الفصل الرابع

الأمم الهرمية

إذا كان الشرق الأدنى القديم لم يُقدِّم للأمم إلا القليل، فإنه كان ثريًّا في أنواع التراث الثقافي التي خلَّفها للمجتمعات والحقب التالية. وانعدام العمليات والمصادر المُفضية إلى تكوين الأمم لا يسمح لنا برفض التجربة الاجتماعية والثقافية للشرق الأدنى والعالم اليوناني الروماني القديم باعتبار أنها غير مثيرة للاهتمام وغير مهمة. وبعيدًا عن ذلك، فقد كانت التجربة مهمة؛ لأنها قدمت مثالًا ونموذجًا للمجتمع العرقي الذي تكوَّن في تلك الحقبة، ولأنها تركت أنواعًا من التراث الثقافي أدى إلى تكوُّن الأمم. كما رأينا، كانت العرقية منتشرة وكان دورها مزدوجًا. من ناحية، كانت متداخلة مع أنواعٍ أخرى من الهُويات الجمعية والمجتمعات، ومن ناحيةٍ أخرى، أصبحت في حد ذاتها نوعًا مهمًّا، بل أساسيًّا، من الهُويات والمجتمعات، تتكون في أغلب الأحيان الاتحادات «القَبَلية». لقد ناقشتُ الأسس العرقية للأمم سابقًا في الكتاب؛ لذلك أريد أن أركز هنا على الجانب الثاني لتجربة العصور القديمة، والمتمثل في «أشكال التراث» في الثقافة الجمعية التي كان لها أثرٌ كبير للغاية في تكوين الأمم في الحقب التالية وتشكيلها.

(١) الأنواع الثلاثة للثقافة العامة

يمكننا البدء بالتمييز بين الأنواع الثلاثة الرئيسية للثقافة العامة الجمعية على النحو التالي: النوع الهرمي، والنوع العهدي، والنوع الجمهوري المدني.

إنَّ «الهرمية» — في معناها العام — باعتبارها نوعًا من التسلسل المقدس، يمكن أن تشير إلى معظم أنواع المجتمعات والدول، لكن بمعناها الأكثر تحديدًا فإنها تشير إلى تسلسل مقدس إلى حدٍّ يصل إلى الاعتقاد في أنها تعكس وتُجَسِّد التسلسل السماوي على الأرض. يوجد نوعان فرعيان لهذا النوع من التسلسل المقدس؛ في النوع الأول يكون الحاكم نفسه إلهًا، ويعاونه مجموعة من الكهنة والنبلاء الذين يشاركونه بعضًا من قداسته. تمثل مصر القديمة النموذج الأوَّلي في هذا الصدد؛ إذ كان الفرعون يُعتبر إلهًا وتجسيدًا للإلهة «ماعت» التي تمثل الحق والصدق، وعلى مدار فتراتٍ طويلة أثَّر الكهنة، لا سيَّما كهنة آمون رع، تأثيرًا هائلًا في المجتمع المصري. في النوع الفرعي الثاني والأكثر شيوعًا، كان الملكُ مندوبَ الإله على الأرض، يتلقى سلطة حُكمه من الإله، ويُصدِر الأوامر باسمه، ومع ذلك كانت ثَمَّةَ إمكانية ترسيم ذلك الملكِ نفسَه إلهًا. وكان هذا النوع من التراتبية الهرمية يُميِّز الإمبراطوريات المتعاقبة في مجتمع بلاد الرافدين من سرجون الأكدي وحتى الفرس الأخمينيين، وترمز له مسلَّة حمورابي الشهيرة التي تُظهِر ملك بابل يتلقى شريعته من شماش: إله الشمس.1
سيكون من الخطأ تخيُّل أن المجتمع المحكوم بمبدأ الهرمية كان مجتمعًا ثابتًا. حتى في حالة مصر، كان الوضع يتأرجح ما بين حقبٍ يشتد فيها عَضُد الإدارة المركزية، وفتراتٍ «وسطى» من الحكم المركزي الضعيف، متمثلًا على الأغلب في الأُسَر المتنافسة والسلطة الممزقة الموضوعة في يد حُكام الأقاليم. علاوةً على ذلك، استطاعت فترات حكم الأُسَر القوي أن تخلق توسعًا جديدًا؛ فقد خالط مفهومَ الهرمية شعورٌ قوي بالعرقية المصرية، ولا سيَّما بين النُّخبة، واتخذ ذلك الشعور شكل التوسُّع الاقتصادي وحتى الغزوات، في النوبة وفلسطين. وكما نرى، فالأمر نفسه ينطبق على بلاد الرافدين، فالآشوريون بصفةٍ خاصة — من خلال الجمع بين الهرمية والإحساس القوي بالهُوية العرقية المشتركة — تمكنوا من توسيع أراضيهم، في حين زوَّدت النُّخبة الآشورية مواردها الاقتصادية وتقدُّمها الثقافي بصورة أساسية من خلال الاقتراض والتطويع الثقافيَّين. في كلتا الحالتين، يمكننا استنتاج تزايد اعتقاد النُّخبة بالتفوق العرقي والسياسي، على الأقل كمُبرِّر لغزو الأجانب واستغلالهم، على الرغم من أنه لم يكن كافيًا على المدى الطويل لتأمين بقاء هذا النوع من الدولة العرقية والحضارة العرقية. ورغم ذلك، ثبت أن مبدأ الهرمية سيمثل نوعًا مهمًّا من أنواع الثقافة العامة العرقية في حقبٍ لاحقة، وأثبت تأثيره الحيوي في تشكيل الأمم.2
تُقدِّم الثقافات العامة القائمة على فكرة «العهد» تصورًا أكثر مساواةً للنظام الاجتماعي، وتُقدِّم شكلًا أكثر حميميةً للشراكة المقدسة بين أعضاء المجتمع. في هذا التصوُّر المرتبط في الأساس بالتقاليد التوحيدية، يختار الرب جماعةً لتنفيذ مشيئته من خلال فصلها عن الآخرين ومطالبة أعضائها بأداء طقوسٍ وواجباتٍ معينة في مقابل فضله ونعمته. وعلى الرغم من اختلاف المهام، فإنها تتضمَّن عمومًا تنظيم حياة الأفراد في إطار قانون أخلاقي وروحاني يُقدِّس المجتمع والعالم. ويوجد هنا أيضًا أكثر من شكل للثقافة العامة القائمة على فكرة «العهد». ففي الحالات التي تتضمَّن هيكلًا هرميًّا، يكون متلقي العهد كنيسة أو جماعة تتصرف نيابةً عن المجتمع ككلٍّ. كان هذا هو الوضعَ في أرمينيا في القرن الرابع والقرن الخامس، حيث نفَّذت الكنيسة الرسولية الأرمينية «العهدَ» بين المسيح وشعبه، وهي علاقةٌ دعَّمتْها بقوةٍ القرابةُ الوثيقة بين المؤسِّس التبشيري القديس جريجوري الأول، وسلالة أرساسيد الحاكمة، ومحاولات خلفاء جريجوري الساعية إلى الحفاظ على الوحدة بين أثرياء أرمينيا العظماء أصحاب الأراضي. ووفقًا لما دوَّنه المؤرخون الأرمن الأوائل أمثال إيليشي وبوستوس بوزاند، فقد كانت النسخة الأرمينية من «العهد» ملتزمةً التزامًا شديدًا بنموذج العهد القديم ونموذج المكابيين في الاختيار العرقي واستشهاد الشعب من أجل الإيمان والوطن.3
إلا أن العهد يمكن أن يُوثَّق مباشرةً مع عشيرةٍ بأكملها. وكانت هذا هي الحال مع العهد الذي عُقد بين الرب و«شعب» بني إسرائيل عند جبل سيناء. ربما قام موسى بدور الوسيط، لكن يُقال إن الشعب كله شهدَ وجود الرب ووافق على مشيئته وعلى التوراة:

وَأَخَذَ (موسى) كِتَابَ الْعَهْدِ وَقَرَأَ فِي مَسَامِعِ الشَّعْبِ، فَقَالُوا: «كُلُّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ نَفْعَلُ وَنَسْمَعُ لَهُ». (سِفر الخروج ٢٤: ٧)

كان الهدف من هذا العهد أنْ يصير بنو إسرائيل «مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً» (سِفر الخروج ١٩: ٦)، ولهذا السبب أُبرمَ العهد مع شعب بني إسرائيل بأكمله، وشملت شريعته كلَّ فرد. حتى في هذا العهد يظهر عنصر الهرمية ظهورًا مبكرًا؛ فبعد أن خان شعبُ بني إسرائيل الربَّ بعبادة العِجل الذهبي، عيَّن موسى هارون وذريته كبارًا للكهنة، وكلَّف اللاويين بحراسة خيمة الاجتماع ومجموعة القواعد الخاصة بطريقة ممارسة الشعائر؛ وبذلك مهَّد الطريق لكهنة الهيكل.4
تُقدِّم إثيوبيا العصور الوسطى مثالًا بالغ الوضوح عن الطرق التي من خلالها يمكن مزج مبدأ العهد مع الثقافة العامة الهرمية؛ فقد كانت الممالك والسلالات الإثيوبية الحاكمة المتعاقبة تُمثِّل الثقافة العامة الهرمية لمملكة مسيحية تعتنق عقيدة الطبيعة الواحدة وتغلب عليها ثقافة التجرية العرقية. إلا أن قدوم سلالة «سليمانية» حاكمة جديدة تصطبغ بالهُوية السامية في عام ١٢٧٠ مثَّل نوعًا من الانفصال عن هذا التقليد. فعلى الرغم من احتفاظها بمبدأ الهرمية وتقويتها له، حاكت في إطار سعيها لاكتساب الشرعية نموذج مملكة أكسوم المسيحية السابقة عنها بكثير، وتبنَّت في إطار بحثها عن «أسطورة مُلهِمة» أسطورة الخلافة السليمانية. وفقًا لأسطورة السلالة، التي دُوِّنت لأول مرة في الملحمة القومية «كبرانجشت» (كتاب جلال الملوك) في القرن الرابع عشر، فإن منليك الأول، أول ملوك إثيوبيا، كان ابن ملكة سبأ والملك سليمان. بينما يذكر الكتاب المقدس (سِفر الملوك الأول ١٠: ١–١٤) أن ملكة سبأ زارت سليمان لتسأله، وبعد أن اقتنعت بحِكمته وثرائه، تعجَّبت وعادت إلى بلدها، فإن كتاب «كبرانجشت» يذكر أنها تنجب، منه، ولدًا، وهو منليك الذي يعود بعد سنواتٍ كثيرة إلى أورشليم رجلًا راشدًا، ويأخذ تابوت العهد الأصلي، وبمغادرته إلى إثيوبيا تنتقل أيضًا نعمة الرب على إسرائيل إلى الشعب المختار الجديد وأرض إثيوبيا المختارة الجديدة. استخدم الملوك الأقوياء في السلالة الحاكمة الجديدة هذه الأسطورة من أجل توسيع حدود إثيوبيا وأيضًا من أجل دعم مجموعة من الإصلاحات الثقافية والاجتماعية الكبرى؛ وبذلك يُحدِثون تطهيرًا تامًّا للمجتمع الإثيوبي يتوافق مع العناصر اليهودية العهدية في عقيدة الطبيعة الواحدة المسيحية.5
fig6
شكل ٤-١: موسى يتلقى الألواح ويُعلِّمها لبني إسرائيل، نسخة تورز من الكتاب المقدس، تعود إلى عام ٨٣٤ بعد الميلاد (المكتبة البريطانية).
يرتبط ثالثُ الأشكال الرئيسية من الثقافة العامة، وهو الشكل «الجمهوري المدني»، ارتباطًا وثيقًا ﺑ «الدول المدن» الإغريقية والدول المدن الرومانية التي خَلَفتها. للوهلة الأولى، يُظهِر هذا النوع تناقضًا صارخًا مع كلٍّ من النوع الهرمي والنوع العهدي؛ لأن فكرة المجتمع الذاتي الحكم، مهما كان حق التصويت فيه حصريًّا، وفكرة النظام المستقل الذي لا يخضع لمساءلة أي قوة خارجية، مثَّلتا مرحلة جديدة من مراحل تطوُّر المجتمع السياسي الجمعي. إلا أن هذا النوع كان متناقضًا من نواحٍ كثيرة؛ فمن ناحية، كان مواطنو المجتمع مرتبطين بعقد مدني، وليس بعهد مع الرب، وكانت عقيدتهم هي الحرية في ظل قانون مدني، وليس بتزكية النفس النابعة من السعي إلى القداسة، فضلًا عن الإذعان لنظام سلالي مقدس. وانبثقت من هذا العقد واجباتٌ مدنية ومسئوليات عامة قائمة على قوانين مزعوم أنها متوارَثة عن المؤسِّسين والمشرِّعين القدماء أمثال ليكرجوس، وصولون، ونوما بومبيليوس. في الديمقراطيات الكلاسيكية بصفةٍ خاصة، حلَّت مبادئ الحرية المدنية والمساواة القانونية محل التراتبيات الهرمية الأرستقراطية، وحلَّت الإقامة والسلف العرقي محل المولد النبيل كمعايير للمواطنة واعتلاء المناصب. من ناحيةٍ أخرى، كان أيضًا الشكل الجمهوري شكلًا من المجتمعات المقدسة قائمًا على الدين المدني؛ فقد كان لكل دولةٍ من الدول المدن آلهة حامية وأساطير أصل مقدس خاصة بها، وكانت كلٌّ منها تفتخر بطقوسها ومراسمها الخاصة، مثل مهرجان عموم أثينا في أثينا القديمة أو الألعاب البرزخية في كورينث. وكما رأينا، كانت المعابد، والتماثيل، وعبادة آلهة المدن، محورية في التعريف الذاتي للإغريق والرومان، وكذلك لحضارة العالم اليوناني الروماني الذي اكتنفهما، وكانت أقسامهم العمومية تتخذ صياغة دينية، وتشهد عليها آلهة المدينة.6

(٢) روما ويهوذا

على الرغم من أن النموذج الجمهوري المدني مثَّل انفصالًا جذريًّا عن النوع الهرمي السائد من الثقافة العامة، فإنه نادرًا ما كان يخلو من عناصر الهرمية. ويؤكِّد تاريخ روما هذا الأمر على نحوٍ مثير وبالغ الدهشة. بدأت روما كمدينة صغيرة في الحلف اللاتيني يحكمها ملوكٌ متعاقبون، وسرعان ما بدأت تدور في الفلك الإتروسكاني وتبنَّت الكثير من سمات الثقافة الإتروسكانية. إلا أنه في عام ٥١٠ قبل الميلاد، طُرد آخِر ملوكها؛ ومن ثَمَّ حكم المدينة شيوخٌ وقناصل من طبقة الباتريكيان، في ظل منافسة مضطربة من جانب الأطربونات المدافعين عن طبقة العوام المُسمَّاة «بليبس». بالنسبة إلى المؤرخين المتأخرين أمثال سالوست وليفيوس وتاكيتوس، فإن تلك الفترة كانت تقريبًا فترة أسطورية ضَمَّت «الأبطال الجمهوريين» أمثال بروتس القنصل، وسنسيناتوس، وموسيوس إسكافولا، وكيوريوس دنتاتوس، الذين تتناقض فضائلهم وشجاعتهم وأمانتهم واقتصادهم وبساطتهم تناقضًا صارخًا مع بزخ وفساد أواخر عهد الجمهورية وأوائل عهد الإمبراطورية. وعلى مدار القرنَين التاليَين، حققت روما تفوُّقًا عسكريًّا في وسط وجنوب إيطاليا، وقد أكَّد هذا الموقف مقاومتها الناجحة في أوائل القرن الثالث لغزو بيروس الإبيري وهزيمتها التالية للقرطاجيين في الحرب البونية الأولى (٢٦٥–٢٤١ قبل الميلاد). وفي الوقت نفسه واجهت ثقافة ماجنا جراسيا الأكثر تعقيدًا في الجنوب، وقد ساعدت تلك المواجهة في تكوين الإحساس بالهُوية الجمعية وأسطورة السلف الطروادي لروما. وتبعَ ذلك الحروبُ الملحمية ضد حنبعل، وانتصار روما على قرطاجة عام ٢٠٢ قبل الميلاد، وتوسُّعها باتجاه الشرق في القرن التالي لتصبح قوة بارزة في البحر المتوسط، قبل أن تسقط فريسة لطموحات الجنرالات المتنافسين وجيوشهم.7
على مدار هذين القرنين، مزَّقت المدينةَ — على فتراتٍ منتظمة — صراعاتٌ بين طبقة الباتريكيان الحاكمة وطبقة البليبس التي تُمثِّل العامة، وتوترات بين المبدأين المتنافسين المتمثلين في مبدأ الهرمية القائمة على المولد والثروة المكوَّنة من الأراضي، ومبدأ المشاركة الشعبية والحرية المدنية في ظل القوانين العامة، وقد أدَّت تلك التوترات إلى ظهور انتفاضات شعبية خطيرة في عهد اثنين من الأطربونات، هما الأخوان جراكوس. ورغم ذلك، فقد كانت الأجيال في العصور اللاحقة تنظر بعينٍ تحنُّ إلى المبادئ المدنية والجمهورية، وقلَّلت من أهمية الصراعات الفئوية والطبقية، ذلك الشعور الذي عزَّزه التحوُّل المضطرب نحو بداية الإمارة. وردًّا على ذلك إلى حدٍّ ما، كان أغسطس حريصًا على الاحتفاظ بالمؤسسات والطقوس ورموز الثقافة العامة الجمهورية، في حين استأثر شعراؤه بشعار «الحرية» والوطنية الرومانية والإيطالية، على النقيض من «الترف» و«العبودية» في الشرق ممثَّلَين في حكم أنطونيو وكليوباترا. رغم ذلك، ظهرت بالفعل في أعمال فيرجيل فكرة «مهمة» روما الإمبراطورية التي تمثلت في أن مصير روما هو الإطاحة بكل أَبيٍّ والإبقاء على كل مُذعِن. وفي الوقت نفسه، التفَّ نوعٌ جديد من الهرمية الإمبراطورية المبادئَ الجمهورية للمدينة، وسرعان ما محاها، واحتفظ في الوقت نفسه بأشكالٍ من بقاياها. على الرغم من أن الإمبراطور كان ببساطةٍ «أول النظراء»، فإن سيطرته وسيطرة أسرته داخل الدولة عكست سيادة روما على شعوب إمبراطوريتها. على الرغم من أنه في فترات الأزمات التي واجهت السلالات الحاكمة، كان الحرس البريتوري الإمبراطوري والجيوش المتنافسة يوزعون السلطة، فقد ظلت الإمبراطورية موحدة لفتراتٍ طويلة بثقافة عامة هرمية ترتكز على رموز وطقوس عبادة الإمبراطور وتأليهه.8
اتبعت كياناتٌ جمعية مختلفة كلا النموذجَين الرومانيَّين، الجمهوري والإمبراطوري، في فتراتٍ مختلفة من التاريخ الأوروبي، ونظرًا لمكانة روما الراسخة، فقد كان للنموذجَين نتائج مهمة في تشكيل الأمم. بوجهٍ عام، ساد النموذج الإمبراطوري خلال العصور الوسطى، بينما شهد عصر النهضة إحياءً مميزًا للشكل الجمهوري المدني من الثقافة العامة. إلا أن هذه مجرد مقاربة. في إيطاليا العصور الوسطى، وكذلك في المجتمعات الأوروبية الشمالية منذ القرن الثاني عشر، كان يوجد استحضارٌ واعٍ للمبادئ الجمهورية والمؤسسات المدنية، بما فيها منصب القنصل، في إطار نظام إقطاعي هرمي صِرف وداخل حدود عالم مسيحي تُسيِّره سلالاتٌ حاكمة. من ناحيةٍ أخرى، خلال بداية فترة الحداثة عندما شهدت المدن وسكانها زيادة هائلة في الثروة والقوة ظهر أن مبدأ الحكم المطلق يجسِّد نوعًا من الهرمية أكثر حماسةً إلى حدٍّ بعيد، دعَّمتْه فكرة الحق الإلهي للملوك. وأسهم كلا النوعين من الثقافة العامة في تشكيل الأشكال المختلفة من المجتمع القومي في فتراتٍ مختلفة.9
لم تكن روما المصدر الوحيد للثقافات العامة الذي ساعد في تشكيل المجتمعات القومية، ولا المصدر الوحيد الذي خلَّف تراثًا مزدوجًا؛ فقد نشأت بضعة مُثُل من تراث الكتاب المقدس. بعد سقوط مملكة يهوذا، أعادت إصلاحات ما بعد النفي البابلي التي قام بها عزرا ونحميا ترسيخ النوع السائد من الثقافة العامة لإسرائيل القديمة القائم على العهد الموسوي، وظلَّ قائمًا على مدار القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد من خلال رجال الكنيس العظيم والفريسيين. عام ١٦٧ قبل الميلاد عندما وضع اليهود متبعو الثقافة الهلينستية ومراسيم أنطيوخس أبيفانيوس العهدَ والهيكلَ في خطرٍ داهم، لم يَستعدْ حزبُ المكابيين عبادة الهيكل فحسب، بل حافظوا على قوانين العهد وضمَّنوا قدرًا من الاستقلال لدولتهم اليهودية تحت حكم الملوك الحشمونيين. في هذه الفترة، كان اليهود متحدين في العموم حول نظام عقائدي يرتكز على الرب الواحد الحق، وتوراته، وهيكله. إلا أنهم احتفظوا أيضًا بالتقليد المسيحاني المتمثل في ملوك سلالة داود كمخلصين ممسوحين للشعب، ولم يقبلوا بالملوك الحشمونيين إلا قبولًا جزئيًّا؛ ومن هنا كانت جهود سمعان المكابي الساعية إلى الحصول على منصبِ كبير الكهنة من خلال الثناء الشعبي عام ١٤٠ قبل الميلاد.10
fig7
شكل ٤-٢: المسيح والإمبراطور قسطنطين التاسع، والإمبراطورة زوي، لوحة زوي، فسيفساء، (١٠٢٨–١٠٣٤)، (١٠٤٢–١٠٥٥) بعد الميلاد (الجدار الشرقي، المعرض الجنوبي، آيا صوفيا، القسطنطينية).
عندما حُجِّمَ الاستقلال اليهودي في أواخر القرن الأول، في البداية على يد هيرودس الأول وأسرته، ثم على يد الوكلاء الرومان المتعاقبين، لينتهيَ أخيرًا بعد سقوط أورشليم عام ٧٠ بعد الميلاد، حفظ الحاخامات الذين خلفوا الفريسيين المثال العهدي والتوراة في أكاديمياتهم في يبنا والجليل. إلا أن تقاليد المسيحانية وملوك سلالة داود، التي روَّج لها حزب زيلوت بين الآخرين، أصبحت بحكم الضرورة أكثر خفيةً ورمزية، لا سيَّما بعد فشل ثورة بار كاخبا في يهودا في الفترة ما بين ١٣٢–١٣٥ بعد الميلاد. في الوقت نفسه، أصبحت عناصر من مثال العهد والتقليد المسيحاني المتمثل في ملوك سلالة داود شائعةً في المسيحية القديمة جنبًا إلى جنب مع الكتاب المقدس العبري الذي اعتبرته الكنيسة القديمة «العهد القديم» وأعادت تفسيره وفقًا لمعتقداتها الدينية. وبصفةٍ خاصة، أخذت الكنيسة دور الشعب المختار ورأت نفسها «إسرائيل الحقيقية»؛ لأن الرب الآن سحب نعمته من الشعب اليهودي؛ لأنهم رفضوا الزعم المسيحاني الذي جاء به المسيح. إلا أنه بسبب عدم وجود نموذج سياسي واضح للمجتمع في العهد الجديد عادت الكنيسة، فضلًا عن الأمراء المسيحيين فيما بعد، إلى معتقد الملوك المقدسين الممسوحين، لا سيَّما بعدما اعتنق قسطنطين وخلفاؤه المسيحيةَ، وعدَّلوا فيها، لتكون الدين السائد في الإمبراطورية الرومانية؛ لذلك، أمكن من خلال المسيحية في الأساس استخدام تقاليد الكتاب المقدس في تكوين الثقافات العامة والمجتمعات في العصور الوسطى.11
كما رأينا، لم يظل النموذج العهدي منفردًا؛ فإمكانية دمجه مع التقاليد الهرمية واضحة تمامًا، لكن هل من الممكن أيضًا مزجه بالشكل الجمهوري من الثقافة العامة؟ من الناحية النظرية، بدا أن ثَمَّةَ هوة لا يمكن رأبها بين العهد الإلهي الذي وُجد في يهوذا القديمة وبين عقد المواطنة المدني الذي يُميِّز النموذج الجمهوري. أما من الناحية العملية، فقد تمكَّنت مجتمعاتٌ مختلفة من تكوين ثقافات عامة قائمة على أكثر من مبدأ. وبالفعل في إسرائيل القديمة ويهوذا القديمة ظهرت فكرة العهد المزدوج، بين الرب وشعبه، وبين الملك والشعب، واستُخدمت مرةً أخرى بعد حوالي ألفَي سنة في أوروبا في بداية الحداثة. يمكن أن تشمل هذه الفكرة العقود بين المواطنين والحُكام على سبيل المثال في كثيرٍ من المجتمعات المستقلة في الإمبراطورية الرومانية المقدسة. بالمثل، كان لأداء القَسَم بين الكانتونات داخل «الاتحاد السويسري القديم» بُعد مقدس، وكما سنرى، حتى الجمهوريات الحديثة لم تتخلَّ بالكامل عن عناصر العهد المقدسة.12

إلا أنه حتى لو لم تكن الأشكال الثلاثة الرئيسية للثقافة العامة متعارضة، فإن معظم الحالات التاريخية التي صادفناها كانت نوعًا «مختلطًا»، والتمييز التحليلي يظل مفيدًا في التصنيف المبدئي للأشكال الثقافية للأمم؛ ذلك أنه يطلعنا على الخصائص السائدة في كل حالة. لذلك، وعلى الرغم من هذه المحاذير، فإنه من الممكن ومن المفيد الحديث عن «الأمم الهرمية»، و«الأمم العهدية» و«الأمم الجمهورية المدنية»، وتحديد انتشارها في فتراتٍ معينة، حتى لو كانت الأمثلة التي توضح النوع الخالص للأمة قليلة، وحتى لو كان نوع الثقافة العامة المذكور لا يمكن حصره في فترةٍ تاريخية معينة. في هذا الفصل، سأركز على الشكل الهرمي من الثقافة العامة، وسوف أتساءل إلى أي مدًى يمكننا البدء في الحديث عن «الأمم الهرمية» في العصور الوسطى، مقارنةً بالحقبة الحديثة. وفي الفصول اللاحقة، سأتناول نشأة الأمم الهرمية والأمم الجمهورية وشخصيتها في الفترات اللاحقة، ودور القومية في تطوير كلٍّ منهما.

(٣) الهرمية والأمة في الشرق الأدنى وروسيا

في الشرق الأدنى، شهدت أواخر العصور القديمة صراعًا مطولًا على السلطة بين القوى الهلينستية والإمبراطورية البارثية، وبين الإمبراطورية الرومانية وإيران الساسانية فيما بعد. وجميعها إمبراطوريات أرستقراطية كلاسيكية قائمة على مبادئ هرمية واضحة، وعلى هذا النحو تبدو بعيدةً عن أي مفهومٍ للأمة، سواءٌ كان مفهومًا عرقيًّا ثقافيًّا أو عرقيًّا سياسيًّا. إلا أننا حتى في هذا الصدد يمكننا ملاحظة تطوُّر بعض العمليات المؤدية إلى تكوُّن الأمة، لكن في نطاقٍ محدود للغاية، وفي فتراتٍ معينة فحسب.

في نقشٍ في حاجي آباد، كما في ذلك النقش الموجود على النحت البارز الصخري في نقش رجب، يُبين سابور الأول الملك الساساني العظيم، الذي عاش في القرن الثالث، الهرميةَ على نحوٍ واضح في أوج إمبراطوريته، فيقول:

هذا هو مدى السهم الذي أطلقناه، نحن الإله سابور عابد مازدا، ملك ملوك إيران وغير إيران، سليل الآلهة، ابن الإله أردشير عابد مازدا، ملك ملوك إيران، سليل الآلهة، وحفيد الإله بابك الملك. وعندما أطلقنا هذا السهم، كنا نرمي أمام الملوك (أصحاب الأراضي؛ «سرداران»)، والأمراء (فاسبوران)، وكبار النبلاء (فوزوران)، والنبلاء (آزادان).

بعيدًا عن مبدأ الهرمية الواضح المتمثل في الطبقات الأربع المتمثلة في الكهنة والمحاربين والكتبة والعوام، ميَّز سابور حكمه عن حكم والده وسلفه أردشير من ناحية امتداد إمبراطوريته؛ فبينما كان حكم أردشير مقصورًا على إيران، شملت إمبراطورية سابور بلدانًا غير إيرانية، أي أقاليم أخرى. ويوضح فيزهوفر أن هذه هي المرة الأولى التي يرتبط فيها اللقب المعتاد للحاكم الإيراني «ملك الملوك» بإيران:
اخترع الساسانيون فكرة إيرانشهر (إمبراطورية الآريين) كمفهوم سياسي يرمي — ضمن مجموعةٍ من الأهداف الأخرى — إلى ترسيخ شرعيتهم كوَرَثة للإمبراطورية الإيرانية الكبيرة القديمة التي كانت ﻟ «أسلافهم» (الأخمينيين)، وكخلفاء للملوك الأسطوريين القدماء، وكأتباع للعقيدة الزرادشتية التي كان لها جذورها في إيران. أما الهدف الآخر، فكان تكوين «هُوية» جديدة لأنفسهم وللشعوب الخاضعة لهم باستخدام مفهوم إيرانشهر كموطن سياسي وثقافي لكل الذين يعيشون هناك، ومن خلال ربط ذلك المفهوم بماضٍ سحيق للغاية.13
إيران ليست مفهومًا عرقيًّا، بل اسمٌ ذو أبعادٍ إقليمية وسياسية، لكن حتى في هذه الحالة فإنه ليس واضحًا إلى أي مدًى عَكَس ذلك قدرًا من انتساب الذكريات والروابط العاطفية إلى إقليمٍ محدد. في الوقت نفسه، تُرجِّح رغبة الساسانيين في ربط حُكمهم بالملوك الأسطوريين وبالأخمينيين وجودَ تصوُّر لديهم عن أرضٍ تاريخية موجودة ضمن مجموعة الأقاليم والشعوب التي غزَوها. ويُعَد هذا أيضًا نوعًا من تعريف الذات الجمعي، وإن كان من جانب النُّخبة فحسب، ويُعتبر أيضًا محاولة لترسيخ الأساطير والرموز والذكريات المتعلقة بالماضي البطولي. كان بناء الأساطير والرموز والذكريات سائدًا بصفةٍ خاصة في أواخر عهد الملوك الساسانيين؛ لذلك دعم كسرى الأول (٥٣١–٥٧٩) إحياء المأثورات، وكذلك كُتُب بروتوكول السلوك الأرستقراطي وقواعده، بالإضافة إلى توطيد البيروقراطية على حساب النبلاء العظام. يعتقد ريتشارد فراي أنه من المحتمل إلى حدٍّ بعيد أن تكون «قصائد وأساطير إيران القديمة قد جُمِعَت معًا» في أيام كسرى الأول وأن الملحمة القومية التي كتبها الفردوسي «كانت هيئتها آنذاك مشابهةً إلى حدٍّ بعيد لهيئتها الحالية.» رغم ذلك، ﻓ «الماضي الذي أحيته الملحمة، والتقاليد، والعادات … كان ماضيًا بطوليًّا لعائلاتٍ كبيرة ونبيلة ولممارسات إقطاعية، ولم يكن ماضيًا يعكس دولة بيروقراطية مركزية كالتي أراد كسرى تأسيسها.» ومن ثَمَّ، في ذلك الوقت، أُجريت تعديلات على مجموعات الأساطير القديمة على اختلافها — وكان كثيرٌ منها يعود أصله إلى شرق إيران — لتتوافق مع المُثُل المعاصرة كي تصبح أساسًا ﻟ «شاهنامه» (كتاب الملوك) الذي ألَّفه الفردوسي لاحقًا.14
وكذلك في عهد الملوك اللاحقين تزايد توحيد القوانين بالتوافق مع إقرار مركزية الدولة. إلا أن هذا الأمر، على حسب ما يمكننا أن نرى، امتدَّ بالقدر نفسه ليشمل كلَّ أقاليم الإمبراطورية وشعوبها، كما هي الحال مع الثقافة الدينية العامة المتمثلة في معابد النار الخاصة بالزرادشتية الأرثوذكسية بعد إصلاحات «كرتير» رئيس «الموابذة» في أواخر القرن الثالث. يبدو أن كرتير كان تبشيريًّا، لدرجة أنه حاول تأسيس معابد النار والزرادشتية الأرثوذكسية بين المجوس المتأثرين بالحضارة الهلينستية وبين الوثنيين خارج إيران. ورغم ذلك، يقول جوزيف فيزرهوفر إنه في عهد كرتير:

كانت إيران الساسانية متأثرة بالديانة الزرادشتية إلى درجةٍ أكبر من أي وقتٍ مضى في تاريخ الدولة. ويشهد على هذه الحقيقة التأثيرُ الديني على الثقافة القانونية، والأدب، والرمزية الصورية، وكذلك تقاليد الدفن في هذه الفترة (تعريض الجسم للهواء ودفن العظام). كانت السلطات الدينية موجودة في أماكن كثيرة، من القرية ومركز العبادة المحلي وحتى البلاط الملكي، لمراقبة «الخدمة الإلهية»، وتنفيذ الطقوس والحفاظ على التقاليد الدينية.

يوضح هذا أن إيران احتلت مكانة مميزة في دين الدولة وفي الثقافة العامة الدينية للإمبراطورية، وأنه داخل إيران حظيتْ منطقة فارس الجنوبية الغربية بالتميُّز، ولو بقدرٍ محدود، بفضل مواقعها المقدسة و«أسلاف» الساسانيين، والذكريات التي حافظ عليها رجال الديانة الزرادشتية. وعلى نحوٍ واضح تمامًا، لا يمكننا التحدُّث عن وجود أمة أو هُوية قومية في ظل حكم الساسانيين. ورغم ذلك، فمن ناحية الثقافة العامة وترسيخ الأساطير والرموز والذكريات والتقاليد الإيرانية تَكوَّنَ خلال هذه الفترة أساس عرقي سياسي لتطوُّرات قومية لاحقة إلى حدٍّ بعيد في الهُوية الإيرانية الجمعية في ظل القيادة الثقافية الفارسية.15
هل يمكن قول الأمر نفسه، «مع إجراء ما يلزم من تعديلات»، عن الإمبراطورية البيزنطية؟ من الناحية الظاهرية، فإن أوضح مثالٍ على مبدأ الهرمية كان أبعدَ مما يمكن تخيُّله عن مفهوم المجتمع القومي وممارسته، وكما يقول سيريل مانجو: «لم تكن توجد مطلقًا «أمة» بيزنطية.» كان يُعرَف سكان بيزنطة باسم «الرومان»، وشعروا أنهم ينتمون إلى الإمبراطورية الرومانية الشرقية، لكنهم عرَّفوا أنفسهم في الأساس من الناحية الإقليمية أو العرقية، بل عرَّفوا أنفسهم أكثر كمسيحيين. لقد كانت الإمبراطورية التي مثَّلوا جزءًا منها كيانًا أرثوذكسيًّا تُكمل فيه الدولة والكنيسة كلٌّ منهما الأخرى في تناغمٍ مثالي تحت قيادة «الإمبراطور المقدس»، خليفة الرب على الأرض؛ مما يعكس نظامًا عالميًّا مُقدَّرًا إلهيًّا. ولما كانت الإمبراطورية تضم قدرًا هائلًا من المجتمعات العرقية والدينية في أراضٍ مترامية الأطراف ومتنوعة ثقافيًّا، فقد كانت موحدة من خلال الولاء للإمبراطور ومن خلال الدين الرسمي الذي تدعمه الدولة. بالإضافة إلى ذلك، على غرار إيران الساسانية، كان رجال الدين الرسمي للدولة غير راغبين في التسامُح مع الأقليات الدينية المتنوعة الموجودة داخل حدود الإمبراطورية، هذا في حالة عدم اضطهادهم لهم.16
رغم ذلك، فإن التطورات التي حدثت في القرون اللاحقة، في أعقاب هزيمة بيزنطة من قِبل الأتراك السلاجقة في معركة ملاذكرد عام ١٠٧١، ونهْب الصليبيين القسطنطينية عام ١٢٠٤؛ جلبت لبيزنطة — التي كانت تقلصت كثيرًا بعد استعادتها عام ١٢٦١ — شعورًا متزايدًا بالهُوية السياسية العرقية اليونانية وبكونها مجتمعًا سياسيًّا يونانيًّا. يرى ألكسندر فاسيلييف أن الازدهار الأخير لبيزنطة أدَّى إلى «ظهور مشاعر الوطنية بين الشعب اليوناني، تصاحبها العودة إلى أمجاد اليونان القديمة.» يتحدث جون أرمسترونج عن «قومية مبكرة» في هذه الفترة، قائمة على الإحساس بالاختيار الإلهي والحماية الإلهية في وقت الصعوبات والمحن. ونظرًا لأن الكنيسة والشعب أصبحا «إسرائيل الحقيقية»، فقد تمتعا بنعمة الرب الخاصة، وعزَّز هذا الشعورُ العداءَ الشديدَ من جانب رجال الدين والعوام المتحدثين باليونانية تجاه كلٍّ من اللاتينيين المهرطقين والأتراك الكفار. في الواقع، كانت الثقافة اليونانية واللغة اليونانية قد انتعشتا من جديد بالفعل في البلاط الملكي وفي إطار البيروقراطية في القرن التاسع، في وقتٍ استُعيدت فيه اليونان نفسُها من السلاف والألبان، وأصبحت ذات أهميةٍ أكبر للهُوية الأرثوذكسية البيزنطية وللمجتمع الأرثوذكسي البيزنطي بسبب غزو البلغار والسلاف والأتراك لبلاد الشرق الأدنى والمقاطعات الغربية. بطبيعة الحال، كانت الأرثوذكسية في حد ذاتها شاملةً في نطاقها ومهمتها. إلا أنه نظرًا لازدهار الكنائس العرقية في أراضي البلقان التي كانت منتمية إلى الإمبراطورية في السابق، ونظرًا لأن العهد الجديد اليوناني عزَّزتْه الليتورجية اليونانية الأرثوذكسية، أصبحت اللغة اليونانية والثقافة اليونانية الوسيلتَين الضروريتَين، وقدمتا هُوية راحت تزداد أهميةً يومًا بعد الآخر لبقية المسيحيين الأرثوذكس في الإمبراطورية البيزنطية التي تقلصت تقلصًا شديدًا. في الوقت نفسه، كانت بيزنطة مدينةً أكثر منها أرضًا تاريخية، وكانت ثقافة عامة عالمية أكثر من كونها مجموعة رموز وأساطير وذكريات سياسية عرقية كوَّنت أساس هذا المجتمع الثقافي. ولم تتخذ الهُوية الثقافية والدينية للسكان الناطقين باليونانية في الإمبراطورية الرومانية الشرقية السابقة في البلقان (وفي الشتات) شكلًا جديدًا على نحوٍ تدريجي لتمثل أساسًا لمجتمعٍ يوناني سياسي عرقي إلا بعد سقوط القسطنطينية وقضاء قرون تحت الحكم التركي وتقوية نظام المِلل في الإمبراطورية العثمانية لها.17

(٤) الاستثناء الروسي

تعود سلالة روسيا الموسكوفية، التي تُعتبر فرعًا من بيزنطة وخليفتها الروحية، إلى روس الكييفية؛ تلك الدولة الإقطاعية التي تأسست في القرن التاسع على يد خليطٍ من كبار لوردات ريوريكيد الإسكندنافيين والفلاحين السلاف، والتي استلهمت من بيزنطة مبدأ الهرمية المسيطر وتعريفها الأيديولوجي لذاتها. وفقًا للسجل التاريخي الروسي الأساسي («قصة السنين الغابرة»، المُؤلَّف عام ١١١٥ تقريبًا)، فإن اعتناق فلاديمير الأول المسيحية الأرثوذكسية عام ٩٨٨ كان سببه الإعجاب الروسي بجمال الليتورجية والطقوس الأرثوذكسية، على الرغم من أن الأمور الجغرافية السياسية والتجارة كانت على الأرجح أكثر حسمًا. ورغم ذلك، دعمت الرمزية الأرثوذكسية قوة كبار دوقة كييف، وساعد الطقس الأرثوذكسي تدريجيًّا في توحيد المجتمع الروسي، في حين أن عقيدة المعاناة والفداء المسيحية سريعًا ما اندمجت مع الاعتقاد القوي بالاختيار العرقي. يرى مؤلف السجل التاريخي الروسي الأساسي وهو يكتب عن معاناتهم في عام ١٠٩٣ أن الرب اختار الشعب الروسي، لكن الشعب الروسي أخطأ؛ ولذلك خضع للتطهير من خلال الهزيمة والأسر:

لقد أطلق علينا غضبه أكثر من أي وقتٍ مضى؛ لأننا على ما نحظى به من تفضيل عن غيرنا، فقد ارتكبنا خطيئاتٍ تفوق ما ارتكبه غيرنا، ولأننا على الرغم من كوننا أكثر استنارةً من البقية، نظرًا لمعرفتنا بإرادة الرب، فقد ازدريناها وازدرينا كلَّ ما هو جميل؛ فحقَّ علينا عقابٌ لم ينزل بالآخرين.

هذه العقيدة الأرثوذكسية المتمثلة في معاناة الجماعة العرقية وخَلاصها امتدت إلى الريف على يد حركة الرهبنة التي قادها تبشيريون مثل القديس سرجيوس والقديس إسطفانوس في القرن الرابع عشر، اللذين مثَّل مسعى حياة القديسين بالنسبة إليهما مثالًا روسيًّا خالصًا، وغطاءً للاتحاد الناشئ بين الكنيسة الأرثوذكسية وسلطة السلالة الحاكمة المتمركزة حاليًّا في دوقية موسكو الكبرى؛ ذلك لأن سقوط القسطنطينية في القرن التالي شجَّع على تكوين اتحادٍ أكثر وثاقةً بين الدولة والكنيسة، بالإضافة إلى تعزيز فكرة أن روسيا هي المعقل الأخير للإيمان الحقيقي؛ لذلك، في اللحظة التي اكتسبت فيها الكنيسة الروسية مكانة الكنيسة القومية المستقلة، أصبح المجتمع الديني مطابقًا للمجتمع السياسي، وراحت الدولة تتحوَّل بمعدلٍ مُطَّرد إلى دولة أوتوقراطية وهرمية، وتبَنَّى حكامها على نحوٍ واعٍ ألقابًا بيزنطية مثل «أوتوقراط» و«قيصر»، بالإضافة إلى تبَنِّي مراسم ورموز البلاط البيزنطي، مثل النسر البيزنطي المزدوج الرأس.18
في ظل هذه الظروف، لم يكن متوقعًا إلا ضرورة أن يُسفِر المعتقد الديني عن معتقدٍ سياسي. وفي المجلس الكنسي — الذي عُقد عام ١٥٠٤ — أكَّد الأباتي جوزيف أحد رهبان دير فولوكولامسك مبدأ أوتوقراطية وسيادة القيصر الذي يتسلم صولجانه من الرب. إلا أن مفهوم روسيا الأرثوذكسية بصفتها «روما الثالثة» صِيغَ في تعبيرٍ كلاسيكي في خطابٍ يعود لعام ١٥٠٦ بعثه الأباتي فيلوثياس أحد رهبان دير بسكوف إلى الحاكم فاسيلي الثالث؛ ذلك الخطاب الذي أعلن أن روما الأولى سقطت بسبب هرطقتها، وأن روما الثانية سقطت بسبب الترك الكفار، وخلَص إلى التالي:

سقطت روماتان، لكن الثالثة ما زالت ثابتة المكانة؛ ولن توجد روما رابعة. لن يحصل أحد آخر على مملكتك المسيحية.

واتخذ مبدأ الهرمية أبلغ صوره في الطقس البيزنطي المعقَّد المتمثل في تتويج القيصر إيفان الرابع عام ١٥٤٧، وكان الأساس الأرثوذكسي الخالص لهذا المبدأ واضحًا في الحرب الصليبية التالية التي أُعلِنَت على قازان التترية عام ١٥٥٢. وتُوِّجَ ذلك بالمجالس الكنسية مثل مجلس ستوجلاف عام ١٥٥١، الذي فرض مزيدًا من الانضباط في الكنيسة، وبتأليف كتب على يد المطران مكاريوس ركَّزت على موضوع روما الثالثة وموضوع القيصر كحاكم للأرثوذكس؛ تلك المفاهيم التي انتشرت بين قطاعاتٍ كبيرة من الناس من خلال الطقوس الدينية اليومية والمراسم الملكية.19
ولم يصبح تعبير «روسيا المقدسة»، الذي ينطبق على الأرض والناس، منتشرًا كرمز لتقوى وورع شعب يعاني إلا في أواخر القرن أثناء وقت الأزمات (١٥٩٨–١٦١٣)، لا سيَّما أثناء تعرُّض السويديين والبولنديين للغزو. إلا أن هذه الأسطورة العرقية ﻟ «الشعب الروسي» لم تنفض عن نفسها أبدًا مفهومًا أكثر قوة، ألا وهو مفهوم القيصر المعصوم، أبو الشعب؛ ومن ثَمَّ لم تتخلص من أسطورة اختيار السلالة الحاكمة. وفي الانشقاق العظيم الذي حدث لاحقًا في ستينيات القرن السابع عشر، بدا أن الأسطورة العرقية الروسية تصف على نحوٍ أفضل مستوطنات المؤمنين القدامى، في حين راحت أسطورة اختيار السلالة الحاكمة تزداد انفصالًا عنها، وارتباطًا بالإمبراطورية الروسية الناشئة، لا سيَّما بعد بطرس الأكبر وخلفائه.20

من هذه المناقشة المختصرة، يتكوَّن لدينا انطباعٌ واضح يتمثل في أن إمبراطوريات أواخر العصر القديم والعصور الوسطى كانت بعيدةً عن فكرة الأمة وممارساتها، وأن عددًا قليلًا من العمليات الضرورية لتكوُّن الأمم كان موجودًا خلال تاريخها الطويل؛ ولهذا السبب أيضًا لا يمكننا توقُّع وجود أي إحساس بالهُوية القومية بين سكان تلك الإمبراطوريات. وكان ذلك ينطبق على بيزنطة وإيران الساسانية بصفةٍ خاصة. بالتأكيد، كان لدى النُّخَب في كل إمبراطورية من تلك الإمبراطوريات إحساسٌ بالهُوية الجمعية في مقابل الآخر، بالإضافة إلى أساطير الأصل المشترك، لكن تلك الهُوية كانت إما دينية خالصة — سواء أرثوذكسية أو زرادشتية — وإما سياسية متمثلة في دولة تكتُّلية بدلًا من أمةٍ موحدة. كلتا الإمبراطوريتين بَنَت كذلك مجموعة معقدة من الأساطير، والذكريات، والتقاليد، والرموز، وفي حالة بيزنطة نَمَّت الإمبراطورية البيزنطية إحساسًا قويًّا بالاختيار الإلهي، لكنه اختيارٌ إلهي مرتبط بإيمانٍ ديني، وحاكم مقدس، وليس مرتبطًا بشعب أو أرض. ولعل ما هو أكثر أهميةً أنه لا يوجد إلا أدلة قليلة على انتماء الذكريات والروابط إلى أقاليم محددة. وُجد بين النُّخبة الساسانية إحساسٌ غامض بتفوُّق إيران، ووُجد ذلك الإحساس أيضًا داخل إيران الفارسية، لكن الإمبراطورية كانت في واقع الأمر تحالفًا مكونًا من أمراء المقاطعات وطبقات النبلاء، وكانت حالات الولاء الإقليمية المشهودة تلك ذاتَ طابعٍ محلي. وكما رأينا، فقد كان الأمر نفسه ينطبق على الإمبراطورية البيزنطية. من ناحيةٍ أخرى، فقد كانت مدينة القسطنطينية هي ما وَلَّدَ إحساسًا بالانتماء الإقليمي.

إلا أن هذه ليست القصة كاملةً؛ فكما رأينا، كانت توجد محاولاتٌ لنشر ثقافةٍ عامة دينية في كلٍّ من إيرانشهر وبيزنطة، وكان رجال الدين في كلتا الحالتَين نشطِين في معارضة الأديان الأخرى وقمع الهرطقات. ونظرًا لارتباط الدين بالعرقية في أغلب الأحيان، فقد أدَّى هذا إلى تمييز «الانتماء العرقي» السائد على حساب الأقليات العرقية الثقافية. علاوةً على ذلك، كانت المراسم العامة للإمبراطورية وطقوس العبادة فيها مرتبطة بالدين السائد، ويحددها رجالُ الدين، ورغم ذلك، نجد مجددًا أننا في حالة الإمبراطورية البيزنطية نتعامل مع دينٍ للناس كافة. في هاتين الإمبراطوريتين، اتبعَ نشرُ القوانين والعادات تقاليدَ الشرق الأدنى القديم، لكن الإمبراطورية البيزنطية اعتمدت أيضًا على تراث روما، لا سيَّما تحت حكم جستنيان.

لكن الحالة الروسية مختلفة بعض الشيء؛ فلم يقتصر الأمر على وجود تعريفٍ ذاتيٍّ واضح للمجتمع منذ وقتٍ مبكر، بالإضافة إلى تنمية الكثير من الأساطير والقصص المتوارثة والتقاليد والذكريات الروسية، بل وُجد أيضًا ارتباط قوي بالوطن الروسي. بطبيعة الحال، كانت المستوطنات الناطقة بالروسية موزَّعة على نطاقٍ كبير يمتد إلى الشمال الغربي نحو نوفجورود، وإلى الشمال الشرقي نحو فلاديمير، وسوزدال، وتفير، وموسكو. افتقرت عملية الأقلمة البطيئة غير المتعادلة إلى الحدود الواضحة ﻟ «أمة العهد» التي ستصبح النموذج القومي الغربي. إلا أنها على الصعيد الشعوري قدَّمت أساسًا وافرًا لترسيخ النطاقات العرقية، وفي نهاية المطاف، ولا سيَّما في العصر الحديث، تقديم هُوية قومية مرتبطة ﺑ «الطبيعة» الروسية ومناظرها بصفةٍ خاصة.21
علاوةً على ذلك، فكما رأينا، شهدت فترة روسيا الموسكوفية تَكوُّن ثقافة عامة أرثوذكسية أصبحت بعد سقوط الإمبراطورية البيزنطية ثقافة دينية روسية حصرية لمملكة الإيمان «الحقيقي» الوحيدة المتبقية. من ناحيةٍ أخرى، ليس من المؤكَّد إنْ حدث توحيد للقوانين في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ومدى ذلك التوحيد، نظرًا لامتداد الإمبراطورية، وعادات مجتمعاتها العرقية المختلفة، والأملاك الكبيرة للطبقة الأرستقراطية. ولم تؤسَّس بيروقراطية مركزية متمتعة بالقوى الكافية لنشر قوانين موحَّدة عبر هذه المساحة الشاسعة إلا بعد إصلاحات بطرس الأكبر، على الرغم من أن الإحساس بالمجتمع الروسي كان في ذلك الوقت قد أضعفه نوعًا ما دمجُ الشعوب المجاورة في إمبراطورية روسية أكثر اتساعًا. ورغم ذلك، فإنه بدايةً من القرن الخامس عشر وحتى القرن السابع عشر، من الممكن أن نتبيَّن معالم أمةٍ هرمية ترتكز على القيصر، والكنيسة، والمجتمع الأرثوذكسي، وتجمع بين ارتباطٍ واضح بالأرض وثقافةٍ عامة أرثوذكسية مع أعتاب فجر العصر الحديث.22

(٥) هل شهد الغرب أمم ما قبل الحداثة خلال العصور الوسطى؟

إنَّ بحثَنا عن مقومات الأمة في أعقاب انقسام المملكة الرومانية الغربية يُعَد هباءً ولا جدوى منه، بحسب الافتراضات الواردة في السجلات التاريخية لقوميي القرن التاسع عشر التي تنسب أصول الأمم الأوروبية إلى كلوفيس الأول أو أرمنيوس أو هينجيست. بالفعل، تسجل مصادرنا تلاحقًا سريعًا لفئاتٍ عرقية نشطة، إلا أنه، باستثناء أمثلةٍ قليلة، يبدو مفهوم تلك الفئات للتعريف الذاتي متغيرًا على نحوٍ مُحيِّر، فضلًا عن أن أساطير الأصل لتلك المجموعات غالبًا ما تكون سريعة الزوال. يقول باتريك جيري إن هذه الأساطير والرموز هي في الغالب من اختلاق أمراء الحروب ورؤساء القبائل الساعين إلى إضفاء الشرعية على مناصبهم من خلال النَّسب النبيل، في حين أن تلك التحالفات الهشة التي يتزعمونها كانت تبلغ علم الرومان عن طريق مخبريهم تحت أسماءٍ قَبَلية، فما كان من الرومان إلا أن منحوا تلك الفئات العرقية والجماعات الإقليمية المتغيرة المقسَّمة — في الغالب — قدرًا أكبر من الموضوعية والرسوخ يفوق ما تستحقه، وذلك بما يتوافق مع النماذج والتوقعات العرقية الخاصة بهم. ومرةً أخرى، باستثناء بعض الأمثلة الشهيرة، لا نجد قدرًا كبيرًا من مظاهر ارتباط الذكريات ومشاعر الانتماء الجمعية بمنطقةٍ أو إقليمٍ بعينه، أو تنمية الإحساس بالوطن. أما بالنسبة إلى العمليات الأخرى الأساسية لتكوين الأمة، التي تتمثل في نشر ثقافةٍ عامة وتوحيد الممارسات القانونية، فيبدو أنها كانت إلى حدٍّ بعيد من اختصاص خلفاء روما من الأباطرة في الإمبراطورية الكارولنجية والإمبراطورية الرومانية المقدسة، وكذلك من اختصاص القوة البابوية الصاعدة.23
كانت الاستثناءاتُ من هذه الصورة العامة في النصف الثاني من الألفية الأولى في أوروبا موضوعَ جدالٍ محتدم؛ فقد أوضحت سوزان رينولدز أن بعض ممالك العصور الوسطى الأكثر استقرارًا التي ظهرت في القرنين التاسع والعاشر، أبرزها مملكة الأنجلوسكسونيين، ومملكة الفرنجة، ومملكة النورمان، «مرتبطةٌ بجماعة» (عشيرة، أمة، شعب)، ومفترضٌ أن تلك الجماعة مجتمعٌ طبيعي قديم له تقاليد وعادات وقانون وأصل مشترك. ومن خلال وصفها ﺑ «الممالك» مقارنةً بالأمم (الحديثة)، ومن خلال وصف شعورهم بالولاء بأنه «ملكي» بدلًا من قومي، انتقدت رينولدز وجهة النظر القديمة التي تبناها هيو سيتون واتسون بسبب أنها وضعت رؤية غائية للتطوُّر السياسي، وترى هذه الرؤية أن الأمة السابقة الوجود تتحرك حتمًا من خلال اكتساب «الوعي القومي» نحو الحالة النهائية وحدود الدولة القومية. هذا النوع من وجهات النظر يمنعنا من فهم مُثُل ومشاعر مجتمعات العصور الوسطى على حقيقتها فهمًا واضحًا خاليًا من الافتراضات الحداثية المسبقة التي غالبًا ما تكون قومية.24
ورغم ذلك، زعمت رينولدز مؤخرًا أن «مفهوم الأمة الذي يمثل أساس كل أشكال القومية كان منتشرًا قبل القرن الثامن عشر بفترة كبيرة.» رغم أن ذلك كان يبدو بديهيًّا ولم يكن يتطلب أيديولوجية أو حركة كتلك التي رأيناها في العصر الحديث. وجمَع هذا المفهوم بين فكرة المجتمع الطبيعي الذي يملك نَسبًا مشتركًا، وعُرفًا، وثقافة، وبين فكرة المجتمع السياسي الذي يتمتع بحقوقٍ سياسية، حتى إن لم يكن ذلك المجتمع مستقلًّا. بالإضافة إلى ذلك، عندما يستمر الاسم الجمعي، مثل ذلك الذي يربط بين الفرنجة وفرنسا، فعادةً ما تستمر أيضًا أساطير الأصل، وفي هذه الحالة المذكورة، تتمثل أسطورة الأصل في أن الفرنجة أو الفرنسيين ينحدرون من نسل الطرواديين رغم التغيُّر الكبير الذي طرأ على السكان وعلى الحدود. ترى سوزان رينولدز أن الأمم والقومية مفهومان ينتميان إلى عالَم النظرية السياسية، أو على الأحرى ينتميان إلى الأفكار الشائعة التي يرى المشتركون في تبنِّيها أنها بديهية؛ ولذلك فإنها نادرًا ما تظهر بوضوحٍ في السجل التاريخي. إلا أن الحداثيين أمثال جون بروييه يرَوْن أن هذا ليس كافيًا لدعم حُجة وجود أمم خلال ما قبل العصر الحديث، فضلًا عن وجود قومية. ربما كانت مثل هذه الأفكار رائجةً في أوروبا العصور الوسطى، وربما كانت سياسيةً وإثنوغرافية، لكننا نحتاج إلى أدلةٍ مباشرة أخرى قبل أن يمكننا التأكد من أن الشعوب في العصور الوسطى شعرت بانتمائها إلى أمة، وكلمة «شعب» هنا يُقصَد بها معظم أفراد سكان كيان سياسي بعينه.25

(٦) هل إنجلترا أول أمة؟

من نواحٍ عديدة تُمثل إنجلترا نموذجًا للأمم السابقة للحداثة. كان أدريان هستنجز قد أوضح بالفعل أن إنجلترا كانت تتصدَّر قائمة أمم ما قبل العصر الحديث (سبقتها أرمينيا وإسرائيل القديمة لكنهما حالتان منفردتان)، مشيرًا إلى أن نصوص القرن الرابع عشر تكشف عن مفهومٍ للأمة يتشابه كثيرًا والمفاهيمَ المعاصرة، وأنه نظرًا لازدهار الأدب الإنجليزي واستخدام اللغة الإنجليزية في البلاط الملكي وفي الإدارة اللذين تزامنا مع ارتفاع روح «القومية» في حرب المائة عام، يكون لدينا مبرر لاعتبار الإنجليز أمةً في العصور الوسطى. إلا أن هستنجز اعتبر أيضًا إنجلترا في أواخر عهد الأنجلوسكسونيين منذ القرن العاشر «دولة قومية» كاملة التكوين. وفي هذا الصدد، اتبع وجهة النظر المتطرفة للمؤرخين، أمثال جيمس كامبل وباتريك وورمالد، الذين زعموا أنه على الرغم من أن بيدا لم يطرح سوى رؤية الأمة الإنجليزية المسيحية (على الرغم من ولائه الشديد لمملكة نورثمبريا)، فإن الملك ألفريد — من خلال حكومته وقوانينه وإنجازاته الأدبية والتعليمية — هو مَن أسبغ على أفكار بيدا معنًى نظاميًّا، وبدأ عملية دمج ممالك وشعوب عديدة في أمةٍ واحدة. ورغم ذلك، لم يتمكن خلفاؤه، لا سيَّما أثيلستان وإدجار، من ترسيخ فكرة وواقع الأمة الإنجليزية وتوحيد جماعاتها وكياناتها السياسية المختلفة في مملكةٍ واحدة إلا في القرن العاشر والقرن الحادي عشر.26
على النقيض من وجهة النظر تلك، تحدَّث كريشان كومار عن غياب أي نوعٍ حقيقي من المشاعر القومية لدى الإنجليز في هذه الفترة، حتى لو أصبحت إنجلترا الأنجلوسكسونية:

واحدةً من أكثر الدول تكاملًا ومركزيةً في أوروبا، إنْ لم تكن أكثرها تكاملًا ومركزيةً على الإطلاق، وهذا إنجازٌ عادةً ما يُعزى في الأساس إلى الملك ألفريد العظيم. وَوَرِث ويليام الفاتح دولةً جيدة التنظيم، تُدار بنظام إدارة موحَّد، وهيكل قوانين مَلَكية بالغ التطور، وعُملة مركزية، ونظام ضرائب فعَّال.

إلا أن هذا، كما يقول كومار، يُعد مختلفًا كثيرًا عن «الأمة» المتكاملة، أو النوع المتطوِّر من «الهُوية القومية». إن محاولة إحياء مملكة مرسيا في القرن العاشر، وعالمية الكنيسة الرومانية، والعلاقات مع إسكندنافيا، وتحزُّب نبلاء الإنجليز؛ يعارض أي نوعٍ حقيقي من الهُوية القومية بين الطبقات العليا في هذه الفترة. إن كل أمرٍ من هذه الأمور إذا تعاملنا معه على حدةٍ فقد لا يبدو خطيرًا للغاية؛ فعلى أي حال، في وقتنا المعاصر توجد أكثر من أمة مقبولة، لدى كنيستها علاقاتٌ تتجاوز حدودها، ويرتبط أفرادها بعلاقات مع مناطق أو «عرقيات» أو دول أخرى، وتعاني من الحزبية، وغيرها. ورغم ذلك، فإن تضافر هذه المعوقات يبدو أنه يُضعف من حُجة وجود أمة إنجليزية في هذه الفترة، حتى إذا كنا في حاجةٍ إلى التشكيك في اعتراض كومار الحداثي الأساسي (والعبثي) المتمثل في أن إنجلترا في عهد الأنجلوسكسونيين فشلت في إظهار «أي شكل لعلاقة بين النُّخَب والعوام، أي الأشخاص العاديين في المجتمع؛ فالأمة التي تتكوَّن من النُّخَب وتُعبِّر فقط عن وعي النُّخبة ليست أمةً بالمعنى المقبول للكلمة في الوقت الحاضر.»27
من ناحيةٍ أخرى، سواءٌ أَقَبِلنا وجهة النظر المتطرفة القائلة بوجود «دولة» أنجلوسكسونية تحت حكم «ملك الإنجليز» قبل عام ١٠٦٦ أم لم نقبلها، فمن الممكن تقديم حُجة أخرى منفصلة تتحدث عن تكوُّن نوع من العرقية الأنجلوسكسونية المشتركة؛ ففي القرن العاشر كانت النصوص أمثال ملاحم «الخروج»، و«معركة مالدون»، و«وقائع الأنجلوسكسونيين»، و«التاريخ الكنسي للشعب الإنجليزي» الذي كتبه بيدا قبل ذلك؛ تشير بقوةٍ إلى أن النُّخَب الأنجلوسكسونية بالإضافة إلى سيطرتها على مجتمعٍ إنجليزي له اسمٌ وتعريفٌ ذاتي وأسطورة أصل مشترك، فقد كانت لها أيضًا مجموعتها الخاصة من الأساطير والذكريات والرموز والتقاليد المشتركة، أبرزها أسطورة قدرية للاختيار العرقي من قِبل الرب، مصوغة على غرار نموذج الشعب الذي يجمع العهدُ بين أفراده في العهد القديم. علاوةً على ذلك، وفَّرت اللغة الأنجلوسكسونية وسيلة فعالة للتواصل مع الطبقات الأخرى، بالإضافة إلى أنها أدَّت إلى ظهور أدبٍ ثَريٍّ ومتنوع. كذلك ساعدت اللغة المشتركة في نشر القوانين والمؤسسات الملكية في معظم أنحاء المملكة، حتى إذا لم يكن لدينا «دليل مستقل» مباشر، حسب قول بروييه، على أن الأشخاص الذين كانوا يستخدمون محاكم المقاطعات، على سبيل المثال، كانوا يرَوْن أنها مؤسسات «إنجليزية» وأصبحوا مرتبطين من خلال هذه المؤسسات بالأمة «الإنجليزية». ورغم ذلك، فالتمتع بقدرٍ كبير من الترابط والوحدة على الصعيد الإقليمي هو ما كان يُفتقر إليه، هذا إذا استثنينا بعض فتراتٍ قصيرة. وعلى الرغم من تحدُّث بعض المصادر عن ارتباطات الجزر البريطانية بأرض الإنجليز «إنجلا لوند»، فإنه ليس من الواضح إلى أي مدًى ينطبق ذلك على إنجلترا أو بريطانيا ككلٍّ (في الوقت الراهن تقريبًا)، وهذا أمر ما زال يُعرقِل التحليل حتى يومنا الحاضر. وفيما يتعلق بالثقافة العامة المشتركة والمميزة، فلا يمكننا الجزم بمدى انتشارها في هذه الفترة، حتى عن طريق الكنيسة، على الرغم من تحقق «التبعية المتبادلة بين الملك وأمة سياسية واسعة النطاق بالتأكيد» في الحكم المحلي (المقاطعات ومجالس المقاطعات) ومن خلاله، حسبما أوضحَ وورمالد.28
تشير حُجة وورمالد إلى أن المملكة الأنجلوسكسونية، مثل بقية الممالك الأخرى في أوروبا الشمالية، كانت غير هرميةٍ في جوهرها، واعتمدت في الأساس على التجمعات المحلية لتحقيق ترابطها. على النقيض من ذلك، بدا أن النورمان قد اقتبسوا لحكمهم طابعًا هرميًّا مميزًا، من ناحية كلٍّ من الروابط الإقطاعية الخاصة بالأراضي الزراعية، وكذلك إضافة طبقة من الفرسان المتحدثين بالفرنسية على النظام الاجتماعي الإنجليزي السابق. علاوةٍ على ذلك، فقد كانت اهتماماتهم أوروبية على نحوٍ قاطع؛ فقد قضى معظم الملوك النورمان الذين حكموا إنجلترا قدرًا كبيرًا من الوقت خارج البلاد يدافعون عن ممتلكاتهم في الأنحاء الأخرى فيما يُعرَف بفرنسا حاليًّا أو يوسِّعون تلك الممتلكات، في حين كان رؤساء الأساقفة من أوروبا القارية في أغلب الأحيان. وكانت ثقافة النُّخبة في تلك الفترة ثقافة قارية أيضًا؛ في عمارتها، ولغتها، وأدبها، وكانت إما فرنسية وإما مشتقة من الثقافة الفرنسية. من الناحية الأخرى، بحلول أواخر القرن الثاني عشر، وصف الحُكام النورمان أنفسَهم بملوك إنجلترا، وتزوَّج فرسانهم من الإنجليز واندمجوا معهم لدرجةٍ كبيرة. في ذلك الوقت أيضًا، كان النورمان يُميِّزون أنفسَهم بوضوحٍ عن كلٍّ من الويلزيين والأيرلنديين؛ إذ كانوا يعتبرون ثقافاتهم وعاداتهم «مُنحطة». بالإضافة إلى ذلك، ساعد مؤرخو القرن الثاني عشر أمثال ويليام المالمسبوري، وجون ورشستر، وأورديريك فيتاليس، وهنري الهنتينجتوني، في إحياء التاريخ الأنجلوسكسوني وروح الماضي الإنجليزي، فقط لإضفاء الشرعية على حُكم النورمان، وبدا أيضًا أنهم سعَوْا إلى تحقيق تصالح بين الإنجليز والنورمان. علاوةً على ذلك، من خلال تبَنِّي وجهة نظر جيفري المونموثي التي طرحها في كتاب «تاريخ ملوك بريطانيا»، طالب الملوكُ الإنجليز، لا سيَّما إدوارد الأول، بحق الإنجليز في حُكم بريطانيا بأكملها على غرار حُكم آرثر؛ ذلك «الإمبراطور» البريطاني الأسطوري الذي سبق حكمه عهد السكسونيين.29
وهذا يشير إلى أن ثَمَّةَ عملية إحياءٍ كانت تجري على قدمٍ وساقٍ لهُوية «عرقية» إنجليزية (أنجلونورمانية) ذات تعريفٍ ذاتي جديد، وأساطير أصل جديدة، وتاريخ مشترك مرتبط بأرض معينة، ومختلفة على نحوٍ واضح عن الويلزيين والأيرلنديين. من جانبٍ آخر، فإن الهُوية «القومية» كانت بدأت في الظهور لِتوِّها في هذه الفترة. ولم يوجد إلا قدر قليل من الثقافة العامة المميزة واللغة المميزة (إذ ظلت اللاتينيةُ اللغةَ الرسمية، بينما كانت الفرنسيةُ اللغةَ المتحدَّث بها في البلاط الملكي)، وكان يوجد فقط قدرٌ من الترابط الإقليمي (ظَل الشمال، بصفةٍ خاصة، منفصلًا بوجهٍ عام). أما التطور الذي حدث في هذه الفترة، فكان وجود دولة إنجليزية قوية نسبيًّا، ذات موارد مالية مركزية، وقانون إنجليزي واحد مكتوب تُنظِّمه المحكمة ونظام من المحاكم الدورية التي تُقام فيها محاكمات أمام المحلفين، ويعمل بها قضاة محترفون. وكما يُعلِّق ريس دافيس فإنه: «بحلول القرن الثالث عشر، كان القانون الإنجليزي يُعتبر إحدى العلامات المميزة للهُوية الإنجليزية وجزءًا لا يتجزأ من الثقافة السياسية الإنجليزية.»30
بدأت الأمور في التغيُّر في أواخر القرن الرابع عشر، حين شهدنا عناصر ثقافة عامة مميزة، مثل ظهور الملكية المقدسة، ورمزيتها السياسية في عهد الملك ريتشارد الثاني والملك هنري الخامس، وتأسيس مجلسَي البرلمان، وتزايُد استخدام اللغة الإنجليزية بين موظفي السجلات، وبدايات الأدب الإنجليزي (باللغة الإنجليزية الوسطى) في شعر جاور، ولانجلاند، وتشوسر، والترجمات العامية للكتاب المقدس في عهد ويكليف. بلا شكٍّ أدَّى قرار تشوسر بالكتابة بالإنجليزية في الأساس إلى عزله عن القُراء الأوروبيين، لكنه أيضًا قرَّبه أكثر من الوعي الإنجليزي الخالص؛ مما يشير إلى أنه «رأى أن قُراءه «هم» الإنجليز، وكانت هذه الرؤية مهمة من عدة نواحٍ.»31
كان لهذه التطوُّرات جذورها في القرن السابق، في الأخبار التي رواها المؤرخ ويندوفر مثل ذلك الخبر الذي رواه عام ١٢٣٣ مناهضًا فيه البواتفيين، ومناديًا فيه بمنح الأولوية للشعب الإنجليزي الأصلي وليس للأجانب، أو في قصائد مثل قصيدة «أغنية لويس» التي تحتفي بحرية الإنجليز أثناء احتفالها بانتصار البارونات في حرب البارونات الثانية عام ١٢٦٤. وعلى الرغم من أن سلسلة الحروب ضد ويلز واسكتلندا وفرنسا التي بلغت ذروتها في حرب المائة عام كان دافعها الأساسي مصالح الأُسَر الحاكمة، فإنها هي ما كان يثير مشاعر الولاء القومي لشخص الملك كرمز للأمة بدرجةٍ متزايدة، وبخاصةٍ الولاء للملك هنري الخامس. والسبب في ذلك أننا حتى إذا صرفنا النظر عن الوصف المثالي والمستوحى من الكتاب المقدس الذي قدَّمه شكسبير للملك هنري الخامس، فسوف يظل لدينا ملكٌ يسعى إلى ترويج اللغة الإنجليزية، والتغلب على الانقسامات الكبيرة بين الأرستقراطية الإنجليزية التي تسبَّب فيها اغتصابُ والده للعرش، بالإضافة إلى دمج المجموعات العرقية والطبقات المختلفة لتُحارب تحت لوائه. بطبيعة الحال، من الممكن أن نرى في أفعاله مجرد استخدامٍ للشعور القومي من أجل أهداف تخدم الأسرة الحاكمة وتكوين الإمبراطورية، حسبما يُرجِّح كريشان كومار، لكن هذا يفترض وجود قدرٍ من «الشعور القومي» في المقام الأول. علاوةً على ذلك، يزعم العديد من مؤرخي العصور الوسطى أنه لا يمكن العثور على حس الهُوية القومية إلا في هذين القرنين، على الأقل بين النُّخَب، لكن ربما وُجِدَ أيضًا ذلك الحس بين العوام المزارعين.32
تشير كلُّ هذه الأمور إلى أن الإحساس بالهُوية القومية في أواخر عهد إنجلترا العصور الوسطى كان يتنامى لدى كثيرٍ من أفراد الطبقة العليا ولدى بعض أفراد الطبقة المتوسطة. وعلى الرغم من أنهم ظلوا يشعرون بقوة الهُويات الجمعية الأخرى وصور الولاء الأخرى، المحلية والكاثوليكية معًا، فقد كان نموذج الأمة الإنجليزية العرقية السياسية ومصيرها داخل حدودها تقريبًا قد بدأ في السيطرة عليهم سيطرةً كبيرة؛ نظرًا لأن الممتلكات الملكية في فرنسا في ذلك الوقت كانت متنازَعًا عليها وضائعة. وساعد في ظهور هذا التوجُّه وجودُ ثقافةٍ عامة مميزة ترتكز على الملك، ووجودُ نظام قانوني أكثر مركزية. من جانبٍ آخر، باستثناء بعض مصادر العصور الذهبية المقدسة، مثل التضحية وما شابه ذلك، كانت الهُوية الإنجليزية مُفتقِدة الصفة «الدينية»؛ ومن ثَمَّ الصفة الملزمة والقائمة بذاتها، التي نربطها بالأمة؛ فتضحية الصليبيين نيابةً عن العالم المسيحي استغرقت بعضَ الوقت كي تنتقل إلى «الوطن». وما عاود الظهور هو الاعتقاد بالاختيار العرقي للشعب الإنجليزي؛ لذلك، في عام ١٣٧٧، ألقى المستشار آدم هوفتون، خطابًا في افتتاح البرلمان أثنى فيه على انتصارات الملك إدوارد الثالث، وعلى ازدهار المملكة، التي «أظهرت أن إنجلترا تتمتع بتفضيل الرب، وأن الإنجليز هم شعب إسرائيل الجديد، وأن مملكتهم هي «ميراث الرب».» ولم يكن ذلك تعبيرًا فرديًّا عن فكرة اختيار الشعب لمهمةٍ تبشيرية؛ فقد صاحَب آمالَ الحرب الصليبية الأنجلو فرنسية قدرٌ كبير من «الوطنية الإقليمية» الإنجليزية، خصوصًا خلال احتفالات الانتصار التي أعقبت معركة أجينكورت.33

(٧) فرنسا: المملكة الأكثر مسيحيةً

لخَّص الوصفُ الشهير «مملكة فرنسا المقدسة» الذي أطلقته جان دارك تراثًا طويلًا من الملكية الهرمية في فرنسا قائمًا على إحساسٍ واضح بالمجتمع الفرنسي العرقي السياسي. نبعت قداسة المملكة الفرنسية من الأسلاف الأتقياء لملوكها ومن طائفة القديس لويس، ومن تقوى وورع شعبها، وعدد قديسيها ومقامهم الرفيع، لا سيَّما القديس دينيس، بالإضافة إلى كمية البقايا الأثرية، والشهداء والجثامين المقدسة الموجودة بها، وكنائسها وكاتدرائياتها، والكهنة والجامعات، وفوق ذلك كله نقاء إيمان شعبها، وعدم هرطقتهم ودعمهم المستمر للكنيسة. ولا عجبَ أن الملوك الفرنسيين منذ عهد فيليب الرابع، حوالي عام ١٣٠٠، وصفوا أنفسهم بلقب «الملوك الأكثر مسيحيةً»، ورأَوْا أن شعبهم هو الجزء الأكثر حظوةً من «إسرائيل الحقيقية»، أي الكنيسة الكاثوليكية، التي حلَّت محل الشعب المختار الأصلي. ونظرًا لمعارضة الملك فيليب الرابع لبابا الكنيسة الكاثوليكية في ذلك الوقت، بونيفاس الثامن، فقد اعتبر فيليب نفسه «درع الإيمان وحامي الكنيسة».34
قامت مزاعم الملوك الفرنسيين على أساس نَسَب يكافئ نَسَب الملوك الإنجليز ويساويه في القِدم والنُّبل. انطلاقًا من توحيد كلوفيس الأول لمقاطعة الغال الرومانية وتحوُّله إلى المسيحية الكاثوليكية عام ٤٩٦، في معارضة القوطيين الغربيين الأريوسيين، تتحدَّث مزاعمهم عن سُموِّ:

أمة الفرنجة المجيدة، المختارة من قِبل الرب، الباسلة في الحروب، الوفية في السلم، العميقة في الحكمة، الكبيرة في الجسم، الطاهرة في النقاء، العظيمة بلا نظير، الجسورة والسريعة والشرسة، المتحوِّلة حديثًا إلى الإيمان الكاثوليكي، والخالية من الهرطقة.

هذا ما ورد في تمهيد القرن الثامن لنصوص القانون السالي القديم. وبعد فترةٍ ليست بطويلة، مسح الأساقفة بيبان، ابن تشارل مارتيل، بالزيت المقدس، بمباركة البابا، وأعلن أن مملكة الفرنجة هي مملكة داود الجديدة وأن شعبها يشابه شعب إسرائيل القديم في الترتيب الإلهي، وقد أكد البابا هذه المكانة في حفل تتويج شارلمان كإمبراطور عام ٨٠٠.35
تَجدَّد الاعتقادُ بأولوية المملكة الفرنسية بالقداسة في أوائل القرن الثاني عشر في عهد لويس السادس، عندما تأسست جماعة تبجيل القديس دينيس، القديس الحامي للمملكة. وكان القديس يمدح في القصيدة الملحمية «أغاني البطولة»، وكانت «رايته البرتقالية» تُرفع في المعركة. إلا أن نصوص هذه الفترة المبكرة استخدمت مصطلح «الأكثر مسيحيةً» للإشارة إلى الشعب الفرنسي بدلًا من المملكة الفرنسية أو الأرض الفرنسية، وأُطلقَت بقدرٍ أقل على الملوك نظرًا لأنه قبل لويس السادس لم يذهب أيُّ ملك فرنسي إلى الحروب الصليبية. وبدأ هذا الأمر يتغيَّر في أوائل القرن الثالث عشر عندما استعاد فيليب أغسطس نورماندي، وأصبح «الفرنجة» يقودون الحملات الصليبية، وأصبحت مملكة عائلة كابيه معروفة باسم «المملكة الفرنسية»، وأصبحت جملة «الدفاع عن المملكة» شائعة الاستخدام على نحوٍ متزايد، حيث استحضرها الملك فيليب أغسطس والملك فيليب الرابع لتبرير حروبهما.36
رغم ذلك، منذ منتصف القرن الثالث عشر، عَزَّزَت جماعة لويس التاسع المقدس ورجال الدين في كنيسة القديس دينيس وكنيسة فلوري الاعتقادَ بالحماية الإلهية للمملكة الفرنسية والمكانة الرفيعة لملكها وشعبها. في عام ١٢٣٩ وفي عام ١٢٤٥، كان المقر البابوي يخاطب لويس التاسع باسم «الأمير الأكثر مسيحيةً، حاكم الشعب الأكثر تقوى»، في حين بدأ الفرنسيون المتعلمون يرَوْن أنفسهم «أمة مباركة»، مخلصين للكنيسة والبابوية. وكانت تلك أيضًا الحقبة التي تُرجم فيها «التاريخ الفرنسي الكبير» إلى الفرنسية نقلًا عن النصوص اللاتينية القديمة التي مدحت حماس ونقاء الكاثوليكية الفرنسية وتقوى ملوكها. وكتب جوزيف ستراير عن هذه الفترة، فقال إن الكابيتيين «اضطُروا إلى اختراع فرنسا التي زعموا أنهم يحكمونها. كان عليهم أن يجعلوا الرجال فخورين بالبلد وموالين كذلك للملك، وكان عليهم توسيع فكرة فرنسا لتتوافق مع توسيع نطاق نفوذهم.» ويستطرد ستراير قائلًا إنه من أجل هذه الغاية اندمجت فكرتان، ألا وهما: فكرة الملك المقدس والبلد المقدس، وساعد اندماجهما في التعجيل بظهور دولة فرنسية مركزية نحو عام ١٣٠٠.37
وترى كوليت بُون أيضًا أن الأرض والشعب والملك كانوا يُعتبرون على القدر نفسه من القداسة بدايةً من عهد فيليب الرابع المُلقَّب بفيليب الوسيم. عام ١٣٠٢، وصَف الراهبُ جيوم دو ساكفيل الفرنسيين بأنهم شعب الرب الذي اختاره الرب كما اختار إسرائيل، أرض العهد الجديد، أرض الميعاد، الأرض المقدسة: «اختار الرب مملكة فرنسا على كل الشعوب الأخرى.» وأكدت أيضًا دعاية نوجاغيه على أن الرب اختار فرنسا مملكة خاصة به: «اختار الرب مملكة فرنسا وباركها على كل الممالك الأخرى في العالم.» وعبَّر عن هذه الفكرة أيضًا المرسومُ البابوي في ذلك الوقت، المعروف باسم «ملك المجد»، الذي نَصَّ على ما يأتي:
كوَّن ملكُ المجد ممالك مختلفة داخل نطاق هذا العالم وكوَّن حكوماتٍ للشعوب المتنوعة وفقًا لاختلافات اللغة والعرق. وبين تلك الممالك، وعلى غرار شعب إسرائيل … (فإن) مملكة فرنسا، كشعب خاص اختاره الرب لتنفيذ أوامر السماء، تتميز بأماراتٍ معينة من الشرف والنعمة.38
فيما بعد، عبَّر جورج شاستيلان عن هذا الشعور تعبيرًا موسويًّا، فقال: «يشرق الرب بوجهه عليكم، وتستقر يَدُ الرب على الشعب الذي اختاره.» كان هذا مشهودًا بعلامات نعمةٍ خاصة: القارورة المقدسة لمسح الملوك، والزنبق، و«الراية». ويلزم ذكر تعليق بُون المتعلق بفكرة أن مفهوم الأمة الهرمية لا يربط النُّخَب بعامة الشعب:
تكوَّنت فكرة الأمة في المملكة منذ فترة مبكرة في تاريخها؛ ومن ثَمَّ استُلهِمت أكثر من الأمم الأخرى لتستمد قيمتها من إيمانها والتزامها بالإرادة الإلهية. واستُخدم مصطلح «الأكثر مسيحيةً» دون تمييز للإشارة إلى الملك الفرنسي وللإشارة إلى الشعب والأرض.39
في القرنين التاليين توسَّع مفهوم فرنسا بعدة نواحٍ؛ في البداية، كان المفهوم سياسيًّا، يتمثل في «مملكة فرنسا» التي يحكمها الملك فيليب أغسطس، وفي منتصف القرن الثالث عشر، توسَّع المفهوم ليشمل كل المملكة، «أرض محددة، أرض عاش فيها عرق الفرنجة منذ زمن سحيق.» وبعد ذلك، أصبحت مشخصة، فهي: «المرأة الفرنسية» اللطيفة، الجميلة، الحرة (من الضرائب)، الباسلة، الموالية، المخلصة، المتعلمة، الأكثر مسيحية. ويرى آلان كارتييه، عندما كتب حوالي عام ١٤٢٠، أن شخص فرنسا مثَّل مجموعة من الصفات الطبيعية والثقافية كان لكل شخصٍ واجب تجاهها يماثل واجب الطفل تجاه أمه. وبحلول عام ١٤٨٤، استطاع مستشار فرنسا استخدام موضوع فرنسا كحديقة، وأكد على أن «جمال البلد، وخصوبة تربته، وسلامة هوائه تتفوق على كل البلدان الأخرى حول العالم.» وصاحَب ذلك مطالبات حماسية للدفاع عنها. وفي تسعينيات القرن الخامس عشر، نقرأ في «عقيدة النبلاء» أنه: «يجب أن يُكَرِّس كل شخصٍ نفسه للدفاع عن أرضه؛ فالشرف والمجد الحقيقيان يُتوِّجان أولئك الذين يموتون من أجل بلدانهم. لا يوجد شيءٌ بالغ الصعوبة لدرجة تَحُول دون إنقاذ مكان ميلاد المرء.» ولكيلا يُخطئ المرء ويظن أن هذه دعوة للدفاع عن المنطقة الأهلية للشخص فقط، تقتبس بُون صلاة قالها اللورد جون دو بويي في ذلك العصر، نصها كالتالي:
صلوا من أجلي أيها الشعب الطيب، صلوا لأجل اللورد بويي الذي قُتل في الحرب العظيمة، مقاتلًا من أجل فرنسا ومن أجلكم. (وتضيف كوليت بُون: «الذي مات من أجل فرنسا.»)40
لم يكن مفهوم فرنسا شائعًا ومنتشرًا على نطاقٍ واسع بين الطبقات المتعلمة فحسب، بل ارتبط بالمملكة، والأرض، والشعب؛ ومن ثَمَّ جَسَّدَ المبدأ الهرمي المتمثل في نظام اجتماعي موحَّد في أرض معينة. إلا أن الهرمية لم تتضمَّن (ولا تتضمَّن) عزل النُّخَب عن غالبية السكان؛ فعلى الرغم من الاختلافات الإقليمية في المملكة الفرنسية، والثقافة المختلفة جدًّا في الجنوب، فقد انتشرت المعرفة بمفهومٍ أوسع لفرنسا وانتشر التعلق بهذا المفهوم تدريجيًّا، وإنْ كان على نحوٍ متقطع وغير متساوٍ، من باريس وإيل دو فرانس إلى المناطق الأخرى من خلال العمليات المختلفة لتكوُّن الأمة المتمثلة في تعريف الهُوية الفرنسية المختلفة من خلال معارضة القوى الخارجية، لا سيَّما الدولة الإنجليزية، وتداول أساطير الأصول (الطروادية)، والذكريات، ورموز المملكة الفرنسية، وتزايد أقلمة الذكريات والارتباطات ﺑ «فرنسا»، ونشر القوانين والعادات من المركز إلى المناطق الأخرى، وخلق ثقافة عامة مَلَكية ومسيحية ونشرها، بما في ذلك مراسم تتويج الملوك، ودخول الملوك للمدن، والقوى الشفائية للملك، ودور المجالس القضائية.41

وكان ما ساعد في تقوية الهُوية القومية الفرنسية بحلول أوائل القرن السادس عشر هو تكوين بعض المصادر الثقافية المقدسة. وكان أهم تلك المصادر بلا شكٍّ أسطورة قوية للانتخاب العرقي، ركَّزت على الملك، لكنها امتدت أيضًا لتشمل الأرض وشعب المملكة. وعلى الأرجح لا يمكننا أبدًا أن نعرف على نحوٍ مؤكَّد إلى أي مدًى انتشر ذلك الاعتقاد بين الأشخاص العاديين، لا سيَّما أولئك المقيمين في الريف. إلا أنه في القرن الخامس عشر، ربما شجَّع القتالُ المُطوَّل ضد الأعداء الإنجليز والبرجنديين كثيرًا من أهل البلدات، وربما بعض الفلاحين، على التعاطف مع دعوة جان دارك للدفاع عن مملكة فرنسا المقدسة.

(٨) اسكتلندا

نجد تركيباتٍ مشابهةً من الهرمية، والارتباط الإقليمي، والمشاركة الأوسع نطاقًا في مكانٍ آخر. تُمثل مملكة اسكتلندا أثناء حروب الاستقلال وبعدها مثالًا توضيحيًّا لذلك. والدليل الأهم في ذلك الصدد هو إعلان أربروث (١٣٢٠). إلا أن هذه الوثيقة ليست سوى وثيقة ضمن سلسلة من الحركات الدبلوماسية الهادفة إلى مجابهة مزاعم سيادة الملك الإنجليزي إدوارد الأول على اسكتلندا. وجابه تأكيدَ إدوارد الأول على حقوقه المفترضة التعليماتُ التي أُرسلت إلى المندوبين الاسكتلنديين في البلاط البابوي للبابا بونيفاس الثامن في مدينة أناني عام ١٣٠١، وكذلك وثائقُ لاحقة مثل إعلان رجال الدين عام ١٣٠٩، والاعتراضُ الأيرلندي عام ١٣١٧، وانتهت بإعلان أربروث. يقول إدوارد كوين إنه لم يكن من الممكن أن يعجز مستقبلو هذه التوسلات عن فهم أنها «صادرة عن شيءٍ أكبر من أفواه الرعايا الإنجليز المنشقين أو المتمردين الإقطاعيين المحبطين من حاكمهم الجبَّار. لقد كان ما يُعبر عنه هو صوت أمة.»42
يوجد في كل وثيقةٍ من هذه الوثائق إشارة إلى «مجتمع المملكة»، وفي بعض الأحيان إلى «موافقة كل الشعب»؛ لذلك، فإن إعلان رجال الدين عام ١٣٠٩ يتحدَّث عن كل الشعب الذي يعاني من العبودية والعذاب والذبح، تمامًا مثل الاعتراض الأيرلندي عام ١٣١٧ (الذي يتحدث بمصطلحاتٍ أكثر تطرفًا) وكذلك إعلان أربروث. هل يُمثِّل هذا ما هو أكثر من مجرد مصطلحات تقليدية معتادة في هذه الفترة؟ يبدو أن الحروب المُطوَّلة ضد الملك إدوارد قد أبرزت طبقة من الملاك الأحرار تحت الطبقة المكوَّنة من التسعة والثلاثين إيرل وبارون الذين وَقَّعوا بأختامهم على الإعلان. وظهر أيضًا في هذه الفترة البرلمانُ الاسكتلندي، لكنه لم يحصل مطلقًا على المحورية والأهمية اللتين حصل عليهما نظيره الإنجليزي. وفي هذه الحالة، فإن التوسلات المتكررة المُوجَّهة إلى «العرق» الاسكتلندي و«الأمة الاسكتلندية» تُمثِّل توسُّعًا للأمة السياسية داخل النظام الاجتماعي الأرستقراطي التقليدي.43
ورغم ذلك يبقى السؤال: هل يمكننا استنتاج وجود نوع من الهُوية القومية الاسكتلندية في هذه الفترة اعتمادًا على تلك الوثائق الثقافية المطروحة على نحوٍ مقنع، يتجاوز حدود نُخبة البارونات الصغيرة؟ في حقيقة الأمر، لا نعرف سوى القليل عن شعور الجنود العاديين، ولا يتوافر لدينا إلا الحقيقة التي يُذكِّرنا بها بروس ويبستر المتمثلة في أنهم: «قاتلوا، مثل قادتهم، في ظروفٍ كان من الأسهل والأكثر أمنًا ألا يقاتلوا فيها.»44
علاوةً على ذلك، تَستخدم كلُّ الوثائق السالفة الذكر المصطلحاتِ المتعلقة بالطغيان، وتزعم أن الشعب انتخب أميرًا، مثل يهوذا المكابي، يُعتبر أداةً للرب للتخلص من الطغيان وتحرير الشعب من العبودية. توضح وثيقة تعليمات عام ١٣٠١ هذه الفكرةَ بتشبيه الملك إدوارد بأنطيوخوس الرابع الذي أشعل الثورة المكابية بتدنيسه للهيكل. كثيرٌ من هذا الكلام المتعلق بالحرية والطغيان كان بطبيعة الحال منتشرًا لدى غيرهم في أوروبا، ونابعًا إلى حدٍّ ما من كتابات تشابه كتاب «بوليكراتيكوس» لصاحبه جون سولزبري الذي كتبه في القرن الثاني عشر، لكنها جاءت في الأساس من العهد القديم وكتاب أبوكريفا. في حالة اسكتلندا، ولا سيَّما في إعلان أربروث، كان يوجد أيضًا تأثُّر بالكلاسيكية؛ حيث نجد فقرات معروفة تتحدث عن الموت في سبيل الحرية تستحضر على نحوٍ حرفي تقريبًا «المؤامرة الكاتلينية» للمؤرخ سالوست (٦٣ قبل الميلاد).45
من ثَمَّ، فإن الادعاء مع كومار أن أحداث ووثائق تلك الفترة «تحمل طابع الحرب الأهلية أكثر من طابع الحرب القومية في المنطقة الحدودية» بين مؤيدي الملك جون باليول ومؤيدي الملك روبرت بروس، وأن «ما ينطبق على المنطقة الحدودية كان منطبقًا على الدولتين في المجمل»؛ يجعلنا نغفل عن فكرة أن الحروب ضد الملوك الإنجليز، إدوارد الأول وإدوارد الثاني وإدوارد الثالث، ساعدت أيضًا في تكوين الهُوية السياسية الاسكتلندية. في حقيقة الأمر، هذه ليست هُوية قومية بالمعنى المفهوم لدى الرومانسيين الألمان أو المفكرين مناصري النزعة السلافية، على الرغم من إثراء التراث السلتي في ذلك الوقت. ولم تكن تلك الهُوية القومية شاملةً الشعب كله، على الرغم من اشتراك فئاتٍ أخرى بالإضافة إلى الطبقة الأرستقراطية. وصحيحٌ أيضًا أن ثقافة ولغة معظم الأراضي المنخفضة في اسكتلندا تأثرت على نحوٍ هائل بالطابع الإنجليزي، وأن التأثيرات الثقافية عبر الحدود كانت متغلغلة؛ ففي النهاية، حارب معظم النبلاء الاسكتلنديين ضد الإنجليز (بعضهم حاربوا على نحوٍ متقطع نسبيًّا) وتصاعدت المقاومة، ونُشرت الجيوش، وتكوَّنت أساطير وذكريات عن المعارك والحرية وتوارثتْها الأجيال. وهذا هو جوهر الأمر؛ ففي أغلب الأحيان، يكون ما حققتْه الأجيال اللاحقة من الحروب (وإعلان الاستقلال بعد ذلك بكثير) هو المهم.46
في الحقيقة، لقد كان القرن الخامس عشر تقريبًا هو الفترة التي شهدت تَكوُّن نوع من الهُوية القومية الاسكتلندية. وبالفعل في سبعينيات القرن الرابع عشر، كانت ملحمة جون باربر، التي حملت اسم «الملك بروس»، قد أرْست تاريخًا مناهضًا للإنجليز يتناول حروب الاستقلال، واحتفت بالحرية كهدفٍ ومعنًى للهُوية الاسكتلندية. وأَكملَ ذلك التاريخُ النثري الذي قدَّمه جون فوردن بعد ذلك بفترةٍ قصيرة، وقد صاغَ هذا العمل أسطورة سكوتا، التي تتناول قصة الهجرة من مصر الفرعونية إلى إسبانيا ومن ثَمَّ إلى اسكتلندا، وكذلك تاريخ سلسلة الملوك الاسكتلنديين غير المنقطعة. وتبع ذلك كتابُ «الوقائع التاريخية الأصلية لاسكتلندا» للكاتب أندرو وينتون في عشرينيات القرن الخامس عشر، وهو سردٌ تاريخي شعري طويل يتناول تاريخ العالم وتاريخ اسكتلندا، وأعقبه في أربعينيات القرن الخامس عشر السردُ الأكثر رواجًا بين الأعمال السردية القديمة التي تناولت التاريخ الاسكتلندي، وهو كتاب «وقائع الاسكتلنديين» للكاتب والتر باور، وعمد هذا العمل إلى إبراز أهمية التاريخ للهُوية الاسكتلندية وأهمية وجود ملك قوي لدعم تلك الهُوية. وأصبح ازدهار الأعمال السردية التاريخية الشعرية والنثرية أساسًا لمظاهر التأكيد على الهُوية الاسكتلندية التي حدثت لاحقًا، فضلًا عن أن تلك الأعمال غَذَّتْ عداوة الشعب تجاه الإنجليز، وبلغت تلك العداوة ذروتها في كارثة معركة فلودن عام ١٥١٣ التي أسفرت عن موت جيمس الرابع. ورغم ذلك، شهد القرن الخامس عشر تكوُّن هُوية اسكتلندية مميزة قائمة على أسطورة الأصل والتاريخ الاسكتلندي.47

(٩) هل هي أمم هرمية؟

هل تقدم تلك الحالات الثلاث أدلةً داعمة كافية على ظهور أمم في فترة ما قبل الحداثة في دول القرنين الرابع عشر والخامس عشر؟ هل تسمح لنا بالحديث عن أمم «هرمية»؟

بطبيعة الحال، وفقًا للمعايير التي وضعها الحداثيون، فإن هذه الحالات لا يكاد ينطبق عليها معيار الأمم «الحديثة»؛ فأعضاؤها ليسوا مواطنين، ومعظمهم لا يشاركون في الحياة السياسية. بل ليس واضحًا أنهم يشعرون بالانتماء إلى أمة معينة، ورغم ذلك فليس واضحًا أيضًا أنهم لا يشعرون بالانتماء. نحن ببساطةٍ لا نعلم. (ولكننا أيضًا لا نعلم عدد الأفراد الذين يشعرون بالانتماء إلى «أممهم» في كثيرٍ من الأمم الحديثة). بالإضافة إلى ذلك، فهي ليست أممًا «قومية» بالمعنى الأيديولوجي. على صعيدٍ آخر، فإن ممالك إنجلترا، وفرنسا، واسكتلندا في العصور الوسطى تتفق جيدًا مع بعض معايير الحداثة الأخرى؛ فقد كانت مجتمعاتٍ ذات طابع إقليمي، وكانت مجتمعاتٍ قانونية سياسية، وكانت مجتمعاتٍ مستقلة وذات سيادة كاملة حقًّا. وكانت تلك المجتمعات أيضًا مشاركة في نظام «دولي»؛ نظام حقيقي من التحالفات والعداوات اتخذ شكلًا محددًا في أواخر العصور الوسطى.

والأهم من ذلك أنها كانت متقدمة جدًّا من ناحية العمليات الاجتماعية والرمزية المتعلقة بتكوُّن الأمم؛ فقد كان لدى نُخَبها إحساسٌ واضح بالهُوية الجمعية، والتعريف الذاتي الجمعي المحدد في مقابل الآخرين. وامتلكوا أيضًا أساطير مألوفة شائعة للغاية عن الأصل والسلف، بالإضافة إلى مجموعة من الأساطير والرموز والذكريات والتقاليد الأخرى التي عزَّزوها والتي ميَّزتهم عن جيرانهم. وبدايةً من القرن الثالث عشر فصاعدًا (وأبكر من ذلك الوقت في حالة المملكة الإنجليزية)، أصبحت هذه المجتمعات الملكية ذات طابعٍ إقليمي على نحوٍ متزايد. وعلى الرغم من أن الارتباطات المحلية والمناطقية ظلت قوية، فقد كانت تلك الممالك تمتلك مركزًا سياسيًّا، وفضاءً سياسيًّا كبيرًا ومحددًا وإنْ كان متغيرًا في بعض الأوقات، وإحساسًا بالملكية الإقليمية، بالإضافة إلى ذكريات وارتباطات متزايدة بأرض المملكة، من جانب النُّخبة على أقل تقدير. وشهدت تلك الفترة أيضًا تزايدًا سريعًا في المركزية وتوحيد القواعد القانونية والمؤسسات القانونية، بالإضافة إلى محاولات متكررة لتطبيق مجموعة قوانين واحدة لمراعاة القانون والتقاليد في كل أنحاء مقاطعات ومناطق المملكة، وقد تفاوت النجاح في تحقيق ذلك. وأخيرًا، في كل الممالك الثلاث كان يوجد تَكوُّن واضح لثقافة عامة مميزة. وشمل ذلك الرمزية السياسية للملكية المقدسة، وطقوس المجالس البرلمانية، والطبقات الاجتماعية، والجمعيات، وظهور القواعد اللغوية العامية في الشئون القانونية والسياسية، وظهور الأدب العامي، والارتباط الوثيق بين الطقوس العامة والرمزية وبين المعتقد المسيحي والطقوس المسيحية.

قد يبدو أنه من باب التسرع بناء حجتنا على وجود أمم هرمية في فترة ما قبل الحداثة اعتمادًا على ثلاثة أمثلة فحسب — على الرغم من أنه كانت توجد في أوروبا، كما سنرى، حالاتٌ أخرى أقل تقدمًا — لكن من ناحية معايير تكوين الأمم التي أوضحتها في البداية، فإن هذه المجتمعات الملكية الثلاثة تمثل أسسًا كافية لاعتبارها أممًا في فترة ما قبل الحداثة في القرن الخامس عشر، ما دمنا ميَّزنا بوضوحٍ بينها وبين الأمثلة التاريخية اللاحقة التي تمثل فئة الأمة. إننا نواجه في هذا الصدد نوعًا من الأمم يختلف من نواحٍ عديدة عن الأمم الديمقراطية الغربية، نوعًا من الأمم يتسم بالتراتبية الهرمية بدلًا من المساواة، يتسم بالتقليد بدلًا من التحديث. ولكن الكثير من الأمم الحديثة غير ديمقراطي أيضًا، ويتمسك عدد ليس بالقليل من تلك الأمم بتقاليد تعود لأزمان سحيقة.

ما إنْ نقبل أن «الأمة» و«الحداثة» لا تربطهما إلا علاقة مشروطة، فسوف نستطيع عندها أن نرى أنه من الممكن أن توجد أمم مختلفة جذريًّا عن المفهوم الغربي التقليدي، وسندرك أيضًا أن المفهوم الغربي الحديث للأمة في حاجةٍ لمراجعة هائلة. ارتبط هذا المفهوم بفكرةٍ طرَحها وتابَعها بعضُ القوميين (لكن ليس كلهم)، وتقول هذه الفكرة إن الأمة متجانسة ثقافيًّا أو يجب أن تكون كذلك، وإن الفروق الداخلية التاريخية يجب محْوها. ومن الواضح أن مثل هذه التقسيمات الفرعية المناطقية والثقافية كانت، ولا تزال، سمة طبيعية من سمات الأمم الهرمية. في الحقيقة، لقد استمرت إلى يومنا هذا في أغلب الأحيان. وعلى الرغم من المركزية الشديدة للثورة الفرنسية، فإنها فشلت في محو المناطق التاريخية في فرنسا، ومن ناحيةٍ أخرى فقد استمر الفرق بين الأراضي المنخفضة والأراضي المرتفعة في اسكتلندا حتى يومنا الحاضر، بالإضافة إلى الولايات والكانتونات في ألمانيا وسويسرا. لقد أصبحنا أيضًا أكثر تعودًا بكثيرٍ على اعتقاد أن الأمة هي مجتمع شامل يُئوي ثقافاتٍ ومجتمعاتٍ عرقيةً مختلفة، ويربط بينها أيضًا من خلال الرمزية المشتركة وشبكة من المؤسسات. في هذا الصدد، ربما تكون الأمم الهرمية، على أقل تقدير، أول ما أشار إلى وجود نوعٍ من المجتمعات القومية أقل ترابطًا وينتمي إلى «ما بعد الحداثة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤