الفصل الخامس

الأمم العهدية

بالنسبة إلى الحداثيين، فإن الأمم والقومية ظهرتا في أواخر القرن الثامن عشر وليس قبل ذلك على أقصى تقدير. وحتى إذا لم يقبلوا رأي إيلي كادوري الذي يقول إن أيديولوجية القومية بدأت مع الرومانسيين الألمان، لا سيَّما فيشته في كتابه «خطابات إلى الأمة الألمانية» (١٨٠٧-١٨٠٨)، فإن كثيرًا منهم سيُرجِع نشأة القومية إلى الثورة الفرنسية، وأعقاب الثورة الأمريكية، والتقسيم الأخير لبولندا. ورغم ذلك، عندما يتعلق الأمر بنشأة الأمم وظهورها، فإن الحداثيين يُبْدون قدرًا أكبر من الغموض. إذا كانت القومية والدولة هما سبب تكوُّن الأمم كما يقول جيلنر وهوبزبوم، فلا بد من إرجاع تاريخ نشأتها إلى القرن التاسع عشر على نحوٍ قاطع، بل ربما لفترةٍ لاحقة. أما إذا كان يُعتقَد أن الأمم تتكوَّن على مدار فترةٍ زمنية أطول، فمن الأفضل النظر إليها باعتبارها نتاجًا لظروف أوروبا الغربية في القرن الثامن عشر؛ تلك الظروف التي تشمل المنافسة التجارية والعسكرية بين دول أوروبا وتَكوُّن الاتحادات البرجوازية وجماهير القراء في معارضة متزايدة للدولة الاستبدادية البيروقراطية.1
يثير موضوع «الهُوية القومية» أسئلة جديدة. وفي هذا الصدد، ينقسم الحداثيون؛ فيميل بعضهم إلى اعتبار كل ما سبق القرن الثامن عشر، بما في ذلك أي أدلة على وجود شعور قومي، غير ذي عواقب على تكوين القومية والأمم في فترةٍ لاحقة، والسبب في ذلك أنَّ الأمم في الأساس نتاجٌ للثورة العلمية والثورة التكنولوجية المرتبطتَين بأوائل عصر التصنيع. أما البعض الآخر، فإنهم على الرغم من قَبول هذا الموقف العام، يُقِرُّون بوجود الأفكار والمشاعر القومية في الفترات السابقة للحداثة، لكنهم يعتبرونها وصفية ومفتقرة كثيرًا إلى النشاط السياسي المميِّز للقوميات اللاحقة. ولا يُظهرون استعدادًا لقَبول وجود قدر أكبر من المشاعر القومية المستمرة والمنتشرة في فترة ما قبل الحداثة إلا في حالة واحدة أو حالتين، أبرزهما هي إنجلترا في بداية عصر الحداثة. في حاشيةٍ سفلية لكتاب «الأمم والقومية»، يقرُّ إرنست جيلنر ﺑ «الظهور المبكر للشعور القومي في إنجلترا» قبل قرنين من ظهور التصنيع، وفي رأيه أن هذا ربما يكون نتيجةً لظهور الفردية وروح الحراك الاجتماعي. وبالمثل، فإن إريك هوبزبوم في كتابه «الأمم والقومية منذ عام ١٧٨٠» بعد إخبارنا أن روابط «الأمم الأولى» المتمثلة في الأرض واللغة والدين ليست مرتبطةً «بالضرورة» بظهور الدولة القومية الإقليمية الحديثة، يقرُّ بأن الانتساب إلى دولة تاريخية، كما هي الحال في روسيا وصربيا، قد يؤثر مباشرةً «على وعي الناس العاديين لتكوين قومية بدائية، بل ربما لتكوين شيءٍ قريب من الوطنية الحديثة، كما في حالة إنجلترا في عهد أسرة تيودور.»2

في هذا الفصل، سوف أوضح أنه في بعض أجزاءٍ من أوروبا في أوائل عصر الحداثة نشهد ظهور الإحساس بالهُوية القومية لدى النُّخبة (وليس فقط في الدول الهرمية)، وكذلك ظهور شعور قومي أوسع نطاقًا لدى «الطبقة الوسطى» في حالاتٍ قليلة. ثانيًا: أود أن أقدم فكرة أكثر تحديدًا تتمثل في أن هذه الفترة قد شهدت ظهور شكلٍ من القومية الأيديولوجية ساعدَ بدوره في ترسيخ كلٍّ من هُوية ومجتمع الأمة.

(١) الهُويات القومية في أوائل عصر الحداثة

رأينا بالفعل بعض الأدلة على وجود إحساس محدود بالهُوية القومية بين النُّخب قائم على كلٍّ من الأساسيات العرقية الدينية والسياسية، لا سيَّما في دول أوروبا الغربية. وعادةً ما يُستشهَد بالنموذج الألماني كمثالٍ أوَّلي على عدم وجود أي إحساس بالهُوية القومية، بل عن استحالة وجود تلك الهُوية حتى القرن التاسع عشر. ولا يبدو أن السكان الذين لديهم عدد هائل من اللغات المحلية، بالإضافة إلى اللهجات والمؤسسة الإمبراطورية التي اضمحلت قوتها سريعًا بعد موت فريدريك الثاني، يتمتعون بالحس المجتمعي المطلوب كي يشعر المجتمع أنه أمة. رغم ذلك، حتى في هذه الأجواء غير المُبشِّرة، أوضح لين سكيلس أنه كان ثَمَّةَ إحساسٌ بين الطبقات المتعلمة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر بالهُوية الألمانية بين متحدثي اللغة الألمانية مرتبطٌ بإمبراطوريةٍ ذات جذورٍ ألمانية على وجه الخصوص. حتى قدماء الإيطاليين أشاروا إلى أتباع الأباطرة السكسونيين والساليين بالتوتونيين والتيوتونيين، ومع نزاع التنصيب ومبدأ نقل قيادة الإمبراطورية الرومانية المقدسة إلى الألمان بإذعانٍ من البابا، وهو المبدأ الذي صاغه البابا إينوسنت الثالث في مرسوم «فينرابيلم» أي «إلى أخي المُبجَّل» (١٢٠٢)، أصبح مقبولًا على نحوٍ كبير وجود إحساس بالهُوية الألمانية المرتبطة بالإمبراطورية الألمانية المسيطرة وعزَّز تلك الهُويةَ الأدبُ الغنائي الألماني المعروف باسم «مينيسانج». ودعَّم هذا الارتباط أسطورة الأصل الطروادي لكلٍّ من الفرنجة والشعب الألماني ككلٍّ لاحقًا. ووفقًا لسكيلس، فإن الطابع العرقي للإمبراطورية يمكن العثور عليه في الوثائق المأخوذة من خزانة الوثائق الإمبراطورية، بل أيضًا في «الوقائع والحوليات المكتوبة بالعامية واللاتينية، وفي الأغاني السياسية والنثر السياسي اللذين كان القرنان الثالث عشر والرابع عشر يزخران بهما.» ورغم ذلك، فإننا نجد في الأطروحات والمنشورات والكتيبات السياسية في تلك الفترة تعبيرًا كاملًا عن العرقية الألمانية المشتركة، حتى مع تدهور السلطة الألمانية المركزية، وكان كُتَّاب تلك الوثائق ينتمون عادةً إلى الأقاليم والطبقة الوسطى. وفي ظل هذه الثقافة السياسية، ظهر الإحساس بالهُوية الألمانية والهُوية السياسية، حتى في غياب سلطةٍ موحدة حقيقية. وبحلول القرنين الخامس عشر والسادس عشر، لا سيَّما بعد استعادة مخطوطة كتاب «جرمانيا» لكاتبه تاكيتوس، استطاع أتباعُ النزعة الإنسانوية أمثال كونراد سيلتس وأولريش فون هوتن ولورنس فريس أن يمدحوا أصالة ونقاء اللغة الألمانية وتفوُّق الثقافة الألمانية، وربطوا كلا الأمرين بالماضي الإمبراطوري الألماني المجيد.3
في أوروبا الشرقية أيضًا توجد أدلة على المشاعر القومية المتقدة، على الأقل بين الطبقات الحضرية المثقفة. في بوهيميا، أدَّت الحرب المناهضة للهوسيين إلى إظهار المشاعر القومية لشعب التشيك. وفي أوائل القرن الخامس عشر، أصبح ربطُ بوهيميا بالأرض المقدسة وربطُ التشيكيين بالأمة المقدسة مكونًا جوهريًّا في الحماس الإصلاحي الذي تبنَّاه الهوسيون، وهو الارتباط الذي عبَّر عنه المُعلم جيروم الذي يعمل أستاذًا في جامعة براغ عام ١٤٠٩ بالألفاظ التالية: «أمة بوهيميا المقدسة»، «الأمة المقدسة»، «المجتمع المقدس». وبلغ هذا الأمر ذروته في دعوة التشيكيين عام ١٤٢٠ «للاحتشاد من أجل الدفاع عن مملكة بوهيميا «الأكثر مسيحيةً»، مدعومين من قِبل ظهيرهم القديس فينسيسلاوس.»4
وعلى نحوٍ مماثل، بعد أن وحَّدت بولندا في القرن الخامس عشر تاجها مع تاج ليتوانيا، وبعد هزيمة الفرسان التيوتونيين، أصبح لدى البلاط الملكي والمثقفين تأييدٌ متزايد لفكرة المجتمع القومي البولندي الحصري، المناهض لكلٍّ من التجار الألمان واليهود. وعلى الرغم من حماية اليهود من قِبل الملوك، فقد صدرت على نحوٍ متزايد قوانين إقصائية ضد اليهود، سبَبُها رجال الدين وكذلك الإحساس بأن الكاثوليكية لديها مهمة تتمثل في أن تكون حصنًا ضد التتار والأرثوذكسية الموسكوفية. لكن في القرون التالية، مع هجمات الكنائس البروتستانتية، وعلى الرغم من أن الكنيسة الكاثوليكية البولندية ظلت تلعب دورًا محوريًّا في المملكة، فإن الكاثوليكية أصبحت في حقيقة الأمر الدِّينَ الذي يدين به ما يقل عن نصف سكان بولندا وليتوانيا تقريبًا.5
في بعض الأحيان، تُذكر إسبانيا كمثال على الدولة والهُوية القومية المبكرتين. إلا أنه خلال قرون حروب الاسترداد الممتدة، من الصعب العثور على مشاعر قومية إسبانية ثابتة، مقارنةً بالمشاعر القومية القشتالية أو البرتغالية أو النافارية أو الأراجونية، على الرغم من أن بعض المؤرخين الإسبانيين المتأخرين قد أسبغوا على تلك القرون التي اتسمت بالولاء المشوَّش والثقافات (المسيحية واليهودية والإسلامية) المختلطة إطارًا من الهُوية الكاثوليكية الخاصة بشبه الجزيرة الإيبيرية، كما أذاع ملوك مملكة ليون في بعض الأوقات. ونظرًا للاختلاف الشديد في الهياكل التنظيمية لهذه الممالك الأربع، فإنه من غير المفاجئ أن لحظات العمل الموحَّد النادرة، كما في الحملة التي أدَّت إلى الانتصار في معركة لاس نافاس دي تولوسا (معركة العقاب) عام ١٢١٢ على دولة الموحدين؛ قد فشلت في تعزيز هُوية سياسية هسبانية أوسع نطاقًا.6
من ناحيةٍ أخرى، فإنه بحلول القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر كان الشعور بالاختيار الإلهي المشروط لقشتالة الذي كان بمنزلة كفَّارةٍ عن خطايا القوط الغربيين وعقابهم على يد المسلمين الغزاة قد تزايد ارتباطه بفكرة «الجغرافيا المقدسة» التي رأت أن «أرضهم هدية خاصة من الرب». كذلك في مملكة أراجون، ركَّز ملوك تراستامارا على نبوءات مسيحانية بخصوص «داود الجديد» الذي سيخرج من إسبانيا ويعيد بناء «قلعة جبل صهيون» ويعيد غزو أورشليم، وقد انتهت هذه النبوءات المسيحانية بالنبوءات الكثيرة المتعلقة بحكم الملك فرناندو الثاني. ومن الصعب تقييم إلى أي مدًى كان هذا التوجُّه مسئولًا عن توليد إحساسٍ عِرقيٍّ وإقصائيٍّ بالهُوية الإسبانية على نحوٍ متزايد استهدفَ اليهود المتحولين حديثًا إلى الكاثوليكية (الكونفرسوس) وأدَّى في نهاية المطاف إلى طرد اليهود والموريين على يد المَلَكية الإسبانية الموحَّدة. أما ما يبدو مؤكدًا، فهو أنه بعيدًا عن النُّخبة الصغيرة للغاية، فإن الهُوية الإسبانية التي كانت منطويةً في الحكم الإمبراطوري للملكية الإسبانية كانت عاجزة عن أن تتكوَّن وتتحدى المشاعر الوطنية القائمة المتعلقة بالممالك والمجتمعات العرقية التقليدية في إسبانيا.7
تُمثِّل إيطاليا مثالًا مبهرًا بصفةٍ خاصة على ظهور إحساس بالهُوية القومية لدى النُّخَب، ومرةً أخرى كان هذا الإحساس عاجزًا عن تحدي الهُويات المحلية التقليدية الراسخة بقوةٍ المتعلقة بالممالك والدوقيات والدول المدن في إيطاليا، فضلًا عن احتوائها. يرى البعض أمثال جيمس سترجيوس أن الولاء لهذه الجهات والمشاعر الكثيرة المرتبطة بها لم يتركا مجالًا للشعور بالهُوية القومية الإيطالية، وفي واقع الأمر كانت مصطلحاتٌ مثل «الأمة» و«الوطن» تكاد تشير حصريًّا إلى الدول المدن والمجتمعات المحلية التي طالما كانت شبه الجزيرة الإيطالية منقسمةً إليها. وبالنسبة إلى المفكرين أمثال ميكيافيلي، فإن مصطلح «الأمة»، بصفةٍ خاصة، يشير إلى محل الميلاد أو منطقةٍ جغرافية، على الرغم من أن هذا الوصف شمل أيضًا «الأمم» الألمانية والإيطالية والفرنسية والإسبانية. وخلال القرن السادس عشر، تراجع أيضًا استخدام كلمة «وطن» ذات المفهوم الأكثر بطولية، التي كانت مرتبطة في السابق بمثال «الفضيلة»، وهذا لصالح الدولة، ومثال «المصلحة الوطنية» الذي لا يهتم بالمعايير الأخلاقية.8
إلا أن هذا جزءٌ فقط من القصة؛ فعند التطرُّق إلى مناقشة موضوع «الإيطالية»، يوضح جوزيب لوبيرا أنه إبان عصر النهضة كان يوجد وعي متزايد بالوحدة الثقافية والتاريخية الإيطالية، وهو وعيٌ قائم على الوعي بالتراث الروماني. من ناحيةٍ أخرى، كان الإحساس بالانتماء إلى «إيطاليا» مقتصرًا إلى حدٍّ بعيد على المفكرين الإنسانويين، وكان أقل وضوحًا وقوةً بالمقارنة بولاء المرء للدولة المدينة التي ينتمي إليها، سواءٌ أكانت ميلانو أو فلورنسا أو روما أو نابولي أو فينيسيا. وبالمثل، بينما يوافق أندرس توفتجارد على أن مصطلحات مثل «أمة» كانت تُستخدم كمرادفاتٍ لكلمة «ناس» وكلمة «شعب» وتتعلق بالأصول السلالية والجغرافية، فإنه يُذكِّرنا أن المفكرين الإنسانويين الإيطاليين أمثال أريوستو وبيترو بيمبو تحدَّثوا كثيرًا عن «الإيطاليين» وعن «إيطاليا». وعلى الرغم من أنه يتفق على أننا لا يمكننا — بطبيعة الحال — التحدث عن أمة إيطالية قائمة، فإن مثل هذه التعبيرات يخبرنا بوضوح أن فكرة إيطاليا والإيطاليين لم تكن ببساطةٍ من الاختراعات الحديثة.9
لذلك، في أطروحة «عن البلاغة في العامية» (دي فولجاري إيلوكونشيا)، تلك الأطروحة التي ظلت مفقودة لفترة، والتي يعود تاريخها إلى عامَي ١٣٠٤-١٣٠٥ وتتحدَّث عن اللغة الإيطالية، يكشف دانتي:
مفهومًا واضحًا لأرضٍ اسمها إيطاليا يتشارك سكانها في نوعٍ من الثقافة. يشترك هؤلاء السكان، الذين يُطلِق عليهم دانتي «لاتينيين» أو «إيطاليين»، في ثقافةٍ مشتركة، وتراثٍ مشترك، ولغةٍ مشتركة؛ ومن ثَمَّ فهم مختلفون عن الشعوب الأخرى أمثال الفرنسيين والهسبانيين. يوضح دانتي أن إيطاليا موحَّدة ثقافيًّا ويجب أن تسعى إلى أن تكون موحَّدة سياسيًّا. ورغم ذلك، فإن هذا المجتمع «الإيطالي» هو فقط أحد المجتمعات التي تخيَّلها دانتي الذي أحبَّ دولة مدينة فلورنسا لكنه طالَب بشدةٍ في «مملكته» بإعادة تكوين الإمبراطورية الرومانية المقدسة.10
في هذا الصدد، نرى كلًّا من ميوعة الهُويات السياسية في العصور الوسطى والوجود المُتخيَّل للهُوية القومية. في الحقيقة، كان مفهوم الشخصية الإيطالية القومية، الذي يُعَد واحدًا من شخصياتٍ قومية كثيرة على هذه الشاكلة، قائمًا على اللغة والأصول المشتركة، وكذلك على القمع والاحتلال الحالي لإيطاليا من قِبل القوى الأجنبية، رائجًا لدى كثيرٍ من مفكري النهضة الإيطاليين في مناقشاتهم حول طبيعة اللغة الأدبية الإيطالية وجاذبيتها، مثلما كان رائجًا عند معظم الأجانب. وهذا يعني أنه في بداية عصر الحداثة دارَ حوارٌ استمر طويلًا حول الهُوية القومية الإيطالية التي نظرًا لافتقارها إلى إطار سياسي موحَّد لم تتمكن إلا بعد وقتٍ طويل من تقديم مقوماتٍ ثقافية للحركة السياسية الساعية إلى توحيد إيطاليا في فترة توحيد إيطاليا.11
في فرنسا خلال القرن السادس عشر، كان ذلك الإطار السياسي موجودًا بالفعل منذ عدة قرون؛ فمنذ القرن الثالث عشر، كانت فرنسا المكوَّنة من إماراتٍ تتوحَّد تدريجيًّا تحت التاج وتحت حكم ملكها «الأكثر مسيحية»، على الرغم من احتفاظ العديد من المناطق بعاداتها وقوانينها وثقافاتها، لا سيَّما في بريتاني وفي الجنوب. في القرن التالي، بدأ بعض المفكرين والمحامين في الفصل بين المملكة والأمة وبين شخصية الملك، وبحلول القرن الخامس عشر بدءوا يتصوَّرون «فرنسا» كشخص؛ ففي العمل الأدبي الذي قدَّمه آلان شارتيه بعنوان «الحوار الرباعي المهين» نرى فرنسا سيدة من الأسرة المالكة، وأمًّا حزينة تُوبِّخ أبناءها الثلاثة (الولايات المتنازعة)، بينما بالنسبة إلى جيرسون، كما رأينا في الفصل الأخير، فإن فرنسا تشبه حديقة منعزلة وخصبة وجميلة. في أواخر القرن الخامس عشر، تحت تأثير الإنسانونية الإيطالية، تزايد امتزاج فكرة «الأمة» الفرنسية بالمفهوم الكلاسيكي المتمثل في «الوطن»، وأُعطيَت كلتا الفكرتين محتوًى ثقافيًّا وأدبيًّا وسياسيًّا أيضًا. وبالفعل في سبعينيات القرن الرابع عشر، كان الإنسانويون أمثال جون دو إيدان، عند عودة البابوية من أفينيون إلى روما، قد عارضوا تأكيد بترارك على أنه خارجَ إيطاليا ليس ضروريًّا البحث عن الشعراء والخطباء. وبعد ذلك بقرن، أنتج روبرت جوجيان، متأثرًا بحب بلده، مجموعة من الشخصيات الأدبية الفرنسية تعود إلى الغاليين الرومان والقديس جريجوريوس التوري. ورغم ذلك، فقد ظلت اللاتينية لهؤلاء الكُتَّاب هي اللغة الأعلى المستخدَمة في الأعمال الجادة. ولم يبدأ اعتبار اللغة الفرنسية الأدبية مكافئة لنظيرتها الإيطالية، ومن ثَمَّ ظهور الحاجة إلى الكتابة بالفرنسية (الأدبية)، إلا مع ظهور عمل «تناغم لغتين» عام ١٥١١ للكاتب جون لومير المولود في بيلجي. وفي هذا النص، تُصوَّر فرنسا كأمة تضم أممًا فرعية (بريتاني، وبورجونيا، إلخ)، تشبه كثيرًا إيطاليا وأممها الفرعية، لكن في الحالة الفرنسية دعمت الوحدة السياسية الإحياء المرغوب للغة الفرنسية وثقافتها.12
يعكس جواكيم دو بيليه في مقال «الدفاع عن اللغة الفرنسية وإبراز بيانها اللغوي» الذي كتبه عام ١٥٤٩ موقفًا سياسيًّا مشابهًا. في ذلك الوقت، كانت فكرة «نقل التعليم» التي سادت في القرون الوسطى، والمقصود بها نقل التعلم من أثينا إلى روما، وإلى باريس فيما بعد، مرتبطةً بالقوة السياسية والعسكرية المتنامية، وفي مقال دو بيليه كانت فرنسا بصدد أن تشهد ازدهارًا في القوة الثقافية متزامنًا مع قوتها السياسية، وتزامنت فكرة «حب الوطن» مع فكرة «حب لغة الوطن». وفي الحروب الدينية اللاحقة، عندما اشتدت المشاعر المعادية للإيطاليين، لا سيَّما من الجانب البروتستانتي، أصبح المصطلح الفرنسي «وطن» منتشرًا، واستُخدم بدلًا من المصطلح القديم «بلد»، أو استُخدم إلى جانبه، ليشمل كلَّ سكان مملكة فرنسا. وعلى الرغم من أن دو بيليه رأى أن مقال «الدفاع عن اللغة الفرنسية وإبراز بيانها اللغوي» مشروعٌ ثقافي للنُّخبة مصمَّم من أجل أن يروق للملك الجديد هنري الثاني، فإن حججه الموضِّحة للتكافؤ الثقافي مع إيطاليا ومدحه المتحمِّس للفرنسيين وأخلاقهم وعاداتهم العليا دعَّم تأكيد النُّخبة للهُوية القومية والارتباط ﺑ «الوطن» الفرنسي، ذلك التأكيد النُّخبوي المدعوم من الدولة.13
لا يمكن أن تمثل حروب الوردتين في إنجلترا في القرن الخامس عشر، وخسارة الأملاك في فرنسا، لحظةً مواتية لإظهار المشاعر القومية الإنجليزية، فضلًا عن التأكيد على الهُوية القومية الإنجليزية. إلا أن الصراع والانقسام يمكنهما أيضًا دعم المشاعر القومية، وتبقى حقيقة أنه على الرغم من عقود التشوُّش والمجازر التي تسببت فيها عائلة يورك وعائلة لانكستر المتحاربتان، فقد تماسكت المملكة الإنجليزية وخرجت أكثر مركزية وقوة تحت حكم أسرة تيودور. رغم ذلك، فإن الانسحاب الطويل من أوروبا القارية ساعد في واقع الأمر في تعزيز الإحساس بالهُوية الإنجليزية الصرفة التي أصبحت واضحة بالفعل في الأفكار النمطية المتعلقة بالأمم الأجنبية التي تصارعت معها المملكة الإنجليزية. وبطبيعة الحال، فإننا نتناول شكلًا هرميًّا من الهُوية القومية، كما هي الحال في أجزاء كبيرة من أوروبا، وشكلًا مقتصرًا على نُخبة صغيرة. ورغم ذلك، فإنه يشمل الطبقة السياسية التي يمثل لها نطاق إنجلترا، كما يقول الملك هنري الثالث: «إمبراطورية» مستقلة عن سيطرة الإمبراطورية البابوية أو سيطرة الإمبراطورية «الرومانية المقدسة». وكما يوضح لوبيرا فإنه: «يوجد دليل على التماهي القوي بين الملك والأمة، لكن هذا هو المتوقع من هذه الفترة.» ويقتبس مستحسِنًا رأي هانز كون الذي يقول إن اعتلاء أسرة تيودور للعرش «وضع أسس التجانس القومي الذي كان شرطًا ضروريًّا لتكوُّن القومية لاحقًا» في القرن السابع عشر.14
«التجانس» مصطلح قوي إلى حدٍّ بعيد، وحتى كلمة «وحدة» لا تبدو مناسبة في مثل هذه الفترة العاصفة. ورغم ذلك، فمن الصعب التفكير في أي فترةٍ في القرن التاسع عشر أو القرن العشرين — عصر القومية الحديثة — يمكن أن يُقال إن الوحدة، فضلًا عن التجانس، كانت السمة المميزة لمعظم الأمم خلالها. وما نجده في إنجلترا في أوائل عصر الحداثة هو دليل على شعور متزايد بالهُوية القومية بين أقلية صغيرة من السكان، لكنها انتشرت تدريجيًّا خارج النُّخبة الحاكمة لتصل إلى البلدات. وارتكز هذا الشعور بالهُوية القومية، أكثر من ذي قبل، على الملكية القوية، لا سيَّما بعد انشقاق الملك هنري الثامن عن روما واضطلاعه بمنصب الحاكم الأعلى لكنيسة إنجلترا. لهذا السبب، يوضح كريشان كومار — في نقد أطروحة ليا جرينفيلد التي تقول إن إنجلترا في عهد أسرة تيودور «اخترعت» «القومية» — أنَّ ما نجده في هذه الفترة في فرنسا وفي إنجلترا وفي كل مكانٍ آخر هو «وطنية ترتكز على التاج» وليس «قومية». ويُعارِض كومار لسببٍ وجيه وجهة نظر جرينفيلد التي تقول إن إنجلترا إبان القرن السادس عشر قد شهدت ظهور قومية شعبية، بل حتى ديمقراطية قائمة على الثورة الاجتماعية للحراك الاجتماعي الجديد. إلا أن كومار برفضه لفكرة القومية الإنجليزية المبكرة يرفض أيضًا الاعتراف باحتمالية وجود شعور متزايد ﺑ «الهُوية القومية» الإنجليزية في هذه الفترة، وهذا أمرٌ اعترفَ به جزئيًّا في تحليله لإنجلترا في أواخر العصور الوسطى. وطوال الوقت، يتأرجح كومار ما بين الإحساس ﺑ «الهُوية القومية» و«القومية»، ولا يُعرِّف أيًّا من المصطلحين تعريفًا رسميًّا. ولا يوجد بالتأكيد أيُّ دليل على وجود حركة أيديولوجية للقومية في إنجلترا خلال القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر. إلا أن هذا لا يتضمَّن غياب الإحساس ﺑ «الهُوية القومية» الإنجليزية أو «الشعور القومي» الإنجليزي، وإنْ كان شعورًا مقتصرًا على أقلية. وكما رأينا، فإن نُخَب المجتمع الهرمي يمكن أن تكون مشبَّعة بإحساسٍ بالهُوية القومية، بل حتى بالشعور القومي، وأعتقد أن هذا ما تشير إليه مظاهر الإنجليزية الكثيرة، والقوية غالبًا، إبان هذه الفترة. والسبب في ذلك أنها على الرغم من تركيزها على التاج، فإنها تضمنت غالبًا تعبيرًا عامًّا عن «حب الوطن» والأمة، في مقابل الأمم الأخرى.15

(٢) تفكك العالم المسيحي

ما الذي يمكن أن نستخلصه من هذا الاستعراض المختصر لوجود أو غياب «الهُويات القومية» في أوروبا في أواخر العصور الوسطى؟ هل يمكن دعم صحة أطروحة ماركو السابقة التي تقول بوجود موجة من القوميات الأوروبية في القرن السادس عشر؟ لا يمكننا العثور إلا على القليل من الأدلة المؤيدة لوجود حركة أيديولوجية داعمة للحكم الذاتي والوحدة والهُوية لسكانٍ مُقدَّرٍ لهم أن يُكوِّنوا أمة. بل ما لدينا هو مظاهر نُخبوية للمشاعر القومية، وإحساس بالهُوية القومية بين بعض المفكرين الإنسانويين، والمحامين، والبيروقراطيين، ومشاعر وتوجهات يمكن إثراؤها أو استغلالها أحيانًا من قِبل الحكَّام عندما يكون ذلك في مصلحتهم.16
من السهل رفض تلك المظاهر الأولية للهُوية القومية. إلا أن تلك المظاهر، كما رأينا في حالة إيطاليا وحالة فرنسا، قدَّمت مفاهيم للأمة ونقاشًا عن الأمة تَمكَّن القوميون المتأخرون من استخدامها لتوثيق الأمور التي يطمحون فيها ولتحريك مواطنيهم؛ لكنها كانت مهمة أيضًا في حد ذاتها. تشهد أفكار ومشاعر المجتمع القومي، عبر أجزاءٍ عديدة في أوروبا، على الأهمية المتزايدة للأرض المحرَّرة من النفوذ المحلي والمُبيَّنة الحدود في الوقت نفسه، وبسط النفوذ السيادي داخلها، في مواجهة المزاعم الإمبراطورية أو البابوية. كانت تلك العملية جارية منذ القرن الثالث عشر على أقل تقدير، لا سيَّما في فرنسا، وعجَّلت بها خسارة سلطة الإمبراطور الروماني المقدس بعد وفاة فريدريك الثاني عام ١٢٥٠ والأسر البابوي والانقسام البابوي الغربي في القرن الرابع عشر. وقت انعقاد مجمع كونستانس (١٤١٤–١٤١٨)، تدخلت الممالك والأقاليم المتنافسة في مداولات الكنيسة. ومنذ منتصف القرن الرابع عشر، قُسِّمت الكنيسة لأغراض إدارية إلى أربع مناطق جغرافية، هي: إيطاليا وجرمانيا وهسبانيا وفرنسا. وعندما تَغيَّب الوفد الإسباني مؤقتًا عن مجمع كونستانس، أصبح مسموحًا للإنجليز بتكوين «أمة»، كما كانوا في السابق في مجمع بيزا. إلا أنه عندما وصل وفد أراجون وطالَب بمكانة الأمة أسفر ذلك عن جدالاتٍ حادة حول معنى مصطلح «أمة». وأوضحَ الوفدُ الفرنسي أن الإنجليز يجب، مرةً أخرى، أن يعودوا ليصبحوا جزءًا من الأمة الجرمانية. إلا أنهم قدَّموا أيضًا فكرة الأمم الرئيسية والأمم أو الممالك الفرعية، المماثلة لحجم إنجلترا، في وقتٍ كانت فيه حرب المائة عام في ذروتها. وكما هو متوقع، رَدَّ الوفد الإنجليزي قائلًا إن الأمة الإنجليزية تمتلك من القوة والسلطة قدر ما تمتلك أمة الغال المشهورة:

سواء أفهمتم الأمة كشعبٍ تُميِّزه عن الآخرين رابطة الدم وعادة الوحدة، أو خصائص اللغة التي تُعَد العلامة الأكثر تأكيدًا وإيجابيةً على صفة الأمة وفقًا للقانون الإلهي والبشري، فضلًا عن كونها جوهرها …

إنَّ ما يكشفه هذا الجدال وغيره من الجدالات المتعددة في المجالس الكنسية ليس ظهور القومية اللغوية الرومانسية في العصور الوسطى قبل هيردر، بل أن وحدة العالم المسيحي القديمة أصبحت ضعيفة، وأن المبدأ الجديد المتمثل في الممالك الإقليمية، المعترَف بشرعيتها كنوعٍ من أنواع «الأمم»، بدأ يحظى بالقَبول. وبطبيعة الحال، كان تعريف الأمة لا يزال مائعًا؛ فمن الممكن أن يتضمن مملكةً ذات لغةٍ واحدة (فرنسا)، أو مملكةً ذات مجموعاتٍ لغوية متعددة (إنجلترا أو بريطانيا)، أو مجرد مقاطعة (فلورنسا أو جاسكونيا). وفي الواقع، أوضح الوفد الإنجليزي أن أمتهم ينطبق عليها وصف الأمة أكثر من انطباقه على الأمة الفرنسية؛ لأن فرنسا تتحدث في الأساس لغةً واحدة فقط، في حين أن:
الأمة الإنجليزية أو الأمة البريطانية المشهورة تتضمَّن داخلها وتحت لوائها خمس لغاتٍ أو خمس أمم، وكل لغة من تلك اللغات غير مفهومة من قِبل البقية …17
إلا أن هذا الأمر كان أكثر من مجرد خلاف عرقي جغرافي بسيط؛ فكما أوضحت المناورة في المجالس، كان أيضًا مبدأً سياسيًّا ووسيلة لكسب النفوذ نيابةً عن الممالك. ولم تكن الممالك نفسها هي الجديدة، بل كان الجديد هو تفتت العالم المسيحي، وازدواجية سلطته، الروحانية والدنيوية، المتعلقة بنطاق الكنيسة والإمبراطورية؛ مما أسفرَ عن تزايد القوة التي آلت إلى الأجزاء والإمارات والممالك والدول المدن المكوِّنة للعالم المسيحي.18
ومع خسارة النفوذ الكنسي المقيِّد، أصبح التنافس بين الدول الأوروبية أكثر شدةً واتساعًا، لا سيَّما عندما فتحت الرحلات البحرية الاستكشافية آفاقًا جديدة شاسعة للاستغلال والغزو الأوروبي. وداخل أوروبا، لم يتزايد الصراع بين إنجلترا وفرنسا فحسب، بل بين الدنمارك والسويد وإسبانيا وهولندا، ولاحقًا بولندا وروسيا، وكانت إيطاليا المقسَّمة وألمانيا ساحتَي قتالٍ لتدخُّل القوى الكبرى. وتطلبت هذه الحرب الممتدة قدرًا أكبر من تركيز الموارد من قِبل الدول التي يحكمها الأمراء، بالإضافة إلى المزيد من الجيوش المحترفة والتكنولوجيا الحديثة، وهذا تطَلب بدوره مزيدًا من التمويل الطويل الأجَل، من قِبل التجار المصرفيين الجُدد بالأساس، أمثال عائلة ميديتشي وعائلة فوجر. وعلى الصعيد السياسي، تطَلب ذلك أيضًا أن يمارس الملوك قدرًا أكبر من السيطرة على أراضيهم، ومن ثَمَّ تقوية الدولة المتوارثة في المقام الأول، وهذا هو ما حدث في إنجلترا في عهد الملك هنري الثامن وفي روسيا في عهد إيفان الرابع. بل يستطرد أنتوني ماكس أكثر فيوضح أن الملوك اضطُروا إلى دعم حكمهم ليس فقط من خلال أفكار الملكية المقدسة والحق الإلهي للملوك، بل أيضًا من خلال حشد الرعايا نيابةً عن الدولة، وذلك لكي يحتفظوا بالسلطة في مواجهة المعارضة العنيدة غالبًا من قِبل النبلاء ورجال الدين الأقوياء. وهذا بدوره كان يعني اتباع سياسات تُحَقِّق التجانس بين سكان المملكة، ونظرًا لأن الدِّين كان المحور الأساسي للوحدة والشقاق في مجتمع أوائل عصر الحداثة، فقد سعى الملوك إلى استبعاد كل أولئك الذين لا يدينون بالدين السائد ودين الأغلبية في الدولة، على أمل أن يجعلوا مجتمعاتهم أكثر تماسكًا من خلال مبدأ «القومية» الاستبعادية؛ ومن ثَمَّ، كان طرد اليهود والمسلمين من إسبانيا والبرتغال في بداية القرن السادس عشر، والحروب الدينية في فرنسا، وطرد البروتستانت في نهاية المطاف بعد إبطال مرسوم نانت عام ١٦٨٥، والعداوة المستمرة تجاه الكاثوليك واضطهادهم على فتراتٍ متقطعة في إنجلترا في الفترة من أواخر القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر.19
تبدو هذه الأطروحة جذابةً من الوهلة الأولى؛ إذ يبدو أنها مرتبطة بالمظاهر المتعددة التي تُبيِّن إحساس النُّخبة بالهُوية القومية التي رأينا ظهورها في أجزاءٍ مختلفة من أوروبا في أواخر العصور الوسطى وأوائل عصر الحداثة، وتُبيِّن احتياجات واستراتيجيات النُّخَب الحاكمة في هذه الفترة التي تَميزت بالاضطراب الديني والانقسام السياسي. بالإضافة إلى ذلك، فإنها تبرز تزايد أقلمة الارتباطات والقوة من خلال ربطها بمناطق معينة ومجتمع بعينه، وكذلك النتائج المختلفة في الدول الثلاث — إسبانيا، وفرنسا، وإنجلترا — التي يُحلِّلها أنتوني ماركس. بالتأكيد، فإن بعض العمليات على الأقل المسئولة عن تَكوُّن الأمم، التي تتضمَّن تكوين ثقافاتٍ عامة مميزة، وبناء أساطير مختلفة للأصل المشترك وللاختيار الإلهي للشعوب، كانت متقدمة كثيرًا في هذا العصر. ورغم ذلك، فإن زعم ماركس القائل إن كل هذه الأمور أسفرت عن «قومية استبعادية» لأول مرة، قبل الثورة الفرنسية بقرنين، يبدو أقل مصداقية؛ فمن ناحيةٍ لم يكن استبعاد الأقليات، سواء المنشقون المسيحيون أو اليهود، بجديد؛ فقد كان الاضطهاد والطرد شائعَين في أوروبا في العصور الوسطى منذ الحروب الصليبية. كذلك فإن إثارة حماس الأغلبية الدينية لها تاريخٌ طويل، وكانت تُلبِّي مجموعةً من الاحتياجات السياسية، لدى الملك والكنيسة والنبلاء والتجار الحضريين والفلاحين. ومن ناحيةٍ أخرى، فإن الحالات التي يقارنها ماركس مختلفة كثيرًا في سياقاتها ونتائجها. لا يبدو أن إسبانيا، على وجه الخصوص، قد حققت «التجانس» القومي، ولا قدرًا كبيرًا من الوحدة بعد طرد اليهود والمسلمين، ولا يبدو أن عمليات الطرد نفسها أثارت قدرًا أكبر من الهُوية القومية والترابط القومي في شبه جزيرةٍ لطالما كانت مقسَّمة بين الممالك التاريخية والمجتمعات العرقية. وربما يرتبط ذلك أيضًا بنجاح البيت الحاكم في تكوين إمبراطورية على نحوٍ سريع «قبل» أن يتمكَّن الإحساس الواسع الانتشار بالهُوية القومية من أن يصبح راسخًا بين النُّخَب.20
إلا أنه ثَمَّةَ اعتراضٌ أكثر جديةً على أطروحة ماركس. يُعرِّف ماركس القومية بأنها: «شعورٌ جمعي أو هُوية جمعية تجمع وتربط الأفراد الذين يتشاركون في إحساسٍ بتضامن سياسي واسع النطاق يهدف إلى خلق دول أو إكسابها الشرعية أو تحدِّيها»، مضيفًا أن هذا في الغالب يكون «مُدرَكًا أو مُبرَّرًا بإحساسٍ بالشراكة التاريخية التي تحقق التماسك بين السكان داخل الأرض وتُميِّز المنتمين إليها عن غير المنتمين.» وهذا التعريف المدني والسياسي في جوهره يربط الهُويات والمشاعر الشعبية بالدولة، وليس الأمة؛ لأن القومية بالنسبة إلى أنتوني ماركس — وبالنسبة إلى كثيرٍ من الحداثيين — لا تكون مهمة إلا بقدر ارتباطها بدولةٍ ما، سواءٌ أكانت تدعم تلك الدولة أم تعارضها. ومن ناحيةٍ أخرى، فبينما يشير مفهوم الدولة إلى مجموعة «مؤسسات» مستقلة تمارس احتكارًا لسلطة القهر وانتزاع الموارد على نحوٍ شرعي في أرضٍ معينة، فإن مفهوم الأمة يشير إلى فئةٍ من الهُوية الثقافية الجمعية وعلى نموذج تاريخي ﻟ «مجتمع» (مُتخيَّل، لكن يشعر به أفراده ويرغبون فيه). ونتيجةً لذلك، فإن القومية تتعلق بأمرٍ فعَّال وشمولي وهادف ومتنوع بثراءٍ كبير مقارنةً بما يصفه ماركس. وهذا يشير إلى أننا نحتاج إلى البحث عن عوامل أيديولوجية إضافية، علاوةً على منافسة الدول أو استراتيجيات النُّخَب أو تنافُس الدول على الأسواق الخارجية، لتفسير الرؤية الفعَّالة والقوة المحرِّكة للقومية.21

(٣) الإصلاح والعهد

أين يمكننا أن نبحث عن هذه العوامل الأيديولوجية؟ بالنسبة إلى بعض المُنظِّرين، فإن تلك العوامل توجد ضمن تقاليد الإيمان المسيحي. أوضح إيلي كادوري أن القوة الهدَّامة الثورية للقومية يمكن أن ترجع إلى تراثها الألفي في العصور الوسطى، إلى حركات اللاناموسية المتعلقة بالنبوءة الرؤيوية المسيحية، بدايةً من يواكيم الفيوري وحتى حركة تجديد العماد. وفي هذا الصدد، تتمثل المشكلة في أن الحركات الألفية تميل إلى الاختفاء من هذا العالم، وتكون قصيرة الأجل على نحوٍ يَحُول دون تكوين أيديولوجية وثقافة للقومية الدنيوية. وعلى صعيدٍ آخر، يبحث أدريان هستنجز عن أصول القومية في قَبول المسيحية للعامية، لا سيَّما في ترجمات الكتاب المقدس، بالإضافة إلى ميل المسيحية إلى تبنِّي النموذج السياسي للأمة الأحادية من العهد القديم، الذي قبلته، رغم كل شيء، وعدَّلته وفقًا لأغراضها. رغم ذلك، فعلى مدار معظم القرون الوسطى وما بعدها، كانت الطقوس المسيحية تُقام باستخدام اللغات العالمية، اللاتينية واليونانية، مع وجود استثناءاتٍ كما في حالة الأرمن والجورجيين، ولم تبدأ ترجمات الكتاب المقدس في الظهور في الغرب إلا في أواخر العصور الوسطى.22

إلا أن استشهاد هستنجز بالنموذج السياسي المذكور في العهد القديم، رغم عدم تطويره له، يَصبُّ في صميم الموضوع إلى حدٍّ بعيد. إن روح الأناجيل عالمية، على أي حال، والكنيسة المسيحية تتجاوز الحدود الإقليمية؛ فعلى مدار جزءٍ كبير من تاريخها استفادت من مفكرين وليتورجيات ولغات من جنسياتٍ مختلفة. وعلى النقيض من ذلك، تقوم الأمم والقومية على مبادئ التنوُّع الثقافي والفردية والأرض المقدسة، وتتطلبان مصادر ونماذج مختلفة لا سيَّما في المراحل المبكرة من القومية. وهذا يعني أننا نحتاج إلى أن ننصرف عن المسيحية ذات التوجُّه العالمي ونعود إلى أصلها اليهودي على وجه التحديد في الكتاب المقدس العبري.

هنا بدأ الإصلاح مرحلةً جديدة في عمليات تكوين الأمم، وفي ظهور حركة القومية الأيديولوجية في نهاية المطاف. وعلى الرغم من أن الإصلاح بدأ كحركةٍ رؤيوية أوروبية مناهِضة للبابوية، وكانت رسالتها الأساسية متعلقة بالتبرير بالإيمان من خلال النعمة لا من خلال أعمال الفرد، فإن التطوُّر اللاحق للإصلاح، لا سيَّما تحت تأثير كالفين وَزفينجلي وكنائسهما المُصلِحة، شهدَ انشغالًا أكبر بالعالم وسعيًا للاختيار الإلهي من خلال علامات الانتماء إلى الجماعة، والانضباط الأخلاقي الجمعي، والأعمال العامة.23
قدَّم الإصلاح اللاحق سياقًا للعودة إلى العهد القديم، وتحديدًا إلى روايات وقوانين أسفار موسى الخمسة، من جانب أعضاء كثيرين في الكنائس المُصلِحة غير اللوثرية، أبرزهم أتباع زفينجلي وكالفين، وقدَّم كذلك سياقًا لإعادة تقييم مكانتها في الشريعة المسيحية. ويقارن سيمون شاما طابع «القداسة الكلية» للعهد الجديد مع الطبيعة «الدنيوية» للعهد القديم، في نظر الكنائس المُصلِحة، ويوضح التالي:
كانت نتيجة ذلك كله إنقاذ العهد القديم من مكانته في الثيولوجيا الكاثوليكية كمقدمة ضرورية، و«مرحلة ثانية» في غائية الخطيئة الأصلية والفداء النهائي، واستعادة نوع من التماثل المُكمِّل إلى العلاقة بين الكتابين. في النظرة الكاثوليكية إلى العالم، طُمستْ طبيعة العهد القديم الرمزية الإسقاطية بالتفرقة بين المسيحيين واليهود الذين قتلوا الرب في البداية، إنْ جاز التعبير. وفي العقلية الكالفينية، فإن الوقائع المسيحانية النهائية «لا يمكن» فهمها إلا من خلال تاريخ اليهود الذين من خلالهم نفَّذ الرب مشيئته.24
ماذا كانت هذه الطبيعة الرمزية الإسقاطية التي راقت جدًّا لأعضاء الكنائس المُصلِحة؟ لم يكن أبطال العهد القديم محل تجاهل كما كان يبدو؛ فقد كانت توجد إشاراتٌ كثيرة إلى إبراهيم وموسى ويشوع وداود وسليمان والأنبياء، سواء في الأدب أو النصوص السياسية، أو فن العصور الوسطى، وهي إشاراتٌ تجدها في الكثير من النوافذ ذات الزجاج الملون والمنحوتات التي تُصوِّر أبطال الكتاب المقدس في الكنائس والكاتدرائيات والأبرشيات. إلا أن هذه الطبيعة الإسقاطية كانت من نواحٍ عديدة جزءًا من التقليد الهرمي، وعندما سعت إلى تقديس الملكية أصبحت على نحوٍ متزايد عنصرًا أساسيًّا في رمزية الأمم الملكية و«الوطنية التي مركزها التاج». وقد سعى عدد كبير من الملوك الإنجليز بدءًا من ألفريد وحتى هنري الثامن وإليزابيث إلى أن يتخذوا من ملوك يهوذا القديمة نموذجًا لهم؛ ربما كانوا مدركين أيضًا لاعتمادهم على سخط الرب، كما يُعبِّر عنه النبي هوشع:

أَنَا أَعْطَيْتُكَ مَلِكًا بِغَضَبِي وَأَخَذْتُهُ بِسَخَطِي. (هوشع ١٣: ١١)

لم تكن المَلَكية المقدسة مكونًا مهمًّا في تراث العهد القديم في الكنائس المُصلِحة، على الرغم من أنهم من وقتٍ لآخر كانوا يطلبون حماية وقيادة الأمراء البروتستانت أمثال ويليام أمير أورانج. وما جذبهم حقًّا إلى الكتاب المقدس العبري كان سرد الخروج والوحي عند جبل سيناء، بالإضافة إلى الرحلة إلى أرض الميعاد ونبوءات الخلاص التي حققها. وهذا يعني أنهم كانوا منجذبين للتوراة اليهودية والأنبياء اليهود، وإلى سِفر المزامير، وكلُّها أمورٌ تشهد على الاختيار الإلهي لشعب إسرائيل القديم، ومعاناتهم في التيه، ووعد الخلاص في أرضهم.25
من الضروري الآن في التوراة — كما هو موضَّح في أسفار موسى الخمسة — الاعتقاد بوجود عهد خاص بين الرب وشعبه، بما يتضمنه ذلك من الاختيار الإلهي لليهود، وذلك العهد يتمثل في اختيار الرب لليهود وتخليصهم من العبودية في مصر من خلال معجزاته وذراعه الممدودة. أما ما كان محل اهتمام خاص من المصلحين البروتستانتيين فكان النوع الشرطي للعهد، ذلك العهد الذي يَعِدُ فيه الربُّ موسى على جبل سيناء بأنه في حالة التزام بني إسرائيل بشرائعه وفرائضه فإنهم سوف يزدهرون في أرض إسرائيل، أما إذا نبذوا شريعته واتبعوا أصنام جيرانهم، فسوف يعاقَبون ويُطردون من أرض الميعاد. وفي هذا الصدد، كان غرض الرب، كما رأينا في الفصول السابقة، هو تكوين «ممْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً» (سِفر الخروج ١٩: ٦)، ووسيلة تحقيق ذلك كانت الفصلَ بين بني إسرائيل وجيرانهم عبدة الأوثان، ومنعهم من أي تواصل معهم كي لا يغووهم للاشتراك في ممارساتهم «الشنيعة»، من أجل أن يجعلهم يسيرون في طريق البر والرحمة.26
أصبح هذا النوع من العهد المشروط يلقى استحسانًا خاصًّا لدى الكنائس المُصلِحة؛ لأنه بدا محاكيًا لنصيبهم. فمع التحرك السريع لكلٍّ من البابا والإمبراطور لإدانة وحظر الهرطقات البروتستانتية وحرق «المهرطقين» البروتستانت في النهاية، اضطُر المصلحون مرارًا وتكرارًا إلى الهروب والعثور على ملاذٍ في المدن المستقلة أمثال جنيف وزيورخ وإمدن وأمستردام. كانت محنتهم تحاكي على نحوٍ واضح رحلات ومحن الشعب المختار الأصلي. ولم يكن ذلك مجرد تشبيه مجازي أو مطمئن؛ فقد ظهرت فكرة العهد على نحوٍ بارز في تفكير زفينجلي وخليفته هاينريش بولينر، في حين ظلَّ أمل «الاختيار الإلهي»، رغم كل شيء، مسألةً محورية لكل المُصلِحين. ونشأت هذه الفكرة من اعتقادهم أنه نظرًا للطبيعة الفاسدة للإنسان — وهذا تراث فكر القديس أوغسطينوس وقراءته لرسالة القديس بولس الرسول إلى أهل رومية — فإنه من خلال الإيمان بالمسيح فقط وليس أعمال الإنسان يمكن الأمل — من خلال نعمة الرب — في منع القرار الفظيع المتمثل في الهلاك الأبدي. يرى كالفين أن العناية الإلهية أصبحت حقًّا أكثر أهمية. والسبب في ذلك يرجع إلى أنه على الرغم من قرار التعيين السابق المزدوج الذي بموجبه يُحدَّد مصير البشر مسبقًا منذ الميلاد أو قبل ذلك، فالاحتمال قائم دائمًا في اختيار المرء ليحصل على الخلاص عن طريق نعمة الرب، ويصبح واحدًا من المُختارين.27
بطبيعة الحال، فإن «الاختيار» في العقيدة الكالفينية لا يحمل المعنى نفسه الموجود في مفهوم «الاختيار» المذكور في الكتاب المقدس. إلا أنه مع مرور الوقت، ساهمت الضغوط الخارجية، بالإضافة إلى المخاوف الداخلية، في جعْله أكثر قربًا من المثال المذكور في الكتاب المقدس؛ فمن ناحية، رأى المصلحون البروتستانت، لا سيَّما كالفين، في الكتب المقدسة — العهد القديم والعهد الجديد — كلمة الله الكاملة. وهذا يعني أنه فقط من خلال القراءة الدقيقة لكلمة الله، كما أوحاها في الكتاب المقدس، يمكن للمسيحي الحقيقي فهم العالم والحفاظ على إيمانه، وتضمَّن هذا على نحوٍ واضح التاريخ المقدس لمعاملات الرب مع شعبه المختار. انجذب كالفين نفسه إلى تشبيه إسرائيل القديمة بأنها أمة مختلطة صاحبة عهد، أي أنها أمة تضم أولئك الذين استمعوا لكلمة الرب وأولئك الذين رفضوها. ومن خلال التوبة عن خطاياهم وعيش حياة الإيمان والتقوى في مجتمعٍ يطيع شريعة الرب الموضَّحة في أسفار موسى الخمسة، يمكن لأعضاء الكنائس المُصلِحة أن يأملوا في أن يجدوا علامات نعمة الرب وحتى الاختيار الإلهي. بالإضافة إلى ذلك، فأولئك الذين ظنوا أنفسهم من المختارين سوف يرغبون، كنوعٍ من الامتنان والحب للرب، في أداء أفعال فاضلة؛ لذلك، فإن حياة العهد يمكن أن تمنع الناس من اللاناموسية التي أحاطت بقرار التعيين السابق، وتجيب عن سؤالٍ مُحيِّر يتمثل في السبب في ضرورة أن نكون أتقياء من الأساس. من ناحيةٍ أخرى، فإنَّ ما كان في الأصل إصلاحًا موجهًا لإيمان الأفراد أصبح أيضًا على نحوٍ متزايد مهمة لتكوين مجتمعاتٍ مُصلِحة — كنائس، واجتماعات سرية، ومدن، بل حتى أمم — وهذا كما قلت نتيجة لحملات الاضطهاد والمحاكمات التي طالما واجهها المصلحون وكنائسهم، والتي بدت مشابهة كثيرًا لمعاناة ومحن اليهود القدماء المُدوَّنة في أسفار موسى الخمسة. ومن هنا كان الاهتمام المتزايد بالاختيار الجمعي وبمكانة الأمة المختارة، حتى لو كان ذلك الاختيار مجرد «اختيار عام» كما سمَّاه كالفين، وحتى داخل تلك الأمة، والأتقياء وحدهم قد يحققون «قدرًا ثانيًا من الاختيار أكثر محدودية». ورغم ذلك، في هذا الصدد أيضًا، كانت توجد سابقة واضحة في الكتاب المقدس. ألم يندد أنبياءُ إسرائيل القديمة ويهوذا القديمة بخطايا الشعب وتحدَّثوا عن فداء وإعادة بقية من الشعب هم فقط الذين سينجون من غضب الرب إذ يُعتقد أنهم من الأبرار؟ استخلص المصلحون من هذا أنه على الرغم من أن كل الشعب قد يدخلون أرض الميعاد، فإن أولئك فقط الذين التزموا بشريعة الرب على نحوٍ صارم وخضعوا لقانونٍ عام للانضباط الأخلاقي يمكنهم أن يأملوا في علامات الاختيار الأكثر «محدودية».28

(٤) العهد والإصلاح في اسكتلندا وإنجلترا

أصبحت هذه هي حال الكثير من المصلحين الكالفينيين في أواخر القرن السادس عشر وفي القرن السابع عشر. على سبيل المثال، تأسَّس أول عهد في اسكتلندا في أواخر عام ١٥٥٧، إلا أن الإصلاح لم يتمكن من القيام بثورةٍ ضد حكومة الملكة الكاثوليكية الغائبة ماري ستيوارت، وتبنِّي اعتراف الإيمان الكالفيني وكتاب مبادئ الإصلاح الكنسي حتى عامَي ١٥٥٩ و١٥٦٠. يقول نوكس في كتابه «تاريخ الإصلاح في اسكتلندا» الذي كتبه في ستينيات القرن السادس عشر إن الكنيسة الاسكتلندية كانت «أنقى وأفضل كنيسة بروتستانتية مُصلِحة.» ومن ناحيةٍ أخرى، تحسَّر على فشل البروتستانت في إنجلترا واسكتلندا في التوحُّد تحت قيادة أمير تقي مثل الملك داود، مستخدمًا تشبيه انحدار مملكة إسرائيل القديمة وانقسامها إلى مملكتَي إسرائيل ويهوذا.29
رغم ذلك، فإن عقيدة العهد لم تحصل على ما تستحق إلا بحلول ثمانينيات وتسعينيات القرن السادس عشر من خلال الكتابات السياسية لروبرت بروس وجون ديفيدسون. وقد قدَّم روبرت رولوك عميد جامعة إدنبرة نسخةً من العهد أكثر عقائديةً وكالفينيةً من خلال كتابه «عهد الأعمال». وفي هذين العقدين أيضًا تجدَّد العهد القومي عدة مرات، وفي القرن التالي أصبح سمةً أساسيةً في الحياة السياسية الاسكتلندية؛ لذلك، جرى تجديد العهد القومي عام ١٦٣٨، ردًّا على محاولات الملك تشارلز الأول لإحداث توافقٍ في الممارسة الدينية في اسكتلندا وإنجلترا، بقَسَمٍ عام للغاية لمواجهة دفاع الملك «دفاعًا وحفاظًا على ما جاء ذكره آنفًا عن قوانين المملكة وحرياتها ودينها الحقيقي.» وفي الوقت نفسه، كان لزامًا على كل مَن أقسم اليمين أن يتصرَّف «بما يليق بالمسيحيين الذين جدَّدوا عهدهم مع الرب.»30
لعلَّ أشهر التجديدات الكثيرة التي أُجريَت للعهد كانت اتفاقية التحالف والعهد الوثيقَين التي كانت جزءًا من معاهدة عُقدت مع البرلمان الإنجليزي عام ١٦٤٣ أثناء الحرب الأهلية، للحفاظ على الدِّين المُصلِح «وفقًا لكلمة الرب والأمثلة الخاصة بأفضل الكنائس المُصلِحة.» وكان السبيل لتحقيق ذلك من خلال القضاء على ممارسات البابوية والأسقفية، والحفاظ على السلام بين اسكتلندا وإنجلترا، وإقرار الطرفين بعيوبهما والإعراب عن رغبتهما في إصلاح حياتهما. في أواخر القرن السابع عشر، أصبح الملك ملتزمًا بعهد قومي مزدوج بين الرب والشعب وبين الملك والشعب، كما هو مبيَّن في العهد القديم.31

كانت عملية الإصلاح أكثر تعقيدًا في الجنوب؛ فالأمر الذي بدأ بخلافٍ متعلق بزواج الملك هنري الثامن، سليل أسرة تيودور الحاكمة في إنجلترا، تفاقَم في منتصف ثلاثينيات القرن السادس عشر ليصل إلى انفصال المملكة الإنجليزية انفصالًا تامًّا عن روما، وتنصيب الملك هنري الثامن لنفسه حاكمًا أعلى لكنيسة إنجلترا. ورغم ذلك، لم يكن الملك هنري الثامن بيوريتانيًّا؛ فهو على أي حال قد كتب كتابًا يدافع فيه عن الإيمان (الكاثوليكي). كان دين هنري تأكيدًا للسيادة الملكية، السياسية والاقتصادية، من خلال إثراء التاج عن طريق حل الأديرة. وفي الواقع، شهدت سنوات هنري الأخيرة محاولةً من جانبه لاختيار طريقٍ محافظ إلى حدٍّ بعيد في مواجهة الشعور البروتستانتي المتزايد، وإنْ كان خفيًّا في أغلب الأحيان.

في عهد ابنه إدوارد السادس، ذلك الملك الصبي الذي تلقَّى تعليمًا بروتستانتيًّا وشبَّهه الكثيرون بالملك يوشيا ملك يهوذا، تمكَّن المصلحون أمثال كرانمر من القضاء على الكثير من الطقوس الكاثوليكية وأحلوا محلها كتابهم المعروف باسم كتاب الصلاة المشتركة المُصلِح المكتوب بالعامية عام ١٥٥٢، على الرغم من أن ذلك لم يخلُ من معارضةٍ شعبية في أجزاءٍ من إنجلترا. وبهذه الطريقة، أصبحت إنجلترا لبعض الوقت جزءًا من الحركة البروتستانتية الأوروبية، وملاذًا للاجئين البروتستانت. والعودة إلى الكاثوليكية في عهد ماري وحملات اضطهاد الأقلية البروتستانتية في ذلك الوقت كانت أساس الشعور بأن إنجلترا مملكة بروتستانتية محاصرة، وتلخص ذلك الأمر في صلاة مكتوبة في منشورٍ مجهول المُؤلِّف يعود لعام ١٥٥٤:

يا إلهي، دافِعْ عن شعبك المختار — شعب إنجلترا — من أيدي أعدائك الكاثوليك وقوتهم.

إلا أن يأس الذين نفتْهم الملكة ماري وازَنَه اعتقادٌ ديني راسخ يقضي بأن إنجلترا لها هُوية ورسالة فريدة حتى إن جون إلمر، الذي أصبح أسقف لندن فيما بعد، تمكَّن من إدخال تعبير هامشي عام ١٥٥٩ يقول إنَّ: «الرب إنجليزي.»32
بالطبع، كانت تلك هي السنة التي عُقدت فيها تسوية إليزابيث الدينية التي شهدت عودة المنفيين. وكان من بين هؤلاء المنفيين جون فوكس الذي نشر عام ١٥٦٣ الطبعة الأولى من كتابه البالغ التأثير «الأعمال والآثار»، المعروف عمومًا ﺑ «كتاب الشهداء»، ذلك الكتاب التي كانت شعبيته في إنجلترا تحتل المرتبة الثانية بعد الكتاب المقدس. وعلى النقيض من تفسيرٍ قديم رأى أن هذا الكتاب عملٌ تقليدي للقومية الدينية الإنجليزية تصوَّر فوكس فيه إنجلترا على أنها «الأمة المختارة»، فإن المؤرخين المحدثين أشاروا إلى الطبيعة العالمية لسجله الرؤيوي للشهداء البروتستانت، وهذا يليق بعملٍ من أعمال حركة الإصلاح البروتستانتي الأوروبية. وفي الوقت نفسه، أفرد فوكس مساحة كبيرة للحديث عن معاناة الشهداء البروتستانت الإنجليز على خلفية الصراع البروتستانتي ضد البابوية التي تُمثِّل «ضد المسيح». ويرى الكثيرون في إنجلترا أن هذه هي أبرز سمات عمله، وكما يقول ديرميد ماكولوك فقد: «أصبح الكتاب الهائل الذي ألَّفه فوكس ووسَّعه مرارًا وتكرارًا إحدى ركائز الهُوية البروتستانتية الإنجليزية؛ فهو تَذكِرة قوية بالطابع النضالي للإصلاح الإنجليزي.»33
في الحقبة الأخيرة من عهد الملكة إليزابيث، خلقتْ سلسلةٌ من المؤامرات الكاثوليكية التي استهدفت الملكة، وكان آخرها محاولة الغزو من قِبل الأسطول الإسباني المعروف باسم أرمادا عام ١٥٨٨؛ بيئةً مواتيةً إلى حدٍّ بعيد للأقلية البيوريتانية التي أصبحت بدورها أكثر كالفينية في توجُّهها وتنظيمها. واستمر قادة تلك الأقلية في تعزيز اعتقاد أن إنجلترا أصبحت أمة «مختارة»؛ ولذلك تخبرنا أطروحة «الوعظ الإلهي» لجون فيلد عام ١٥٨٣ أن «الرب منحنا نفسه»، في حين تعلن أطروحة «رَدٌّ على خطاب السيد هاريسونز» لتوماس كارترايت أن «الرب على عهد مع الشعب الذي يعطيه ختوم عهده (أي أسرار عهده المقدسة)» مثلما «فعل مع جماعاتنا في إنجلترا.»34
على الرغم من قمع القيادة البيوريتانية في تسعينيات القرن السادس عشر، فقد واصلت البيوريتانية النمو طوال عهد جيمس الأول، وشجَّعت على ذلك المشاعرُ المناهِضة للإسبان والكاثوليكية، لا سيَّما بعد اكتشاف مؤامرة البارود. وبحلول ثلاثينيات القرن السابع عشر بدأ عددٌ متزايد من المثقفين يربطون بين الشعور القومي الإنجليزي والاعتقاد البروتستانتي القوي، والسبب في ذلك يعود جزئيًّا إلى محاولات حكومة تشارلز الأول لفرض السياسات «الأرمنيوسية» لصاحبها عالِم اللاهوت جاكوب أرمينيوس، التي رأَوْا أنها بمنزلة حصان طروادة «مستعد لفتح البوابات أمام طغيان الكاثوليكية الرومانية والملكية الإسبانية.» وأصبح هذا الاتجاه في مزج الدين بالشعور القومي الإنجليزي شائعًا في برلمان عام ١٦٤٢؛ ومن ثَمَّ أصبحت «الحرب الأهلية مهدًا للهُوية القومية» كما قال أنتوني فليتشر.35
ما نوع الأمة التي سعى إليها البيوريتانيون الأتقياء؟ كانت أمتهم أمة كومنولث؛ فبعد عام ١٦٤٩ رفضوا أيَّ مفهوم للهرمية. إلا أنها كانت جمهوريةً أشبه إلى العهد القديم منها إلى النماذج الكلاسيكية، وكانت قائمةً على قوة جيشٍ تقيٍّ مناضل ومنتصر، يسير إلى المعركة مرددًا المزامير. كان الكتاب المقدس الذي حملته جيوش كرومويل يتكوَّن من مجموعةٍ من تلك المزامير المقتبسة التي تتناول في معظمها الحرب وروح الجندية، وكما هو متوقَّع فإن الغالبية العظمى من المقتطفات مأخوذة من العهد القديم، لا سيَّما من سِفر التثنية وسِفر المزامير وسِفر أخبار الأيام الأول وسِفر أخبار الأيام الثاني. خاضَ جيش النموذج الجديد بقيادة كرومويل معارك الرب في سبيل قضية مزدوجة تتمثل في إنجلترا الرب ورب إنجلترا، من أجل تحقيق سيادة وسيطرة الكومنولث الإنجليزي البيوريتاني. وقد حثَّ كرومويل البرلمان عام ١٦٥٣ قائلًا: «حقًّا، الرب يطالبكم مثلما طالَب يهوذا أن تحكموا معه، ومن أجله.» لم يفرق كرومويل بين مصالح المسيحيين ومصالح الأمة؛ فهما يمثلان «أكبر اهتمامين للرب في هذا العالم.»36
كذلك كانت وجهة نظر جون ميلتون، على الرغم من عالميتها، مشبعة تمامًا بالشعور القومي والصور المجازية والمُثُل الواردة في العهد القديم، لا سيَّما تلك المتعلقة بالشعب المختار. في إحدى الفقرات المشهورة، يتناول قرب إنجلترا من الرب فيقول:
فَكِّر في ماهية الأمة التي تنتمي إليها، والتي ينتمي إليها الحُكام؛ فالأمة ليست بطيئةً وخاملة، بل هي ذات روحٍ سريعة ومبتكرة وثاقبة، هذه الأمة مختارة على غيرها … (عندما) يقرر الرب بدء فترة جديدة وعظيمة … فما الذي يفعله إذًا سوى أنه يكشف عن نفسه … كطريقته، لشعبه الإنجليزي أولًا؟37
بطبيعة الحال، كانت رؤية ميلتون البروتستانتية أوروبية أيضًا؛ فقد رأى إنجلترا تقود الإصلاح وحركة الحرية المدنية بصفتها أمة «مختارة»، «أمة من الأنبياء والحكماء والفاضلين»، ويعود إلى واقعةٍ في سِفر الأعداد عندما وَبَّخَ موسى يشوع حين رَغِبَ في منع ألداد وميداد من التنبؤ في محلة بني إسرائيل في التيه، وصاح بلغةٍ شبه تنبُّئية، فقال:

في الوقت الحالي يبدو أن الوقت قد حان ليجلس النبي العظيم موسى في الجنة مبتهجًا لرؤية تحقُّق أمنيته الجديرة بالذكر والمجيدة؛ حيث لم يصبح السبعون شيخًا فقط أنبياء، بل أصبح كلُّ شعب الرب أنبياء.

رغم ذلك، تركَّزت آماله على التجربة الكبرى المتمثلة في الجمهورية الإنجليزية المُصلِحة، وتوقَّع أن يدعم الربُّ شعبه الخاص — إنجلترا عادةً، لكنه أحيانًا يشمل الاسكتلنديين في «بريطانيا». وهذا يعني أن إنجلترا، مثل إسرائيل القديمة، كانت أمةً ذات عهد، وفي هذا الصدد يُعبِّر ميلتون وكرومويل عن كثيرين في معسكر الأتقياء. وعلى مدار عقدٍ من الزمان، تمكَّنا من فرض رؤيتهما القومية البيوريتانية لإنجلترا على الشعب، وحاولا خلق «أمة عهد» جديدة على أساس هُوية قومية إنجليزية راسخة منذ زمنٍ طويل لدى النُّخب، وحاولوا نشرها من خلال المنابر والمطبوعات لقطاعٍ أكبر من السكان، وإن كان قطاعًا حضريًّا في الأساس.38

(٥) إسرائيل جديدة في هولندا

لم تكن إنجلترا أولَ مثالٍ على أمةٍ عهدية ناشئة، ولعلَّها لم تكن أنجحَ تلك الأمثلة. بالتأكيد، نافستْها في شدة التعبير عن ذلك المقاطعاتُ المتحدة الهولندية في القرن السابع عشر. وبالفعل في فترة البطولة المبكرة في الثورة الهولندية على جيوش أسرة هابسبورج بقيادة دوق ألبا في أواخر ستينيات القرن السادس عشر وسبعينيات القرن السادس عشر، كان تشبيه المتمردين أنفسهم بإسرائيل القديمة معبِّرًا على نحوٍ واضح. ويمكن رؤية ذلك في «أغاني المتسولين» التي شبَّهت ويليام أمير أورانج بموسى وداود، وشبَّهت ملك إسبانيا بفرعون. ووُصف الشعب الهولندي بأنه «المختار من قِبل الرب» و«شعب الرب»، في حين وُصف الإسبان ﺑ «الأمة الأجنبية» المتغطرسة والقاسية. وفي الإعلانات الرسمية لأيام الصلاة والصيام في سبعينيات القرن السادس عشر، كان الإله الذي يدعونه هو إله العهد القديم. والمثال الذي اقتبسه فيليب جورسكي هو إعلان ويليام أمير أورانج لعام ١٥٧٥:
يحذو جلالته حذو الأمراء المسيحيين الذين في أوقات الخطر والكرب الْتجَئُوا إلى الرب القهار، ومع شعبهم تواضعوا أمام يده القهارة وتابوا وأعرضوا عن حياتهم السابقة والآثمة … (عالِمين أن) الرب لم يترك مطلقًا شعبه في وقت الحاجة، لكنه وقفَ دائمًا بجانبهم وخلَّصهم.39
في محنتهم يعود الهولنديون إلى سرد سِفر الخروج كما نرى في إعلانٍ آخَر للصلاة والصيام يعود لعام ١٥٨٠ يرجو الرَّبَّ أن:
يُبعد الأوبئة الرهيبة، والدمار الكبير والحرب الطويلة الأمد، عن هذه الأراضي … ويحرِّر هذه الأراضيَ وسكانها الصالحين من كل ما يؤدي إلى التحكم فيهم ومن عبوديتهم الملعونة والأبدية.40
كان الالتفاتُ إلى خروج اليهود من مصر والموضوعات الشائعة في قصة موسى كثيرًا ما يتكرَّر في القرن التالي، واستحضر الوُعَّاظ والخطباء والكُتَّاب والفنانون الهولنديون هذا المثال كثيرًا؛ فقد اضطُر كثيرٌ من الهولنديين البروتستانت إلى الهروب من اضطهاد دوق ألبا وتقدُّم جيوشه في الأجزاء الجنوبية من هولندا عابرين الحواجز المائية ليصلوا إلى الجمهوريات الحرة في الشمال؛ ومن ثَمَّ، كان هروب بني إسرائيل عبر البحر الأحمر وتخليص الرب لهم من جيوش فرعون يحمل تشابهًا مدهشًا مع حالتهم. وخلال عام ١٦١٢، نشر يوست فون فوندل، أعظم روائي هولندي في هذه الفترة، مسرحية «عبور أو خلاص بني إسرائيل من مصر»، تلك المسرحية التي شبَّه فيها أمير أورانج بموسى:
يا لَلقدر العجيب الذي يجمع موسى بأمير أورانج
أحدهما يحارب من أجل الشريعة، والآخر يروِّجها
وبذراعه يحرِّر الإنجيل
أحدهما يقود العبرانيين عبر فيضان البحر الأحمر
والآخر يقود شعبه عبر بحر … الدموع والدم.41
كذلك تبنَّى العديد من الفنانين الهولنديين هذه الموضوعات، بالإضافة إلى الكثير من الموضوعات الأخرى المأخوذة من العهد القديم، لا سيَّما بطاركة العهد القديم، وداود، وإستير ومُرْدَخاي. وصوَّر أيضًا هندريك خولتسيوس، وإبراهام بلومارت، وكورنيليس فون هارليم، وفرديناند بول أحداثًا درامية من حياة موسى، بما في ذلك تلقِّي العهد وكسر الألواح. يوضح سايمون شاما أن شعبية سرد الخروج وسرد التيه في أسفار موسى الخمسة كانت بلا شكٍّ انعكاسًا للتشابه الذي أدركه الهولنديون بين محنة وتكوُّن الشعب اليهودي القديم وبين حالهم؛ إذ كانوا يتشكَّلون ويتفرَّدون كشعب مميز بفِعل الوحشية والتعصب اللذين أظهرهما دوق ألبا وسيده فيليب الثاني ملك إسبانيا، بالإضافة إلى سنوات الحرب والمحنة الطويلة.42
موضوعات الكتاب المقدس المتعلقة بالخروج والعهد حاضرة أيضًا على نحوٍ واضح في الصلاة الختامية في قصيدة «النشيد التذكاري الهولندي» للشاعر أدريان فاليريوس ابن مقاطعة زيلاند، وجزء من تلك القصيدة التي تعود لعام ١٦٢٦ يقول:
يا إلهي، عندما كان الجميع يعاملوننا معاملةً سيئة أحضرتَنا إلى أرضٍ وأصبحنا فيها أغنياء بفِعل التجارة، وتعاملتَ معنا بعطفٍ، وفي الوقت نفسه أخرجتَ بني إسرائيل من سجن بابل، وانحسرَت الأنهارُ أمامنا وأخرجتَنا وأقدامنا جافة، وفي الوقت نفسه أحضرتَ ناسَ الأيام الخوالي، مع موسى ويشوع، إلى أرض الميعاد. يا إلهي، لقد فعلت لنا أمورًا رائعة. وعندما لم نتبعك، عاقبتنا بقوة شديدة لكنها أبوية؛ بحيث كانت ابتلاءاتك التي أنزلتها علينا دائمًا مثل عقاب الأطفال. لم تؤاخذ شعبك بخطاياه، بل حرَّرتَنا من قيد المؤابيين، وفي الوقت نفسه حرَّرتَنا من خلال دَبُورَة وباراق اللذين ظهرت قوتهما أمامنا في الحقل، ومن خلال قوة جدعون الجسور الذي قاتل ضد عنف المديانيين.43
يصاحب النَّصَّ نقشٌ للمقاطعات السبع الشقيقة وأمراء ناساو أورانج راكعين في تبجيل وصلاة أمام قبعة الحرية الهولندية الموضوعة على سارية أسفل راية مكتوب عليها اسم الرب المقدس المذكور في الكتاب المقدس في سحابة من المجد. في ذلك الوقت، أصبح التناظر بين «هولندا وإسرائيل» على المستوى الوطني سمةً أساسية في سياسة هولندا، ونُشر إلى العامة على نحوٍ موسَّع من خلال المطبوعات والمنشورات الرخيصة. وفي منتصف القرن، كوَّن الحزب الكالفيني، بدعمٍ من أسرة أورانج الحاكمة، برنامجًا سياسيًّا يقوم على قومية العهد لم يتضمَّن فقط التحرُّر من السيطرة الأجنبية، بل تضمَّن كذلك وحدة المجتمع من خلال التوافق الديني والانضباط الأخلاقي القوي، بما في ذلك وصية حفظ السبت الصارمة، وقوانين الترف، وحرية الكنيسة، والحكم القوي الملتزم بإكمال الحرب على إسبانيا وأعداء الجمهورية الآخرين في أوروبا أو خارجها وتطهير الجمهورية من أعدائها الداخليين.44
لم تكن إنجلترا، واسكتلندا، وهولندا بأي حالٍ الأمثلةَ الوحيدة على الإصلاح الذي يُغذِّي نوعًا حيويًّا من قومية «العهد»، بل يمكننا العثور على أمثلة أخرى في مستوطنات الاسكتلنديين الموجودين في أولستر في شمال أيرلندا، وفي مستعمرات أمريكا الشمالية، ولاحقًا بين الأفريكان بعد الرحلة الكبرى. كان ذلك الجزء من الاتحاد السويسري الذي يضم زيورخ وبيرن وبازل يحظى بأهميةٍ خاصة؛ إذ اتفقت فكرة العهد مع التقاليد السويسرية المتمثلة في اتفاقيات الدفاع المشترك بين الكانتونات التي تعود إلى أواخر القرن الثالث عشر، وكانت الوصايا العشر وشريعة موسى تلقى احترامًا كبيرًا في ذلك الجزء من الاتحاد. ورغم ذلك، نجح المصلحون هنا وفي ألمانيا وبولندا والمجر في الاستحواذ على أجزاءٍ من المجتمع اللغوي والسياسي، وفي بعض الأحيان كان نجاحهم هذا لفترةٍ مؤقتة فحسب، بينما هُزموا وطُردوا في نهاية المطاف في بوهيميا وفرنسا.45
في الأماكن الأخرى، ساد «الإصلاح المدعوم من الحُكام» الذي يمثل الجناح اللوثري الأقل حدةً من الناحية السياسية. في إسكندنافيا كان الملوك مسئولين عن هذه المبادرة، فكان الملك فريدريك الثاني والملك كريستيان الثالث هما المسئولَين في الدنمارك والنرويج، وكان الملك جوستافوس فاسا هو المسئول في السويد. وكما هو متوقَّع، فقد أسفر ذلك عن تأكيدٍ أقوى للسيادة الملكية وللدولة المطلقة، إلا أن هذا كان له مقابل في تلك البلاد؛ ففي الدنمارك حدث قَبول سريع للوثرية الإنجيلية مدعوم بترجمة للكتاب المقدس إلى اللغة الدنماركية عام ١٥٥٠، وفي السويد ظهرت حركة للتعليم اللوثري تدريجية إلى حدٍّ بعيد، كان يرأسها أولويس بيتري ولاورنسيوس بيتري اللذان مهَّدتْ كتاباتهما الدينية وقوانينهما الكنسية الصادرة عام ١٥٦٢ وعام ١٥٧١ الطريقَ أمام الموافقة على اللوثرية باعتبارها دينًا قوميًّا في أحد المجالس الكنسية العامة عام ١٥٩٣.46

(٦) أمم عهدية، قومية عهدية؟

بحلول أوائل القرن السابع عشر كان العديد من عمليات تكوُّن الأمم يسير بإعدادٍ جيد في شمال ووسط وغرب أوروبا. وتضمَّن ذلك التعريفات الذاتية والاعتراف بالأسماء الرسمية للممالك وسلالات شعوبها، وترسيخ الذكريات والرموز والأساطير والتقاليد بدرجاتٍ متفاوتة، وتزايُد أقلمة الذكريات العرقية والارتباطات الشعبية بالممالك والمقاطعات الإقليمية، وخلق ثقافة نُخبوية عامة ونشرها مبدئيًّا بين الطبقات الأخرى، وتكوين عادات مشتركة وتوحيد الأنظمة القانونية عبر الممالك والمقاطعات المستقلة. وكما رأينا، فإن هذه العمليات أسفرت عن قدرٍ معين من الهُوية القومية والمشاعر القومية بحيث أصبح من الممكن التحدُّث عن الأمم الهرمية، لكن تلك الهُوية والمشاعر كانت مقتصرة على النُّخَب الحاكمة والمثقفة.

أصبح الآن الشعور بالهُوية القومية أكثر قوةً وانتشارًا بين قطاع أكبر من النُّخَب من خلال تأكيد السيادة الملكية في الدول التي انشقت عن البابا والنظام الديني الكاثوليكي وتبنَّت أحد الأنواع المختلفة للبروتستانتية. حتى في البلاد التي تبنَّت عقيدة وليتورجية إنجيلية أقل حدةً من الناحية السياسية لم يتمكن السكان في مجملهم من الإحجام عن التورُّط أو التحرك إلى حدٍّ ما لدعم التغيرات العقائدية والليتورجية أو مناهضتها، ودعمًا لملوك وأمراء بروتستانتيين معينين أو معارضةً لهم؛ لذلك، كما هو مفهوم، اجتاح الالتزام المحموم بالأفكار والممارسات اللوثرية الصادرة عن المدن الألمانية الشمالية المجاورة منذ فترةٍ مبكرة، تعود إلى أواخر عشرينيات القرن السادس عشر؛ أعدادًا كبيرة من الفلاحين وسكان الحضر، وكانت تلك الحركة هي ما ساعدت أولًا فريدريك الثاني وبعده كريستيان الثالث في كسر شوكة النبلاء ورجال الدين الكاثوليك، وساعدت أيضًا في دعم السيادة الملكية، ومن ثَمَّ إرساء أسس الدولة المطلقة لاحقًا.47

في حالاتٍ مثل الدنمارك، والسويد وإن كانت لدرجةٍ أقل، كانت نتيجةُ الإصلاح هي تقويةَ الأمة الهرمية وتوسيع نطاقها، دون أن يسفر ذلك عن أي حركةٍ شعبية أو منتمية إلى الطبقة الوسطى الواسعة النطاق ساعية إلى استقلال ووحدة وهُوية الدولة البروتستانتية. ورغم ذلك، في حالات أخرى مثل اسكتلندا وهولندا وشمال سويسرا وترانسلفانيا تضمَّن تبنِّي أحد أنواع الإصلاح البروتستانتي الأكثر راديكالية، سواء إصلاح زفينجلي أو كالفين، قدرًا أكبر من الحراك الشعبي الذي وصل في بعض الحالات إلى حركةٍ محددة للقومية البروتستانتية. وكان هذا راجعًا إلى عدة عوامل، منها: تكوُّن مفهوم الاستقلال القومي والنضال من أجله في فترةٍ سابقة، وطابع النظام الحاكم والإداري، وطبيعة النُّخَب المتنافسة، ومكان المملكة أو الدولة المدينة أو المقاطعة داخل شبكة الكيانات السياسية والنظم الاقتصادية المتنافسة التي تضم تلك الدول. لكن لعل العامل الحاسم في تكوين قومية بروتستانتية شعبية واسعة النطاق هو النشاط السياسي لكنائس المصلحين التي نشأت عن القمع الذي لاقاه المصلحون على يد الملوك والكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وكذلك عن الإلهام الذي استوحَوْه من العودة إلى العهد القديم وسرده لقصة الخروج والعهد لإسرائيل القديمة.

يكشف تاريخ بني إسرائيل القدماء واليهود في الكتاب المقدس معاملات الرب مع شعبه المختار، ويقدم كذلك نماذج للمجتمع السياسي، سواء في حالة وجود ملك تقي أو عدم وجوده. ونتيجةً لذلك، ظهر نموذجان من الأمم العهدية في القرن السابع عشر، أحدهما ملكي والآخر جمهوري. النموذج الأول تُمثله اسكتلندا وإنجلترا في الجزء الأول من القرن السابع عشر، والنموذج الثاني تُمثله المقاطعات المتحدة السبع الهولندية بعد معاهدة اتحاد أوترخت (١٥٧٩)، بل على الأحرى بعد الهدنة مع إسبانيا منذ عام ١٦٠٩، والكومنولث الإنجليزي في خمسينيات القرن السابع عشر. في النوع الأول كانت الأمة موحَّدة على أساس مثال العهد المزدوج بين الرب والشعب وبين الملك والشعب، في النوع الثاني كان يوجد عهد واحد يربط المجتمع مع الرب في كل جماعات المجتمع. وفي الحقيقة، كان يوجد تداخل بين هذين النوعين كما يوضح مثال الاسكتلنديين. على أي حال، تعايش العهد القومي مع الأمة العهدية الملكية، وسعى ذلك العهد القومي إلى دعمها، وعلى الرغم من الصراعات الكثيرة، فمن الممكن العثور على شيءٍ من هذا القبيل في هولندا فيما يتعلق بأمراء أورانج. وقدَّم كلا النوعين من الأمة العهدية، لكن بدرجاتٍ متفاوتة، عنصرًا رائجًا في المجتمع السياسي، وهو أمرٌ استُبعد في النوع الهرمي الأول. ومن المؤكَّد أنه من الناحية العملية لم يكن عادةً بإمكان أحدٍ ضمان الدخول إلى الأمة السياسية سوى سكان المدن والتجار الأكثر ثراءً، إلى جانب النبلاء ورجال الدين والمثقفين، وكذلك من الناحية العملية كان يوجد قدر قليل من الاختيار بالنسبة إلى الشخص المعهود إليه، مثلما لم يكن لبني إسرائيل اختيار مطلقًا بعد الاتفاق المبدئي في سيناء. علاوةً على ذلك، فمن الناحية العملية أيضًا كان للمعيار العرقي المضمر دورٌ مؤثر؛ فالمعهود إليهم كانوا ينتمون إلى مجتمع عرقي سياسي محدد، ولديهم إحساس بالهُوية القومية النُّخبوية على أقل تقدير؛ فنجد أن رغبة المقاطعات الشمالية السبع الهولندية في استعادة المقاطعات الجنوبية الهولندية ترجع إلى التاريخ العرقي السياسي، بقدر ما ترجع إلى الدين أو إلى الصراع السياسي المباشر ضد أسرة هابسبورج.48

لعلَّ الأهم من الامتداد الاجتماعي لأمة العهد هو قوة الروابط التي دعمتها المعتقدات والممارسات الدينية لهذه الأمة. لقد كانت تلك الروابط غايةً في القوة في بعض الحالات، حتى إننا يمكننا التحدُّث حقًّا عن تأثير «قومية العهد» في هذه الفترة. أنا لا أشير فحسب إلى تكوين اتحادات الكومنولث من خلال المعاهدات والتعهدات، على الرغم من أهميتها، بل يجب أن ننظر إلى الحركات المستمرة والشديدة الداعية إلى الاستقلال والوحدة والهُوية التي ظهرت في هذه الفترة بحثًا عن أمثلةٍ مبكرة ﻟ «القومية». تتمثل أهمية هذه الحركات لفهمنا للتقاليد الثقافية وسلالات الأمم في أمرين؛ يتعلق الأمر الأول بالأمثلة المبكرة للحركات القومية، والأمر الثاني يتعلق بالقنوات التي من خلالها انتقل تضامن دول العهد وتجدَّد.

ما الذي يمكننا قوله عن سمات «قوميات العهد» أو «القوميات العهدية»؟ نحتاج إلى أن نتذكر أنه على الرغم من اشتراكها في «المعتقد الأساسي»، فقد عبَّرت الأيديولوجيات والحركات القومية عن نفسها بطرقٍ متنوعة في فتراتٍ تاريخية ومناطق ثقافية مختلفة. إذًا يجب ألا نندهش إذا كانت قوميات العهد دينيةً ليس فقط شكلًا من المنظور العام المتمثل في أن كل القوميات تأسست كنوعٍ من الدين العلماني وكدينٍ دنيوي للشعب، بل مضمونًا من الناحية الجوهرية المتمثلة في تضمُّنها لدين روحاني معين قائم على الخلاص «من الخارج»، كما هي الحال بلا شكٍّ مع أنواعٍ كثيرة من البروتستانتية. في هذا الصدد، كان الرب، وليس الأمة، هو صاحب السيادة في الكومنولث، حتى لو كان ذلك على نحوٍ متزايد. كان الرب يعمل من خلال الكنائس الإلهية والأمم المختارة. علاوةً على ذلك، لقد كانت المساواة بين المؤمنين، وليس المواطنين، هي ما يحظى بفائق الأهمية. رغم ذلك، فكما رأينا مع معتقد «الاختيار العام» لكالفين، فقد كان من المفيد بلا شكٍّ انتماء المؤمنين إلى مجتمعٍ تاريخي واحد أوسع نطاقًا — دولة مدينة، أو كانتون، أو مملكة، أو جمهورية — وقدرتهم جميعًا على قراءة الكتاب المقدس نفسه وكتاب الصلاة نفسه بلغة محلية واحدة واتباع ليتورجية محلية واحدة، ومن ثَمَّ تكوين كنيسة واحدة ذات عهد، لكنها مختلطة، على غرار إسرائيل. ومعنى ذلك أن كل مَن ينتمي إلى مجتمعٍ عرقي سياسي معين كانوا أعضاءً محتملين من الأمة المختارة، لكن الأتقياء منهم فقط هم مَن كانوا من المُحتمَل خلاصهم من خلال هبة النعمة. وهم فقط مَن سيصبحون «البقية الصالحة» من إسرائيل الذين سوف يخلِّصهم الرب ويعيدهم إلى أرض الميعاد، وفقًا للأنبياء القدماء. وهذا أيضًا له نظيره في القوميات اللاحقة، حيث كان قادة وأعضاء الحركات القومية في المعتاد يرَوْن أنفسهم (أو الفلاحين الذين يرَوْنهم مثاليين) أكثر نقاءً وأكثر «مصداقية» عن بقية سكان المدينة المشتركين معهم في العِرق، والذين يمثلون في الغالب المكوِّن الأساسي لهم.

من ناحية التركيبة الاجتماعية، فقد كانت قوميات العهد لا تختلف عن نظيرتها العلمانية اللاحقة. وهنا من المهم أن نتذكر أن قوميات القرن التاسع عشر كانت على نحوٍ مميز حركاتٍ تقودها الأقلية؛ فخارج باريس كانت متاريس ثورات ١٨٤٨ المعروفة باسم «ربيع الشعوب» يقف خلفها بعضُ مئاتٍ من المتمردين القوميين. وقارن ذلك بجيوش المتحمسين والأتقياء في اسكتلندا وإنجلترا وهولندا في القرن السابع عشر، حيث حاربت تلك الجيوش من أجل الأمة المختارة انطلاقًا من المعتقد الأيديولوجي على أقل تقدير. بالإضافة إلى ذلك، فوجْه الاختلاف بين المشاعر والحركات القومية النُّخبوية في فترة ما قبل الحداثة وبين القوميات الشعبية الحديثة لا ينطبق على قوميات العهد؛ فعلى الرغم من أن قيادات قوميات العهد كانت بلا شكٍّ تنتمي إلى الطبقة الوسطى في طبيعتها، كما هي الحال مع الحركات العلمانية اللاحقة، فقد جذبت قوميات العهد معتنقين من كل الطبقات، ربما باستثناء الفقراء الشديدي الفقر (الذين كانوا غائبين أيضًا عن القوميات اللاحقة). ويمكن أن نأخذ فكرةً عن تركيبة حركات المصلحين من تحقيق جيفري باركر عن الخلفية الاجتماعية ﻟ «المهرطقين» المُدانين في المقاطعات الخاضعة لحكم أسرة هابسبورج في جنوب هولندا في منتصف القرن السادس عشر؛ ذلك التحقيق الذي اكتشف أن حوالي خمسين في المائة منهم كانت أصولهم تعود إلى الطبقة الدنيا.49
بالمثل، كانت البرامج والأهداف السياسية لقوميات العهد لا تقل تحديدًا ووضوحًا عن مثيلتها في القوميات الأكثر علمانيةً التي خلَفتْها لاحقًا. ورأينا أن تلك البرامج والأهداف تتضمَّن أيضًا التحرُّر من التدخل الخارجي والدفاع عن الكومنولث، وخلق مجتمع موحَّد يضم الأتقياء ويقوم على قانونٍ واحد للانضباط الأخلاقي بما في ذلك حفظ السبت وقوانين الترف، واستعادة الكنيسة الحرة والحقيقية، وتطهير الكومنولث من أعدائه الداخليين، وتشجيع الحكم القوي الذي لديه القدرة والرغبة في شن الحرب ضد الفجَّار وكذلك الذين يهددون الكومنولث، اقتصاديًّا وعسكريًّا، بما فيهم الدول البروتستانتية الأخرى. بهذه الطريقة، تَمكَّن قوميُّو العهد من تحفيز الناس من خلال الوعد بالاستقلال القومي والوحدة والهُوية القومية كأمة مختارة لديها عهد مع الرب. وكان تركيز قوميات العهد على الجانب «السياسي» هو بالضبط ما جعل النموذج السياسي المذكور في أسفار موسى الخمسة وثيق الصلة للغاية؛ فهو اختيار غير مقيَّد من الرب لشعبه، إسرائيل الجديدة، وقبولهم له كرَبٍّ لهم وقبولهم لأنفسهم كشعبه وموافقتهم على طاعة شريعته والالتزام بوصاياه، بوصفهم مجتمعًا سياسيًّا للمؤمنين، وبوصفهم مؤمنين فُرادى. بطبيعة الحال، لم تكن هذه الأهداف السياسية موضَّحة في برامج مطبوعة أو في بياناتٍ حزبية، بل كانت متداوَلة عبر الأطروحات والمنشورات، ويُوعَظ بها عبر المنابر، لكنها رغم ذلك لم تكن أقلَّ قوةً في التأثير أو في الانتشار الواسع. وعلى هذا النحو، مثلت برامج قومية العهد نوعًا مبكرًا من السياسة الشعبية في أوروبا في وقتٍ كانت فيه شرعية الحُكام تخضع للفحص والتدقيق على نحوٍ متزايد، وكان الحق في التمرُّد يُناقَش على نطاقٍ واسع. وبدأت «مصالح الأمة» كما يقول كرومويل تحظى بالأولوية على كل الاعتبارات الأخرى باستثناء تلك المتعلقة بالعناية الإلهية، وتزايَد إدراكُ وجود تناغمٍ متزايد بينها. وهذا يعني أننا يمكن أن نرى في هذا النوع من القومية ليس فقط طليعة وباكورة القوميات العلمانية اللاحقة، بل نرى أيضًا مرحلةً أولى ونموذجًا أوَّليًّا للحركات التالية. ولهذه الأسباب، استمر التشبيه بإسرائيل لفترة طويلة؛ إذ امتد بالفعل إلى القرن الثامن عشر في دولٍ بروتستانتية مثل إنجلترا وهولندا والسويد، وانتقل أيضًا — كما سنرى — نموذج العهد المتمثل في إسرائيل القديمة، بمُثُله المتعلقة بالوحدة والمَهَمَّة والأرض المقدسة، إلى الحركات القومية اللاحقة في أنحاء أوروبا، بالإضافة إلى غيره من التقاليد الثقافية.50

في الوقت نفسه، عزَّزت هذه الانطلاقات الأوَّلية للحماس القومي الديني الإحساسَ بالهُوية القومية ووسَّعت كثيرًا نطاق المشاعر القومية الموجودة بين السكان الذين لديهم تعريف ذاتي، ووضعت مثال الأمة التقية في طليعة التصورات والأفعال السياسية. وحتى إذا كانت اتحادات الكومنولث التي كوَّنتْها فشلت أو اختفت بعد فترةٍ قصيرة، فإن ما دعمته تلك الاتحادات من إحساسٍ بالاختيار القومي، ومثال الوحدة، والارتباط بالأرض؛ كانت له آثار مستمرة على الشعب المختار المقدور له تعزيزها؛ مما ساعد في إمدادهم بالثقة في النفس كقومية وبروح المبادرة والابتكار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤