الصراع عند طرف الغابة!

هدأ دكتور «بالم». نظر له «أحمد» نظرة استفهام، فابتسم … مدَّ يده، ورفع يد «أحمد» عن فمه، وهمس قائلًا: لقد أفزعتني المفاجأة؛ إنني أعتذر.

ابتسم «أحمد»، ثم عاد مرَّة أخرى مكانه. ضغط زر الجهاز، ثم أخذ يستمع إلى الرسالة المسجَّلة. كانت الرسالة من «خالد»، تقول: «١ – ١٤ – ٢٨ – ٢» وقفة «٢ – ١ – ٢٣ – ٢٤» وقفة «١ – ١٤ – ١ – ٢ – ٢٦» وقفة «١ – ٦ – ٣ – ١ – ٥» وقفة «١ – ٢٣ – ٢٨» وقفة «٢٤ – ١٨ – ١ – ٢٧ – ٢٥ – ٢٦» وقفة «١ – ٢٣ – ٢٤ – ١ – ٢٥» وقفة «٥». انتهى … ترجم «أحمد» الرسالة بسرعة، ثم عَلَت الدهشة وجهه. فكَّر لحظة: هل ينقل معنى الرسالة إلى «بالم»؟ إنه وحده الذي يستطيع أن يجد حلًّا. لكنَّه لم يفعل ذلك مباشرة؛ فقد بدأ يُفكِّر في الرد على «خالد». تعالت طلقات الرصاص مرَّة أخرى، لكنَّها كانت طلقات من مصدر واحد؛ فالشياطين يعرفون أصوات طلقاتهم. كانت الأمور مُعقَّدة الآن أمامه، لكن الشياطين ينتظرون خُطة التحرك التي يجب أن يتَّفقوا عليها جميعًا. فجأة وصلت رسالة! كانت الرسالة من «عثمان»، تقول: «١ – ٢٣ – ٣ – ٢١ – ١٦ – ٣» وقفة «١٠ – ١٢ – ١ – ٢٣ – ٢٦» وقفة «٧ – ١ – ٢٣ – ٨» وقفة «١٢ – ٢٧ – ٢٠» وقفة «١ – ٢٥ – ١٥ – ٢٤» وقفة «١ – ٢٣ – ٢٨ – ٢٦ – ٢٧ – ٢٤ – ١٨ – ٢٨ – ٢٤». انتهى … فكَّر في رسالة «خالد» التي كان معناها: «أُصيب «بالم» إصابة خطيرة. أحتاج معاونة، المكان «ج».» وكان معنى رسالة «عثمان»: «التقطت رسالة «خالد»؛ سوف أنضم إليه ومعي «م».»

قال في نفسه: إن هذا هو الحلُّ الوحيد. مرَّة أخرى فكر في أن يقول ما حدث لدكتور «بالم» … لكنَّه خشي في نفس الوقت أن يُصاب بالفزع، لكن لم يكن هناك مفر من ذلك. التفت في هدوء، ونظر إلى «بالم» الذي كان يُراقب باهتمام. لمعت في ذهنه فكرةُ أن ينضم هو الآخر ومعه دكتور «بالم» إلى «خالد» و«بالم ٢». انتظر لحظة؛ فقد نظر له دكتور «بالم». همس الدكتور: هل هناك أخبار جديدة من الزُّملاء؟

ابتسم «أحمد»، وقال: سوف ننضمُّ إليهم. فقط عليك بالحذر؛ حتى لا يكتشف وجودنا أحد». بدآ يتحرَّكان من مكانهما. كان «أحمد» يمشي في المقدِّمة، وهو يراقب كل الاتِّجاهات. كان الجو قد بدأ يميل إلى البرودة بتأثير اقتراب الليل؛ فقد كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة مساء. ولهذا، فإن الوقت ملائم تمامًا حتى يضع الشياطين خُطَّتهم، ما لم يحدث شيء. كانت أصوات الطيور قد ازدادت؛ فهي تعود الآن إلى أعشاشها. وكان هذا أيضًا يخدم الشياطين في حركتهم؛ لأن أصوات الطيور تُخفي ما يمكن أن يصدر من أصواتهم عند الحركة. استمرَّ «أحمد» وهو يرقب البوصلة الصغيرة التي يحملها؛ حتى لا يتوه عن الاتِّجاه. فجأة، مدَّ يده وأمسك بذراع «بالم» الذي أفزعته هذه الحركة. نظر إلى «أحمد» في تساؤل.

فضغط «أحمد» على ذراعه وهمس: أنْصِت؛ إنهم يتحدثون.

أنصتَ «بالم» في اهتمام. كانت هناك أصوات بعض الرجال، لكنها لم تكن واضحةً تمامًا. فكَّر «أحمد»: إنَّ هذا يعني أنهم قريبون منا، وإن كانت المسافة لا تكفي لأن نسمعهم بوضوح. في نفس الوقت، إن أصوات الطيور تُؤثِّر أيضًا! …

ظلَّا يستمعان دون أن يتحرَّك أحدهما؛ أخذت الأصوات تقترب. استطاع «أحمد» أن يُفسِّر بعض الكلمات؛ كان أحدهم يقول: «براش»، ينبغي أن نتحرك بحذر؛ فالظلام سوف يفيدهم كثيرًا!

ردَّ الآخر: نعم يا «بوش»، بل إنَّني أفكِّر أن نُقسم أنفسنا إلى أربع مجموعات، تتركَّز كل مجموعة في مكان حتى الصباح. ولا تنسَ أن فرقة الكلاب سوف تصل. وهذه سوف تفيدنا كثيرًا في بحثنا، خصوصًا في الليل.

كان صوت «بوش» يبدو هادئًا، في نفس الوقت الذي يُميز فيه صوت «براش» الخشونة والتوتر. كانت هذه المعلومات مفيدة تمامًا، حتى إنَّ «أحمد» تحرَّك في اتجاههم؛ فهو يريد مزيدًا من التفاصيل، خصوصًا عن فرقة الكلاب؛ لأنَّها سوف تكون مصدر الإزعاج الحقيقي. همس دكتور «بالم»: هل سمعت حكاية فرقة الكلاب؟ … لم يردَّ «أحمد» مباشرة؛ فقد كان يريد أن يعرف كيف يُفكِّر الدكتور. قال بعد لحظة: نعم، وماذا في ذلك؟! …

قال «بالم» بخوف: إن الكلاب سوف تكشف مكاننا بسرعة.

ابتسم «أحمد»، وقال: هل تثق بي؟ أسرع «بالم» يعتذر، وهو يقول: إنني فقط كنت ألفِت نظرك. … قال «أحمد» يُطمئن «بالم»: إنَّنا نعرف كيف نتعامل مع الكلاب … كتم «بالم» ضحكةً كادت تُفلت منه، فقد أعجبه تعبير «أحمد»؛ فهو لا يقصد الكلاب الحقيقية فقط، ولكنه يقصد أيضًا أفراد العصابة. اقتربت الأصوات أكثر، واستمع «أحمد»: هل انتهيت إلى قرار؟ … كان المتحدث هو «براش» … فأجابه «بوش»: نعم. سوف تكون أنت على رأس مجموعة تتركَّز عند الضلع الشمالي للغابة. وسوف يقود «جوردان» مجموعته في الجنوب … و«بيللي» في الغرب، وسوف أقود أنا مجموعة الشرق.

سأل «براش» مرة أخرى: متى يتم ذلك؟ … قال «بوش»: عندما نصل إلى المعسكر فورًا.

فهم «أحمد» أن العصابة قد أعدَّت كل شيء، وأنها كانت تنتظر نزول طائرة الشياطين، في نفس الوقت الذي وضعت فيه احتمال قيام صراع تكون الغابة طرفًا فيه. فكَّر: إن من المهم الآن أن نعرف أين يقع معسكرهم. إن ذلك يفيدنا كثيرًا، لكنه تذكر في نفس الوقت أن إصابة «بالم ٢» قد تتسبَّب في تعطيلهم، بل إنَّها يمكن أن تشلَّ حركتهم. إن «بالم ٢» يُمثِّل نفس أهمية دكتور «بالم». فكَّر: هل يوجد دكتور «بالم» إلى حيث يوجد «خالد»، أم أنه يمكن أن يقع في خطأ قاتل، فتفشل المغامرة؟ … فجأة، وصلت رسالة … تلقَّى الرسالة بسرعة؛ كانت رسالة شفرية خاصَّة؛ فهي لا تتحدَّث بلغة شفرة الشياطين؛ ولذلك فقد عرف أنَّها رسالة من رقم «صفر»: «ماذا حدث؟ لقد وقعتِ الطائرة في أيدي رجال العصابة في «إيطاليا»؟! تقارير العملاء تقول أخباركم بإيجاز. مجموعة أخرى من الشياطين طارت إلى هناك! …

كانت الرسالة صدمة ﻟ «أحمد»؛ فهو يعرف خطورة سقوط طائرة الشياطين في أيدي رجال العصابة؛ فهي واحدة من الطائرات المجهَّزة تجهيزًا خاصًّا، بجوار أن طاقم الطائرة يُمكن أن يبوح بأي سر من أسرار المقر السري أو الشياطين … في نفس الوقت، بدأ يُعِد رسالة موجزة عما حدث، ثم أرسل رسالة إلى رقم «صفر» بنفس الشفرة الخاصة، التي لا يعرفها سوى «أحمد» ورقم «صفر» فقط. لم يكن قد تحرَّك من مكانه، ولم يكن قد اتَّخذ قرارًا أخيرًا؛ بأن يستمر خلف رجال العصابة، أو يتجه إلى حيث يوجد «خالد». فكَّر لحظة، ثم قال في نفسه: يجب أن أستمر. في نفس الوقت، يجب أن ينضم «باسم» و«إلهام» إلى بقيَّة الشياطين. جاءه ردُّ رقم «صفر»: أهنئكم على نجاح مغامرة «رجل المستقبل»؛ في انتظار نجاح مغامرتكم الجديدة. كانت رسالة رقم «صفر» تُمثِّل نوعًا من الراحة ﻟ «أحمد» بهذه التهنئة. أمَّا الرسالة الأولى فقد أحزنته كثيرًا، وإن كانت تُمثِّل دافعًا قويًّا، حتى ينتهي من هذه المغامرة؛ لينضمَّ إلى الشياطين في «إيطاليا»؛ فهي مغامرة خطِرة! أرسل رسالة إلى «باسم» يطلب منه الانضمام هو و«إلهام» إلى «خالد». في نفس الوقت، أخبره عن مُهمَّته التي يقوم بها، ومعه دكتور «بالم». تقدَّما في حذر؛ كانت الأضواء قد ابتعدت قليلًا، لكنَّه كان يتبيَّنها بما يكفي لأن يظلَّ خلفها؛ فهي المرشد الوحيد ليصل إلى هناك. بدأ الظلام ينتشر، حتى إنَّ «بالم» همس: ها هو الليل يُخفينا عن أعينهم! …

ابتسم «أحمد»، وقال: ويُخفيهم أيضًا! …

بدأت أضواء بعيدة جدًّا تظهر. فَهم «أحمد» أنهما يقتربان من نهاية الغابة، وأن هذه أضواء بيوت الفلاحين في الريف الفرنسي. توقَّف قليلًا؛ فقد اختفت الأصوات. قال في نفسه: هل وصلوا؟ … لكنه سمع أصوات الأغصان وهي تحتكُّ ببعضها. جذب «بالم» إليه، وأنصتَ جيدًا. كانت أصوات الأغصان تقترب أكثر، وتبيَّن تبعًا لذلك أصوات أقدام تقترب، وتدوس على الأغصان الجافة التي تُغطي أرض الغابة. كتم أنفاسه وهو يستعد؛ فقد يدخل معركة في أية لحظة. في نفس الوقت، كان يُفكِّر في «بالم» الذي لا يستطيع أن يشتبك هذه الاشتباكات العنيفة. وضع يده في جيبه، وأمسك بمُسدَّسه. فكَّر أن يُعطيه ﻟ «بالم»، لكنه تراجع، فقد يفقد «بالم» أعصابه، ويُطلق رصاصةً تحت تأثير الخوف فيكشف مكانهما. اقترب صوت الأقدام أكثر. حرص على ألا يَصدر عنهما أي صوت. فجأةً سمع صوتًا خشِنًا يقول: كان يكفي أن يُرسل التعليمات، بدلًا من هذا الاجتماع! مرت ثلاث دقائق، ثم ظهرت عدَّة أشباح؛ استطاع أن يُحددها بأربعة. لم يكن يظهر سوى شكلهم العام، عبارة عن كُتَل سوداء تتحرَّك. مرَّت الأقدام بجواره هو و«بالم» الذي كان يشعر بالخوف. ابتعدت الأقدام قليلًا، إلا أن «بالم» تحرَّك من مكانه؛ فقد أتعبه الوقوف في مكان واحد فترة طويلة. أحدث تحركه صوتًا، جعل الرجال الأربعة يتوقفون. قال صوت رفيع: هناك أحد؟ … كان «أحمد» قد أمسك بالدكتور «بالم» في قوة؛ حتى لا يتحرَّك مرة أخرى، إلا أن الدكتور بدأ يرتجف بتأثير الخوف. وكان ارتجافه يتسبَّبُ في صدور أصوات جعلت الرجال يتساءلون: إن هناك شيئًا يهتزُّ … رد واحد: ربما تكون أحد حيوانات الغابة؛ فأر، أو ثعلب مثلًا.

صمتَ كل شيء … عرف «أحمد» أنَّهم يتسمَّعون. ولم يكن أمامه إلا أن يحمل «بالم»؛ حتَّى لا يهتزَّ. ظل هكذا فترة، ثم بدأ يشعر بالتعب. كان «بالم» قد هدأ قليلًا، فأنزله في هدوء. فجأة، جاء صوت خشن: لا بُدَّ أن نرى مصدر هذا الصوت الذي توقَّف؛ من يدري؟! بدأت أقدامهم تتحرَّك مقتربة من مكان «أحمد» و«د. بالم». فكَّر «أحمد» بسرعة: هل يشتبك معهم؟ إنهم أربعة. وهذا يعني أن المعركة قد تكون غير متكافئة، ويمكن أن يشتبك مع اثنين أو ثلاثة، ويتفرَّغ أحدهم ﻟ «بالم» … اقتربت الأقدام أكثر … وكان لا بُدَّ أن يتخذ قرارًا. بسرعة أخرج مُسدَّسه، وثبَّت فيه إبرة مُخدِّرة. وعندما اقترب أوَّل الرجال تمامًا، حدَّدَ مكانه، ثم أطلق الإبرة. نظر له «بالم» في دهشة؛ فهو لم يسمع صوت طلقة الرصاص، لكن سمع صوت ارتطام جسم بالأرض. كاد ينطق، إلا أن «أحمد» كان أسرع منه؛ فقد وضع يده على فمه. فَهِمَ «بالم» أن «أحمد» لا يُريد منه أن يتحدَّث. أعقب صوت سقوط أحدهم كلام كثير: ماذا حدث؟ … لماذا وقع «بيللي»؟ ثم بعد لحظة سمع: «بيللي» … ماذا حدث؟ هل أُصبتَ بشيء؟ … لكنَّ «بيللي» لم يردَّ؛ فقد أفقدته الإبرة المُخدِّرة وعيه تمامًا! كان «أحمد» يُفكر: إن «بالم» يحتاج إلى مزيد من الثقة في الشياطين؛ ولذلك فلا بُدَّ أن يرى معركة سريعة … نظر إلى الدكتور، ثمَّ همس في أذنه: لا تتحرَّك من مكانك؛ فقط راقبني جيِّدًا.

تقدَّم عدَّة خطوات في حذر شديد. كان الرجال الثلاثة مُلتفِّين حول «بيللي» الراقد؛ قال في نفسه: إن ضربة واحدة يمكن أن تُطيح بهم! … لكنَّه لم يُنفذ ذلك. فقد أخرج حقنة أخرى، ثبَّتها في فُوهة مُسدَّسه، ثم أطلقها فسقط الآخر. في نفس اللحظة، وقبل أن يُعطي الباقين فرصة، كان يطير في الهواء، وهو يُوجِّه ضربة لكل منهما. كانت الضربة قوية، فسقط الاثنان على الأرض. وفي لمْح البصر، تابع أوَّلهما، الذي اعتدل بسرعة، فوجَّه إليه ضربة قوية جعلته يصرخ. كان الآخر قد أخرج مُسدَّسه، وصوَّبه في اتِّجاه «أحمد»، الذي كان أسرع منه؛ فقد ارتمى على الأرض، فطاشت الطلقة، في نفس الوقت الذي كان «أحمد» قد أطلق رصاصة أصابت يدَ الرجل، فسقط المُسدَّس على الأرض. ولم يكن ذلك كافيًا؛ فقد أسرع إليه ليضربه، فسقط بلا حراك. كان الآخر يحاول الوقوف، إلا أن «أحمد» لم يُعطِه فرصةً؛ فقد قفز في الهواء، وهو يضربه ضربة جعلت الرجل يدور في الهواء، ثم يسقط على الأرض. همس بسرعة: دكتور «بالم»، تقدَّم.

إلا أن «بالم» لم يظهر. فكَّر «أحمد» بأنَّ «بالم» يخشى أن يتقدَّم. فأسرع يجرُّ الرجال الواحد بعد الآخر، بعد أن يشُدَّ وَثاقه، ثم جمعهم في مكان واحد. وعندما انتهى، وقف ينظر حواليه يُراقب المكان جيِّدًا. خَطَا بسرعة في اتِّجاه دكتور «بالم». لكن المفاجأة جعلته يكاد يصرخ؛ فلم يكن «بالم» موجودًا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤