الفصل الثاني

كثيرًا ما تتخلَّل الأزمانَ العصيبة فتراتٌ يسُود فيها الأمن وتصفو فيها النفوس. ولقد كانت الحال كذلك بنوعٍ خاص في عهود الأقطاع القديمة حينما كان السائد بين الناس أن الحرب يجِب أن تكون للبشرية شُغلها الشاغل وعملها المجيد، فكان لفترات الصُّلح أو الهدنة لذَّة دونها أي لذة، يستمتِع بها على قلتها المحاربون في تلك العصور؛ بل إنَّ الظروف عينها إذ ذاك، التي كانت تجعل هذه الفترات عرضًا زائلًا، كانت تُحبِّبها إلى النفوس؛ وكان البطل يرى أنَّ مِن بذْل الوقت في غير طائلٍ أن يُكنَّ في قلبه ضغينةً لعدوِّه — وقد التقى به في القتال يومًا، وقد يلتقي به في معركة حامية الوطيس في صبيحة اليوم التالي — وكان الرجال يعرفون أنَّ في عهدِهم، وفي ظروفهم، مجالًا تنفجِر فيه عواطفهم المُلتهِبة، فكانوا يستمتعون بكل ما أوتوا من قوَّة، بصُحبة بعضهم بعضًا في الفترات القصيرة التي كانت تُتيح لهم أن يتحادثوا آمنين، على قدْر ما تسمح لهم تلك الأوقات العصيبة، اللهم إلا إذا احتدَم النزاع بين الرجل وعدوِّه، أو أثارت نفسيهما ذكرى إحنٍ خاصة لا تتعلق بغيرهما.

وكان يَفلُّ من حدَّة الفروق الدينية، بل والعصبية الشديدة، التي كانت تستفزُّ أتباع الصليب وأتباع الهلال على السواء، شعورٌ سامٍ، هو من طبيعة أمثال هؤلاء المحاربين، شعور كانت تُلهِبه وتقوِّيه روح الفروسية حينذاك؛ وهذا الدافع القوي أخذ يمتدُّ أثرُه شيئًا فشيئًا من المسيحيين إلى أعدائهم الألدَّاء من العرَب من أهل إسبانيا أو فلسطين، ولم يعُد عرب فلسطين، كما كانوا من قبل، أولئك المتوحِّشين المُتهوِّسين الذين هبُّوا من وسط صحراء العرب بالقرآن في اليمين، والسيف في اليسار، يعرِضون الإسلام أو القتال، أو الجزية والرِّق، على كل من تُحدِّثه نفسه أن يقِف في وجه دين محمدٍ نبيِّ مكة؛١ وقد عرضوا ذلك على أهل الشام وأهل اليونان، وهم قوم غير مُحاربين؛ ولكنهم حينما التحموا بمَسيحيي الغرب — الذين كانت قلوبهم تشتعِل حماسةً للدين، لا تقلُّ عن حماسة العرب أنفسهم، والذين يتَّصِفون بالإقدام والشجاعة التي لا تُقهر، والذين إذا طعنوا أصابوا — أخذوا عنهم شيئًا من أخلاقهم، وحَذَوا حذوَهم خاصة في تقاليد الفروسية الكريمة التي كانت متأصِّلة في النفوس تأصُّلًا استهوى عقول أولئك القوم الغزاة الشامخين؛ وهذا فضلًا عن أنَّ العرب كان لهم سِجالهم، وكانت لهم ألعابهم في عرْض الفروسية، بل وكان منهم «الفوارس» أو ما يُشبههم في علوِّ المرتبة، وكانوا إلى ذلك يُراعون حدود دينهم مراعاةً يخجَل من دقَّتِها أناس كأهل الغرْب، لا يُخلُّون بالهدنة إذا عقدوها بينهم وبين أُمَّةٍ غير أُمَّتِهم، أو بين بعضهم وبعض؛ وهكذا كانت الحرب — على أنها ربما كانت في ذاتها أعظم الشرور — تُهيئ الفرصة لإظهار روح الإخلاص، وكرَم الخُلق والرأفة، بل وتبادل الودِّ بين القلوب، ممَّا لا يتوفَّر في فترات الهدوء، حينما تكمُن في الصدور زمنًا إحن الرجال الذين لاقَوا المهانة، أو اشتبكوا في نزاعٍ لم ينحسِم في حينه وبلَغَ بهم نكد الطالع أنْ وقَعوا فريسةً لتلك الإحن.

أحسَّ المسيحي والعربي بهذه العواطف الرقيقة التي تُخفِّف من وطأة الحروب، وانطلقا بعدما سَعى كلٌّ منهما جُهده كي يقضي على أخيه، وسارا راكبَين بخُطًى وئيدة نحو العَين التي ينبُت حولَها النخيل، والتي كان يقصِدها فارس النمر الرابض حينما باغَتَه في مَسيره ذلك العدو، الذي جاءه مُسارعًا والشرَر يتطايَرُ من عينَيه، واسترسل كلاهما زمنًا، كلٌّ في تأمُّلاته، يتنفَّس الصعداء بعد نضالٍ كاد أن يقضي على أحدهما أو كليهما؛ وكأنَّ جواديهما لم يكونا أقلَّ منهما استمتاعًا بذلك الهدوء الذي ساد بينهما. أما جواد العربي فلم تبدُ عليه علامات الإعياء كما بدَتْ على جواد الفارس الأوروبي، رغم أنه أجهد بالحركة إجهادًا أوسع مدًى وأشدَّ عنفًا، وتصبَّب العرَق من أضلع جواد الفارس الغربي، بينما كان جواد العربي الكريم قد جفَّ عرقُه أثناء مَسيره في تلك الفترة الهادئة، ولم يبقَ منه إلا أثر ضئيل كان يبدو على عنانه وعدَّته؛ وكانت الأرض التي وطئها الجوادان ليِّنة، فازداد جواد المسيحي شقاءً على شقاء؛ إذ إنه كان يئنُّ تحت عبء عدَّتِه الثقيلة وعبء راكبه؛ فاضطر الفارس أن يقفِز من فوقه ويقوده في تلك الأرض المُتربة التي يُغطِّيها الغرين، والتي أحرقتها الشمس فصيَّرتها أشدَّ لينًا من أدقِّ الرمال؛ وهكذا استردَّ الجواد نشاطه على حساب صاحبه، لأنَّ الفارس، لكثرة ما عليه من لبس الحديد، كان يتعثَّر في حذائه الصُّلب في كل خطوة، وهو يمشي فوق تلك الأرض الرقيقة التي لا تحتمِل المقاومة.

ومُذ انعقدتِ الهدنة بين العربي والمسيحي لم ينبس أحدُهما ببنتِ شفةٍ حتى قال العربي لصاحبه: «نِعمَ ما فعلت، فإنَّ جوادك القوي يستحقُّ منك العناية، ولكن ماذا أنت فاعل به في الصحراء وهو يسيخ بأقدامه في كلِّ خطوة، كأنه يُريد أن يغرسها في باطن الأرض كجذور النخيل؟»

فأجاب الفارس المسيحي، وهو غير مطمئنٍّ إلى نغمة السخرية التي تحدَّث بها العربي عن جواده المحبوب، وقال: «حقًّا ما قلتَ أيها العربي، ولقد أصبتَ بمقدار ما لدَيك من علمٍ وملاحظة، ولكن اعلم أنَّ جوادي هذا قد حمَلَني قبل اليوم في بلادي فوق بُحيرةٍ لا تقلُّ سعةً عن تلك التي خلَّفناها وراءنا، ومع ذلك، فلم تبتلَّ منه شعرة واحدة فوق حوافره.»

فنظر إليه العربي مُبديًا شيئًا من الدهشة على قدْرِ ما يسمح به تأدُّبه، وارتسمَتْ على شفتَيه ابتسامة ساخرة خفيفة لم تكَدْ تهزُّ شارِبَه الكثيف العريض الذي كان يُغطِّي شفتَه العُليا؛ ولكنه سرعان ما استردَّ نظرة الجد التي لم تُفارقه، ثم قال: «حقًّا ما قيل، إذا أصخْتَ إلى الفرنجي لم تسمع إلا هراء.»

فأجاب الصليبي: «ليس هذا من حُسن الذوق في شيءٍ أيها المُنافق، أفترتاب في كلمةٍ ينطق بها فارس نال مرتبة الشرف؟ تالله لولا أنك تَصدُر عن جهلٍ لا عن سوء طوية، لكانت هذه الآونة آخِر ما بيننا من مُهادنة، ولمَّا يمضِ عليها إلا أمَدٌ قصير؛ أفتظنُّ أنَّني أكذِبُك إذ أقول لك إنَّني أحد خمسمائة فارس مُدجَّجين بالسلاح؛ قطعتُ بجوادي الفراسخ فوق ماء كالبلُّور صلابةً، ولكنه أقلُّ من البلور هشاشة عشر مرات؟»

فأجاب المُسلم قائلًا: «ماذا تقول؟ إنَّ ذلك البحر الداخلي الذي تُشير إليه له خصيصة عجيبة، وذلك أنَّ الله قد صبَّ عليه جام غضبه، فهو لا يحتمِل جسمًا يغيض في موجِه، إنما يقذِفُه بعيدًا ويرمي به على شُطآنه؛ ومع ذلك فإنَّ هذا البحر الميِّت عينه، بل والمُحيطات السبعة التي تحوط الأرض، لا تحتمِل وقْعَ أقدام الخيل على سطحها أكثر ممَّا احتمل البحر الأحمر مسير فرعون وجنوده.»

فأجاب الفارس المسيحي: «هذا هو الحقُّ فيما تعلَم أيها العربي؛ ولكن صدِّقني، إنَّني لا أُحدِّثك حديث خُرافة؛ في مناخكم هذا تتحوَّل الأرض بفعل الحرارة إلى شيءٍ كالماء غير مُستقر؛ أما في بلادنا فالبرودة كثيرًا ما تُحوِّل الماء إلى جسمٍ كالصخر في صلابته؛ ولكن دَعْنا من هذا، فإنَّ ذِكر البحار في الشتاء، بهدوئها وصفائها ونقاء زرقتها، ليزايد من مَفازع هذه الصحراء الحارة، حيث يُخيِّل لي أنَّ الهواء الذي نستنشِقه إنْ هو إلا بُخار يتصاعَد من أتون، ماؤه يَغلي كالحميم.»

فالتفتَ العربي حينئذٍ إلى صاحبه مُتنبِّهًا، وكأنه يريد أن يَستوضحه ما يعني من قوله هذا، الذي ما إخال إلا أنه قد نزل من نفسه منزِل السر الغامض أو الخداع؛ ولكنه اطمأنَّ أخيرًا إلى كلام رفيقه وعرَف كيف يتلقَّاه فقال: «إنك من قوم يُحبُّون الضحك، تتحدَّثون بالمستحيل وبما لم يقع في الحُسبان، مازحين مع بعضكم بعضًا أو مع غيركم؛ أنت أحدُ فرسان فرنسا الذين يتبارَون في الخيال وأعمال الجنِّ لاهين لاعبين، ولقد أخطأتُ يا صديقي إذ عارضتُك في حديثك، فإنَّ الزهو بالباطل أقربُ إلى طبيعة نفسك من رواية الحق.»

فأجاب الفارس وقال: «إني من بلادٍ غير هذه البلاد، ومن قومٍ غير هؤلاء الذين يزهون — كما تقول — بما لا يستطيعون، أو بما لا يُتقِنون إذا استطاعوا، ولكنَّني، أيها العربي الجسور، فيما قلتُ لك، كنتُ أحذو حذوَهم في المزاح، وأظنُّني ما كنتُ في عينيك إلا رجلًا دعيًّا وأنا أحدثك بحديثٍ لا تستطيع أن تُدركه، حتى حينما كنتُ أنطق عن صِدقٍ وسذاجة، ولذا فلندَعها تذهب.»

وفي تلك الآونة بلغ صاحبانا مكان النخيل، وبدَتِ العين فوَّارة يتألَّق ماؤها الغزير تحت ظِلَّيْهِما.

ويذكُر القارئ أننا تحدَّثنا عن برهة سادت فيها الهُدنة وسط القتال؛ وكذلك كان هذا المَوضِع الذي بلَغاه مكانًا جميلًا وسط صحراء مُجدبة، عزيزًا على النفس كالهُدنة، ولم يكن المكان ليستوقِف النظر لو أنه كان في غير ذلك الموضِع، ولكنه كان هنا مَحلًّا فريدًا في فضاء لا يبلُغ مداه البصر، يمدُّ المسافر بالظلِّ الظليل والماء النمير، وهما من نِعَم الله، لا يُقدِّرهما المرء حقَّ قدرِهما إنْ توفَّرا، ولكنهما هنا قد أحالا العين وما جاورها جنَّةً صغيرة من جنان الخلد. وقبل أن تبدأ أيام فلسطين المُظلِمة في التاريخ، امتدَّت يدٌ مُحسِنةٌ كريمة إلى تلك العين فأقامت حولَها سياجًا، وفوقها سقيفة، كي لا تبتلِعها الأرض، أو يُغطيها التراب، الذي يثور في سُحبٍ مُتدافِعة تنطلق في مسيرها، كلَّما هبَّت نسمةٌ من ريح، فتُغطي سطح الصحراء؛ أما السقيفة فكانت إذ ذاك مُحطَّمة؛ وقد تهشَّم جانبٌ منها، ولكنها كانت مع ذلك تُظلِّل العين وتحمي مياهها من وهَج الشمس، حتى إنَّ الماء ليبدو هادئًا مُطمئنًّا يسرُّ العين والخاطر؛ لا يمَسُّه شعاع من شمس، بينما كان كل ما حوله مُتألقًا وهَّاجًا. وانسلَّ صاحبانا من تحت السقيفة فقابلا أول ما قابلا إناءً من المرمر شائِهَ الوجه، ولكنه يجذب النظر، لأنه يدلُّ بهيئته تلك على أنَّ المكان كان في قديم الزمان محطًّا، وأنَّ يدَ الإنسان قد لعِبَت هناك، وأنَّ المرء كان — ولو إلى حد — يرعى لنفسه حقَّها من الراحة والإيواء؛ وكان المُسافر العربي يلهَثُ من الإعياء والعطش، فلمَّا رأى تلك الأمارات، تذكَّر أنَّ هناك غيره من الناس ممَّن تعرَّضوا لمِثل ما تعرَّض له من مشاقَّ فأوَوا حيث أوى، ولا شكَّ في أنهم خلصوا بأنفسهم آمنين إلى حيث الخصب والنماء؛ وكان يتسرَّب من الإناء تيَّار خفيف من الماء، يكاد يحتجِب عن الرائي، ويغذِّي تلك الأشجار القليلة التي كانت تحُوط العين، وإذا ما غاص ذلك التيار تحت الثرى واختفى عن البصر، دلَّ على وجوده بساط من سُندُس أخضر يسرُّ الناظرين.

في هذا المكان اليانع حطَّ المُحاربان رحالهما، ثم أخذ كل منهما — على نهجه الخاص — يُخلِّص جوادَه من عبء السرج والعنان وطرف الزمام، ويُهيئ له السبيل إلى الشراب من الإناء، قبل أنْ يرتوي من العَين التي كانت تتفجَّر تحت القباء، ثم خليَّا سبيل جواديهما، وكأنهما على يقينٍ أنهما لن يَبعدا عن هذا الماء الصافي وذلك العُشب الأخضر لحاجتهما إليهما، ولِما عهدا فيهما من طباعٍ مُستأنسة.

ثُم جلس العربي والمسيحي فوق العُشب، وأخرج كلٌّ منهما زاده الضئيل الذي كان يحمله ليتبلَّغ به، ولكنهما قبل أن يشرَعا في تناول هذا الطعام الزهيد، تبادلا النظر بطلعةٍ أثارها في نفسيهما ذلك الشجار الذي نشِب بينهما منذ حين، وملأ قلبيهما شكًّا وريبة؛ وكان كلٌّ منهما يودُّ لو يستطيع أن يَسبر غَور غريمه المروِّع، ويُقدِّر خلقه ولو إلى حد، وقد اضطرَّ كلٌّ منهما أنْ يُقرَّ بأنه لو سقط مغلوبًا في ذلك النِّضال لكان ذلك بيدٍ كريمة شريفة.

وكان الفارسان على طرَفي نقيضٍ في شخصيهما وملامحهما، وكلاهما يصلُح مثالًا دقيقًا لأُمَّته. كان الفرنجي رجلًا قويًّا كالقُوط الأقدَمين في هيئته، شعرُه أحمر اللون أدكَنه، بدا لمَّا رفع خوذته عن رأسه مجعَّدًا كثيفًا غزيرًا، وقد لفحتْ وجهه حرارة الشمس فصيَّرته أشدَّ سُمرةً من بعض رقبته التي لم تتعرَّض للفحة الشمس، وما تنمُّ عنه عيناه الزرقاوان المُنفرجِتان ولَون شعرِه وشاربه الذي كان يُظلِّل شفته العُليا، ولم تكن له لحية على مثال النورمان، أنفُه إغريقي جميل الصورة، وثغرُه واسع الانفراج يكشف عن أسنانٍ ناصعة البياض، مَتينة جميلة الترتيب، له رأس صغير يرتكز فوق رقبته في أنَفَةٍ وعظمة، لا يزيد عن الثلاثين في عمره، ولكنك إذا حسَبتَ للعناء والجدِّ حسابهما، علِمتَ أنه قد ينقُص عن ذلك ثلاث سنوات أو أربع، طويل القامة، قوي البنية كأنه من هواة الرياضة البدنية، يُشبِه أن يكون رجلًا قد تقدَّمت به السنُّ فلم يعُد له سلطان على قوَّته، بعد أن كانت تلك القوة ممزوجةً بالخفَّة والنشاط؛ خلع القفاز الحديدي فإذا يدان طويلتان بيضاوان في تناسُقٍ جميل، وإذا عظام مِعصمَيه قوية كبيرة، وذراعاه مفتولتا العضلات جميلتا التكوين، يتميز في كلامه وحركاته بعُنفٍ حربي واستهتارٍ وصراحة في التعبير، في صوته رنَّةُ الآمِر لا ذلَّةُ الخاضع، وكأنه تعوَّد أن يُعبِّر عن عواطفه بصوتٍ مُرتفعٍ وبأسٍ شديدٍ كلما اقتضتِ الضرورة أن يُفصِح عنها.

أما الأمير العربي فكان على نقيضِ هذا الصليبي الغربي؛ قامته فوق متوسِّط الرجال، ولكنه كان أقصرَ من الفارس الأوروبي بما لا يقلُّ عن ثلاث بوصات؛ إذ كان الأخير يقرُب أن يكون عملاقًا؛ أطرافه دقيقة، ويداه وذراعاه طويلةٌ رقيقة، تتَّسِق حجمًا وجسمه، وتتناسَب وطلعته، ولكنها لا تدلُّ لأول وهلةٍ على القوة واللِّيونة اللَّتَين أظهرهما الأمير قبل ذلك بقليل؛ ولكنك إنْ أمعنتَ في النظر، رأيتَ ما بدا من أطرافه خفيفًا لا يكسُوه لحم، وكأنَّه لم يبقَ منه إلا عظام وعضَل مفتول وعروق؛ رجل كأنَّ الله قد أعدَّه بهيئته هذه للعناء والإجهاد، ليس البتَّة بالفارس البدين تتعادل قوته وحجمُه مع وزنه وقد أنهكَه الإعياء؛ وكان هذا العربي بطبيعة الحال يُشبِه في طلعتِه إجمالًا قبائل الشرق التي هو من أبنائها، وما كان أبعدَه عن تلك المُبالَغات التي كان يُردِّدها المُغنُّون في ذلك العهد في وصف فرسان العرب؛ وعن تلك الصورة الخيالية التي ما زال الفنُّ الشقيق٢ يعرِضها على اللوحات على أنها تُمثِّل رأس العربي. كان دقيق الملامح، جميل التكوين، رقيقًا، تعلُوه سُمرة شديدة من أثر شمس الشرق المُحرقة، له لحية مُرسَلة سوداء مُتموِّجة الشعر، عُني بتشذيب أطرافها، وأنف مُستوٍ مستقيم، وعينان حادَّتان، سوداوان برَّاقتان؛ وأسنانه تُنافِس في جمالها وبياضها عاج الصحراء؛ وقصارى الوصف، كان العربي وهو يتمطَّى بجسمه فوق العُشب، إذا قيس بمُنازله القوي البنية، كمُهنَّدِه البرَّاق ذي الشكل الهلالي والحدِّ الضيِّق الرقيق، اللامع الدمشقي الباتر، إذا قورن بالسيف الطويل القُوطي الثقيل، الذي خلعه صاحبه وألقاه فوق الأديم. وكان الأمير في زهرة العمر، ولولا ضِيق جبهتِه، ورقَّة ملامحه وحدَّتها — أو لعلَّها كانت كذلك من حيث تقدير الأوروبيين للجمال — لعُدَّ آيةً في الجمال.

كان المحارب الشرقي في معاملته جادًّا مُتعاليًا شديد المُراعاة للتقاليد، يدلُّ بسلوكه من بعض النواحي على ما فُطِر عليه أولئك القوم — الذين عُرفوا بحدَّة المزاج وحرارته — من حرصٍ يستمسِكون به كي يَقُوا أنفسهم ما جُبِلوا عليه من حدَّة الطبع، كما يدلُّ على إحساسه بكرامةٍ كانت تضطرُّ صاحبها إلى أن يرتبط في مسلكه ببعض القيود.

هذا الشعور السامي بعلوِّ النفس كان يحسُّ به كذلك زميله الأوروبي، ولكنه كان يختلف عنه في مسلكِه، فبينما كان هذا الإحساس يُملي على الفارس المسيحي الجُرأة والإقدام، بل وعدَم الاكتراث، وكأنه لفرْط إحساسه بعلوِّ مكانته لا يأبَهُ برأيٍ غير رأيه، كان يرسُم للعربي نوعًا من المجاملة يجعله شديدَ المُراعاة لآداب المُعاشَرة. نعم لقد كان كلٌّ منهما يُجامل الآخر، ولكن مجاملة المسيحي كانت تصدُر عن روح التَّفكُّه الظريف بما يجِب عليه نحوَ غيره، بينما كان المُسلم في مجاملته يصدُر عن إحساسٍ قوي بما كان غيره يرتقِب منه.

وتَبلَّغ الرجلان بطعام خفيف؛ ولكن طعام العربي كان جدَّ زهيد، فحفنةٌ من تمر، ولُقمة من خبز الشعير الخشِن كانت تكفي لأن تسُدَّ رمَق جوعه، إذ إنه نشأ على تقشُّف الصحراء، وذلك رغم أنَّ بساطة العيش العربي كثيرًا ما غلَبَ عليها، مُذ فتح سوريا، البذخ الوافر الذي ليس له حد؛ ثُم اختتم وجبتَه بقطراتٍ قليلة من ماء العين الجميلة التي أوى وصاحبه إليها. أما طعام المسيحي فكان شهيًّا رغم خشونته، وكان أهمُّ ما يتألَّف منه لحم الخنزير المقدَّد، الذي يُحرِّمه المسلمون على أنفسهم، ثم أخرج قنينةً من الجلد وصبَّ منها شرابًا خيرًا من الماء الصافي، وهكذا أخذ يتناول طعامه بنفسٍ مُقبلة، ويستقي وعليه أمارات الرضا، ولا كذلك العربي الذي كان يرى أن ليس من اللياقة أن يتظاهر المرء وهو يقضي حاجة من حاجات الجسم الدنيئة؛ ولا رَيبَ أنَّ كلًّا منهما كان في دخيلة نفسه يهزأ من زميله كيف يتَّبِع دِينًا باطلًا؛ وزاد من هذا الشعور ذلك الفارق الكبير بين مسلكَيهما وطعامَيهما؛ لكنَّ اثنيهما قد أحسَّا كلٌّ بثِقَل ذراع صاحبه، فكان من أثر ذلك النضال العنيف الذي نشِب بينهما أنْ يتبادلا التقدير وأخفَيا كلَّ اعتبارٍ دونه، ولكنَّ العربي مع ذلك لم يسَعْه إلا أن يُشير بكلمةٍ إلى ما لم يَرُقْه من خلق المسيحي ومسلكه، وبعد أنْ تطلَّع مدَّة — دون أن ينبس ببنت شفة — إلى شهية الفارس القوية التي مدَّت من وجبتِه طويلًا بعد أن فرغ هو من طعامه، وجَّه إليه الخطاب وقال:

«أيُّها النصراني الجسور! هل يليق بالمرء يُقاتل كالرجال أن يكون حين تناوُل الطعام كالكلاب أو الذئاب؟ والله إني لأظنُّ أنه حتى اليهودي الكافر ليقشعِرُّ بدنُه إذا رآك وأنت تأكُل بشهيةٍ كأنك تتناول من ثمَر أشجار الجنَّة.»

فالتفت المسيحي مُتعجبًا من تلك التهمة التي أُلقِيَت عليه دون أن يترقَّبها، ثُم قال: «أيها العربي الجسور! اعلم أني إنما أستمتِع بالحرية المسيحية، وأنَّ لي أنْ آتي ما لم يستطِعْه اليهود الذين يرزحون تحت نَير ملَّةِ موسى البالية. ولتعلم أيُّها العربي أنَّنا نخضع لشريعةٍ سامية؛ حيَّاكِ الله يا مريم! إنا لله شاكرون!» واختتم حديثَه بعبارةٍ لاتينية قصيرة، ثم احتسى جرعةً كبيرة من القنينة الجلدية كأنه يتحدَّى ما يُساور زميله من وسواس.

فقال العربي: «أفهذا أيضًا في اعتبارك جزء من حُريتك؟ إنك إذ تطعم كالوحوش الضواري، وإذ تحتسي هذا الشراب السام، الذي تأباه البهائم، إنما تهبط بنفسك إلى حضيض الحيوان.»

فأجاب المسيحي دون تردُّد: «اعلم أيها العربي الغافل أنك إنما تلعَن ما أسبغ الله علينا من نِعَم. إنَّ عصير العنب حلال لِمن كان حكيمًا في تناوله، فهو يُنعِش القلب بعدَ عناء العمل، ويُرطِّب فؤاد المرء في مرضِه، ويُخفِّف عنه وطأةَ الحزن. من يستمتِع بالخمر يحمد ربَّه على الكأس كما يحمده على قُوت يومه، ومن يُدمِن في الشراب فليس في إدمانه بأقلَّ منك غفلةً في تحريمك الخمر.»

وأدرك العربي هذه السخرية فتطايَرَ الشرَر من عينَيه، وامتدَّت يدُه إلى مقبض خنجره، ولكنه لم يكُن إلا خاطرًا طارئًا، لم يلبَثْ أن هدأ ثائره لمَّا ذكَر قوة منازله حينما بطش به، واستوثق منه في قبضته، ولم يبقَ له من أمَلٍ في الحياة، تلك القبضة التي لم يزلْ أثرُها ينبض في أطرافه وعروقه، فاكتفى العربي — إذ استعاد ذلك إلى ذاكرته — بأن يُواصِل النزاع شفاهًا؛ فإنَّ ذلك آمَنُ له في ذلك الحين.

فقال: «والله أيُّها النصراني إنَّ كلماتك هذه لتبعَثُ الغضب، لولا أنك بجهالتك تَستثير الرحمة؛ أفلا ترى — وكيف ترى وأنت أشدُّ عمًى من أولئك الذين يقِفون بأبواب المساجد يسألون الصَّدَقات — أنَّ هذه الحرية التي تفخر بها لم تمتدَّ إلى بيتِك وإلى أنفَسِ ما في سعادة الإنسان، فإنَّ شريعتكم — إذا اتبعتموها — فرضَتْ على الرجل منكم أن لا ينكح غير زوجةٍ واحدة، يرتبط بها في صِحَّتها وفي مرضها، وَلُودًا كانت أو عاقرًا، وسواء فاضت على مأكله ومَبيته بالدعة والسرور أو بالمُنازعة والشحناء؛ تالله إنْ هذا أيها النصراني إلا الرقُّ عينه. انظُر إلى دين المسلمين؛ لقد جاء النبيُّ للمؤمنين في الأرض بملَّةِ أبينا إبراهيم القديمة وملَّة سليمان أحكم بني الإنسان فأحلَّ لنا في الدنيا تعدُّد النساء الجميلات كيفما شئنا، ووعدَنا في الآخرة بالحور العين.»

فأجاب المسيحي وقال: «والذي أُقدِّس في السماء فوق كلِّ شيء، وبالتي أعبُد في الأرض أكثرَ من كلِّ شيء، إنْ أنت إلا كافر عمِيَت بصيرتُه وضلَّ هداه؛ انظُر إلى جوهرة هذا الخاتم الذي تلبس في إصبعك؛ ألا تظنُّ أن قِيمتَها تفُوق كلَّ تقدير؟»

فأجاب العربي: «أجل، وليس في البصرة أو بغداد ما يُشبهها، ولكن ما شأن هذه الجوهرة وما نحن فيه؟»

فأجاب الفرنجي: «شأنها كبير، وستشهد بذلك أنت نفسك الآن. خُذ فأسي هذه وهشِّم هذا الحجر الكريم إلى عشرين شظية، ثم خبِّرني إنْ كنتَ تظنُّ أن لكلِّ شظيةٍ وحدَها ما كان للجوهرة بأسرِها من قيمة، أو أنَّ الشظايا كلها مجتمعة لها عُشْر ما كان لها من ثمن؟»

فقال العربي: «هذا سؤال صبياني. إنَّ جزيئات هذا الحجَر لن تعادل عُشر معشار الجوهر سليمًا».

فأجاب الفارس المسيحي: «كذلك، أيُّها العربي، الحبُّ الذي يحمله الفارس الحقُّ لامرأةٍ واحدة جميلة مُخلصة، هو كهذه اللؤلؤة سليمة، أما الحبُّ الذي تُوزِّعه بين أزواجك اللائي تستعبدهن، وإمائك اللائي تنظُر إليهنَّ كأنصاف أزواج، فما هو إلا بمثابة تلك الشظايا المُتفرِّقة من هذا الجوهر الحر.»

فقال الأمير: «وربُّ الكعبة المقدَّسة إنك لمجنون، لا تُفرِّق بين الذهب والحديد، أمعِن في النظر تجد أنَّ هذه الجوهرة الكُبرى وسط تلك اللآلئ الزريَّة هي التي تُكسِب الخاتم جلاله وتُعطيه قيمتَه، ولولاها لما كان له نِصف جماله؛ هذا الجوهر الأوسط هو الرجل في عزمه وكماله، لا يستمدُّ قيمته إلا من نفسه، وأما هذه الحلقة من الجواهر الدُّنيا فهي النساء تستمدُّ بريقَها من بريقه، يُرسِله عليهنَّ كما يشاء ويهوى؛ انزع الحجر الأوسط من الخاتم يبقَ له قدرُه ويهبط ما دُونه من اللآلئ في قيمته؛ وإنما هكذا يجِب أن تفهم التَّشبيه الذي أتيتَ به. ولقد قال المنصور الشاعر ما معناه: «إنما جمال المرأة ورقَّتها من فضل الرجل، فلولا ضياء الشمس ما تألَّق في البحار ماء.»

فأجاب الصليبي قائلًا: «أيُّها العربي، إنك إنما تتكلَّم كرجلٍ لم يقع بصرُه يومًا على امرأة جديرة بحبِّ أبناء الحروب، صدِّقني أنك لو شهدتَ بنات أوروبا — اللائي لهن علينا بعد الله حقُّ الإخلاص والولاء — لَما بقِيَ في قلبك ذرَّةٌ من حبٍّ لهاتيك الشهويات المسكينات اللائي يتألَّف منهن «حريمك». إنَّ جمال نسائنا يُدبِّب حِرابنا ويحدُّ سيوفنا؛ كلِمتهنَّ لنا شريعة؛ وكما أن المصباح لا يُنير إذا انطفأ لهيبُه، فكذلك الفارس إذا برَز في القتال ولم تكن له فتاة يُوليها حبه.»

قال الأمير: «لقد نما إليَّ هذا الخبل الذي يعتوِر فرسان الغرب، وكنتُ دائمًا أعدُّه عرضًا من أعراض ذلك الجنون الذي يدفعكم إلى هذه البلاد كي تستولوا على قبرٍ أجوف، ولكنِّي — مع ذلك — مع فرْط ما سمعتُ من الفرنجة الذين التقيتُ بهم من الثناء يكيلونه كيلًا على نسائهم، أودُّ لو رأيتُ بعيني رأسي أولئك الساحرات الفاتنات اللائي يجعلنَ من هؤلاء المحاربين أدواتٍ لِما يُردن، كي تطمئنَّ نفسي ويرضى فؤادي.»

فأجاب الفارس: «أيها العربي الجسور، والله لولا أني أقصد الحجَّ إلى القبر المقدَّس لكان فخرًا لي أن أقودك آمنًا إلى مُخيم رتشارد ملك إنجلترا، الذي يعرِف أكثر من كلِّ من عداه كيف يعامِل بالحُسنى عدوًّا كريمًا؛ وإنك قد تراني مسكينًا لا تكلؤني عين برعاية، ولكني مع ذلك قمين بأن أكفُل لك، ولأمثالك، كلَّ أمنٍ وتقدير وإجلال. هنالك ترى كثيرًا من آيات الجمال الفرنسي والإنجليزي مُجتمِعاتٍ في حلقةٍ صغيرة، يشعُّ منها نور يفوق في بريقه ولَمَعانه المناجم المُترَعة بمثل تلك اللآلئ التي تملك عشرة آلاف مرة.»

فقال العربي: «ورُكن الكعبة، لو أنك بقيتَ على عهدك لأُلبِّينَّ دعوتك طائعًا، كما وهبتَنيها طائعًا، وصدِّقني، أيها النصراني الجسور، لقد كان خيرًا لك أن تُيمِّم جوادك شطر مخيم قومك، فإنَّ مسيرك إلى بيت المقدس بغير جوازٍ إنْ هو إلا تعريض بحياتك لا مُبرِّر له.»

فأخرج الفارس ورقةً ثم قال: «ها هو ذا جوازي عليه توقيع من صلاح الدين بيدِه وخاتمه.»

فعرف العربي خاتم سلطان مصر وسوريا وخط يده، ذلك الحاكم الذي طبق صِيتُه الآفاق، فانحنى برأسه نحوَ الأرض، ثُم لثَم الورقة بكل تبجيل، ومسَّ بها جبينه، ثم ردَّها إلى المسيحي قائلًا: «أيها الفرنجي، لقد اندفعتَ في تصرُّفك وأسأتَ إلى دمي ودمِك، إذ لم تُطلِعني على هذه الورقة حينما التقينا.»

فقال الفارس: «لقد آتيتني رافعًا سنانك، ولو أنَّ ثلَّةً من جنود الأعراب هاجمتْني لكان من شرَف النفس أنْ أظهر جواز السلطان، أما وأنت رجل واحد فقد أبَتْ كرامتي ذلك.»

فأجاب العربي بكبرياء وعظمة وقال: «ولكنَّ رجلًا واحدًا قد استطاع أن يعترِض سبيلك.»

فأجاب المسيحي: «صدقتَ أيها المُسلم الجريء، ولكن كم من الناس كمثلك؟ إنَّ البزاة لا تطير في الأسراب، وإذا أقبلتْ سربًا لن تنقضَّ جماعة على واحدٍ مفرد.»

ولا ريب أنَّ العربي قد سُرَّ من هذا الثناء، بعد أن كان قد انجرح في عزَّته حينما كان الأوروبي يفخر بنفسه ويُحقِّر من شأن صاحبه تلميحًا، ثم قال: «هذا صواب وعدل، وما كان لي أن أسيء إليك؛ إنَّني كنتُ مجدودًا حقًّا إذ لم أُصبك بضربتي وشخصُك في حِمى ملك الملوك، ولو أنَّني جندلتُك لحقَّتْ عليَّ النقمة جزاء هذا الجُرم، ولأصابني حدُّ السيف.»

فقال الفارس: «يسرُّني أن أسمع أنَّ الأمر قد انتهى بما ينفعني، فلقد بلغَني أنَّ الطريق موبوءة بالكثير من قُطَّاعها الذين لا يتردَّدون في السَّلْب إذا تهيَّأت لهم فرصته.»

قال العربي: «لقد صدقتُك فيما خبَّرتُك به، أيها المسيحي الجسور، ولكنِّي أُقسِم لك بالنبي الكريم أنك لو سقطَت في أيدي هؤلاء الأشرار لأخذتُ على نفسي الانتقام لك بخمسة آلاف جواد، ولقتلتُهم جميعًا وأرسلتُ نساءهم أسيراتٍ إلى مكانٍ ناء، ولن تسمَع لتلك القبيلة بعد ذلك اسمًا يُذكَر في حدود خمسمائة فرسخ حول دمشق، ولنشرتُ الموت في جذور بلادهم فلن ترى فيها كائنًا حيًّا من بعد.»

فأجاب الفارس قائلًا: «أيُّها الأمير النبيل، ليتَ هذه المشقَّة التي تأخذها على نفسك كانت في سبيل الانتقام لشخصٍ آخر أعلى منِّي مكانة، إنما أنا أمري بيد الله، إنْ أراد بي خيرًا فخير، وإن أراد بي شرًّا فشر، وإنَّني لمَدين لك حقًّا لهدايتك إيَّاي الطريق إلى مكانٍ أستريح فيه هذا المساء.»

فقال العربي: «ستجِد راحتك في خباء أبي تحت قبائه الأسود.»

فأجاب المسيحي: «إنما ينبغي لي أن أقضي هذا المساء مُصليًا مستغفرًا مع رجلٍ قدِّيس اسمه تيودوريك «بعين جدَّة» يسكن هذا القفر ويقضي العمر في عبادة الله.»

فقال العربي: «لا أقلَّ من أن أُبلِّغك هذا المكان آمنًا.»

فأجاب المسيحي: «نِعم الحارس، ولكن ألا تدري أنه قد يكون في ذلك خطر على ذلك الأب الطيِّب في مُستقبل سلامته، فكم من مرةٍ امتدَّت فيها أيدي قومك القُساة إلى أتباع السيد المسيح، وتلطَّخت بدمائهم، ولذا فنحن لا نقصد هذه البلاد إلا مُسلَّحين بالسيوف والحِراب كي نفتح الطريق إلى القبر المقدَّس، ونحمي القديسين الأخيار والرهبان الذين يقطنون هذه الأرض، أرض الأمل والمعجزات.»

فأجاب المُسلم وقال: «أيُّها النصراني! ألا تعلم أنَّ الروم وأهل الشام كثيرًا ما حنثوا في عهودهم لنا، ونحن إنما نتَّبِع أبا بكر الصديق خليفة النبي، وأول خليفة للمسلمين من بعدِه، إذ قال لذلك القائد الذائع الصِّيت حينما بعث به كي يستخلِص سوريا من أيدي الكفار:٣ اذهب ورجالك يا يزيد بن سفيان، وحاربوا كما تحارب الرجال في ساحة الوغى، ولكن حذارِ أن تقتلوا الشيوخ والمرضى والنساء والأطفال، ولا تُخرِّبوا البلاد، ولا تُدمِّروا أشجار الفاكهة والقمح فهي من نعم الله، وإذا عاهدتم فلتفوا بالعهود — حتى وإن كانت في مضرَّتكم — وإذا صادفتم رجالًا قدِّيسين يعملون بأيديهم ويعبدون الله في الصحراء، فلا تمسُّوهم بأذًى ولا تهدِموا مساكنهم؛ أما إذا ألفيتموهم برءوس حليقة، فاعلموا أنهم من أتباع الشيطان واضربوهم بسيوفكم، واقتلوهم ولا تأخذكم بهم رأفةٌ حتى يؤمنوا أو يدفعوا الجزية. هكذا أمرَنا الخليفة رفيق النبي، فأطعْنا، فعدَلْنا، ولم نضرِب إلا جنود الشيطان، أما أولئك الرجال الأخيار أتباع عيسى بن مريم، الذين لا يُثيرون أمَّةً على أمةٍ وإنما يعبدون الله مُخلصين له الدين، فقد كنَّا لهم ظلًّا وحِمًى. ولمَّا كان صاحبك الذي تقصد رجلًا من هؤلاء، فإني لا أحمِل له إلا المحبَّة والخير والتقدير وإنْ يكن نور النبي لم يبلُغه.»

فقال الحاج المحارب: «لقد سمعتُ أنَّ الراهب الذي أقصد ليس قسًّا، ولكنه إن كان أحد أولئك الرجال المقدَّسين المباركين، فتالله لأصدَّنَّ عنه برمحي هذا كل مُعتدٍ أثيم من الكفرة أبناء المسلمين …»

فاعترض العربي كلامه وقال: «أخي! خير لي ولك ألَّا تتحدَّاني ولا أتحدَّاك، فإنَّ كِلَينا يستطيع أن يجِد من بني قومه من يكفيه للضرب بسيفه وسِنانه. إنَّ تيودوريك — الذي حدَّثتني عنه — في حِمى الترك والعرب، وله بين الحين والآخر أطوار عجيبة، ولكنه على الجملة — كتابعٍ من أتباع المسيح — يسلُك سلوك الرجل الطيب، ويستحقُّ الحماية ممَّن بعث الله …»

وهنا قاطعة المسيحي متعجبًا وقال: «قسمًا بمريم لو أنك لفظتَ في نَفَسٍ واحدٍ اسم ذلك الحادي المكِّي مع …»٤

وحينئذٍ تمشَّت في حنايا الأمير رعدة من الغضب كتيَّار الكهرباء، لم تلبَثْ لحظة حتى انقشعت، وأجاب في هدوء يُخالِجه الوقار والحِكمة «لا تذكر بسُوءٍ من لا تعرِف، إنما نحن نقدِّس نبيَّكم، ولكنَّا نُنكر العقائد التي ينسجها قساوستكم حول الدين الذي أتاكم به. سأدلُّك بنفسي إلى الكهف الذي ينزل به الناسِك، واعلمْ أنه لولا مَعونتي لشقَّ عليك أن تبلُغه؛ وإذا ما ضربْنا في طريقنا فلنخلِّ للشيوخ والرهبان الجدل في الدين، ولنتحدَّث في أمورٍ تليق بأبطال أحداث. لنتحدَّث بمواقع القتال وفتنة الحسان، ولنتحدَّث بظباة السيف وبريق السلاح.»

١  يدلُّ هذا القول وما بعدَه على أن المؤلِّف — كما حدَّث عن نفسه في مقدمة الرواية — يجهل العالَم العربي كلَّ الجهل.
٢  يقصد فنَّ التصوير.
٣  يلاحظ أن «سكوت» لا يتحرَّى الدقة التاريخية — كما يُشير في المقدمة — ولذا فإنَّ هذه العبارة المنسوبة إلى أبي بكر رضي الله عنه قد لا يكون لها أصل عربي.
٤  هكذا يُشير الفارس المسيحي إلى النبي مما يدلُّ على شدَّة تعصُّب الصليبيين وجهلهم بشئون العرب في ذلك الحين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤