم في ظلها، وكيف تتكوَّن الأمم. وهذا يتطلب إجراء تحقيق حول العمليات الاجتماعية والثقافية والسياسية الأساسية المطلوبة لنشأة الأمم. ويتعلق المبحث الثاني بالتاريخ، ويتمثل في تتبُّع «الأصل» الاجتماعي والثقافي للأنواع المختلفة للأمم، وذلك من خلال الاستفسار عن وقت وكيفية نشأة الأنواع التاريخية من المجتمعات البشرية التي نطلق عليها أممًا، وماهية أنواعها المحددة، وماهية العوامل التي شكَّلت طابعها المميَّز.

في هذا الفصل، سوف أستعرض فئة الأمة من حيث العمليات الاجتماعية والرمزية المتعلقة بتكوين الأمم، ولا سيَّما جذورها العرقية والسياسية ومصادرها الثقافية. وفي الفصول القادمة، سأتناول بعض الموضوعات التي تنشأ أثناء محاولة اكتشاف الأسس الثقافية والتقاليد و«الأصول» الخاصة بالأنواع المختلفة من الأمة، وفقًا لانعكاسها في السجل التاريخي.

(١) العمليات الاجتماعية لتكوُّن الأمة

يجب أن يبدأ أيُّ بحثٍ من منظور علم الاجتماع لأصول وأشكال الأمم بأخْذ أمرين في الاعتبار، وهما: الأنواع المختلفة من المجتمع البشري، والهُوية الثقافية أو السياسية الجمعية التي تُشكِّل الأمة من كلتيهما فئةً واحدة، والعمليات الاجتماعية والرمزية الأساسية التي يقوم عليها تكوين أنواعٍ مختلفة من الأمم.

في الفصل السابق، ذكرتُ الاتحادات القَبَلية، والجماعات الدينية، والجماعات العرقية كأشكال للهُويات «الثقافية» الجمعية، وذكرتُ الدول المدن، والممالك، والإمبراطوريات باعتبارها أشكالًا للهُويات «السياسية» الجمعية. والآن، في حين لعبت الدول المدن والممالك أدوارًا مهمة في تكوين الأمم، لا سيَّما في ظهور أيديولوجيات القومية وطابعها لاحقًا، فإننا في المقام الأول، يجب أن نبحث عن أصول كثيرٍ من الأمم وأسباب استمرارية هُويتها القومية في الجماعات العرقية والجماعات العرقية الدينية. حتى تلك الأمم القائمة في الأصل على أساس الهُويات السياسية الجمعية احتاجت إلى نوعٍ من الأساس الثقافي يتمثل في أسطورة، وذكرى، ورمز، وتراث من أجل خلق وحدةٍ أعمق بين شعوبها التي غالبًا ما تكون متنوعة، وتُكتشف هذه الأمور في الغالب في المصادر الثقافية ﻟ «العرقيات» أو الجماعات العرقية؛ ولذلك، سوف أبدأ بالعلاقة بين الجماعات العرقية والأمم، وبعدها سأفحص دور بعض العمليات الاجتماعية والرمزية الأساسية والمصادر الثقافية للهُوية القومية.

بالنسبة إلى معظم الحداثيين، لا تؤدي الروابط والهُويات العرقية إلا دورًا ضئيلًا، أو لا تؤدي دورًا على الإطلاق، فيما يتعلق بنظرية الأمم والقومية. وهذا يعكس إلى حدٍّ ما رغبتهم في عدم الخلط بين موضوع معقد بالفعل وأمور أخرى غير يقينية، لدرجة استخدام مصطلحاتٍ مثل «عرقي» و«عرقية» بطرق مختلفة للغاية. فلا يمكن اعتبار العرقية، كما هي الحال مع الأمة، من المُسلَّمات الاجتماعية والثقافية أو من «ثوابت التاريخ». فالجماعات العرقية، رغم كل شيء، تتكوَّن عبر عمليات التكوُّن العرقي، مثل توحيد فئاتٍ وشبكاتٍ عرقية أصغر، وتأثيرات الغزو والاستعمار على الفئات الثقافية الموجودة من قبل، وأنشطة الطبقات المتعلمة، لا سيَّما الإرساليات والمثقفين، في إمداد الفئات العرقية ﺑ «قوانينها ورموزها» المشتركة. بالإضافة إلى ذلك، لعبت عوامل خارجية دورًا كبيرًا في بلورة المجتمعات والشبكات العرقية التي تلت ذلك. وربما كان أبرز هذه العوامل تأثير الحروب المُطوَّلة بين الدول، تلك الحروب التي لا تزيد الحدود بين الدول ومجتمعاتها وضوحًا فحسب، بل أيضًا تنقل أعضاءً من طبقاتٍ عرقية مختلفة وتجمعهم معًا، وتمدُّ الأفراد بالأساطير البطولية والذكريات القوية. ومن العوامل الأخرى التي تساعد في تشكيل الجماعات العرقية أثرُ الدين المنظَّم، وبصفةٍ خاصة أنشطة رجال الدين المتمثلة في حفظ السجلات، وممارسة الطقوس، ووضع مجموعة من النصوص المقدسة ونشرها، بالإضافة إلى المنافسة بين مختلِف أنواع النُّخَب — السياسية والدينية والاقتصادية والتعليمية، وغيرها — على أهمية التقاليد الرمزية والموارد الثقافية وامتلاكها، وأيضًا على الموارد التنظيمية والمادية بطبيعة الحال.1

إلا أنه على الرغم من أهمية هذه الاعتبارات في حد ذاتها، فإن أيًّا منها لا يُلغي الضرورة المُلحة لدراسة العلاقة المحورية بين الجماعات العرقية والأمم؛ لأنه من دون محاولة فهم طبيعة الروابط العرقية وعلاقتها بالأمم، فإن فهمنا للأمم والقومية سيظل محصورًا في إشكاليات الحداثة التي عَدَدْتُها في الفصل السابق، وأبرزها التقييد التعسُّفي والتعصُّب العرقي غير المأخوذ في الحسبان من الأساس.

أعتقد أن باستطاعتنا تقليل بعض الالتباس الذي يكتنف مفهوم العرقية من خلال التمييز بين استخدامَين حاليَّين؛ أحدهما ضيق النطاق، والآخر واسع النطاق. يُركِّز الاستخدام الضيق النطاق على الأصل، الفعلي أو المفترض، ويُترجِم مصطلح «عرقي» بمعنى «قائم على الأصل». وعلى الرغم من أن الاستخدام الواسع النطاق ينطوي على «أسطورة» تتعلق بالسلف المشترك (الأصل المفترض في مقابل الأصل الفعلي، الروابط المحسوسة بدلًا من الروابط البيولوجية)، فإنه يُركِّز على عناصر ثقافية أخرى مشتركة: اللغة والدين والتقاليد وما شابه ذلك. وسأتبنَّى هنا استخدامًا واسع النطاق، استخدامًا تُفْهَم فيه كلمة «عرقي» بمعنًى أكثر اتصالًا ﺑ «العرقية الثقافية».2
المفهوم الأساسي لفهم أصول الأمة هو ذلك المفهوم المتعلق بالجماعة العرقية أو بمصطلح «العرقية». بالتأكيد لا تنتمي كل الهُويات العرقية إلى هذا النوع. على النقيض من ذلك، فإن النوع الأكثر تعددًا يمكن أن نطلق عليه على الأرجح مصطلح «الفئات العرقية». وهي تصوُّرات، غالبًا ما يُشكِّلها أفراد من خارج الجماعة؛ حيث يصنِّفون جماعة سكانية معينة من حيث السمات الثقافية المشتركة، التي تتمثل عادةً في اللغة أو العادات أو الممارسات الدينية. وعادةً ما يكون هؤلاء مجموعاتٍ سكانيةً متقلبة ومتغيرة لها ثقافة شفهية. ويتشارك أفراد هذه الفئات عناصر معينة من ثقافة مشتركة، وربما يتشاركون أرضًا معينة، لكن من الممكن ألا يتشاركوا اسمًا جمعيًّا، أو تجمعهم أسطورة أصلٍ مشترك، أو تجمعهم ذكريات مشتركة، وقد لا يحمل بعضهم لبعضٍ سوى قليلٍ من الإحساس بالتضامن، وقد لا يحمل بعضهم لبعض مثل هذا الإحساس على الإطلاق. من ناحيةٍ أخرى، فالتصنيفات الأكثر وضوحًا التي يمكن أن نسمِّيَها «انتماءات عرقية» أو «شبكات عرقية» — تبنيًا لعمل هاندلمان وإريكسون — أيًّا كان تقسيمها من الناحية الاجتماعية، تُظهِر أنماطًا من الأنشطة والعلاقات المشتركة، وعادةً ما يكون لها أيضًا اسم جمعي، وأسطورة سلف مشترك، وقدْر من التضامن، على الأقل بين النُّخب. أخيرًا، توجد جماعات عرقية أو «عرقيات» تمتلك كل خصائص العرقيات، فأفرادها، علاوةً على كل هذه الخصائص، توحِّدهم الذكريات والتقاليد المشتركة، التي غالبًا ما تكون مكتوبة، وقد يُظهِرون قدرًا كبيرًا من التضامن، على الأقل بين النُّخب. مثل هذه «العرقيات» يمكن وصفها، وفقًا للنموذج المثالي، بأنها «جماعات سكانية بشرية مُسمَّاة وتملك إدراكًا محددًا عن نفسها، وتتشارك أساطير عن الأصول المشتركة، وذكريات تاريخية مشتركة، وعناصر ثقافة مشتركة، وقدرًا من التضامن العرقي.» وبمجرد تكوُّنها، فإنها تصبح مرنة ومستمرة، حتى إنْ لم تكن مستقرة ومتجانسة كما يميل قادتها إلى تصويرها؛ لأن عضوية هذا المجتمع أيضًا تراتبية ويتفاوت الأفراد في الاطلاع على الموارد النادرة المادية وكذلك الرمزية.3
كيف ترتبط فئات «العرقية» والأمة؟ إن مقارنة السمات الرئيسية للنموذج المثالي لكلٍّ منهما تكشف قدرًا من التداخل بينهما، لكنها تكشف أيضًا اختلافاتٍ كبيرة جدًّا؛ أولًا: فيما يخص السمات المشتركة، ففي كلٍّ من «العرقيات» والأمم نجد قدرًا هائلًا من تعريف الذات، وهذا يشمل وجود اسم جمعي، والأهم من ذلك وجود رصيد مشترك أو إرث من الذكريات المشتركة والأساطير والرموز والتقاليد التي تشمل أساطير الأصل والانتخاب العرقي، وذكريات الهجرة والعصور البطولية، ومُثُلًا وتقاليد المصير والتضحية. أما الاختلافات فهي أكثر وضوحًا. إن أفراد «العرقيات» يكون لديهم في العادة صلة، رمزية في بعض الأحيان، تربطهم بأرضٍ معينة ربما يكونون متعلقين بها و/أو يعتقدون أنهم نَشَئُوا منها، لكن في حالاتٍ أخرى ربما يكون كثيرون من أفرادها مُشتَّتين في الخارج. وعلى النقيض من ذلك، فإن معظم أفراد الأمم يحتلون ويقيمون في «أوطان» تاريخية تضم مراكزَ معترفًا بها وحدودًا مُرَسَّمة بوضوح: أراضيَ يزعمون أنها «مِلكٌ» لهم بحق كونها مَنشأهم الأصلي أو بموجب التاريخ أو كليهما؛ ومن ثَمَّ يشعرون بارتباطٍ عميق ﺑ «مناظرها الشاعرية». ثانيًا: في حين يتشارك أفراد «العرقيات» عنصرًا أو أكثر من العناصر الثقافية، فإن أفراد الأمة توحِّدهم ثقافة عامة مميزة، تتمثل في طقوس عامة وشفرات رمزية تنتشر عبر أرجاء الإقليم من مركز واحد أو أكثر إلى أفراد المجتمع، وهذه عملية عادةً ما ترعاها نُخَبٌ دينية أو قضائية أو عسكرية أو تعليمية متخصصة، ويمكن أن نجدها في الأمم التي لا دول لها بقدر ما نجدها في الأمم التي لها دولها الخاصة. ثالثًا: بينما يمكن أن نجد في الغالب بعض العادات المشتركة بين أفراد «العرقيات»، فإن أفراد الأمم يوحِّدهم كلٌّ من العادات المشتركة والقوانين العامة، المنتشرة عبر أبناء الوطن وتتزايد درجات احترام أفراد المجتمع لها، وهذه عملية عادةً ما تدعمها، بل تَسُنُّها، نُخَبٌ دينية وسياسية من خلال إطار عمل مؤسسي وحيد للعُرف والقانون.4
تدل تلك التشابهات والاختلافات على أننا من ناحيةٍ يمكننا اعتبار الأمة تطوُّرًا محددًا من انتماء عرقي، ويمكننا اعتبار أمم معينة تطورات ﻟ «عرقيات» خضعت للأقلمة والتسييس. وهذا لا يشير إلى أننا نستطيع دائمًا أن ننسب أممًا تاريخية معينة إلى عرقية أو أكثر من «العرقيات»، ولا حتى إلى «عرقياتها» السابقة، كما كان القوميون سيدفعوننا إلى الاعتقاد. على الرغم من ذلك، وكما سنرى، فإن تطوُّر السمات الرئيسية ﻟ «العرقيات» مثل امتلاك تصوُّر محدد للذات — بما في ذلك التسمية الجمعية، وأسطورة السلف المشترك، وبناء الذكريات التاريخية ونشرها — إلى جانب إدراك عناصر الثقافة المشتركة (اللغة، والأعراف، والدين، وما إلى ذلك)، كلاهما ضروريٌّ لتكوين الأمم. إلا أن هذا مجرد جزء من الأمر؛ فمفهوم الأمة مُوجَّه، إنْ جاز القول، في اتجاهين: اتجاه تعريف الذات الثقافي العرقي من ناحية، واتجاه التضامن الإقليمي والقانوني والسياسي من ناحيةٍ أخرى. هنا تكشف الهُويات السياسية الجمعية عن تأثيرها (ولطالما مارست ذلك التأثير عبر التاريخ)، لا سيَّما من خلال مثال الدول المدن ومثال المملكة (العرقية). تمثل الروابط القوية والعلاقات المباشرة التي غالبًا ما تقوم في الدول المدن نماذجَ مصغرةً للولاء والتضامن السياسي الشديدَين اللذَين ينشدهما قادة الأمم، لا سيَّما القوميين في عصرنا الحديث؛ حيث تُعتبر مدن أثينا وأسبرطة وروما أمثلة تُلهم سلسلة طويلة من المفكرين الوطنيين منذ عصر النهضة وحتى الثورة الفرنسية وما بعد ذلك. في واقع الأمر، كان يبدو في بعض الأحيان كما لو أن بعض الدول المدن الكبرى مثل أثينا والبندقية قد كوَّنت أممًا أوَّلية. وعلى القدر نفسه من الأهمية كان النموذج التاريخي لمملكة العقد القائمة على «عرقية» مهيمنة، كما هي الحال في فرنسا وإنجلترا في أواخر العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث. ونتيجةً للنزعة الإقليمية وإطار العمل السياسي لبعض الأمم، فإنها قد تتمكن من التفوق على أساسها الثقافي العرقي. أما مدى حدوث ذلك عمليًّا، فسوف يعتمد على مجموعةٍ من العوامل. عند اتباع هذا التوجُّه، فمن المحتمل أن تصبح الأمة نموذجًا للمجتمع القانوني السياسي، من النوع الذي كتب عنه الحداثيون في نموذجهم المثالي للأمة المدنية الإقليمية، وفي دولةٍ تضم عددًا من الجماعات العرقية، قد تصبح الثقافة العامة للأمة بعيدةً على نحوٍ متزايد عن «العرقية» المسيطرة، رغم أن هذا نادرًا ما يكون دون شقاق أو ضغط شديدين.5

(٢) العمليات المؤدية لتكوُّن الأمة

تشير هذه الاعتبارات إلى أن الأمم باعتبارها مجتمعاتٍ تاريخيةً متقلبة وخاضعة للتغيير المستمر. في الفصل السابق، قدمتُ صورة ثابتة بعض الشيء عن الأمة باعتبارها فئةً تحليلية وباعتبارها نموذجًا مثاليًّا. أما هنا، فأودُّ أن أُصحِّح ذلك من خلال التأكيد على الطابع «العملياتي» للأمم. وهذا يعني أن الأمم باعتبارها أشكالًا تاريخية للمجتمع البشري تكون غالبًا في حالة تغيُّر، حتى عندما تستمر الأسماء والرموز والحدود؛ ذلك أنها نتاج عملياتٍ اجتماعية ورمزية معينة.

ماذا يسعنا أن نقول عن العمليات الأساسية التي ينتج عنها تكوُّن الأمم؟ رغم أن هذه العمليات يمكن أن تظهر في أي فترةٍ من التاريخ، فإنه لا يوجد أمر محدَّد بشأنها. وبوصفها عمليات «اجتماعية»، فإنَّ عملها يكون في الغالب على فتراتٍ متقطعة، ويمكن أن يُرَدَّ إلى الحالة الأصلية، وتعتمد هذه العمليات — كعادتها — على الفعل البشري والتفسير الشخصي. رغم ذلك، فإن حدوث هذه العمليات واندماجها، ومن ثَمَّ تَكوُّن الأمم، رغم عدم اقتصارهما على حقب تاريخية محددة، فإنهما على الأرجح لا يحدثان إلا في ظل ظروفٍ تاريخية معينة. تشمل تلك العمليات المكوِّنة للأمم ما يلي: تعريف الذات، وتنمية العناصر الرمزية، والأقلمة، ونشأة ثقافة عامة مميزة، وتوحيد القوانين والأعراف.

(٢-١) تعريف الذات

في حين أن تعريف آخرين للجماعة قد يُميِّز فئتها العرقية، فإن الجماعات العرقية والأمم تحتاج إلى تعريفٍ ذاتيٍّ واضح ﻟ «ذواتها». وهذا يتضمَّن اتخاذ جماعة سكانية بعينها اسمًا جمعيًّا يُعرِّف به المجتمع نفسه ويعرفه به الآخرون، وتماهيَ الأفراد مع هذا المجتمع المُسمَّى ورموزه. ومن الممكن أن يبدأ ذلك بطريقة عكسية، كما يزعم ووكر كونر؛ بحيث تتمثل العملية في معرفة أفراد المجتمع بمن وما لا يمثلونه، مقارنةً بالآخرين من هنا وهناك، الذين يُميِّز المجتمع نفسه عنهم. رغم ذلك، لا يمكن للمرء التحدُّث عن عملية تعريف ذاتي للمجتمع وتحديده لهُويته الخاصة الجمعية إلا عندما يبدأ الأفراد في معرفة من «يكونون» إجمالًا، ويشعرون أنهم يُكوِّنون مجتمعًا مميزًا له اسم محدد، وسيؤدي ذلك إلى تقديم واحدة من السمات الأساسية للنموذج المثالي للأمة.

يمكننا أن نُميِّز هذه العملية في كلٍّ من الفترات السابقة والمعاصرة. على سبيل المثال، في حين أُطلِق على الفينيقيين هذا الاسم من قِبل آخرين مثل الإغريق الذين تاجروا معهم، ميَّز الإغريق أنفسهم عن الفرس وغيرهم من الشعوب التي تعاملوا معها بأن أطلقوا على أنفسهم اسم «الهيلينيين». وعلى نحوٍ مشابه، مَيَّزَ الإنجليز في العصور الوسطى أنفسهم منذ وقتٍ مبكر عن جيرانهم الاسكتلنديين، والويلزيين، والأيرلنديين، وأطلقوا عليهم أسماءهم (وهؤلاء أيضًا أطلقوا على الإنجليز اسمهم)؛ في حين أنه في عصرنا الحديث يجب ألا تتخذ كل أمة لنفسها اسمًا مميزًا فحسب، إن لم يكن لها اسمٌ بالفعل، بل يجب على أفراد تلك الأمم أن يُميِّزوا أنفسهم عن جماعات المهاجرين التي تملك تعريفًا ذاتيًّا لذواتها، كما فعل الإيطاليون مع الألبان، وكما فعل الألمان مع المهاجرين الأتراك. في كل حالةٍ من هذه الحالات، يعد الاسم الجمعي الذي يُعرِّف به المجتمع نفسه عنصرًا ضروريًّا في هذه العملية.6
إذا كانت الأسماء الجمعية ضروريةً لعملية تعريف الجماعات العرقية والأمم لذواتها، فإن عدم وجود اسم عَلم مسجَّل قد يشير إلى غياب روح العرقية المشتركة، فضلًا عن غياب حس الأمة. يبدو أن ذلك كان الوضع بين الفرنسيين والألمان حتى القرنين الثاني عشر والثالث عشر عندما أصبحت أسماءٌ تعريفية مثل «فرنسا» و«الفرنسيين» و«الألمان» أكثر انتشارًا بين السكان غرب وشرق نهر الراين.7
إنَّ الأسماء ضرورية أيضًا لممارسة السلطة؛ ولذلك، شعر الجنرالات والأباطرة الرومان، أمثال قيصر وتراجان، أنه من الضروري تمييز تجمعات الرؤساء وأتباعهم التي غالبًا ما تكون متغيرةً بأسماءٍ عرقية ساعدتهم في تحديد الحلفاء والأعداء، والسيطرة لاحقًا على «القبائل البربرية» التي أخضعوها. وما من أحدٍ يعلم إلى أي مدًى تقبلت تلك المجموعات المذكورة عملية التسمية الخارجية تلك. حدثت عملية مشابهة في ظل الحكم الاستعماري الحديث، عندما سعت القوى الأوروبية إلى تحديد السكان الذين استولت على أراضيهم، ووصَف التجارُ والمسئولون والمبشرون الجماعات السكانية المختلفة التي التقوها بتصنيفاتٍ عرقية أوروبية، وأحيانًا ما كانت تلك الجماعات السكانية تقبل التصنيفات والأسماء التي خلعها عليها المجتمع العرقي الحاكم في المستعمرة، كما حدث مع المجموعة العرقية باجاندا في أوغندا خلال حكم البريطانيين لها.8

(٢-٢) تنمية العناصر الرمزية

إن خلق الذكريات والرموز والأساطير والقيم والتقاليد وتنميتها يحدِّد التراث الثقافي المميِّز لكل جماعةٍ عرقية وكل أمة. فيما يتعلق ﺑ «العرقيات»، تُمثِّل «أسطورة» النسب ضرورة، إلا أن الأساطير والذكريات والرموز والتقاليد الأخرى من الممكن أن تتراكم عبر الزمن وتميِّز التراث الثقافي للعرقيات عن تراث جيرانها، لا سيَّما عند وجود نصوص مقدسة مُمَيزة متوارثة عبر الأجيال. ورغم أن امتلاك هذا التراث الثقافي وتنميته «شرط لازم» لأي أمة في نظر القوميين، فمثل هذا التراث الثقافي موجودٌ بالمثل لدى الجماعات العرقية والجماعات العرقية السياسية المختلفة، بدايةً من مصر القديمة وحتى روسيا في أوائل العصور الوسطى. تقدم روما القديمة وحلفها اللاتيني مثالًا جيدًا على ذلك. فعلى الرغم من الأصول العرقية المختلطة في روما القديمة تحت حكم الملوك، نَشأ نوعٌ من الانتماء العرقي الروماني اللاتيني المشترك عبر الحروب مع السامنيت والإغريق والإتروسكان. وربما كانت اللحظة الفاصلة هي تجربة منطقة ماجنا جراسيا في القرن الثالث قبل الميلاد، والأزمة الكبيرة المتمثلة في الحرب البونية الثانية، عندما سحق القرطاجيون بقيادة حنبعل جيوشًا رومانية متلاحقة في إيطاليا. كانت تلك الفترة هي التي شهدت ظهور أدب لاتيني أصلي في مسرحيات بلاوتوس وترنتيوس، ونثر نافيوس وإنيوس، بالإضافة إلى الأسطورة التي ميَّزت الفضيلة الرومانية المتشددة المجسَّدة في الصورة العابسة لكاتو الرقيب. ونتيجةً لذلك، كان للرومان أسطورة نسب مزدوجة — من رومولوس وريموس وأنثى الذئب، ومن إنياس الطروادي ولاتيوم — وعدد من الرموز والتقاليد والذكريات التي تدل على صحةِ جَدَليةِ ووكر كونر التي تقول إن الإيمان بوجود علاقة بين الأسلاف هي العنصر المميز للانتماء العرقي، حتى لو كانت سلاسل النسب خيالية، كما هي الحال في الغالب.9
حتى في يومنا الحاضر، قد يستمر إحساس أواصر الارتباط بين الأسلاف، حيث يظهر مثلًا أن موجات المهاجرين المغتربين ثقافيًّا «تهدِّد» الجماعة العرقية السائدة في الأمة وطريقة حياتها التقليدية. إذا كان الأمر كذلك، فلربما لا تكون أسطورة النسب أسطورةً مندثرة، حتى لو كانت أقل أهميةً في تعريف المجتمع، وتمثل عنصرًا واحدًا فحسب ضمن مجموعات عديدة من التقاليد والأساطير والذكريات التي تميز الأمة.10

(٢-٣) الأقلمة

يمكن ملاحظة عملية أقلمة المجتمعات عبر التاريخ، ولا تقتصر هذه العملية على «العرقيات» أو الأمم. ومع ذلك، أصبح الارتباط بأماكن محددة ورسم حدود مكانية لتمييز «الوطن» عن «خارجه» عملياتٍ مميزة للانتماء العرقي، وللأمة بصفةٍ خاصة. لقد ثبت أن هاتين العمليتين ضروريتان لتكوين «المنظور العرقي» وظهور الأمم عند حدوثهما في صورة «أقلمة» للذكريات؛ أي ربط الذكريات بمناطق معينة وبمجتمع بعينه. ويمكن للمرء أن يرى ذلك جليًّا في العمليات التي ترتبط عبرها ذكريات مجتمع بعينه وتاريخه بأماكنَ معينة، وهذه العمليات هي «تطبيع المجتمع» و«تأريخ الطبيعة».11
في أولى هاتين العمليتين، تصبح «العرقيات» أجزاءً لا تتجزأ من بيئاتها التاريخية، حيث تعتبر أنها «امتدادات طبيعية» من الأراضي التي تقطنها، وتصبح آثارها «ثوابت» في مشهدها العام، لتُذكِّر بالعصور القديمة شبه البدائية للمجتمع، كما هي الحال مع أهرامات المصريين القدماء أو المكسيك. في العملية الثانية، تصبح الطبيعة نفسها مؤرَّخة؛ فتصبح أرض المجتمع وموطنه جزءًا لا يتجزأ من تاريخه وثقافته، وتصبح المكان الذي عاش ومات فيه القديسون والأبطال والحكماء، وحلبة الأزمات ونقاط التحوُّل التاريخية، والنُّصب التذكاري للأعمال البطولية للأجداد. هذه هي العمليات التي يمكن ملاحظتها قبل ظهور الحداثة بوقتٍ طويل. نجد أمثلة ذلك في السجلات التي تحدثت عن جمال الريف المحيط بروما مدوَّنة في شعر هوراس وفيرجيل، وفي تصوُّر حديقة فرنسا التي تزايد انتشارها بين الكتَّاب الفرنسيين في أواخر العصور الوسطى، وفي تشكيل وجه هولندا من خلال صراعات سكانها مع بحر الشمال، وفي قصائد المدح السويسرية في أوائل العصر الحديث لمناظر جبال الألب في سويسرا.12
ابتداءً من القرن الثامن عشر، أصبحت أقلمة الذكريات وتنمية الانتماءات الجمعية للمشاهد الطبيعية القومية تجري بنحوٍ أكثر تعمُّدًا وعلى نطاق أوسع انتشارًا. وكان ذلك يعزو بدرجة كبيرة إلى طائفة تبجيل الطبيعة المنبثقة عن النزعة الرومانسية، ومن التعبير اللائق عن العواطف في وجودها، كما هي الحال مع الانبهار المتزايد بجمال الألب. لقد حوَّل الرومانسيون الأرضَ إلى مناظر طبيعية شاعرية، وجعلوها مكوِّنًا أساسيًّا لتصوُّر الأمة نفسه. في اعتقاد القوميين، لا وجود للأمة إن لم تكن جماعةً لها أرض؛ حيث تمثل الأرض والمناظر الطبيعية كلًّا من القاعدة «الموضوعية» والقاعدة «الذاتية» — الأساس — لمجتمع قومي حقيقي. وكان ذلك يعني أن الأمة لا بد أن تكون موحَّدةً ومجتمِعة داخل حدود «طبيعية» معروفة، حتى لو ظلت تلك الحدود «غير مستوية» من الناحية العملية؛ فمن الممكن عندها أن تأخذ الأمة مكانها باعتبارها عضوًّا شرعيًّا في «مجتمع دولي» من الأمم. ومن الممكن أيضًا أن يشعر أفرادها أنهم «نَشَئُوا من ترابها» — حتى لو كان معظم أفرادها فعليًّا (أو أسلافهم) قد هاجروا إلى هذا التراب من مكان بعيد. إنَّ حقيقة أن كثيرين جدًّا من القوميين استطاعوا، على الرغم من «ابتكاراتهم» التي لا ريب فيها، البناءَ على انتماءاتٍ وذكرياتٍ سابقة؛ قد سهَّلَت مهمتهم إلى هذا الحد البعيد.13

(٢-٤) نشأة ثقافة عامة مميزة

ما أقصده بمصطلح «ثقافة عامة» هو خلق نظام طقوس ورموز ومراسم عامة من ناحية، وتكوُّن قواعد وأدبيات عامة مختلفة من ناحيةٍ أخرى.

في حين أنه فيما يخص «العرقيات» يكفي أن يكون أفرادها متمايزين عن الأغيار من خلال تحدُّث لغة مشتركة والالتزام بتقاليد مختلفة، وعبادة آلهة خاصة بهم، فإن مثل هذه السمات الثقافية المشتركة — فيما يخص الأمم — يجب أن تكون ملكية عامة مشتركة، وتمثل معيارًا محددًا للتميُّز الثقافي. ولا بد أن تصبح جزءًا من ثقافة عامة قومية مميزة. علاوةً على ذلك، فإن أي اختلافات في اللهجة أو في العبادة لا بد أن تكون تابعة لتلك الثقافة العامة المؤدلجة، وإلا فلا بد من استئصالها.

بالطبع، لا تميِّز الشعائر أو القواعد العامة في حد ذاتها «العرقيات» أو الأمم عن الهُويات الثقافية الجمعية الأخرى؛ فقد كان أداء الشعائر العامة سمةً لكثيرٍ من المجتمعات منذ بلاد بابل القديمة ومصر القديمة وحتى فرنسا والبندقية ودوقية موسكو في العصور الوسطى. وبالمثل، يمكن العثور على تكوين لهجاتٍ وأدبيات عامة مميزة في أنواعٍ كثيرة من المجتمعات في الحقب القديمة وحقب العصور الوسطى، من أثينا القديمة وصولًا إلى بروفنس وفلورنسا في العصور الوسطى. أما ما يعنيه ذلك فيما يخص تكوين الأمم، فهو أن تلك «المواد» الثقافية كانت حاضرة لقرونٍ كثيرة في مجتمعاتٍ مختلفة، لكنها في ظل ظروف معينة وحالات معينة فقط «جُمِّعَت» وتضافرت مع عمليات أخرى لخلق هذا النوع «القومي» تمامًا من المجتمعات البشرية.

في هذا الصدد، تمثل الشعائر العامة، والمراسم، والرموز أهمية كبرى لظهور الأمم مقارنةً بأهمية اللهجات والأدبيات العامية؛ فالأدبيات المكتوبة بالعامية، ظهرت بوجهٍ عام في أوائل العصر الحديث، على الرغم من مزاعم أدريان هستنجز بظهور كلٍّ من اللهجات والأدبيات العامية في أوائل العصور الوسطى في إنجلترا وجيرانها. في العموم، ظل الأدب مأثرة نُخبة من الحاشية أو من الكهنوت، على الأقل حتى «رسَّخت» الدولة في أوائل العصر الحديث اللغة وقراءتها، ونشرت رأسمالية الطباعة منتجاتها لدوائر أوسع نطاقًا. وعلى النقيض، انتشرت الشعائر العامة، والمراسم، والرموز على نطاقٍ واسع منذ وقتٍ أسبق كثيرًا، بل إنها تُرى جوهرية لغرس حس الانتماء إلى مجتمع سياسي وثقافي أوسع نطاقًا لدى قطاعات كبيرة من السكان، سواء أكان جماعةً عرقية أو كنيسة أو دولة مدينة أو مملكة، ولتأكيد نشاط المجتمع وشرعيته. ومن هنا انبثقت الأهمية التي كانت تحظى بها المراسم الدينية التي كانت تقام في المعابد مثل مهرجانات العام الجديد في بلاد الرافدين، وموكب عموم أثينا في أثينا، وشعائر اختيار عذارى فيستال في روما، والمراسم المختلفة التي ربطت المَلَكيَّة بالكنيسة في أوروبا العصور الوسطى، مثل مراسم التتويج، وطقوس دخول المدن، والجنازات. مرةً أخرى، كانت هذه المظاهر نماذج لطقوس «قومية» لاحقة، مثل: رفع العلم، وغناء الأناشيد، والاحتفال بالعطلات القومية.14

كما سنرى، فإن الثقافات العامة المميزة تلعب دورًا محوريًّا في نشأة أنواعٍ تاريخية مختلفة من الأمم؛ إذ تساعد على تكوين عناصر أساسية في تشكيلها على فتراتٍ متعاقبة. لقد تمكَّنت التراثات الثقافية الأساسية خلال العصور القديمة، من خلال طقوس ومراسم ورموز وقواعد الثقافات العامة إلى حدٍّ بعيد، من تكوين التقاليد المميزة للمجتمع القومي والهُوية القومية اللذين سأفرد لهما في الفصل الرابع.

(٢-٥) توحيد القوانين والأعراف

إنَّ الأنظمة القانونية العامة والأعراف المشتركة في حد ذاتها لا تُميِّز «العرقيات» والأمم عن الأنواع الأخرى من الهُويات الجمعية الثقافية أو السياسية. قبل التاريخ الحديث بوقتٍ طويل، كانت التشريعات القانونية تنتمي بصفةٍ عامة إلى الدول المدن والإمبراطوريات، بدايةً من التشريعات القانونية الخاصة بكلٍّ من أوروكاجينا وحمورابي في سومر وبابل، حتى التشريعات القانونية الرومانية والبيزنطية العظيمة. على الناحية الأخرى، كانت تلك الأنظمة القانونية والعادات المشتركة وليدةَ مجتمعاتٍ دينية كبرى والنصوص المقدسة لتلك المجتمعات كالشريعة الإسلامية والقانون الكنسي.

رغم ذلك، كانت عمليات نشر الأعراف وتوحيد القوانين والتشريع عناصر محورية في تكوين كلٍّ من «العرقيات» والأمم. فيما يتعلق بمعظم «العرقيات»، فإنه بمجرد اكتساب أفرادها لغةً عاميةً مكتوبة، وامتلاك مجموعاتٍ عديدة من الأعراف والطقوس والتقاليد والقوانين، راحت تلك الأعراف والطقوس والتقاليد والقوانين تتحكم بدرجاتٍ متزايدة في علاقاتهم فيما بينهم وعلاقاتهم بالأغيار. وأصبحت الروابط بين التشريع القانوني الموحَّد وبين الأمة أكثر قُربًا. بل من الممكن تمييز الأمم، جزئيًّا، على أنها مجتمعات قائمة على القانون والعُرف، يتمتع أفرادها بحسِّ الصالح العام، ويؤدون مجموعة من الحقوق والواجبات المتبادلة. وهذا يعني أنه حتى لو كانت عضوية المجتمع القومي محدودة؛ إذ عادةً ما كانت تقتصر على الذكور البالغين أو رؤساء العائلات في الحقب التي سبقت العصر الحديث، فإن علاقات هؤلاء بعضهم ببعضٍ وبالأغيار كانت محكومة على نحوٍ متزايد بالأسس القانونية المشتركة والقواعد العمومية للقوانين العامة، والأعراف المشتركة، والوصفات الرمزية التي تُميِّزهم عن غيرهم. في الحقيقة، قد يحدد القانون والعرف والطقس الحدودَ الرمزية للأمم بوضوحٍ أكبر مقارنةً بالعادات والتقاليد المرسلة إلى حدٍّ بعيد التي تُميِّز «العرقيات». لكن لا يمكن وضع خط فاصل صارم بينهما. وهذا موضح جليًّا من خلال المحورية التي منحها اليهود للقانون الموسوي في تعريف اليهودية في فترة الهيكل الثاني.15
برؤية أكثر عمومية، يمكن القول إن العملية التي بموجبها باتت الجماعات العرقية محكومةً بدرجاتٍ متزايدة بتشريعاتٍ قانونية موحَّدة ومؤسسات قانونية موحَّدة تُعَد محورية لتكوين الأمم؛ لأنها توفِّر «سقفًا» للوحدة وتخلق إحساسًا بالتضامن الاجتماعي من خلال الأعراف المشتركة وإدراك الحقوق والواجبات المشتركة لأفراد المجتمع. حقيقيٌّ أن هذه العملية، في الأغلب، كانت تحدث تحت رعاية الدولة، بصرف النظر عن بساطتها، التي عادةً ما كانت تتمثل في مملكةٍ أو إمارةٍ عرقية. رغم ذلك، فإننا نجد أيضًا تشريعات قانونية ومؤسسات قانونية معقدة مُطبقة، إن لم تكن مسنونة، في غياب الدولة، على سبيل المثال، من خلال مؤسسات دينية عامة نشأت في مجتمع مشتت، كما كان شائعًا بين كلٍّ من الأرمن واليهود طوال حقبة العصور الوسطى. توضح هذه الحالات الحاجة إلى الفصل بين عملية سن القوانين والأعراف المشتركة وبين البُعد السياسي البحت، وبخاصةٍ الدولة الحديثة، التي اعتاد الحداثيون غالبًا ربطها به.16

(٣) الموارد الثقافية للهُوية القومية

حتى الآن تناولت بعضًا من العمليات الاجتماعية والرمزية التي ينطوي عليها «تكوين» الأمم. لكن كيف تحافظ المجتمعات القومية على نفسها، ولماذا تكون مُعمِّرة في الغالب؟ يتضمَّن هذا الأمر التفكر في طبيعة وقوة الإحساس بالهُوية القومية لدى جماعة سكانية معينة ومصادر «استمرار» الأمم من خلال فحص بعض الموارد الثقافية الأساسية للأمة.

بالنسبة إلى أعضاء أي مجتمع، تكون هذه الموارد الثقافية ملموسةً ومتاحة إلى حدٍّ أبعد كثيرًا من العمليات العامة التي ينطوي عليها تكوين الأمم التي أوضحتها؛ فهذه الموارد تكون أكثر تحديدًا، ومن ثَمَّ أكثر قابليةً للاستخدام، وتُستخدَم، بصفةٍ خاصة، لبلوغ غاياتٍ سياسية. وهذه المصادر من الممكن أيضًا أن يختارها الأفراد والجماعات المُصرون على التدخُّل الفعَّال في حياة الأمة، على سبيل المثال، يستغلها القادة الذين يسعَون إلى إحياء ثروات الأمة، أو الكهنة والمفكرون الذين يصنعون رموزًا جديدة وتراثًا قصصيًّا جديدًا للأمة.17
لكن، الاعتبار الأهم على الأرجح هو أن بعضًا من هذه الموارد الثقافية للهُوية القومية على الأقل يمكن أن يصبح «أُسُسًا مقدسة» للأمة؛ فيتخذ مكانة مميزة، ويُبجَّل، ويُعامل كما لو كان قانونًا مقدسًا، من خلال عملية إضفاء القداسة على العناصر الاجتماعية والرمزية الأساسية؛ عملية كثيرًا ما تُشتَق بدورها من عمليات منح القداسة التي ميَّزت التقاليد الدينية القديمة، إن لم تكن مصمَّمة على غرارها عمدًا؛ إذ إنه في حقب ما قبل العصر الحديث، وما قبل القومية، نادرًا ما كان الانتماء العرقي ينفصل عن الدين. نتيجةً لذلك، فإن الموارد الثقافية التي من الممكن أن يكون القادة والجماعات العرقية أو القومية خلال حقب ما قبل العصر الحديث قد استخدموها، وسعَوا وراءها بحماس، وقدَّسوها تأتي مصحوبةً بهالةٍ دينية واضحة تُشبع التصوُّرات العلمانية الأخرى للأمة بصفةٍ «مقدسة» واضحة. حتى في عصر «القومية» الحديث، نادرًا ما تغيب تلك الصفة المقدسة، وهنا فقط تحل الأصالة محل العقيدة الدينية، وتمثل عقيدة الأصالة الأساس الجديد ﻟ «دين سياسي يدين به الشعب»، بشعاراته وأناشيده، وأعياده ومراسمه، كما كان مشهودًا إبان الثورة الفرنسية.18

لهذا السبب، قد تُعتبر الموارد الثقافية التي تحافظ على الإحساس بالهُوية القومية لدى أي جماعةٍ سكانية أيضًا «أُسسًا مقدسة» للأمة، بمعنى أنها «تدعم» الأبعاد الأربعة الأساسية للأمة، وهي: الجماعة، والأرض، والتاريخ، والمصير. دعوني أتناول هذه الأمور تباعًا بإيجاز.

(٣-١) أساطير الأصول وأسطورة الاختيار الإلهي للشعوب

تُمثل أساطير الأصول وأساطير الاختيار العرقي موردَين من الموارد الثقافية الأساسية يمكن وصفهما بأنهما يدعمان البُعد المجتمعي في حس الهُوية القومية لدى الجماعة السكانية، وكلاهما يُبرز أهمية هذا البُعد المجتمعي.

  • (١)
    «أساطير الأصول»: تَناولتُ بالفعل أهمية هذه الأساطير. يغطي المصطلح نفسه نطاقًا عريضًا، يتراوح بين الوصف التفصيلي للكونيات وأساطير الخلق وصولًا إلى أساطير التأسيس وأساطير السلف المشترك. على سبيل المثال، في مصر القديمة وفي اليابان قديمًا كانت أساطير خلق الآلهة مرتبطة بحكاياتٍ عن أصول شعب معين، وأُسَر معينة، ومملكة معينة؛ حكايات تضع الشعب وحُكامه في مركز الكون، وتكون غالبًا خاضعة لشرح دوري من قِبل الكهنة والمفكرين. من ناحيةٍ أخرى، يمكن أن تكون أسطورة الخلق منفصلة من حيث التأريخ الزمني عن أصل الشعب، كما هي الحال في قصيدة «أصول الآلهة» للشاعر هسيود، وكما يشهد أول أحد عشر إصحاحًا من سِفر التكوين.19
    على الجانب الآخر، ترتبط أساطير التأسيس عادةً بالمدن والدول المدن؛ فعلى سبيل المثال، نذكر أسطورة التنافس بين أثينا وبوسيدون على رعاية مدينة أثينا لمؤسسها إيريخثيوس، وموضوع المنحوتات على إحدى قوصرات البارثينون. أما الأسطورة الأكثر شيوعًا، فتمثلها أسطورة أنثى الذئب التي أرضعت رومولوس وريموس مؤسسَي روما؛ أو أسطورة نقل جثمان القديس مرقس — الذي يُرمَز له بأسدٍ يُطلَق عليه «أسد القديس مرقس» — إلى مدينة البندقية. إلا أن أساطير التأسيس يمكن أن توجد أيضًا في الممالك العرقية، ومن أشكالها الأكثر شيوعًا تَحوُّل المملكة إلى دين عالمي، كما حدث في عهد الملك تريداته الثالث ملك الأرمن، وكلوفيس في بلاد الغال الفرنكية، وفلاديمير الأول في روس الكييفية. ومن الأشكال الأخرى إبرام معاهدة مع ممثلي سكان مجاورين وأصحاب ثقافة مشتركة، مثل المعاهدة أو قَسَم الوحدة الذي أنشأ «الاتحاد السويسري القديم» عام ١٢٩١، وإحياء المجتمع الاسكتلندي في إعلان أربروث عام ١٣٢٠، وبالطبع قَسَم ملعب التنس عام ١٧٨٩.20
    لكن، لعل النوع المألوف إلى أقصى درجة هو أسطورة السلف المشترك، بما تتضمَّنه من سلاسل نسبٍ زاخرة وحس العرقية المشتركة. لطالما كانت أساطير السلف المشترك النوعَ الأكثر شيوعًا بين أساطير أصول الشعوب في حقب ما قبل العصر الحديث، واستجداؤها بصلات القرابة يساعد في تفسير استمرارية كثيرٍ من «العرقيات». إلا أنه كما أوضح ووكر كونر، التاريخ «المحسوس» لا التاريخ الفعلي هو الضروري للشعور بالهُوية الجمعية؛ ومن ثَمَّ فما يهم هو الإيمان بالأصل المشترك مهما كان هذا الإيمان مناقضًا للحقيقة. تلك الأساطير قدَّمت أيضًا النموذج الأكثر إثمارًا بالنسبة إلى القوميين اللاحقين، بقدر ما تمثل أساسًا لتصوير القوميين الشائع للأمة بأنها أسرة ممتدة كثيرًا، «عائلة كبيرة مكوَّنة من عائلات»؛ وهو وصفٌ ذاتي يساعد بلا شكٍّ في توحيد الشعوب المقصودة وتحريكها من أجل تحقيق أهداف جماعية. ومن هنا جاء الإعجاب بالتصوُّر العرقي للأمة، وارتباط الانتماء العرقي لاحقًا ﺑ «النقاء» و«الأصالة».21
  • (٢)
    «أساطير الاختيار الإلهي للشعوب»: من بين كثيرٍ من العناصر الرمزية التي تُشكِّل جزءًا من تراث المجتمع، لا توجد أسطورة أكثر قوةً ومرونة من أسطورة الاختيار العرقي؛ فالاعتقاد في «اختيار» الإله شعبًا أو جماعةً بعينها لمهمة معينة أو هدف محدد له تاريخٌ طويل؛ إذ يمكن أن يعود هذا التاريخ إلى بلاد الرافدين القديمة ومصر الفرعونية، إلا أن «المثال التقليدي» لذلك هو التوراة، التي جاء بها موسى من جبل سيناء إلى بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر. في التوراة نقرأ عهدًا مشروطًا مفاده أنه إذا أطاع بنو إسرائيل وصايا الرب وطبقوا شريعته، فسوف يباركهم الرب، وسيمتلكون أرض كنعان الموعودة، هم وذريتهم. وإذا لم يفعلوا، فسوف يُعاقَبون ويُنفَون. إن هدفهم هو أن يصبحوا أمة مقدسة، ومملكة من الكهنة؛ ومن ثَمَّ يصبحون بَركةً لكل الأمم. القداسة هنا تعني الانفصال عن عالم الأمم (الوثنية) المدنَّس، كي يستطيع بنو إسرائيل تطبيق قواعد أخلاقية وشعائرية دون تشتيت الرغبة الأنانية وإغراءاتها.22
    ظهرت أساطير الانتخاب الإلهي القائم على العهود بالتحديد في مجتمعاتٍ متعددة، بدايةً من الأرمن الجريجوريين في القرنين الرابع والخامس، والإثيوبيين «السليمانيين» في القرن الثالث عشر وحتى القرن الخامس عشر، وصولًا إلى الاسكتلنديين والهولنديين الكالفينيين في القرن السادس عشر، والاسكتلنديين الأولستر والمستوطنين البيوريتانيين في نيو إنجلاند في القرن السابع عشر، وحتى الأفريكان البروتستانت بعد الرحلة الكبرى، بينما اتخذت مظهرًا أكثر علمانيةً لدى الصهاينة في فلسطين خلال أوائل القرن العشرين. في هذه الحالات، كان السعيُ وراء الفضيلة الأخلاقية وترسيخ القداسة والروحانية، غالبًا من خلال الانفصال وتطهير مجتمعاتهم، مدعومًا بإيمانٍ قوي بالعهد الجمعي وبالعناية الإلهية.23
    يوجد نوع آخر من أساطير الاختيار الإلهي، أكثر شيوعًا وأقل تطلبًا، يرى المجتمع مكلفًا بمهمة مقدسة أو واجب مقدس، لكن دون وجود التزام مرتبط به سوى استمرار التمسُّك بالدين أو التقليد المحدد. توجد أنواع مختلفة من المهام مثل: الدفاع عن الأرض المقدسة، ورَدِّ الكفار إلى حظيرة الدين، وحماية الدين الحقيقي، أي العقيدة، ونشر «الحقيقة» والأخلاق، وأن يكونوا «نورًا للأمم». هذا النوع من أساطير الاختيار التبشيرية كان بارزًا بصفةٍ خاصة في ممالك «حصن المسيحية» و«الجماعات العرقية»، على سبيل المثال، بين ملوك ونبلاء المجر وبولندا وكتالونيا، على حدود العالم المسيحي الكاثوليكي. إلا أننا نجده أيضًا في ممالك عرقية كانت أقل عرضةً للمخاطر — في إنجلترا، وفي فرنسا، وفي دوقية موسكو الروسية بعد تحرُّرها من سيطرة التتار — ونجده في شكلٍ أكثر علمانيةً في الدول القومية الحديثة نظيرة تلك الدول، إلى جانب سعيها إلى إدراك النجاح الاقتصادي، والقوة العسكرية، والشهرة الثقافية نسبيًّا. ولا يقتصر النوع التبشيري من أسطورة الانتخاب العرقي على التراثين اليهودي والمسيحي، فيمكن العثور على عناصر حسِّ الاختيار الإلهي والإيمان بالتكليف بمهمة جماعية في الدولة الصفوية في القرن السادس عشر، وفي مصر الحديثة مع حركتها الفرعونية، وفي اليابان من حركة «كوكوجاكو» في القرن الثامن عشر وحتى الحركة الرومانسية في القرن العشرين.24

(٣-٢) الأوطان والمناظر الطبيعية الشاعرية

كما رأينا تتمثل إحدى العمليات الأساسية التي يقوم عليها تكوُّن الأمم في عملية «الأقلمة»، ويُقصد بها إقامة غالبية الجماعة في الوطن، وتكوين ذكريات جمعية ومشاعر الانتماء لأراضٍ تاريخية تقع داخل حدودٍ معترف بها. في هذه العملية، ينبثق «التوزُّع العرقي» من خلال تضامن «الجماعة العرقية» ومحيطها الطبيعي. وكما شرحت، فإن هذا يتحقق من خلال تطبيع التاريخ العرقي، وفيه يُرَى التاريخ كجزءٍ من الطبيعة، ومن خلال تأريخ البيئة الطبيعية، بجعْلها تبدو متأصلة في تاريخ الجماعة العرقية وتطوُّرها. نتيجةً لهذه العملية التبادلية، تبدو الجماعات العرقية، كما لو كانت «مغروسة» في «أوطانها» التاريخية، وبحسب وصف ستيفين جروسبي: «شعب له أرضه وأرض لها شعبها.»25
إلا أن هذا ليس إلا بدايةً لعملية «أقلمة الذكريات» الطويلة الأمد، تلك العملية الضرورية لتكوين الأمم واستمراريتها، وهي بدورها ترتبط بفكرة «الأرض المقدسة» أو تقديس الوطن. من أين يأتي تقديس الأرض، ولماذا يشعر الشعب في الغالب أن مشاهدها الطبيعية ليست ملكًا «لهم» فحسب، بل «مقدسة» كذلك؟ ربما الأمر الأكثر شيوعًا هو أن الأرض التي «رأت» خطوات النبي والحكيم والقديس، و«سمعت» خطبهم، تصبح مقدسة؛ ومن ثَمَّ تصبح مميَّزة عن الأراضي المحيطة وعن الحياة اليومية. عملية التقديس هذه يمكن أن تمتد إلى نماذج وأفعال أبطال وبطلات وعباقرة عرقيين؛ فتثير لدى نسلهم مشاعر التبجيل والرغبة في أن يَحْذوا حَذْوَهم. وليس الأبطال فحسب، بل من الممكن أن يعتبر الشعب كله مقدسًا، ومن ثَمَّ مميزًا، كما كانت الحال في إسرائيل القديمة؛ فالأرض لم تصبح فقط أرض الميعاد، بل أصبحت نفسها محل تعبُّد وتبجيل نظرًا لقدسية شعبها. وداخل الوطن أيضًا يمكن أن تحمل مواقع معينة قدرًا معينًا من القداسة، كما هي الحال في فكرة الوقوف على «أرض مقدسة» أو أرض معجزات مأثورة. هذه المواقع المقدسة من الممكن أن تكون أنهارًا وجبالًا، ومدنًا ومعابدَ وساحاتِ معارك، وحفرياتٍ ومتاحف، لكن أبرز حالاتها هي مقابر «أسلافنا»، ومقابر الأبطال الوطنيين الذين سقطوا قتلى؛ لأن قبورهم تحثنا على التفكر في قداسة «ماضينا» و«وطننا». بمجرد تقديس الوطن بهذه الطريقة، فإنه يصبح في حد ذاته موردًا ثقافيًّا قويًّا لدعم الإحساس بالهُوية القومية، وتصبح مشاعر الولاء المشتركة التي يُولِّدها حس الهُوية القومية معزَّزةً في الغالب بالحاجة إلى الدفاع عن المساحة المقدسة، من خلال التضحيات الكثيرة المقدَّمة في سبيل صالح الجماعة والوطن.26

(٣-٣) التاريخ العرقي والعصر الذهبي

يوجد النوع الثالث من الموارد الثقافية في «التاريخ العرقي» للمجتمع. في هذا الصدد، تروي الأجيال المتعاقبة الذكريات المشتركة من الماضي العرقي لأمتها وتُوَرِّثها. إنه حكاياتٌ يرويها الأفراد بعضهم لبعض؛ ولذلك، فالتاريخ العرقي أبعد ما يكون عن الاتساق والثبات؛ إذ عادةً ما يوجد أكثر من رواية للتاريخ العرقي في الجيل الواحد والجماعة الواحدة، وكلٌّ من هذه الروايات السردية عرضةٌ للتنقيح. إلا أنه على النقيض من الدراسات المهنية التي يُجريها المؤرخون، يقدم التاريخ العرقي قصة تطوُّرية تبرز بلغةٍ سهلةِ الحفظ «الأحداث الرئيسية» و«نقاط التحوُّل» في الماضي العرقي للمجتمع.

تُعَد «العصور الذهبية» الأكثر حضورًا في الذاكرة من بين الروايات المصوَّرة للتاريخ العرقي؛ إذ تتحدث عن عصورٍ كانت الجماعة خلالها عظيمة ومجيدة من الناحية السياسية والعسكرية، أو كانت ثرية ومزدهرة، أو عندما كانت في أَوْج الإبداع الفكري والفني، أو الديني والروحاني. بعيدًا عن النوع الأدبي والأسطوري الخالص من العصور الذهبية، ذلك الذي نجده في سِفر التكوين أو في شعر هسيود، نرى نموذج النوع التاريخي من العصور الذهبية متجسدًا في عصر أثينا الكلاسيكية، الذي كان يُعتبر بالفعل عصرًا ذهبيًّا خلال العصور القديمة. إلا أنه لم يكن أول عصرٍ ذهبي من نوعه؛ ففي أواخر عهد الإمبراطورية الآشورية بالفعل، سعى بلاط الملك آشور بانيبال إلى محاكاة ثقافة بابل القديمة. ربما وقعت الحالة الأكثر شهرةً لمثل هذا الإجراء خلال العصور القديمة في عصر الإمبراطور أغسطس، حيث نظر الكُتَّاب ورجال الدولة إلى الفضائل والعقائد المُسلَّم بها المزعومة في الجمهورية الرومانية القديمة في عصر كاتو وسكيبيو الأفريقي وقارنوها بترف الإمبراطورية الرومانية وفسادها. وفي عالم العصور الوسطى، ثَمَّةَ حالة السلالة الملكية «السليمانية» الإثيوبية التي سعت إلى استعادة الثقافة الدينية و«السامية» القديمة لمملكة أكسوم التي كانت قائمةً قبلها بألف عام؛ ومن ثَمَّ يُحدِثون إصلاحًا جذريًّا في المجتمع الإثيوبي والثقافة الإثيوبية.27
كانت العودة إلى عصر ذهبي جماعي أحد الأهداف الرئيسية لحركات الإحياء القومية. وكان ذلك يعني من الناحية العملية تجديد المجتمع في ضوء وروح العصر الذهبي الذي كان يُعتبر مُبجَّلًا، إن لم يكن مقدسًا. كان هذا هو المنظور الذي رأى منه القوميون اليونانيون علاقة اليونان الحديثة بتراثها الكلاسيكي البالغ القيمة، الذي يرمز له البارثينون، كما كان فهم أتباع تيار الفرعونية المصرية في أوائل القرن العشرين الذين حَثُّوا المصريين على أن يتخلصوا من خمولٍ دام لآلاف السنين، وأن يحاكوا مجد أسلافهم العظماء وإنجازاتهم البطولية، الممثلة على نحوٍ واضح في مجمع معابد الكرنك الهائلة. يتجلى الطابع المقدَّس لذكريات العصر الذهبي ووظائفها بوضوحٍ في هذا المثال وفي أمثلةٍ أخرى. في عصرٍ اتسم بالتغير السياسي والاجتماعي لَبَّتْ تلك الذكريات الاحتياجات المشتركة إلى الرسوخ، والعراقة، والاستمرارية، بالإضافة إلى الأصالة والكرامة.28

(٣-٤) التضحية والمصير

البُعد الرابع والأخير من أبعاد الأمة هو «المصير»، ولطالما كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بمُثُل الكفاح والتضحية، حتى قبل عصر القومية. يمكن أن نجد مُثُل الكفاح والتضحية في الكتاب المقدس وفي أسفار المكابيين، بل نجدها واضحةً في اليونان القديمة وفي روما القديمة، حيث كانت الشهرة والمجد الشخصيان والجمعيان، مثل شهرة ومجد الأسبرطيين في ترموبيل وبلاتيا، مدونة للأجيال القادمة في صورة شعرية. يوجد أيضًا التراث القوي المتمثل في الاستشهاد الجماعي من أجل الدين والجماعة، الذي ظهر في أرمينيا في القرنين الرابع والخامس أثناء صراعاتها الكثيرة ضد إيران التوسُّعية ودياناتها الزرادشتية التي خضعت للإصلاح. في العصور الوسطى، يتجلى مثال الاستشهاد من أجل المجتمع بمزيدٍ من الوضوح، فنجد موت المحاربين البطولي من أجل الدين الصحيح في الحروب الصليبية، وبالعكس نجده بين «الغزاة» العثمانيين، ونجده مُصوَّرًا بشكلٍ شديد الاختلاف في كتب رثاء الجماعات اليهودية التي تعرضت لمذابح في راينلاند وفي أماكن أخرى في هذه الفترة. ثم يجب أن نتحوَّل إلى العصر الحديث، إبان صراع المقاطعات الهولندية مع إسبانيا، حيث نجد مزيدًا من الأدلة على مثال الاستشهاد، وخصوصًا في إحياء ذكرى وفاة ويليام الصامت. إلا أن مثال تحقيق المصير القومي بالتضحية الفردية أو الجماعية لم يترسخ ويتسع انتشاره إلا مع عصر القومية، فأصبح موردًا ثقافيًّا ضروريًّا للهُوية القومية.29
اليوم تلعب عقيدة التضحية هذه دورًا محوريًّا في انتشار الثقافة العامة المميزة لأفراد المجتمع. وكمثالٍ للاحتفاء العمومي جدًّا بالأمة وعبادتها، أصبحت عقيدة التضحية مرتبطةً عن كثب بمثال التجديد والإحياء القومي. بحلول منتصف القرن التاسع عشر، لم يكن الأبطال القتلى وحدهم هم من تُحيَى ذكراهم، بل صارت مثل هذه الاحتفالات تشمل جيوشًا كاملة وكلَّ الذين سقطوا من أجل «الوطن». في وقتٍ مبكر من تلك الفترة، أصبح البانثيون مستودع رفات كل رجال فرنسا العظماء، في حين أن قوس النصر الذي صمَّمه المهندس شالجرين، وبدأ بناؤه عام ١٨٠٦، وكان إهداءً في البداية لنابليون وجيشه الكبير، فإنه بدأ يضم بدايةً من ثلاثينيات القرن التاسع عشر رفات كل الذين ماتوا من أجل الوطن، بحيث أصبح من المنطقي والملائم أن يضم عام ١٩١٩ مقبرة الجندي المجهول. وفي أوائل القرن العشرين، بدأت الأنصاب التذكارية للجنود القتلى في الانتشار، ووصلت ذروتها مع المقابر الهائلة، والأضرحة، والقبور الجوفاء التي بُنيت إبَّان الحرب العالمية الأولى. في هذا الصدد، اندمجت فكرتان متلازمتان، هما: البعث الديني والتجديد القومي في عقيدة «الميت المجيد» الذي قدَّم هذه التضحية الكبرى من أجل الأمة، والذي تتجدَّد ذكراه للأبد، مثل الأمة نفسها. وأصبحت بعض هذه الأنصاب التذكارية مواقعَ تُقام فيها احتفالات مصمَّمة وتُؤَدَّى فيها طقوس منظمة من أجل الجنود الوطنيين وكل الذين سقطوا قتلى، مُبدلين بذلك وجه هَوْل المذابح الجماعية من خلال مثال التضحية القومية بالذات الرافعة للمعنويات. ومن خلال مثل هذه الطقوس والمراسم، وأعلامها وأناشيدها، ظهرت الثقافات العامة المميزة للأمم الجماهيرية الحديثة فيما أطلق عليه جورج موسى «الدين المدني» للعوام، وهو دينٌ عباداته وطقوسه مصمَّمة على غرار أشكال سابقة من العبادة المسيحية.30
كلٌّ من هذه الموارد الثقافية، بصرف النظر عن طريقة اختيارها واستخدامها، يصبح مع الوقت مقدسًا ولا يمكن استبداله. إنها، مجازًا، دعائم الأمة، التي تدعم الإحساس بالهُوية القومية أثناء الفترات الحرجة. كلما زادت هذه الموارد وازداد تطوُّرها وتوسُّعها، أصبح الإحساس بالهُوية القومية أكثر قوةً وأكثر استمرارية، وزاد احتمال التغلب على آثار التفكك الناتجة عن التَّشظِّي المحلي والكوزموبوليتانية المعولمة. ويتمثل التأثير الشامل لهذه الموارد في تدعيم الأمة كاجتماعٍ مقدسٍ للناس، والدفاع عن «الدين السياسي» للقومية، وإثبات صحته من خلال إمداده بالموارد الثقافية والعناصر المقدسة المتمثلة في الأساطير والذكريات والتقاليد والرموز العرقية، التي تُؤَدَّى في الطقوس والمراسم الشعبية، والمنشورة في المدارس ووسائل الإعلام. بهذه الطريقة، فإن القومية بوصفها شكلًا سياسيًّا للدين المدني تمثل نموذجًا للأمة التي تُعتبر جماعة مقدسة من المواطنين؛ ذلك أن في هذه الصورة يكون الناس متوافقين «فعلًا» رغم خلافاتهم وصراعاتهم الكثيرة الكامنة، ويعكس نموذج الأمة تلك الوحدة الداخلية في اللحظة المقدسة المتمثلة في الاجتماع الشعبي.31

خاتمة

في هذا الفصل، عدَدتُ بإيجازٍ بعض العمليات الأساسية لتكوين الأمة، وهي: تعريف الذات، وتنمية الموارد الرمزية، والأقلمة، ونشر ثقافة عامة متميزة، وتوحيد القوانين العامة والأعراف والالتزام بها. إلا أن جُلَّ ما تفعله هذه العمليات هو توفير الظروف الضرورية ﻟ «ظهور» الأمم؛ فهي في حد ذاتها لا تفسر طول بقاء الأمم، ولا الطرق التي من خلالها يمكن لأفراد تلك الأمم النجاة من مخاطر الوجود الاجتماعي. إن ضمان صمود الأمم و«استمراريتها» يتطلب، بالإضافة إلى تلك العمليات، إنماء موارد ثقافية معينة للهُوية القومية، وهذه الموارد هي: أساطير الأصل والانتخاب العرقي، والانتماء إلى أوطان مقدسة، وذكريات العصور الذهبية، ومُثُل التضحية والمصير. هذه الموارد الثقافية، كما سنرى، مشتقة في الأساس من موارد ثقافية لجماعات عرقية سالفة وتقاليد دينية قديمة؛ ومن ثَمَّ، يصبح من الضروري تفسير استمرارية الأمم وشكلها من حيث التقاليد الثقافية الطويلة الأمد النابعة في الأساس من أنواع معينة من تراث العالم القديم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤