النتائج العامة للبحث

وهكذا؛ يمكن القول إن أهم ثمار أو منجزات هذه الدراسة، إنما تتلخص في الاكتشافات التالية:

إن ما قيل عن تناقُض أو تضارب العقلية المصرية مع ذاتها، إنما هو قول يُجافي الحقيقة، ولربما كان صادرًا عن سوء فَهم وتقييم، أو هو تكاسُل عن بذل العطاء الكافي من الجهد اللازم، للتحقق من قيمة ما أنتجَته هذه العقلية، ومن ثَم الحكم عليها حكمًا أقربَ إلى السلامة والصحة.

وقد أدى تطبيقُ المنهج الاجتماعي التاريخي التطوري إلى بُطلان المزاعم القائلة بالتضارب في منتَجات العقل المصري القديم وإبداعاته، خاصة بعد ما تكشف لنا — بتطبيق هذا المنهج — من أن الديانة المصرية وفلسفتَها الميتافيزيقية، كانت أسبقَ من الفلسفة اليونانية في اكتشاف أهم المنجَزات التي اعتُبر اليونان بسببها أولَ المتفلسِفين، فوضعَت أهم الأسس لأكبر نظريتَين في الوجود؛ «نظرية الفيض، ونظرية الخلق بالكلمة»، وهما النظريَّتان اللتان ظلَّتا تتَنازعان عقول الفلاسفة في مشكلة الوجود، طوال عمر الفلسفة الميتافيزيقية، من بدايتها القديمة، وحتى مُنتهاها في الفلسفات الحديثة، بل وفي المعاصِرة كما يتمثل في الفلسفة المثالية الألمانية.

كما تكشَّف لنا أن تاريخ مصر القديمةِ لم يكن صنعةً ملَكية بقدر ما كان صنعة شعبية في المقام الأول، فقد ثبَت أن أهم دعائم الديانة المصرية القديمة كانت عقيدةَ الخلود، التي ارتبطَت في بداية عهدها بالسلطان الملكي، وأدَّت إلى قهر الشعب واستعبادِه، فكان أن أدَّت إلى قيام أول ثورة أيديولوجية في التاريخ ضد الملكية والإقطاع معًا، بل وضد الدين الرسمي أيضًا، على اعتبار أنه كان يُعبِّر فقط عن مصالح الطبَقة الحاكمة وحدها. وقد أدَّت هذه الثورة بالعقول الشعبية إلى البحث عن الخلاص الماديِّ والروحي حتى وجدَتْه في الإله أوزير؛ الذي ثبت لنا أنه كان إبداعًا شعبيًّا خالصًا، حقَّق الشعبُ تحت رايته أهمَّ انتصاراته التي بلغَت حدًّا دخل معه الشعب إلى العالم الخالد، بعد أن كان هذا العالم قاصرًا على الملوك فقط، وتحت رايته استطاع الشعب القضاء على النظام الأوتوقراطي الذي ظل سائدًا لخمسة قرون متواصلة، وتحت رايته قضَت الجماهيرُ الثائرة على الأرستقراطية الدينية، بعد أن فتح أوزير أبوابه للجميع دون تفرقة، بل وخص الطبقة الفقيرة بشكل خاص بكل عنايته قبل أية طبقة أخرى، مما يجعلنا نقول: إن عصر الثورة المصرية في نهاية الدولة القديمة، كان بلا جدال عصرَ سيادة البروليتاريا، إذا جاز التعبير.

وكانت نتيجة كل هذه الأحداث، أنْ تصاعد أوزير الإله الشعبي حتى أصبح هو ربَّ الخلود، وسارت عقيدة الخلود في ظله بخطوات تطورية حثيثة، حتى انتهت إلى القول بيوم بعث وحساب، وفقَ مقاييسَ خلقية رفيعة، كانت الأولى مِن نوعها في التاريخ، قبل أن يَكتشف اليونان ذلك في المبحث الفلسفي المسمَّى بعلم الأخلاق أو الإثيكس.

كما أدَّى هنا التطورُ إلى ظهور عدة عقائدَ ارتبطَت بأوزير إله الخلود، كان أهمها:
  • عقيدة القيام من الموت.

  • عقيدة المخلِّص.

  • عقيدة الفداء.

  • عقيدة رَجعة الإله من السماء.

ورافق هذه العقائدَ طقوسٌ دينية، كانت ضرورةً لازمة للخلود؛ أهمها:
  • التعميد.

  • الحج إلى بيت الله، والطواف به سبعًا.

  • احتفالات عيد القيامة المجيد.

وفي النهاية استطاعت عقيدة الخلود المصرية مع طقوسها وعقائدها الفرعية أن تَخرج من مصر في ظل الإمبراطورية الرومانية، لِتَسود حوض المتوسط، بعد أن تحوَّل أوزير إلى سيرابيس؛ لتسود على العقل البشريِّ حتى انتهاء القرون الخمس الأولى لظهور الديانة المسيحية.

انتهى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤