الفصل السابع

مصائر بديلة

عندما اقتطعت القوى العظمى من الإمبراطورية العثمانية مملكةً هيلينيةً صغيرةً على الأراضي اليونانية عام ١٨٣٢، عزَّزتْها بملك بافاري ومستشارين ألمانيين، وتوقعت منها أن تتبع النموذج الغربي المتمثل في الاندماج الفريد بين الدولة والأمة المفترض أنه يميز المجتمعات المتحضرة. ولم يَخِبْ أمل تلك القوى العظمى في البداية. مُنحَت الدولة الجديدة دستورًا، وحريات مدنية، وبرلمانًا، بالإضافة إلى المؤسسات الأساسية الأخرى للدول، ومن ذلك التبعية للكنيسة الأرثوذكسية التي أصبحت منفصلةً عن بطريركية القسطنطينية. كانت المواطنة والتعليم العلماني وحكم القانون، ولو نظريًّا على الأقل، هي السمات الأساسية لما كان فعليًّا أمةً جمهورية. بالإضافة إلى ذلك، كانت أيديولوجية الدولة وبرنامجها الأساسيان نوعًا من القومية الجمهورية التي كان من المفترَض أن تُترجِم إلى سياساتٍ عمليةٍ رؤيةَ التنوير التي تبنَّاها قادة النُّخبة المثقفة اليونانية، من ريجاس فالستنليس إلى أدامانتيوس كورائيس، وهي رؤية اعتبرها المثقفون اليونانيون مأخوذة من إنجازات أسلافهم البطولية في أثينا القديمة. ونرى هذه الرؤية موضَّحة بجلاءٍ في كلٍّ من خريطة اليونان التي رسمها ريجاس، وفي دستور عام ١٧٩٧ الذي وضعه لجمهورية هيلاس التي اقترحها، وأعلن فيه مساواة كل المواطنين قائلًا:
الناسُ المتمتعون بالسيادة هم كلُّ أناس هذه الدولة دون تمييزٍ بسبب الدين أو اللهجة، يونانيين، وبلغاريين، وألبانيين، وفلاخيين، وأرمن، وأتراكًا، وكل عرق آخر.1
إلا أنه، منذ البداية، لم يتشارك الجميع هذه الرؤية. وبينما استطاعت الدولة اليونانية الحديثة، ولا شك، بدعمٍ من القوى العظمى، تقديم إطار سياسي ومجموعة من المؤسسات للأمة اليونانية الحديثة التكوين، كانت نُخَبها عاجزةً عن بث الروح الهيلينية والرؤية التنويرية بين غالبية السكان الناطقين باليونانية. لم يَتَبَنَّ السكان الناطقون باليونانية الأيديولوجيةَ القومية الجمهورية التي تبنَّتْها نُخَب المهنيين والتجار، ولم يَقبلوا علمانيتهم المتزمتة، وبالتأكيد، لم يقبلوا شغفهم بالتعليم الكلاسيكي. لم يكن هذا الأمر مسألة طبقة أو مصلحة اجتماعية، أو حتى افتقار إلى القدرة على القراءة والكتابة والتعليم على الرغم من أهمية تلك الأمور، ولم يكن الأمر مجرد جهلٍ بالتراث الكلاسيكي المجيد، أو عجْزٍ عن تقدير فوائد الحضارة الغربية؛ فالواقع أن الفلاحين والرعاة وقُطاع الطرق في موريا وروملي — الذين كان لزامًا أن يُعَبَّئوا لمقاومة العثمانيين، وأن يُمَثِّلوا بعد ذلك السواد الأعظم من مواطني الدولة الجديدة — كانت تلهمهم مُثُل ورؤًى بديلة، حتى إن مصالحهم وهُوياتهم لم تكن محليةً على نحوٍ صِرف. وما حدث أنهم، بوصفهم مسيحيين أرثوذكسيين يونانيين، ثاروا على الطغاة العثمانيين المسلمين؛ وأنهم، بوصفهم متحدثين باليونانية من بين أتباع المذهب الأرثوذكسي، كان من الواجب تعبئتهم ودمجهم في مملكة يونانية مُعبَّأة على هذا النحو للتوسُّع من أجل تحقيق ذلك؛ ومن ثَمَّ، فمنذ البداية، واجهت الرؤية الهيلينية التي تبنَّتْها النُّخبة المثقفة وطبقات التجار تحديًا فرضتْه المُثُل المنافِسة التي تبنَّاها شعب الأمة نفسه الذي تأسست الدولة القومية الجديدة وأيديولوجيتها باسمه.2
كان المثال البديل الذي تبنَّاه غير المنتمين إلى النُّخَب يقوم على خرافة اصطفاء اليونانيين الأرثوذكس، وهذه نسخة من فكرة الشعب المختار الشائعة. بالطبع، كانت المسيحية الأرثوذكسية دينًا عالميًّا، ومجتمعها ومملكتها لا ينتميان في نهاية المطاف إلى هذا العالم. رغم ذلك، كما رأينا، فإن الكنيسة الأرثوذكسية، في شكلها البشري والدنيوي، رأت نفسها الإيمان المسيحي الحق الوحيد، ومن ثَمَّ، الخليفة الحقيقي لإسرائيل القديمة؛ ذلك الشعب المختار الأصلي الذي نبذه الرب عندما رفض المسيح. إلا أن هذا الدين العالمي ازداد ارتباطًا بخصوصيةٍ ثقافية يونانية، شجَّعتْها حقيقة أن لغة العهد الجديد كانت اليونانية، وأن لغة المناسك والطقوس الأرثوذكسية كانت يونانية، وأن كهنة الكنيسة كانوا يتحدثون باليونانية. كانت هذه العملية موجودةً بالفعل خلال القرون الأخيرة من الإمبراطورية البيزنطية، عندما أدَّى الإحياء الهيليني بين النُّخَب البيزنطية — ممتزجًا بكراهية الرُّهبان الشديدة للكنيسة اللاتينية، وخسارة الأراضي غير اليونانية النائية — إلى انشقاقٍ ثقافي يوناني قوي عن الإمبراطورية والكنيسة. وبعد كارثة عام ١٤٥٣، أصبحت «الملة الرومية» الأرثوذكسية اليونانية، التي سمَّاها الحُكام العثمانيون ووضعوها تحت الإدارة الكهنوتية والمدنية لبطريرك القسطنطينية، مُشبَّعة بالإحساس بالاختلاف والهُوية المسيحية الأرثوذكسية، لكن باعتبارهم «روميين» (رومانًا شرقيين)، في مقابل كلٍّ من الهيلينيين القدماء والفرنجة اللاتينيين. وتعزَّزتْ هويتهم بالذكريات المشتركة المتعلقة بالماضي البيزنطي المجيد، حينما كان شعب الله المختار يعيشون في مملكته في ظل نائبه على الأرض؛ الإمبراطور البيزنطي. كما استمرت في التجدُّد من خلال تقليد رؤيوي قائم على نبوءة تتصوَّر انبعاث الإمبراطور البيزنطي الأخير، قسطنطين الحادي عشر، واستعادة إمبراطوريته بعد اكتمال مدة عقاب الرب شعبَه على خطاياهم، وطرد الكفار من المدينة المقدسة.3
هذه الرؤية، على النقيض الصارخ من المثال الجمهوري الهيليني، جمعت بين تقليدٍ عهديٍّ وتصوُّر هَرمي قوي للمجتمع الأرثوذكسي اليوناني. من الناحية الظاهرية، فإن هذا المصير البديل المُعَد للمجتمع اليوناني، والمتأثر قليلًا، أو غير المتأثر على الإطلاق، بالحداثة الغربية التي تدعمها النُّخبة المتحدثة باليونانية، لم يكن من المحتمل أن يؤثر على مصير المملكة اليونانية الحديثة التكوين، فضلًا عن تشكيل مصيرها؛ ففي نهاية الأمر، أصرَّت القوى الغربية على تأثيرٍ أوروبي قوي متمثل في الوصاية، متضمنًا فصلَ الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في الأراضي اليونانية عن البطريركية الموجودة في القسطنطينية الخاضعة لسيطرة العثمانيين، وحَلَّ كثيرٍ من أديرتها، وتبعيةَ تراتبيتها الهرمية للدولة اليونانية. إلا أنه سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن الكنيسة كفَّت بهذه الطريقة عن ممارسة أي نوعٍ من النفوذ؛ فعلى غرار الكنيسة الجاليكانية في فرنسا، أصبحت الكنيسة مؤسسةً يونانية قومية على نحوٍ متزايد، واعترفت بها هكذا في نهاية المطاف بطريركيةٌ أصبحت تقبل أخيرًا «تنظيم الكنائس على أساس عرقي»، أي تقسيم الكنيسة العالمية إلى كنائس عرقية وقومية، مثل تلك التي كانت (أو ظلت) مؤسَّسة في بعض الدول الناشئة في جزر البلقان مثل صربيا وبلغاريا.4

في اليونان، لم تحافظ الكنيسة فقط على احتكارها الديني داخل ما كان يُعترَف بأنه مجتمعٌ سكاني شبه متجانس، بل أصبح نموذجها «البيزنطي»، إن لم تكن دعائمها التراتبية الهرمية، ابتداءً من عام ١٨٤٤، بعد خطاب كوليتيس في الجمعية الوطنية، أكثرَ توافقًا مع اللغة والأهداف المتضمَّنَيْن في السياسة اليونانية المتمثلة في «فكرة ميغالي»؛ تلك الأيديولوجية الاسترجاعية الهادفة إلى استرداد أراضي الأرثوذكسية اليونانية ومجتمعاتها السكانية المتناثرة عبر بحر إيجة، وشمال اليونان، وما يُعرف حاليًّا بغرب تركيا. وفي هذه الحالة، كان من المفترض أن تتوسَّع المملكة الصغيرة التي كوَّنتْها القوى العظمى من جزءٍ من الأرض اليونانية، لتشمل جزر الدوديكانيز، وثيساليا، وإبيروس، وكريت، وتراقيا، وغيرها من المناطق التاريخية التي كانت غالبية سكانها من أتباع المذهب الأرثوذكسي اليوناني الناطقين باليونانية. وهذا يعني أنه، بدلًا من الأيديولوجية العلمانية الصرف لأمة المواطنين الإقليمية، أصبحت المعايير الدينية واللغوية العرقية هي ما يحدد الأمة اليونانية ومواطنيها، وهي معايير أدَّت على نحوٍ شبه حتمي إلى إعادة تفسير التاريخ اليوناني، وإلى حركةٍ وبرنامجٍ سياسيَّيْن راديكاليَّيْن.

البرنامج السياسي معروف جيدًا: أسفرت «فكرة ميغالي» عن المحاولة الكارثية التي جرت عام ١٩٢٢ لتسترجع من الإمبراطورية العثمانية شبه المنقرضة المجتمعاتِ السكانيةَ الناطقة باليونانية والأرثوذكسية في الأناضول، والأراضي التي سكنوها، ورأى القوميون العرقيون اليونانيون أنها تضم سلالات المستعمرات الأيونية القديمة وأراضيها في آسيا الصغرى. إلا أن إعادة التفسير التاريخية كانت على القدر نفسه من الأهمية. لم تستتبع رفضًا محضًا للرؤية الهيلينية، ولكنها حاولت دمج العالم القديم الكلاسيكي والإمبراطورية البيزنطية في سردٍ واحد متماسك عن «الأمة اليونانية» منذ عصر المسينيين وحتى اليونان الحديثة. وقُدِّر لكلٍّ من عالِم الفلكلور، سبريديون زامبليوس، الذي نَشر عام ١٨٥٢ مجموعتَه من الأغاني الفلكلورية مصحوبةً بمقدمة مطوَّلة، وكذلك المؤرخ، كونستانتينوس باباريجوبولوس، في كتابه «تاريخ الأمة اليونانية» (١٨٦٠–١٨٧٧) المكوَّن من خمسة مجلدات؛ أن يُقدِّما تفسيرًا ركَّز على الأمة اليونانية باعتبارها الفاعل الجمعي الأساسي في كل الحقب الرئيسية الثلاث المكوِّنة لسردٍ واحد للتاريخ اليوناني: القديمة، والقروسطية، والحديثة. وباستخدام تعبيراتٍ شخصية مثل «إمبراطوريتنا في العصور الوسطى»، و«أسلافنا في العصور الوسطى»، تمكَّن باباريجوبولوس، بصفةٍ خاصة، من إعادة دمج الإرث البيزنطي وتراثه ووعده المَجيدَيْن في رؤيته للأمة اليونانية ومصيرها الألفي. وفعل ذلك بإعطاء معانٍ سياسية جديدة للمناسك والطقوس الأرثوذكسية ذات الأسس الراسخة، وما يرتبط بها من ذكرياتٍ مشتركة عن الأباطرة المسيحيين والمدينة المقدسة — شعر كثيرٌ من الناس أن استرجاعها إنْ لم يُسفر عن إعادة الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية، فسيسفر، على الأقل، عن إرجاع اليونان إلى سُموِّها الثقافي والسياسي السابق. من الناحية العملية، حاول هذا النوع من إعادة التفسيرات تحقيق المثال المسيحي القديم بشأن «عالم مسكون» أرثوذكسي، لكنه مجرد من المجتمعات والأراضي غير اليونانية (الصرب، والألبان، والبلغار، إلخ)، داخل سياق مملكة يونانية حديثة موسَّعة، سعت إلى جمع كل المجتمعات السكانية الأرثوذكسية الناطقة باليونانية «غير المسترجَعة» ومناطق إقامتهم.5

(١) الانشقاق وإعادة التفسير

تُقدِّم لنا الحالة اليونانية مثالًا مختصرًا لعددٍ من الموضوعات العامة المعنية بتكوين الأمم المعاصرة.

أولًا: لم تمحُ الأمة الجمهورية وقوميتها، على الرغم من قابليتهما للتأثر بالطابع الغربي والحداثة، أشكالَ المجتمع التاريخية الأخرى. على النقيض من ذلك، وُوجِهَت القومية الجمهورية المدنية بتحدياتٍ على نحوٍ متكرر، وأُجبرَت على قَبول التصورات والتقاليد التاريخية الأخرى الأسبق. وحتى في «موطن» الجمهورية والقومية، اضطُرت فرنسا إلى النضال من أجل الحفاظ على سلطتها، وفرض شكلها المميَّز على الأمة كلها، ليس فقط عام ١٨٤٨ وعام ١٨٧١، وأثناء قضية درايفوس، ولكن أثناء القرن العشرين كذلك، منذ حكومة فيشي وحتى حركة لوبن. داخل الأمم، وكذلك فيما بينها، عادت الأشكال العهدية والهرمية من الهُويات القومية إلى الظهور على نحوٍ متكرر في صورة تباديل معقَّدة مناهِضة للأشكال الجمهورية أو متوافقة معها.6
في الحالة اليونانية، وُوجِهَ تصورٌ هرمي أسبق — وإنْ كان عالميًّا — بشأن الإمبراطورية والأرثوذكسية، وفي القلب منه عنصر التبعية للكرسي الرسولي، بتحدٍّ، وحلَّ محله مبدئيًّا تصورٌ إقليمي وجمهوري حصري لأمة يونانية صِرف. إلا أن مفاتن رؤية «العالم المسكون» الأرثوذكسي المتمركز على القسطنطينية ظلت تمثل مصيرًا بديلًا ذائعًا لأمة يونانية متوسعة، ولم يمر وقتٌ طويل حتى شجَّعت فسيفساء جزر البلقان، الدينية واللغوية العرقية المعقَّدة على ترجمة هذه الرؤية البديلة إلى حركة سياسية وسياسة عامة. في هذه الأثناء، كان التراث البيزنطي يُعاد تفسيره ويُلحَق بتصوُّر شامل عن الأمة اليونانية الألفية، بحيث أصبح العصر الذهبي للإمبراطورية البيزنطية وعقيدتها الأرثوذكسية، على غرار العصر الذهبي لأثينا الكلاسيكية، نتاج العبقرية المبدِعة لتصوُّر مُستلهَم من الماضي بشأن الأمة اليونانية.7
ثانيًا: كانت تلك التصورات الأسبق في كثيرٍ من الأحيان متغلغلةً في الطبقات الأقل تعرضًا للأفكار الغربية والتغيير الاجتماعي؛ ولذلك، غالبًا ما كان الصراع الأيديولوجي داخل أمة أو دولة قومية ما مصحوبًا بانشقاق اجتماعي، محلي الطابع ومفتَّت في بعض الأحيان، وسياسي الطابع وانفجاري في أحيانٍ أخرى. إلا أنه على الرغم من أن هذا الانقسام غالبًا ما تجلى في صورة نفور العامة من المثال الجمهوري أو معارضتهم له، فإنه كان مصحوبًا بصراعاتٍ علنية داخل أوساط النُّخبة المثقفة الأكثر تأثرًا بالغرب؛ إذ كان أنصار قضية الأمة الجمهورية يتعرضون لهجوم من المفكرين الآخرين المرتبطين بمُثُل الأمة القائمة بقدر أكبر على مبدأ الهرمية أو العهد. وبخلاف النُّخبة المثقفة اليونانية، ربما تكون أشهر هذه الانقسامات العامة هي الصراعات الطويلة الأمد بين المحافظين والجمهوريين الراديكاليين في فرنسا القرن التاسع عشر، والمعارك الكلامية المحتدمة بين أنصار النزعة السلافية وأنصار النزعة الغربية في روسيا القرن التاسع عشر في الفترة نفسها. وخارج أوروبا أيضًا، يمكننا أن نوضح مثل هذه الصراعات بين النُّخَب المثقفة في مصر في أوائل القرن العشرين؛ حيث تحدت الحركة الفرعونية تفوُّق الهُوية العربية الإسلامية، ونجد ذلك في الهند حيث أعلن الإحيائيون الهندوس، منذ حركة أريا ساماج وحتى حزب بهاراتيا جاناتا، للهند مصيرًا بديلًا من ذلك الذي رسمتْه القومية ذات الطابع الجمهوري والاجتماعي المسيطِرة التي تبنَّاها حزب المؤتمر الوطني الهندي.8

ثالثًا: عندما لا تسفر تلك الصراعات الأيديولوجية عن ثورةٍ كاملة، فغالبًا ما يكون من الممكن حلها جزئيًّا على الأقل من خلال عملية انتقاء وإعادة تفسير جيلية. في كل جيل، خضعت التصوُّرات المتناقضة عن الهُوية القومية للتعديل على نحوٍ متعاقب، وخضعت التقاليد والأساطير والذكريات والقيم القومية التي تحظى بالقبول العام إلى تدقيق شديد واقتطاعات وإعادات تفسير راديكالية بقدرٍ أو آخر، كان الهدف منها هو التأليف بين عناصر من التصوُّرات المختلفة في كيانٍ كلي أكبر وأكثر تماسكًا. وشهدت اليونان في القرن التاسع عشر محاولةً لتقديم شيءٍ من قبيل هذه التركيبة، حتى إن النزعة الجمهورية الهيلينية امتزجت بالمعايير الدينية العرقية المأخوذة من مثالٍ للأمة هو أقرب إلى المثال «البيزنطي»، لا سيَّما في النموذج الأيديولوجي الذي قدَّمه المؤرخ كونستانتينوس باباريجوبولوس. ويمكننا أن نزعم أنه على الرغم من رفض التصوُّر الفرعوني في مصر، فإن بعضًا من افتراضاته الأساسية — مثل التأكيد على أرضٍ معينة وبيئةٍ معينة، وتمييز أمةٍ قديمة منفصلة عن غيرها من العرب — أُدمجَ في النظرة القومية السائدة لدى النُّخَب الحاكمة.

رابعًا: تساعد آليات الانشقاق الاجتماعي، والصراع الأيديولوجي، والانتقاء وإعادة التفسير عبر الأجيال هذه في شرح كلٍّ من الحافز على التغيير الاجتماعي واحتوائه النسبي ضمن الضوابط الاجتماعية والثقافية للدولة القومية. وفي هذا الصدد، لا يكفي استحضار الضغوط الخارجية؛ ذلك أنه بمجرد وجود الدولة القومية الحديثة فإنها تصبح «بطبيعة الحال» جزءًا لا يتجزأ من النظام «الأممي» الذي يتكوَّن من الدول القومية التي تحتفظ بالضرورة بشكلها، كما كانت الحال، بلا شك، داخل المملكة اليونانية. في هذه الحالة، كانت العوامل المقابلة، الثقافة الداخلية النابعة من التقاليد الثقافية المشتركة اليونانية ومن الأرثوذكسية، حاسمةً بالقدر نفسه، وساهمت هذه العوامل في تحديد نطاق التغيير في الأشكال والتصورات المتعلقة بالأمة اليونانية وتقييد درجته.

أخيرًا: فإنني أودُّ أن أوضح أن هذه التقاليد المشتركة هي في العموم متداخلة، بما أنها كلها نابعة من تقاليد ثقافية مشتركة الأصل، تعود في نهاية المطاف إلى العصور القديمة، ويدعمها اعتقادٌ طويل الأمد بوجود عرقية مشتركة ونموذج نظام اجتماعي عرقي. لا يقتصر الأمر على تداخل أشكال الأمة: الجمهوري، أو العهدي، أو الهرمي في أي لحظةٍ تاريخية معينة؛ فغالبًا ما تتمازج هذه الأشكال، ويكثر حدوث ذلك عندما تنتظم في مجتمعاتٍ عرقية موحَّدة بقدرٍ ما أو بآخر، وعلى الرغم من أن نسبة كل شكلٍ من هذه الأشكال يمكن أن تَتنوَّع وأن تُنوَّع، ففي حالةٍ معينة وأثناء فترةٍ معينة، نادرًا ما تختفي هذه الأشكال تحت الغطاء الرسمي للخطاب السياسي؛ لذلك، يمكن اعتبار التشكيلات المتغيرة للهُويات القومية الحديثة، في أغلب الأحيان، تنويعاتٍ كثيرةً للتقاليد الثقافية الثلاثة الكبرى وتباديلها.

في هذا الصدد، تُعتبر اليونان مثالًا يُحتذى. كان لزامًا أن يعقد نموذجها الجمهوري المسيطر تسويةً مع المصير البديل الذي خططه المفكرون الذين اعتمدوا على التقاليد الثقافية للكنيسة الأرثوذكسية والتراث البيزنطي، وهي تقاليد مختلفة، لكنها نابعة من الأصل نفسه. ومما جعل ذلك أسهل أنه لم يكن من الصعب في تلك الأيام الزعم بوجود تراثٍ يوناني ثقافي عرقي طويل الأمد، عمره آلاف السنوات في واقع الأمر، قائم على صمود أشكال اللغة اليونانية، وقائم، بصفةٍ خاصة، على الاعتقاد اليوناني المنتشر بانحدار اليونانيين المعاصرين من أسلافهم اليونانيين القدماء. لقد سبَّبَ التحوُّل إلى المسيحية الأرثوذكسية انفصالًا اجتماعيًّا وثقافيًّا كبيرًا عن العصور القديمة الكلاسيكية لدى كثيرٍ من اليونانيين المتأخِّرين، إلا أن المفكرين والسياسيين في القرن التاسع عشر لم يعتبروا ذلك أساسًا كافيًا لتقويض التسوية مع النزعة البيزنطية التي شجعت على اتباع القوميين الجمهوريين المؤيدين للمشروع الهيليني «فكرة ميغالي».9
وفيما يتعلق بالصراع الأيديولوجي وإعادة التفسير، تتشابه سويسرا القرن التاسع عشر واليونان تشابهًا مثيرًا. في سجلات الوقائع القديمة التي تتحدث عن تأسيس «الاتحاد السويسري القديم»، عُزِيَت أصول الاتحاد إلى انتفاضة فلاحين بقيادة فيلهلم تِل ضد طغاة أسرة هابسبورج وقِلاعهم في خريف عام ١٣٠٧. كانت خرافة التمرُّد والتحرُّر هذه هي التراث المقبول الموجود في «كتاب سارنين الأبيض» الذي يعود إلى عام ١٤٧١، وفي كتاب إيجيديوس تشودي الذائع الأثر «الوقائع الهيلفيتية»، وكانت هي أيضًا الحكاية المقبولة والمستخدمة من قِبل الفلاحين في انتفاضتهم عام ١٦٥٣ (حرب الفلاحين) ضد حكومات الأقلية الحضرية. حتى يوهانس فون مولر، في كتابه «تاريخ الاتحاد السويسري» الذي يعود إلى عام ١٧٨٦ — ولذلك فهو مكتوبٌ بعد اكتشاف يوهان جليسر «ميثاق الاتحاد» الأصلي الذي يعود إلى عام ١٢٩١ — التزمَ تقليد تشودي الرائج و«كتاب سارنين الأبيض». ومع ذلك، فإن اكتشاف «ميثاق الاتحاد السويسري» الأصلي في شفيتس الذي وَثَّقَ ميثاق كانتونات الغابات الثلاث: شفيتس، وأوري، وأونترفالدين، المتفق عليه، وفقًا للتقاليد، على مرج روتلي على ضفاف بحيرة لوسيرن؛ أشار إلى تفسيرٍ جد مختلف للأصول الاجتماعية والسياسية للاتحاد السويسري؛ فبدلًا من الإشارة إلى انتفاضة فلاحين جماهيرية، أشار الميثاق إلى حاجة العائلات البارزة في كانتونات الغابات الداخلية إلى الحفاظ على حقوقهم القديمة التي كان ينتهكها كبار اللوردات الإقطاعيين من أسرة هابسبورج، في وقتٍ فُتح فيه ممر سانت جوتهارد الذي يقطع جبال الألب أمام الحركة التجارية المربحة. لم يُورِدْ ذلك الميثاق، الذي يُعَد الأول من بين مواثيقَ كثيرةٍ بين هذه الكانتونات والكانتونات المجاورة، أيَّ ذِكرٍ لفيلهلم تِل، أو لانتفاضاتٍ جماهيرية وحرائق لقلاع الإقطاعيين، لكنه أكد الحق الحصري للكانتونات، وللمولودين على أرضها، في الحكم على زملائهم الأعضاء، وأبرزَ الحاجة المطلقة إلى التعاون بين الكانتونات، شاملًا الدفاع العسكري، للحفاظ على حرياتهم القديمة. كان هذا موضوعًا تكرر في كثيرٍ من مجتمعات العصور الوسطى، على سبيل المثال، أبرم البارونات الاسكتلنديون ميثاقًا مشابهًا في «إعلان أربروث» عام ١٣٢٠.10

بطبيعة الحال، لم تكن المكوِّنات المختلفة ﻟ «الأصول السويسرية» متباعدة، من حيث الزمان والمكان والدافع العام، لدرجةٍ تَحُول دون إعادة جمعها في سردٍ أكثر «شمولًا». على سبيل المثال، كان فريدريش شيلر في مسرحيته «فيلهلم تِل» (عام ١٨٠٥) قادرًا على الجمع بين عناصر من خرافتَي الأصول السويسرية كلتيهما، وتوضيح الطريق إلى مصير سويسري قائم على الحرية وفضيلة الفلاحين. وعلى الرغم من أن «قَسَم روتلي» بين شتاوفاخر ورفاقه حاز على أولويةٍ تأريخية هامشية، فقد صاحبه في المسرحية رفضُ تِل الاعتراف بحاكم هابسبورج، جيسلر، ورميُ التفاحة بالسهم، وتبعه سريعًا ذبحُ جيسلر وتحرُّكُ الفلاحين ضد الطغاة الإقطاعيين؛ تأكَّدت هذه القراءة على نحوٍ واضح بدُنوِّ انتصار الكانتونات الحاسم على فرسان هابسبورج في مورجارتن (١٣١٥)، وكذلك بالانتصارات اللاحقة في زيمباخ (١٣٨٦) ونيفيلس (١٣٨٨). وبحلول احتفالات الذكرى الستمائة عام ١٨٩١، استطاع هذا الخليط من التقاليد أن يصبح النسخة الرسمية، وأن يُحتفَى به، بتوجيهاتٍ من الحكومة الفيدرالية، على مدار يومين في أوائل أغسطس في كلٍّ من شفيتس وعلى مرج روتلي على ضفاف بحيرة لوسيرن.

مرةً أخرى، يوضِّح المثال كلًّا من التقاليد والذكريات المتعددة المصادر بشأن «الماضي القومي»، والطرق التي يمكن من خلالها احتواءُ تلك الصراعات الأيديولوجية والاجتماعية. بطبيعة الحال، لم تكن هذه عمليةَ تغييرٍ تطوريٍّ سلسةً؛ فالواقع أن صراعات القيمة والنظرة القومية التي كانت شائعةً في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ما زالت قائمةً حتى في وقتنا الحاضر. في سويسرا الحديثة، ما زالت الكانتونات الداخلية الريفية الموجودة في الوديان الجبلية (معظم سكانها كاثوليك أيضًا) ذات الأخلاقيات الأكثر محافَظةً؛ تتوجس قلقًا من الرأسمالية العلمانية التحديثية التي تنتهجها البلدات والمدن، ولا سيَّما زيورخ وبيرن، التي تزايدت سيطرتها منذ زمن الجمهورية الهيلفيتية عام ١٧٩٨، ثم مرةً أخرى أثناء الجمهورية الفيدرالية عام ١٨٤٨، على السياسة والمجتمع الحضري السويسريَّيْن. وطفت هذه المصائر البديلة القائمة على نمط القومية الجمهورية المدنية المُعزَّزة، ونمط قومية أكثر «عهديةً» كانتوني الأساس، على السطح أثناء النقاشات التي أثارتها الذكري السبعمائة لوثيقة التأسيس السويسرية، كما ظهرت في استجابات السويسريين لضغوط العولمة والهجرة.11

(٢) الأمم الهرمية الحديثة

قد يُعتقد أنه ما دامت الكانتونات السويسرية الريفية لم تُظهِر بصفةٍ خاصة أيَّ رغبة في التَّراتبيات الهرمية التقليدية، فلا متسع في العالم الحديث لتراث التراتبية الهرمية القديم. إلا أنه على الرغم من صحة أن مفهوم «الأمة الهرمية» كتلك التي رأيناها في أوروبا القروسطية قد ولَّى زمانه، مع وجود بعض الاستثناءات القليلة، فإن التقاليد المحافِظة، وحتى عناصر من المجتمع الهرمي، ما زالت موجودة على نحوٍ مناهض غالبًا للقومية الجمهورية السائدة في الدول القومية الحديثة.

في القرن التاسع عشر، أُسس عدد من المجتمعات القومية في هيئة جمهورياتٍ ذات مَلَكياتٍ دستورية، واستمر عددٌ قليل من الدول الكبرى في هيئة دول قومية هَرمية أو أُعيدَ تشكيلها على هذا النحو، وأبرزها ألمانيا واليابان. الحالة الألمانية معقدة؛ فهي تتضمَّن تباديل من كل تقاليد المجتمع الثلاثة في آخر قرنين. لكننا نجد في اليابان تقليدًا هرميًّا مسيطرًا، نراه أولًا في شوجونية توكوجاوا التي منحت بموجب إجراءاتها الاستبعادية المجتمعَ الإقطاعي الياباني طابعًا قوميًّا على نحوٍ متزايد، بعضه مستعار من الأمثلة الغربية، مع إضافة خرافاتٍ عن الأصل والاصطفاء القوميَّيْن شابهت تلك الموجودة في أوروبا، ونراه ثانيًا في إصلاح ميجي عام ١٨٦٨، بعد تغلغل القوة الأمريكية. في العملية اللاحقة، كانت ثورة بعض عشائر الساموراي على حكم الشوجون، واستعادة الإمبراطور ميجي الحكم وانتقاله إلى إيدو (طوكيو) بعد أن ظلَّ بلاطه الإمبراطوري في العاصمة القديمة كيوتو طوال تلك القرون الماضية؛ ثورةً محافِظة في جوهرها، استخدمت أشكالًا تقليدية جديدة لإضفاء الشرعية والقداسة على رغبة هؤلاء النُّخَب في تحقيق التكافؤ بين اليابان والغرب من خلال برنامج للتحديث السريع. كان تضافر الدين الشعبي، والتعليم الجماهيري، وعبادة الإمبراطور ضروريًّا لنجاح هذا البرنامج؛ فلو كان على المجتمع الياباني أن يَشرَع في تطبيق إصلاحاتٍ عميقة تُمكِّنه من البقاء ومنافسة الغرب المتدخل، لكان لزامًا توعية أعضائه بقواسمهم المشتركة ومجتمعهم الحميم بصفته «أمة عائلية»، لم تكن موجودة حتى تلك اللحظة إلا نظريًّا، أي في عقول بعض المفكرين والساسة الذين كانوا يستلهمون من النصوص القديمة. من أجل ذلك، هدفت نُخَبُ ميجي إلى تعزيز طقوس الشينتو العائلية، والتقديس الشنتوي الوطني لقتلى الحرب، لا سيَّما في ضريح ياسوكوني المجدَّد، كما سعت أيضًا إلى ربط هذه الطقوس بكلٍّ من الدين الشعبي لجموع الفلاحين، وعبادة الإمبراطور بصفته أبا «الأمة العائلية» وحاميَها. وكان لزامًا، من أجل تحديث أمَّة الإمبراطور «العائلية»، فرض النظام الجديد للتعليم الإلزامي الجماهيري، الموضَّح في المرسوم الإمبراطوري بشأن التعليم عام ١٨٩٠ المحتفى به، مع توقُّع أن يكون ذلك النظام محرِّك التنمية الاجتماعية والاقتصادية اليابانية.12
على هذا النحو، أُلْحِقَت مرةً أخرى الأشكال اليابانية من التراتبية الهرمية بأفكار الغرب عن الأمة، من أجل تحقيق تطوير متأخر ﻟ «الأمة الهرمية» في شكلٍ بدا أكثر تأثرًا بالتقاليد الأصلية منه بالتقاليد والنماذج النابعة من الغرب، وإنْ لم يكن خاليًا من التأثر بأشكال المجتمع الغربية الحديثة. وليس واضحًا إلى أي مدًى كانت القومية الرومانسية في ثلاثينيات القرن العشرين، التي سبقت مباشرةً النظام الفاشي، مَدينة للأفكار الرومانسية الألمانية، وإلى أي مدًى أثَّرت على الفاشيين. إلا أنه في النظام اللاحق، كان التركيز على القوة الإمبراطورية والقرابة الوطنية في ظل الإمبراطور مدعومًا بلا شكٍّ بحرب الغزو والدفاع الطويلة في آسيا، والدعاية الرسمية التي صاحبتها. بدا لبعض الوقت أن الهزيمة اليابانية اللاحقة والمعاناة المنقطعة النظير التي عاناها الشعبُ الياباني تتضمنان انتهاء المبدأ الهرمي نفسه، وتُقوِّضان معه الترابط القومي الياباني، لكن القرار الأمريكي بالاحتفاظ بالإمبراطور وعائلته وإخضاع اليابان للاحتلال الأجنبي ساعد في إحياء الروابط القومية حول فكرة كون اليابانيين ضحية جمعية في «حرب المحيط الهادئ». وكشفت استعادة المؤسسات والسياسة اليابانيتَيْن المستقلتَيْن مدى الاحتفاظ بالأشكال الاجتماعية المحافِظة المتميزة السابقة، كما كشفت عن استمرارية مركزية العائلة الإمبراطورية لمفهوم القومية اليابانية.13
يُجسِّد المثال الرائع الآخر للأشكال الهرمية المدمَجة في تكوين المؤسسات القومية نمطًا من العلاقات الثقافية مختلفًا للغاية. في إنجلترا، ظلت الهرمية ممزوجةً بقومية عهدية قوية نابعة من فترة الكومنولث البيوريتاني العنيفة على قِصَرها. وعلى الرغم من إلغائه سريعًا، فإن تأثيره الديني والثقافي على تطور الهُوية القومية الإنجليزية، والأنجلو-بريطانية لاحقًا، كان هائلًا. كما رأينا في الفصل الخامس، فإن نوع «العرقية» الهرمية الذي كان الأنجلوسكسونيون رُوادَه، وطوَّره النورمان، ثم رسَّخه ملوك أسرة تيودر لاحقًا بعد تقلباتٍ عديدة، في إحساسٍ بالهُوية القومية الإقليمية، إلى جانب القوانين والعادات المشتركة والثقافة العامة المميزة، قَطَعه لفترة قصيرة لكن مضطربةٍ ظهورُ أنواع عهدية من الهُوية والمجتمع القوميَّيْن في ظل البيوريتانيين. كانت إنجلترا، من وجهة نظر كرومويل، وكذلك من وجهة نظر ميلتون، أمةً مختارة من الرب، والمولود الأول للرب، وجديرة بأن تكون خليفة لإسرائيل القديمة، وسوف تتحقق في الكومنولث الجديد الذي ألغى المَلَكية، ومجلس اللوردات، والكنيسة الأنجليكانية. وبعد فشل الحكم العسكري، استُعيدت هذه الأنواع الهرمية من الثقافة الشعبية بعد عام ١٦٦٠، لكنها وُضعت في سياق أيديولوجي جديد يتمثل في الحرية السياسية، وفي نسق ديني جديد يتمثل في الاختيار القومي — للإنجليز بوصفهم أمةً مختارة تتمتع بالحرية المدنية والتقدم — وساعد هذا المفهوم في دعم مُثُل «الثورة المجيدة» عام ١٦٨٨، وكذلك أمة اتحاد القرن الثامن عشر الأنجلو-بريطانية البروتستانتية إلى حدٍّ بعيد، وإلى حدٍّ ما الحركات الاجتماعية والمسيحية في العصر الفيكتوري.14
لم تختفِ تمامًا هذه الأنواع الهرمية والمحافِظة، حتى في مناخ التدهور ما بعد الإمبراطوري والجمهورية الوشيكة. فعلى الرغم من أن المَلَكية نالت بغض العامة من وقتٍ إلى آخر، فإنها نجحت إلى حدٍّ بعيد في إعادة تجديد أسلوبها، ومثَّلت، في أوقات الأزمات، كما في الحرب العالمية الثانية، مركز ثقل للمجتمع القومي المضطرب. وما زالت عراقتُها الواضحة، ومحوريتها للثقافة الشعبية القومية، واحتفالاتها المثيرة، وتسليط الأضواء الإعلامية عليها باستمرار، تسهم في قدرتها على البقاء، إضافة إلى افتقار أي بديلٍ منها للتأييد الجماهيري. على النقيض من الكنيسة الأنجليكانية، نجحت المَلَكية، على الرغم من انفصالها بثرائها وتقاليدها عن غالبية البريطانيين الكاسحة، نجاحًا كبيرًا في الاحتفاظ بإحساس التفرُّد القومي، على النقيض المدرَك من جمهوريات أوروبا القارِّية؛ ذلك التناقض الذي ربما عزَّزه تبجيل الشعب للبرلمان والتقليد البرلماني العريق، وكذلك تبجيلهم للعُرف. تُعتبر هذه المؤسسات كلها جزءًا من اختلاف بريطانيا في واقع الأمر، وإنجلترا بصفةٍ خاصة، عن دول المجتمع الأوروبي، بل تفرُّدها، ودليلًا عليه — ذلك الاختلاف الذي يمكن إرجاع بدايته إلى الانفصال عن روما في عهد الملك هنري الثامن، وتبلور في عهد الملكة إليزابيث، ولا سيما بفعل النزعة العهدية القومية البيوريتانية، وهو اختلافٌ يُثبِّت المفاهيم والأشكال الهرمية داخل تقليد عهدي أنجلو-بريطاني واسع النطاق حتى يومنا الحاضر.15

(٣) الأمم العهدية الحديثة

لمثل هذا السبب، قد يسأل المرء: أين توجد الأمم العهدية في وقتنا الحاضر؟ ألم تختفِ مع انهيار أولستر ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا؟

بالتأكيد، بدا أن كلا المجتمعَيْن يعكسان مرحلةً من التحديث والتصنيع المبكرَيْن، شاع فيها الفصلُ بين القوى العاملة على أساسٍ عنصري أو ديني عرقي. في كلا المجتمعين، انفصل عن الأغلبية مجتمعُ أقليةٍ مسيطر ليؤسس دولته الخاصة التي كانت هرمية سابقًا في السياق الأوسع نطاقًا، وعهديةً داخل كل مجتمع. في حالة أولستر، أدَّى انفصال المقاطعات الست عام ١٩٢١ إلى وضع أقلية كاثوليكية داخل أولستر الاتحادية، حتى حينما مثَّل «الاتحاديون البروتستانت» أقلية في جزيرة أيرلندا. ثم أُضفي الطابع المؤسسي على حافزٍ عهديٍّ قوي نابع من المستوطنين البروتستانت الأصليين في التنظيم البرتقالي، وفي المسيرات السنوية التي تُحيي ذكرى انتصار البروتستانت في معركة بوين عام ١٦٩٠. وفي حالة جنوب أفريقيا، اعتُبر هروب الكثير من الأفريكان من «مستعمرة الكيب» التي كان يسيطر عليها البريطانيون في ثلاثينيات القرن التاسع عشر «خروجًا» في آخر الزمان، هربًا من «فرعون» ظالم، بحثًا عن أراضٍ موعودة في مرعى الفلد. بحلول أواخر القرن التاسع عشر، رافق إحياءَ اللغة الأفريكانية تقديسٌ متزايد، ولا سيَّما في جمهورية ترانسفال التي كان رئيسها بول كروجر، للرحلة الكبرى وانتصار جيش البوير الإعجازي على شعب الزولو بقيادة دينجان في معركة «بلَدْ ريفر» (نهر الدم) عام ١٨٣٨. وبحلول عام ١٩٣٨ أعاد الحزبُ الوطني برئاسة الدكتور مالان ترسيخَ التقديس في الاحتفالات المئوية بيوم العهد (أوساواتريك)، وفي الإفريز الذي يسجِّل أبطال الرحلة وكبرى مناقبهم في نُصب فورتراكر المهيب الموجود خارج بريتوريا، وكذلك في الاحتفالات التذكارية التي أقامها نظام الفصل العنصري القومي لاحقًا.16
إذًا، كانت هذه أمثلة لأمم عهدية تتبع بروتستانتية آخر الزمان، جمعت بين رغبتها الانفصالية الأصلية النابعة من الكتاب المقدس، وبين السيطرة على أشخاص مختلفين عنها في المعتقدات الدينية أو الأصول العرقية. في حالة الولايات المتحدة، كانت هذه الرغبة المنبثقة من الكتاب المقدس متمازجة في الأصل أيضًا مع عناصر هرمية واضحة في الثقافات الإقليمية القوية الموجودة سابقًا في المستعمرات. إلا أنه أثناء الصراع ضد بريطانيا، وفي حين احتفظت تلك المستعمرات بحقوقها كدولة، فإنها نجحت أيضًا في التوحُّد على أساس خرافةِ تأسيسٍ مشتركة، موضَّحة في إعلان الاستقلال وفي الدستور، وهما نَصَّان يجمعان بين كلٍّ من العناصر العهدية وعناصر الجمهورية-المدنية. من ناحيةٍ تزايَد تهميش الولايات البروتستانتية الأنجلوسكسونية المتنوعة للشعوب الأصلية، حيث لم تُبِدْهم، وفي الوقت نفسه مارست السيطرة والاستغلال (لا سيَّما في المزارع الجنوبية مالكة العبيد) على المجتمعات السكانية السوداء المجلوبة إلى أمريكا الشمالية عَنوةً ومن ثَمَّ عزلتهم عن مناطق البِيض المسيطرين ومواردهم. من الناحية الأخرى، قُدِّمَت الثورة والجمهورية الأمريكيتان في ثوبٍ روماني بوصفها أمة مدنية وجمهورية من الرجال (البيض) الأحرار والمتساوين، ولا شك أن «آباءها المؤسسين» استمدوا كثيرًا من إلهامهم من أسلافهم الكلاسيكيين، ومن مُثُل التنوير أيضًا.17
في الوقت نفسه، شهدت الرؤية البروتستانتية الأصلية المقتبَسة من الكتاب المقدس التي يتبعها المستوطنون الأكثر بيوريتانيةً إحياءاتٍ دورية، وما زالت تقود عددًا كبيرًا من التابعين في أجزاءٍ مختلفة من الولايات المتحدة. وأدَّى هذا، أحيانًا، إلى ضغوط من أجل الانعزال عن العالم الأوسع، وتركيز على فرادة التجربة الأمريكية، ورحابها الواسعة، أو، بدلًا من ذلك، إلى شن «حملاتٍ صليبية إنجيلية» باسم الحرية، بوصفها زعيمة العالم الحر، ضد الشيوعية السوفييتية في بداية الأمر، ثم ضد أشكال التطرف العنيف فيما بعد. رغم ذلك، فإن الروح العهدية التي رفضت أشكال الهرمية التقليدية وفتحت الباب أمام تبنِّي الحريات السياسية والمدنية الجمهورية ساعدت في تشكيل أمة منفتحة وتعددية ومتحمسة ملتزمة بحكم القانون والديمقراطية؛ أمة تتذبذب بين موقف نقاءٍ عرقي أكثر انفصاليةً يُذكرنا بعهد إسرائيل القديمة، وبين مواجهة أكثر توسُّعيةً وتبشيريةً لهذا العالم «الدنس».18
يمكننا أن نجد في إسرائيل المعاصرة مزيجًا لا يختلف عن ذلك، يجمع بين الرؤية العهدية، والأشكال الجمهورية، والهرمية العرقية. على الرغم من أن إسرائيل تُعتبر في بعض أوساط المفكرين الغربيين مجتمعًا استيطانيًّا استعماريًّا، فإن الرغبة الأصلية والرؤية الموجِّهة كانت عملية ونابعة من الكتاب المقدس أيضًا؛ وهي فصل اليهود المشرَّدين والمضطهدين عن مجتمعاتهم المُضيفة، وإعادتهم إلى وطنهم القديم، وفقًا لوعد النبوءة؛ ومن ثَمَّ، على النقيض من الأفريكان الذين احتفظوا بعبيدهم في مستعمرة الكيب، على سبيل المثال، سعى الرواد الصهاينة الأوائل إلى الجلاء عن أوروبا المعادية وتكوين مجتمع جديد منفصل يقوم على الاعتماد على الذات، وكرامة العمل اليدوي، ومحرَّر من الامتهان الذي خضعوا له هم وأسلافهم.19
رغم ذلك، فمنذ فترةٍ مبكرة نسبيًّا، تسبَّبت الحاجة المُدرَكة إلى توظيف العمالة العربية الأرخص، والظروف الاجتماعية الصعبة المديدة لكلٍّ من الأقلية العربية داخل إسرائيل، بعد إنشاء دولة إسرائيل، واليهود الشرقيين أيضًا؛ في حدوث تفاوتاتٍ عرقية غير مرغوبة. إلا أن ذلك عادَلَه إطارٌ جمهوري-مدني قوي، والتزامٌ بالديمقراطية، والحريات المدنية، والخطاب الحر، وكذلك حكم القانون الموروث من الانتداب البريطاني؛ لذلك، على الرغم من أن إسرائيل في بدايتها يمكن وصفها على نحوٍ مُستحَق بأنها أمة عهدية تسعى إلى خلق مجتمع ريادي متساوٍ فريد، فإن عملية «تطبيعها»، بوصفها دولةً ومجتمعًا قوميًّا، أولت عنايتها الأولى على نحوٍ متزايد إلى تقليدها الجمهوري-المدني؛ ذلك التقليد الذي أضعفته التراتبيات الهرمية العرقية الناتجة إلى حدٍّ بعيد من الضغوط الخارجية المعادية، ولكن يشجِّعها أيضًا مثالُ اصطفاءٍ قومي ديني عرقي دائم.20

(٤) الأمم الجمهورية الحديثة

على الرغم من تساوي مثال المجتمع الجمهوري المدني في العراقة مع التقاليد الثقافية الأخرى، فلم يصبح منتشرًا إلا بعد القدوم الكامل للحداثة والعلمانية. وحتى تلك اللحظة كانت البِنَى الهرمية المهيبة التي كافحها أتباع المُثُل الجمهورية وتحرَّروا منها في النهاية تُلقي بظلها على المُثُل الجمهورية وتكتنفها. ويرجع حماس الأمة الجمهورية إلى حدٍّ بعيد إلى قسوة انفصالها المبدئي عن التراتبيات الهرمية التقليدية، الأصلية منها والاستعمارية.

في تلك الأيام، ظهرَ أكثرُ هذه الاضطرابات تأثيرًا، وإنْ لم يكن أولها، في فرنسا أثناء الثورة، ورسَّخ المُثُل المدنية والعلمانية للأمة الجمهورية على نحوٍ يفوق حتى ما في أمريكا. منذ العصور الوسطى، جسَّدت مملكة فرنسا المثال النموذجي للمجتمع الهرمي المقدس في ظل «ملكها الأكثر مسيحيةً». حقَّق هذا النموذج وضوحًا لا نظير له من خلال إقليم المملكة المتماسك — الذي يطلق عليه السُّداسي — في بدايات العصر الحديث، بل حتى قدرًا من التماثل بين سكان الحضر بسبب تزايد تغلغل الإدارة المَلَكية المركزية ولغة باريس وثقافتها، على الرغم من استمرار المناطقية والثقافات واللهجات المحلية الريفية. إلا أنه مع أواخر القرن السابع عشر، استلهامًا من الوطنية الليبرالية في ثورة إنجلترا وأشكال التضامن السياسية في الدول المدن القديمة، بدأت مجموعة متعاقبة من المفكرين المؤمنين بالتحديث يُشكِّلون إحساسًا علمانيًّا جديدًا بالهُوية القومية الفرنسية. تبنَّت مفهومَ الأمة الجمهورية حركةٌ ثورية متنامية مكوَّنة من الطبقة الوسطى، داعمةً مُثُل «السيادة الشعبية» و«إرادة الأمة»، من أجل نزع الشرعية عن هرمية «النظام القديم» المَلَكية الكاثوليكية، والإطاحة بها. وأثناء مجريات الثورة، ما بين عامَي ١٧٨٩ و١٧٩٤، ظهر لوقتٍ وجيز نوعٌ من العهدية الشعبية يعج بالقَسَم الجماعي، والطقوس، والمهرجانات، والشهداء، والتقويم الجديد. في هذه المراسم، تبنَّى الممثلون الشعبيون رمزية دراما خلاص الأمة وحركاتها الاستعراضية في عروض جماعية تُعبِّر عن العبادة الدينية العلمانية ﻟ «الوطن» الذي أصبحت أشكاله وعلاماته المميزة علمانية ورومانية وجمهورية على نحوٍ متزايد.21
إذا كان نظام نابليون اللاحق سعى إلى نظامٍ جديد متَّسق قائم على مُثُل جمهورية مدنية، فإن انهياره أعطى الفرصة لقوى الرجعية الكاثوليكية والمَلَكية لإعادة تشكيل فرنسا بوصفها مملكةً كاثوليكية تتبع النزعة المحافِظة الجديدة، وعلى النحو الذي رَوَّجَ له بونالد. إلا أن المحاولة باءت بالفشل، ومنذ ذلك الحين وحتى نظام فيشي، تذبذبت السياسة الفرنسية، على نحوٍ عنيف في بعض الأحيان، ما بين نزعةٍ جمهورية متزايدة العَلْمَنة والراديكالية، وبين نزعةٍ محافِظة عسكرية مَلَكية كاثوليكية قوية. وأُقرت هذه المصائر البديلة ﻟ «فرنسا» على نحوٍ واضح في الجمعية الوطنية، وفي المحاكم، وفي الشوارع أثناء قضية درايفوس (١٨٩٤–١٨٩٩) التي سبقت حل الكنيسة الكاثوليكية عام ١٩٠٥. إلا أن الانتصار الجمهوري كان مؤقتًا وحسب. ويمكن أن نشهد الازدواجية والانشقاق اللذين ظهرا أثناء تطوُّر الهُوية القومية الفرنسية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في آثارها وتماثيلها وعمارتها المميزة، وكذلك في المناقشات المتعلقة بدخول البانثيون واستخدامه. ويدل على هذا الانشقاق على نحوٍ مماثلٍ تنامي تقديس القديسة جان دارك التي طُوِّبت عام ١٩٢٠، وأصبحت أيقونة للقومية الكاثوليكية المتأصلة، بينما يعتبرها اليسار في الوقت نفسه بطلة شعبية للحرية والمقاوَمة الفرنسيتَيْن. كما تجلت مصائر فرنسا البديلة مرةً أخرى في القرن العشرين في الصراع بين قادةٍ يتسمون بالقوة والسلطوية والكاريزمية، أمثال بيتان وديجول اللذَيْن بدا أنهما يجسدان الرابطة بين التراب الفرنسي وموتى الأمة الأبطال الذين كانوا بمنزلة «آباء الأمة»، والحركات الشعبية الساعية إلى الحرية، والمساواة، والثورة، أمثال حركة الماكيز التي واجهت طغيان الاحتلال الألماني، أو ثورة الطلبة عام ١٩٦٨ التي كانت موجهةً ضد النظام البيروقراطي للدولة الرأسمالية. إلا أن هذه الصراعات، على الرغم من عنفها، احتُوِيَت ضمن الأشكال القوية للأمة الجمهورية الفرنسية الملتزمة بالقيم والمُثُل المدنية لقومية فرنسية علمانية مهيمنة، قائمة مع ذلك على إحساسٍ قوي بهُوية ثقافية عرقية مشتركة.22

كانت الاضطرابات التي أتت بجمهورية ألمانيا الحديثة إلى الوجود على القدر نفسه من طول الأمد، وربما كانت حتى أكثر عنفًا. رأينا في الفصل الرابع أنه بالفعل بحلول أواخر العصور الوسطى، اعتَبَرت الطبقات المتعلمة الألمانية أن الإمبراطورية الرومانية المقدسة هي إمبراطورية من الألمان في المقام الأول، وأن الإحساس الناشئ بالهُوية القومية المدعوم بالأفكار النمطية الخارجية واستعادة «جرمانيا» تاكيتوس، وبانتشار اللغة والأدب الألمانيَّيْن؛ تجلى وسط النُّخبة المثقفة ذات النزعة الإنسانية في عصر النهضة. ورغم ذلك، فإن هذا الإحساس النُّخبوي بهُوية سياسية وثقافية ألمانية أوسع نطاقًا عجز عن الاستمرار بعد مذبحة حرب الأعوام الثلاثين وانقسام الأراضي الناطقة بالألمانية خارج النمسا إلى دول مطلقة، قليلٌ منها عظيم، وكثيرٌ منها صغير. وبحلول القرن الثامن عشر، بدا أن تفتُّت الهرمية، بالإضافة إلى نفوذ الثقافة الفرنسية المتغلغل، يضعان معًا نهايةً لأي أحلام بدولة أو أمة ناطقة بالألمانية على غرار النموذج الإنجليزي أو الفرنسي المعاصر لها، إلا ربما في قليل من الأوساط المحلية الغائمة.

رغم ذلك، شجَّع نموذجُ الثورة الفرنسية وصدمة الهزيمة في معركة يينا إجراءَ إصلاحاتٍ مدنية في بروسيا، والمقاومة القومية من أجل ألمانيا من جانب المفكرين والطلبة الذين ازدادوا تأثرًا بعقائد البطولة الرومانسية؛ الأمر الذي أسفر في النهاية عن مناقب «قوات المتطوعين» وذكرياتهم الخرافية في الانتصار على نابليون في لايبتسيج عام ١٨١٣. وتبع ذلك مَظاهر عهدية مثيرة، وإنْ كانت محدودة نوعًا ما، للأَخَوية الألمانية في قلعة فارتبورج عام ١٨١٧، وفي قلعة هامباخ عام ١٨٣٢، أثناء فترةٍ عامة من الرجعية الهرمية في أوروبا. ولو أن حركة الإصلاح العهدي هذه تمكَّنت من التغلب على الانقسامات العميقة بين ممثلي برلمان فرانكفورت حول تعريف الأراضي الألمانية والهُوية الألمانية، لَشهد عام ١٨٤٨ الثوري ميلادَ أمة ألمانية جمهورية وليبرالية. وكما حدث، كانت هذه الدول الهرمية القديمة قادرةً على التجمع مجددًا، وكان الطريق مفتوحًا أمام تقوية بروسيا قبضتها على الأراضي الشمالية الناطقة بالألمانية، وأمام إمبراطورية «رايخ» ألمانية تسيطر عليها بروسيا في نهاية المطاف.23
من الناحية الظاهرية، بدا أن الهرمية المَلَكية بقومية «ألمانيا الصغرى» غير الليبرالية انتصرت. إلا أن فشلَ احتفالاتها الرسمية بيوم الانتصار في معركة سيدان في أَسْر خيال العامة، واستمرارَ التوجهات الخفية المتمثلة في الحركات الشعبية التي تستحضر الدساتير الليبرالية من فترة الثورة الفرنسية، بالإضافة إلى تنامي الحركة الاشتراكية؛ كل ذلك كشف عن استمرار وجود مصائر بديلة للقومية الجمهورية الألمانية. مرةً أخرى، يمكن أن نرى ذلك في الآثار التي جاء تمويلها من الاكتتاب العام، وأشهرها تمثال هيرمان الشيروسكي في غابة تويتوبورج، وفي ظهور العديد من مذاهب القروسطية القوطية و«العبقرية» الألمانية، لا سيَّما عبقرية لوثر ودورر، وفي كثيرٍ من روايات «الفولكيش» الشعبية في هذه الفترة، وفي مهرجان فاجنر المجتمعي للفنون في بايروث الذي يستحضر الميثولوجيا الجرمانية والأيسلندية القديمة، ولاحقًا في العنصرية الروحانية غالبًا لدى أوساط «الفولكيش» الشعبية المتطرفة ونظيرتها السياسية المقاتلة «رابطة الشعوب الجرمانية».24
إذا كانت الهزيمة في الحرب الكبرى وتعويضات معاهدة فرساي فرضتا جمهورية على أمة منهكة ومحرومة، فسرعان ما اكتسحت منطقةَ فايمار حركةٌ حاسمة، ربطت عناصر العهد بهرمية عنصرية وعسكرية بمستوًى غير مسبوق وعنف مُدَوٍّ. وإذا كان «اتحاد القبائل الجرمانية الألمانية» الذي اقترحه هيملر لخَّصَ جوهر رؤية هتلر العنصرية، فإن هذه الرؤية ضُمِّنت، مع ذلك، في بنية قيادة عسكرية برئاسة الفوهرر، دمجت التراتبيات الهرمية العديدة المتنافسة لكلٍّ من الدولة والحزب والجيش ووحدة إس إس الوقائية. وقدَّمت النازية صورة مزدوجة؛ فهي من ناحيةٍ مواكبُ حاشدة، وأغاني مسيرات، وأعلام صليب فاستيكا المعقوف، ورايات، وتأثيرات إضاءة، ومراسم جماعية مصمَّمة بدقة، جدَّد فيها الألمان «العرقيون» عهد الطاعة للفوهرر، والموت في سبيل «الوطن»، في توافُقٍ أخوي كان أشبه بمحاكاةٍ علمانية للعهد الديني، وهي من ناحيةٍ أخرى دولةٌ إمبريالية ذات نزعةٍ عنصرية تُديرها بيروقراطية مركزية متضخمة ونُخبة قوية من وحدة إس إس الوقائية، سعت إلى مواجهة الانقسامات العميقة بفعل الطبقة والدين والمنطقة.25
قد يعتقد المرءُ أن تلك الهزيمة الكاملة كان من الممكن أن تفتت اندماج الهرمية السياسية ونزعة العهد الأيديولوجية، لكنَّ كلتيهما تجدَّدتا في ألمانيا الشرقية، وإنْ كان ذلك لأهدافٍ متناقضة كليًّا. اتضح هذا في المراحل الأخيرة من النظام الشيوعي في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، حينما حاولت تحقيق أهدافها الماركسية باستخدام وقائع وأبطال يحظَوْن بالشعبية، مختارين بعنايةٍ من التاريخ الألماني، ليكونوا «أمثلة للفضيلة»، من أجل تعزيز شرعيتها وارتباطها مع «الشعب». إلا أن الهرمية والعهد لم يجدا مكانًا لهما في الغرب في جمهورية ألمانيا الاتحادية. تضمَّن السعي إلى التجديد الاقتصادي والديمقراطية السياسية رفضَ الشعبية الكاريزمية والهرمية الإمبريالية، شكلًا وروحًا، لصالح الرشادة الاقتصادية، وأمَّة جمهورية مدنية داخل اتحاد الأمم الأوروبي. والواقع أن مثال التكامل الأوروبي بدا أنه يمنح نُخبة ألمانيا الغربية احتمالية التحرُّر من أعباء الماضي القريب ومنغصاته في ظل دولة مدنية جيدة التنظيم. رغم ذلك، فإن حماس هؤلاء القادة أنفسهم في السعي إلى الاتحاد السياسي مع ألمانيا الشرقية بعد انهيار جمهوريتها الشيوعية عام ١٩٩٠؛ كشف عن استمرار الروابط العرقية الألمانية الطويلة الأمد وقوتها، وأوضحَ أن مثال إغراق الخصوصيات الماضية في دولةٍ دستورية صِرف ربما لم يكن مضمونًا بالقدر الذي أملَ فيه أشخاصٌ مثل يورجن هابرماس الذي امتدح فضيلة «الوطنية الدستورية» الصِّرف.26
قد تكون انعكاساتٌ شبيهة وثيقةَ الصلة في حالة روسيا المعاصرة. هنا أيضًا نجد أمة جمهورية مدنية قيد التكوين، لكن مع وجود المزيد من المشاكل والأمور غير المؤكَّدة. في الحالة الروسية، نشهد مسارًا مشابهًا من الهرمية الإمبراطورية إلى القومية الجمهورية، مع وجود فترةٍ وجيزة من الأَخَوية العهدية في أوائل عشرينيات القرن العشرين. كما رأينا في الفصل الرابع، تطوَّرت الدولة الموسكوفية على هيئة هرمية أبوية، مع اعتمادٍ متبادَل قوي بين الدولة والكنيسة في ظل قيادة القيصر، بوصفه حاكمًا مقدسًا وأبًا لشعبه. إلا أن الانقسام الكبير الذي أعقب الإصلاحات الكنسية التحديثية التي أجراها البطريرك نيكون في ستينيات القرن السابع عشر؛ أدَّى إلى مقاومةٍ شديدة في مختلِف مجتمعات الشهداء وطوائف «المؤمنين القدامى» العهدية التي استمر بعضها في القرن التاسع عشر، وأبرزت الانقسام المتزايد بين بلاطٍ ودولةٍ بيروقراطية هادِفَيْن إلى التغريب، ومجتمع روسي عرقي أرثوذكسي، لا سيَّما في الريف.27
في أواخر القرن التاسع عشر، قَوَّضَت الإصلاحاتُ الاجتماعية القيصرية والتحديث «من أعلى» المثالَ التراتبي الهرمي، وهيَّأَت الظروفَ للمجموعات الشعبية والماركسية للترويج لأخوية الجماهير، ومساواة الأمم الخاضعة في «سجن الشعوب» القيصري. إلا أن رسالتها لم تُترجَم إلى فعل إلا بعد أن دَمَّرت كوارث الحرب الكبرى التراتبيات الهرمية التقليدية بالإضافة إلى القيصرية. مع وجود حركاتٍ راديكالية مناوئة تتنافس على السلطة، قُدِّر للبلاشفة الأفضل تنظيمًا الذين خرجوا منتصرين من الحرب الأهلية أن يقودوا الحركة الثورية. وإذ أعلنت ثورة لينين أن الأرض للفلاحين وحكم العمال السوفييت، أعلت من قيمة «الشعب»، وتصوَّرت ظاهريًّا ميلاد أمة عهدية جديدة مكوَّنة من الجماهير المتآخين، لم تلبث أن أخضعتها لنسخةٍ من الهرمية العلمانية التاريخية أكثر صرامةً واستبدادًا، في ظل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، ومكتبه السياسي، البوليتبورو، وسكرتيره العام في نهاية المطاف. واصطُنع دِينٌ مدني علماني جديد للحكم البروليتاري المتعدد الجنسيات، من أجل شحذ طاقات الشعوب، وتغطية مصالح الحزب والدولة الجبارَيْن. رغم ذلك، في «الحرب الوطنية العظمى»، وجدَ ستالين أنه من الضروري الاستعانة بروح القومية العرقية الروسية وأبطالها الروسيين القدماء أمثال ألكسندر نيفسكي، وفي عام ١٩٤١، كان أكثر استعدادًا «في الظروف العصيبة» لاستخدام طقوس الكنيسة الأرثوذكسية المنتهَكة وأيقوناتها من أجل توحيد الروس وتعبئتهم لمواجهة الغزو النازي. وعلى الرغم من الانتقاد الرسمي المستمر لشوفينية روسيا العظمى، فلا شك تقريبًا أن قومية الدولة الروسية كانت مكوِّنًا متأصلًا، وإن كان غير رسمي، في أيديولوجيات القيادة السوفييتية وسياساتها اللاحقة.28

مع انهيار الشيوعية السوفييتية أدار القادةُ ظهورهم لكلٍّ من التراتبيات الهرمية التقليدية والمُثُل الأخوية من أجل بناء نوعٍ من الدولة الجمهورية أكثر مدنية، وأمة روسية على وجهٍ أكثر تحديدًا. وكان معنى ذلك الاستعانة بعلمانية النظام السابق، وتأكيد سماته الوطنية الكامنة، وتجديد بنية قيادته وسيطرته على الدولة، مع رفض أيديولوجيته الاشتراكية. وخلال عقودٍ قليلة، أتم المجتمع الروسي انتقاله من تراتبية هرمية تقليدية، وإن كانت تحديثية، من خلال حركةٍ ثورية للتضامن العهدي الشعبي، إلى: شكل شيوعي جديد من المجتمع الجمهوري والاقتصادي الذي تُوجِّهه دولة وحزب بيروقراطيان مركزيان قويان، وأخيرًا إلى: أمةٍ جمهورية أكثر مدنيةً وأقل أيديولوجيةً وأكثر روسيةً على نحوٍ واضح، وذات قدرٍ أكبر من السيطرة الدولانية.

(٥) انتصار الأمة الجمهورية؟

ليست هذه هي الأمثلةَ الوحيدة لمسارٍ تحولت فيه الأمم الهرمية والإمبراطورية غالبًا، بقليلٍ أو كثيرٍ من السرعة والعنف، إلى أممٍ جمهورية-مدنية. ولا تقتصر هذه الأمثلة على أوروبا والغرب. تُقدِّم تركيا الحديثة مثالًا مثيرًا بصفةٍ خاصة لهذا التحوُّل. انتهى التدهور الطويل الذي عانته القوة الإمبراطورية العثمانية، وما صاحبه من خسارة أراضيها، بتصدُّعَيْن تسبَّبا في قطع الاستمرارية العثمانية؛ تمثل الأول في ثورة الضباط في «جمعية الاتحاد والترقي» عام ١٩٠٨، وكان الثاني الذي يُعَد الثورة الأكثر راديكاليةً بعد هزيمة الغزو اليوناني عام ١٩٢٢ وتأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام ١٩٣٢؛ حين أُلغيت السلطنة والخلافة كلتاهما. ألهمت هذين التصدُّعين الرؤيةُ الجديدة للأتراك باعتبارهم أمةً عرقية منفصلة. أما ضباط «جمعية الاتحاد والترقي»، فرأَوْا أن الأتراك هم الأمة المسيطرة في إمبراطوريةٍ عثمانية متعددة القوميات، لكنها إمبراطورية مُدرَكة في إطارٍ قومي على نحوٍ متزايد. وأما مصطفى كمال وأتباعه، فكان الأمر من وجهة نظرهم يتخطى ذلك إلى أمةٍ جمهورية تركية منفصلة ليس فقط عن رعاياها السابقين، ولكن عن الأمم الأخرى الناطقة بالتركية أيضًا خارج الإمبراطورية السابقة. كانت الأيديولوجية الكمالية إقليميةً وتغريبية على نحوٍ صارم. وبما أن مُنظِّرها ضياء جوك ألب كان يتطلع إلى فرنسا الجمهورية نموذجًا، فقد تبنَّت الأيديولوجية الكمالية تصورًا مدنيًّا تحديثيًّا للأمة بوصفها مجتمعًا قائمًا على النظام والتقدم، كان مأمولًا أن تتمكن تركيا من خلاله من مضاهاة الغرب من خلال الانضمام إلى عُصبة الأمم «المتحضرة». وظلَّ هذا هو هدفَها الأهم حتى وقتنا الحاضر. ويُقدِّم طلبها المعطَّل للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أحدثَ دليلٍ على نزعةٍ جمهورية ذات طابع أيديولوجي، تُعارِض فيها القومية العلمانية الدولانية والإقليمية التي يتبناها معظم النُّخبة العسكرية والسياسية كلًّا من النزعة الإسلامية الحداثية السياسية التي يتبناها الحزب الحاكم حاليًّا، والمعتقَد الإسلامي لدى الأغلبية الريفية. إلا أنه في كلتا الحالتين، تظل مُسَلَّمة المجتمع التركي العرقي القومي المميز تُقَدِّم المجال والأساس لهذه المصائر البديلة.29
حدثت اضطراباتٌ وتحولات مشابهة في كثيرٍ من الدول التي حكمتْها فيما سبق بيروقراطياتٌ إمبراطورية وكبار إقطاعيين، من الصين والهند حتى مصر وإثيوبيا. في الغالبية العظمى من الحالات، أسفرت الثورة الاجتماعية والقومية عن قادةٍ كاريزميين وأعدادٍ كبيرة من التابعين في فورة من الأخوية العهدية. إلا أن هذه اللحظة سرعان ما انحسرت، وتبعها الظهور المؤلم بقدرٍ ما أو آخر لنظامٍ مدني جديد في الدولة القومية الجمهورية. على نحوٍ مختلف، قدَّم الغزو الأجنبي والحكم الاستعماري، لا سيَّما في أفريقيا، أنواع النزعة الجمهورية المدنية والإقليمية، بالإضافة إلى النموذج القومي الذي عدَّله «الآباء المؤسسون» القوميون وفقًا لأعراف الشعوب الأصلية وتقاليدها. نرى ذلك واضحًا بصفةٍ خاصة في الجيل الأول من القادة في غرب أفريقيا الذين سعَوْا إلى الاحتفاظ بالحدود الاستعمارية لدولهم، بدلًا من التهديد بالتفتُّت العرقي، لكنهم مثَّلوا في الغالب «عرقياتٍ» معينةً مسيطِرة عادةً، حتى أثناء تطلُّعهم إلى تكوين أمةٍ جمهورية مدنية موحدة. وفي أيٍّ من الحالتين، وبصرف النظر عن طريق الوصول، يبدو أن نقطة النهاية كانت واحدة.30

يطرح ذلك مسألةَ حتمية التقدُّم العلماني إلى الأمة الجمهورية المدنية. أشرتُ إلى بعض الحالات النقيضة؛ اليابان وبريطانيا، وبدرجةٍ أقلَّ الولايات المتحدة وإسرائيل، لكن هل من المحتمل أن تكون هذه الحالات «الشاذة» ظاهريةً أكثر منها حقيقية؟ أم من غير المحتمل أن تسلك الطريق نفسه الذي سلكه الأفريكان والبروتستانت في أيرلندا الشمالية؟ على أي حال، تخلى المجتمع الإسرائيلي إلى حدٍّ بعيد عن أخلاقياته المسيحانية الريادية، باستثناء ما بين الأقلية الأرثوذكسية التي تُعبِّر عن آرائها بقوة، وتشهد حركة الإحياء المسيحي في الولايات المتحدة الأمريكية مقاومة مستمرة من النُّخبة المثقفة الليبرالية وأصحاب النفوذ السياسي في الساحل الشرقي. وكما هي حال اليابان وبريطانيا، فالتحديث السياسي المستمر للأعراف والمؤسسات يقلل تدريجيًّا من الدور السياسي للتراتبيات الهرمية التقليدية، من العائلة وحتى المَلَكية.

رغم ذلك، تبقى النزعة الجمهورية المدنية مجرد نوعٍ من أنواعٍ كثيرة من المصائر القومية. وبين الحين والآخر، يُسفر المزيد من الاضطرابات عن أشكال ومصائر قومية جديدة، وما إيران المعاصرة إلا أوضح هذه الحالات. هنا، بعد سقوط السلالة القاجارية في الثورة الدستورية عام ١٩٠٥، انتزعت السلطةَ سلالةُ بهلوي، ونَصَّبَ رضا بهلوي نفسه في منصب الشاه. مرةً أخرى عام ١٩٥٣، سحقت القوى الكبرى محاولة تكوين جمهورية علمانية بقيادة الدكتور مصدق، وسُلِّمت السلطة إلى ابن الشاه. وأطلق برنامج تحديث سريع وقومية «آرية» تستحضر ماضيَ الدولة الأخمينية السابقة للإسلام، مستخدمًا السيطرة الصارمة للدولة والشرطة لتحقيق أهدافه، لكن هذا لم ينجح إلا في عزل تجار البازار ورجال الدين. وعند سقوط الشاه عام ١٩٧٩ لم تَعُد إيران إلى مسار مصدق، ولكنها سقطت على نحوٍ متزايد تحت سيطرة آية الله الخميني وتابعيه من رجال الدين في ثورةٍ أعادت شريعة إسلامية مرشِدة وتراتبية هرمية شيعية داخل إطار الأمة الجمهورية وقوميتها الجديد نسبيًّا.31
ربما يكون المثالُ الإيراني هو الأشهر، لكنه لم يكن الحالة الوحيدة لأمة هرمية حديثة. في خمسينيات القرن العشرين، حاول أو نو، رئيس وزراء بورما، الجمع بين البوذية والاشتراكية، مستخدمًا المُثُل الهرمية القديمة للحُكام المخلِّصين ليمثل الشعب. وفي تايلاند، يجمع الحكم السياسي الحالي بين تقاليد الحكم الشخصي العريقة والمُثُل البوذية. وفي المملكة العربية السعودية، قلب الإسلام، جدَّد آل سعود أنفسهم وحُكمهم السياسي الأبوي من خلال الترويج المتحمس للإسلام الوهابي المتشدد، في محاكاة لرسالة النبي العهدية الأصلية.32

إلا أننا نجد، فيما وراء هذه الأمثلة الفردية، السمات الهرمية والعهدية متمازجة في أغلب الأحيان مع القومية الجمهورية حتى يومنا الحاضر. ولا تقتصر صحة ذلك على بريطانيا واليابان وإسرائيل والولايات المتحدة، لكن يمكن أن نشهد هذا أيضًا في دول قومية تمتد من أيرلندا وبولندا إلى صربيا واليونان والمكسيك، حيث تحتفظ الكنيسة بتبعية قوية. في تلك البلدان، ما زالت المُثُل العهدية المتمثلة في الاصطفاء والرسالة العرقيَّيْن تثير حماسة شرائح من سكانها؛ ومن ثمَّ تقدم بدائل للمصائر القومية العلمانية التي حددتها النُّخَب الليبرالية والاشتراكية، أو تستمر في مزج هذه المصائر بقدرٍ من البديل العهدي.

خاتمة

في ضوء هذه الاعتبارات، ستكون أيُّ محاولةٍ للتنبؤ بشكل الأمم الحديثة محاولةً مُبتسَرة ومُفتقِرة إلى الحكمة، ومن الممكن أن تُعرِّضنا لخطر الالتباس بين أشكال الحكم السياسي الظاهرة وبين المحتويات الاجتماعية والثقافية الأكثر تغيُّرًا. كلُّ ما يمكن قوله بقدرٍ من اليقين هو أن الإحساس بالهُوية العرقية المشتركة ظلَّ مكوِّنًا قويًّا ومرنًا حتى في أكثر المجتمعات القومية مدنيةً وجمهورية، وأنه منذ العصور القديمة وحتى العصر الحاضر، ظلَّ تأثير الروابط والمشاعر والنماذج العرقية محسوسًا باستمرار، حتى في الفترات التي سادتها أشكالُ السياسة والمجتمع المنتمية إلى الإمبراطورية والإقطاع والدول المدن.33

سعيتُ، في هذه الدراسة الاستقصائية الموجزة، إلى توضيح أن مقاربة النموذج الحداثي السائد مقاربةً مختلفة لا تكشف عن استمرارية الهُويات والنماذج العرقية فقط، ولكنها تكشف كذلك عن استمرارية تلك العمليات الاجتماعية والرمزية التي تُشجِّع على تكوين الأمم. ويمكن تتبُّع تلك العوامل حتى في العالم القديم، رغم أنها لم تتضافر إلا في حالاتٍ قليلة جدًّا لتخلق الظروف التي تُمكِّن المجتمعات البشرية من الاقتراب من النموذج المثالي للأمة بدلًا من الأنواع الأخرى من الهُويات والمجتمعات الجمعية الثقافية و/أو السياسية.

والواقع أنه لم يحدث إلا في أواخر الحقبة القروسطية، مع تفتُّت وحدة العالَم المسيحي، أنْ خُلِقت تلك الظروف من جديد في أوروبا، وأنْ بدأ نوعٌ قومي من الهُوية يرتبط بالدول الملَكية، خالقًا بين النُّخَب ما أطلقتُ عليه مصطلح «الأمم الهرمية». غير أننا لا نستطيع الحديث عن «القومية» بوصفها أيديولوجيةً أو حركةً أثناء هذه الفترة. استلزم هذا الأمر الانتظار حتى القرن السابع عشر، بعدما اتخذ الإصلاح البروتستانتي اتجاهًا راديكاليًّا، فظهرت في دولٍ قليلة، مثل إنجلترا واسكتلندا وهولندا، قومية «عهدية» تستمد إلهامها من سرد الكتاب المقدس عن إسرائيل القديمة، لا سيَّما في أسفار موسى الخمسة. على الرغم من المنظور الرؤيوي والأوروبي، فإن هذا النوع البروتستانتي الراديكالي من القومية بدأ يرى العناية الإلهية في كنائس الرب وفي الأمم المختارة، وبدأ يستنتج الاستنتاجات السياسية المنطقية. من جوانب عدة، يمثل هذا النوع مركز تاريخٍ اجتماعي لتَكوُّن الأمم والقومية، بمعنى أن البروتستانتية العهدية الراديكالية شكَّلت وسيلة «الاختراق» إلى الأمم والقومية الحديثة، ولولا إلهامها وإنجازاتها، لانتابنا الشك فيما إذا كان للأمم كما أصبحنا نعرفها أن تُشكَّل، أو ما إذا كان للقومية أن تصبح حركة أيديولوجية بهذا القدر من الفعالية والقوة. وإلى هذا الحد، لا بد من مراجعة التأريخ والفهم الحداثيَّيْن للقومية.

من ناحيةٍ أخرى، فإن ظهور القومية الجمهورية المدنية الراديكالية، لا سيَّما في فرنسا، وتأسيس أول أمة ودولة متحوِّلتَيْن إلى العلمانية، يؤكِّدان الفرضية الحداثية المتمثلة في «الأمة الحديثة» شريطة فهمها على أنها مجرد شكل، وإنْ كان مؤثرًا، من مختلِف أشكال الأمة. في هذا الصدد، تقف الأيديولوجية القومية مستقلةً بنفسها، لكنها لا تنفصل تمامًا عن أيديولوجيات أخرى مثل الليبرالية والاشتراكية. في المقابل، واجه نوع الأمة الجمهوري المدني تحدياتٍ متكررةً من أنواع الهُويات الأخرى المؤسَّسة على تقاليد الهرمية والعهد القديمة، أُدرِكَ معها سريعًا أنه لا بد من السعي إلى شيءٍ من التكيُّف؛ وهذا يوضح أننا لا يمكننا فصل مسألة التحقيب الزمني والتأريخ لمفهوم الأمة عن المسائل الأوسع المتعلقة بالأشكال التاريخية للأمم الفردية، ولا عن التقاليد الثقافية الأساسية التي قامت على أساسها تلك الأشكال، وما زالت تطرح مصائرَ قومية بديلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤