الشياطين … في غابة «الجارون»!

انتظر الشياطين قليلًا، في انتظار أيِّ إشارة من الكابتن «ن»، إلا أن شيئًا لم يحدث. همس «أحمد»: سوف أرى! …

تحرَّك بسرعة إلى مقدِّمة الطائرة؛ حيث طاقم القيادة. لمح على وجوههم حالةً من الفزع، فسأل: ماذا حدث؟! قال كابتن «ن»: لقد ركبوا الطائرة!

فهم «أحمد» ماذا يقصد كابتن «ن». فمعنى ركوب الطائرة أنَّهم أصبحوا يطيرون فوق طائرة الشياطين. وهذا يعني أن طائرة العصابة تملك قدرة التحكُّم فيهم الآن، وأن على طائرة الشياطين أن تُنفذ تعليماتهم. وهذا يعني أيضًا في النهاية أن الشياطينَ، ودكتور «بالم»، و«اكتشافَه» في أيدي رجال العصابة. قال كابتن «ن» بعد لحظة: أفكِّر في أن أشتبك معهم. لم يرد «أحمد» بسرعة؛ فقد كان القرار الآن صعبًا، لكن فكرة لمعت في ذهنه، وإن كان لم يقلها مباشرة. غير أنه قال: ينبغي ألا ندخل معهم في صراع؛ لأنهم إذا شعروا باليأس؛ فسوف يُفجِّرون طائرتنا؛ حتى لا يبقى منَّا أحد. سكت لحظة، ثم قال: ينبغي أن نعطيهم بعض الأمل. فجأة، وصلت رسالة إلى الطائرة … وكان مصدر الرسالة طائرة العصابة. كانت الرسالة تقول: استعدَّ للنزول على شاطئ خليج «بسكي» … وإلا فسوف تتعرَّض طائرتكم للخطر … نقل كابتن «ن» الرسالة إلى «أحمد»، الذي قال مبتسمًا: هذا ما فكَّرتُ فيه فعلًا. لقد فكَّرت أن نرسل لهم رسالة تقول إن الوقود عندنا ينتهي عند شاطئ الخليج، ولا بُدَّ أن ننزل هناك؛ فنحن قد رسمنا خُطَّتنا على هذا الأساس … قال الكابتن: إن تحديدهم لمكان النزول، يعني أنَّهم قد أعدُّوا كلَّ شيء؛ لنقع في قبضتهم … ردَّ «أحمد»: هذا صحيح …

سكت، ثم أضاف: إن صراعنا معهم على الأرض يُمكن من خلاله تحقيق شيء، لكننا الآن لا نملك سوى الخوف على دكتور «بالم». نظر له الكابتن لحظة، في نفس الوقت الذي جاءت فيه رسالة أخرى: «لا داعيَ للسكوت؛ أنتم محاصرون تمامًا.»

قال «أحمد» بعد أن عرف الرسالة: تحدَّثْ إليه مباشرة، حتى نكسب بعض الوقت؛ فنحن قد اقتربنا تمامًا من الخليج … نفَّذ كابتن «ن» فكرة «أحمد». سألهم: هل تتبع طائرتكم سلاح الجو الفرنسي؟ ردت طائرة العصابة: لا داعي للأسئلة؛ إنَّ الوقت يمرُّ. ولا يجب أن تدفعونا إلى استخدام القوَّة …

أمسك «أحمد» الميكروفون من يد كابتن «ن»، ثم أخذ يحاور قائد طائرة العصابة. قال: هل هناك مكان مُمهَّد للنُّزول؟ … ردَّت الطائرة: نعم، هناك مكان.

قال «أحمد»: إن طائرتنا تحتاج إلى ممر خاص للنُّزول؛ وإلا فربَّما تتعرَّضون لكارثة في الجو.

نظر «أحمد» إلى كابتن «ن»، وقال: ينبغي أن ننزل، لكن في مكان آخر غير الذي يريدونه …

لمعت عينا الكابتن «ن»، وقال: هذه فكرة طيبة. إن ذلك في النهاية يُحقِّق خُطَّتكم في عملية الإنزال.

ردَّ «أحمد» على قائد العصابة: سوف ننفِّذ التعليمات؛ سيكون نزولنا على خطَّي صفر و٣٠، عند مصب نهر «الجارون» … لم ترد طائرة العصابة، فقال «أحمد»: إذن ينبغي أن ننزل في منطقة أخرى، ولتكن أبعد درجةً أو درجتين. إنَّ نزولنا في منطقة نهر «الجارون» سوف يفيدنا كثيرًا؛ لأنَّها منطقة غنية بالنباتات. … قال كابتن «ن»: هذا صحيح، بجوار أن الطرق الأسفلتيَّة سوف تكون ممرَّات طيبة لنزول الطائرة بسلام؛ هذا إذا كان ضروريًّا أن ننزل. … سكت لحظةً، ثم قال: استعدُّوا؛ فنحن على وشك الوصول. تحرك «أحمد» بسرعة إلى حيث كان الشياطين ينتظرون (وقد سيطر عليهم القلق!). شرح لهم ما حدث بإيجاز، ثم قال في النهاية: يجب أن نكون على استعداد للنُّزول … مضت عشر دقائق، ثم لمعت اللمبة الحمراء ثلاث مرَّات متوالية. كانت هذه هي الإشارة المتفق عليها. فُتح باب الطائرة، فقفز «أحمد»، وخلفه مباشرة قفز دكتور «بالم». مرت دقيقة لينزل «خالد» وخلفه «بالم ٢»، ثم «باسم» و«إلهام»، وأخيرًا «عثمان» وكابتن «م». كان الجوُّ صَحوًا؛ ولهذا لم تكن عملية الهبوط صعبة. وإن كان دكتور «بالم» قد أُصيب بالفزع الشديد؛ فهذه أول مرة يتعرَّض فيها لمثل هذا الموقف. رفع «أحمد» عينيه؛ ليرى طائرة الشياطين، التي كانت قد بدأت تختفي، في نفس اللحظة التي كانت طائرة العصابة تتبعها.

كانت هذه مسألة مُحيِّرة ﻟ «أحمد»؛ فماذا يعني مطاردة طائرة العصابة لطائرة الشياطين إذا كانوا الآن في الفضاء؟ … غير أنَّه لم يشغل فكره بالبحث عن إجابة. لقد كان عليه أن يُفكر فيما سوف يحدث الآن. نظر حوله؛ كانت المظلات كلها مفتوحة، وهي تأخذ طريقها إلى الأرض. نظر إلى أسفل، فرأى الحقول الممتدة تحته. وعلى مشارف الحقول؛ كانت تبدو ككتلة خضراء. عرف أنَّها غابة، وفي نفس الوقت الذي كان يبدو فيه نهر «الجارون» وهو يشق الحقول.

فكَّر «أحمد»: هل يمكن أن يجد أفراد العصابة في انتظار الشياطين؟ … لكنَّه لم يسبق الحوادث، فقد قال في نفسه: سوف نتعامل مع الواقع عندما نصبح على الأرض … كانت عيناه معلقتَين بمظلَّة دكتور «بالم» الذي كان يهبط قريبًا منه. إن دكتور «بالم» هو أصل المغامرة كلها، ودكتور «بالم» لن يستطيع التعامل مع العصابة؛ ولهذا فهي مُهمَّة «أحمد». في نفس الوقت، إنَّ «خالد» يقوم بمهمة حماية «بالم ٢»، أمَّا الباقون فيعرفون كيف يحمون أنفسهم. فجأة سمع «أحمد» طائرة. دارت عيناه تبحث في الفضاء عن مصدر الصوت، فكَّر بسرعة: هل يمكن أن تكون العصابة قد أرسلت إليهم طائرة أخرى؟ أو أنها الطائرة التي تطارد طائرة الشياطين؟ … ظهرت الطائرة من بعيد، ولم يستطع «أحمد» تحديد نوعها، غير أنَّه قبل أن تمضي دقائق، حتى كانت ابتسامة قد ظهرتْ على وجهه؛ فقد حدَّد نوع الطائرة. كانت طائرة رُكَّاب عاديَّة، إلا أن الابتسامة التي ظهرت على وجهه اختفت بنفس السرعة التي اختفت بها طائرة الركاب؛ فقد ظهرت في أعقابها طائرة هليكوبتر. كانت تبدو من بعيد وكأنَّها حيوان خرافي مُعلق في الفضاء … نظر إلى الأرض؛ كان قد اقترب فعلًا منها، وبدأ يستعدُّ ليتلقَّى صدمة الأرض. في نفس الوقت كان يُفكر: كيف يستطيع دكتور «بالم» النُّزول حسب القواعد التي تدرَّب عليها الشياطين؟ … كان يُفكِّر أيضًا: هل يمكن فقد دكتور «بالم» في هذه العملية؟ اقتربت الطائرة الهليكوبتر.

قدَّر «أحمد» المسافة بينه وبين الأرض، ثم بين الطائرة والأرض. عرف أن ذلك يحدث في وقت واحد. إن الطائرة تستطيع أن تنزل في أي مكان. لكن من حسن الحظ؛ لقد كان نزول الشياطين على مشارف الغابة.

أي إن بعض السرعة في الحركة يمكن أن يُعطيهم فرصة الاختباء في الغابة، بدلًا من وقوعهم في أيدي رجال العصابة. أخذت المسافة تقل شيئًا فشيئًا، حتى لم يعُد هناك سوى متر. كان الهواء الذي بدأ ينشط قد دفع دكتور «بالم» قريبًا من «أحمد»، فاستطاع أن يتحدَّث إليه … شرح له بسرعة كيف يمكن أن ينزل في بساطة، وكيف يتلقَّى لحظة الاصطدام. ابتسم دكتور «بالم» ابتسامة شاحبة وهو يقول: سوف أرى؛ إنَّها على كل حال تجرِبة مثيرة، وربَّما أكثر إثارة من اكتشاف «رجل المستقبل» … كانت قدَمَا «أحمد» قد أوشكت على أن تلمس الأرض، عندما وقعت عيناه على مشهد جعله ينسى أنَّه سوف يصطدم بالأرض. لقد شاهد إحدى المظلات تنزل فوق الأشجار. حاول أن يُحدِّد أحدًا من الشياطين، لكنَّه لم يستطِع. قال في نفسه: سوف تحدث كارثة. إنَّ النُّزول فوق الأشجار يؤدي إلى النهاية! … لكنَّه لم يستمر في أفكاره؛ فقد اصطدمت قدماه بالأرض، إلى درجة أنَّه سقط بقوَّة جعلته يشعر بالألم. لكنَّه استطاع أن يستجمع قواه بسرعة؛ لأنه لم تكن هناك فرصة يُضيِّعها. قام بسرعة، وعيناه تبحثان عن دكتور «بالم»، الذي سقط قريبًا منه. كان يبدو مُكَوَّمًا بلا حركة، وقد التفَّت حوله المظلَّة التي تعبث بها الرياح. تخلَّص من مظلته بسرعة، وقفز في اتجاه «بالم». كان يُفكِّر: هل انتهى كلُّ شيء، وهل يمكن أن يقع الشياطين في أيدي رجال العصابة؟

في نفس اللحظة التي اقترب فيها من دكتور «بالم»، كانت الطائرة الهليكوبتر تبرق. ولامست عجلتاها الأرض. انحنى على دكتور «بالم»، الذي كان يَئنُّ من الألم … أمسك بذراعه، وحاول أن يُوقفه، إلا أن «بالم» نظر له في رجاء، وهمس بصوت واهن: أرجوك اتركني؛ إنني لا أستطيع الحركة … نظر «أحمد» حوله بسرعة. كانت بداية الغابة قريبة بدرجة يستطيع معها أن يختفي هو و«بالم». جذب «بالم» جذبة قوية، فأصبح فوق كتفيه، وحمله وأسرع إلى الغابة. كان رجال العصابة قد نزلوا من الطائرة، ودوَّت حوله طلقات الرَّصاص؛ إلا أنه قفز وهو يحمل «بالم» قفزة واسعة جعلته داخل أشجار الغابة الكثيفة. كانت الطلقات لا تزال تُدوِّي حوله. أنزل «بالم» بسرعة على الأرض، ثم قفز بجواره. كان «بالم» قد بدأ يستجمع قواه هو الآخر، بعد أن سمع طلقات الرَّصاص. همس: هل وصلوا؟ … قال «أحمد» بسرعة؛ حتى يجعل «بالم» أكثر استعدادًا للحركة: يبدو أنهم يحاصرون الغابة الآن … لمعت عينا «بالم»، وظهر عليه الخوف، وقال: هل تعرف أنني سوف أقع في أيديهم؟

ابتسم «أحمد» ابتسامة هادئة، وقال: هل تثق …؟ وقبل أن يكمل جملته، كان «بالم» يقول: أثق تمامًا. صمت لحظةً، ثم أضاف: ما الذي تريده منِّي الآن؟ …

كانت إجابة «بالم» بالنسبة ﻟ «أحمد» الآن ضروريَّة. فقال: ينبغي أن نُسرع إلى أعماق الغابة؛ حتى تكون فرصة المغادرة أمامنا واسعةً … تحرَّك «بالم» خلف «أحمد»، الذي كان يحاول ألا يصدر أي صوت عنه، خصوصًا وأنَّ أوراق الأشجار كانت قريبة وكثيفة، حتى إنَّها لا بُدَّ أن تُصدر أصواتًا؛ نتيجة الاحتكاك بها. ظلَّا في تقدُّمهما حتى قطعا مسافة طيبة. وقف «أحمد» ينظر حوله. كانت هناك كتلة من النباتات الكثيفة تقع أمام عينيه. فكَّر لحظة ثم اتَّجه إليها. وقف أمامها يُفكِّر من جديد: هل يمكن أن تلفت نظرهم، فيفتشون داخلها؟ … تقدَّم إليها ودخلها. كانت تبدو وكأنَّها قد جُهزت للاختفاء فعلًا … نظر من خلال الأشجار، فاكتشف أنَّه يستطيع أن يراقب كل الاتجاهات جيِّدًا. همس يُنادي «بالم» الذي اندسَّ بسرعة بين النباتات، حيث انضمَّ ﻟ «أحمد». فكَّر «أحمد»: الآن يجب أن أطمئنَّ على بقيَّة الشياطين، خصوصًا هذه المظلَّة التي نزلت فوق الأشجار … أخرج جهاز الإرسال الدقيق، في الوقت الذي كان «بالم» يراقبه.

همس له «أحمد»: لا تشغل نفسك فيما أفعل الآن؛ فسوف تعرف كلَّ شيء فيما بعد … إن عليك أن تُراقب نصف الاتِّجاهات، وأراقب أنا النصف الآخر … تحرَّك «بالم»، حتى أصبح ظهره ملاصقًا لظهر «أحمد»، وأصبح وجودهما هكذا كافيًا لمراقبة كل الاتجاهات.

أسرع «أحمد» بإرسال رسالة موجزة للشياطين. كانت الرسالة: الرسائل بالشفرة؛ فنحن محاصرون … انتظر لحظات، ثم بدأت الرسائل. جاءت رسالة من «باسم»: «عُلِم.» … ورسالة من «عثمان»: «عُلِم.» … كانت الرسائل تدفع الاطمئنان إلى قلب «أحمد». ظلَّ ينتظر أهمَّ رسالة، تلك الرسالة التي يرسلها «خالد»؛ لأنه مسئول عن حماية «بالم ٢»؛ إلا أن رسالة «خالد» لم تصل! أرسل رسالة شفرية إلى الشياطين: «٣ – ٢١ – ١٠ – ٢٨ – ١٠» وقفة «١٨ – ٢٥» وقفة «١ – ٢٣ - ١٦ – ١ – ٢ – ١ – ٢٣ – ٢٦» وقفة «٢٧ – ١ – ٢٣ – ٤ – ٢٢ – ١ – ٢٥» انتهى. انتظر، ثم بدأت الرسائل تصل. كانت أوَّل رسالة من «باسم»: «٣ – ٢٤ – ١ – ٢٤» وقفة «١ – ٢٣ – ٢٥ – ٢١ – ١٦ – ٢٦» وقفة «١٣» وقفة «١ – ٢٣ – ١١ – ١ – ٢٧ – ٢٨ – ٢٦» وقفة «٤٥». انتهى … كان «أحمد» يترجم الرسالة في نفس وقت وصولها؛ كانت الرسالة تقول: «تمام، النقطة «ش»، الزاوية ٤٥.» … ثم جاءت رسالة «عثمان»: «٢٤ – ٦ – ١ – ١٤ – ١٠ – ١ – ٢٥» وقفة «١ – ٢٣ – ٢٥ – ٢١ – ١٦ – ٢٦» وقفة «٢١» وقفة «١ – ٢٣ – ١١ – ١ – ٢٧ – ٢٨ – ٢٩» وقفة «٩٠». انتهى … ظهر التفكير العميق على وجه «أحمد» بعد أن تلقَّى رسالة «عثمان»، التي كانت تقول: «محاصران؛ في النقطة «ق»، الزاوية ٩٠.» … فكَّر قليلًا، وقال في نفسه: إنَّ الكابتن «م» مع «عثمان»، فهل يتفاهم معه جيدًا؟ … بدأ يضع خُطة التحرك للشياطين؛ لإنقاذ «عثمان» وكابتن «م» المُحاصرَين. لكنَّه في نفس الوقت كان يشعر بالقلق؛ فقد كانت رسالة «خالد» لم تصِلْ بعد، لكن فجأةً أعطى جهاز اللاسلكي إشارة! … لكنه في نفس اللحظة لم يستطع الاستمرار في تلقِّي الرسالة؛ فقد دوَّت الطلقات حوله، ممَّا جعل «بالم» يصرخ. إلا أن «أحمد» كان أسرع إليه، فلم تكتمل صرخته. لقد كمَّمَ فمه بسرعة، ثم مدَّ يده، وضغط زرًّا في الجهاز؛ ليستقبل المكالمة ويُسجِّلها …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤