المدن القريبة من شاطبة

ومن أقرب المدن إلى شاطبة مدينة «أوليبة Oliva»، وسكانها اليوم ثمانية آلاف، يحف بها شجر التوت والزيتون، ثم بلدة يقال لها «مولينل Molinell»، وفي نواحيها كروم كثيرة، يصدر منها موسم زبيب معروف بالزبيب البلنسي، ثم بلدة يقال لها «فرجل Vergel»، وبلدة يقال لها: «أُنداره Ondara»، وهذه البلدة الأخيرة (أندارة) سبق ذكرها، وقلنا: إنه ينسب إليها رجال من أهل العلم في زمن العرب، منهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك المعافري، ذكره ابن الأبار في التكملة، يعرف بابن الأنداري

دانية DENIA

ثم مدينة «دانية»١ والسكة الحديدية من بلنسية إلى دانية تشق بساتين قرقاجنت Carcagente، ثم يدخل في وادي فالدينية Valldigna، ويمر بطبرنة وأندة وأوليبه، حتى ينتهي إلى دانية، وهذه البلدة قد سقطت اليوم عما كانت عليه في زمن العرب؛ فجميع سكانها بحسب قول دليل بديكر ١٢٤٠٠ نسمة، وقد ورد في الدليل المذكور أنها بلغت في زمان العرب أَوْجَ عظمتها؛ فكان فيها سنة ٧١٥ الموافقة سنة ١٢٥٣ نحو من خمسين ألف نسمة، ومنظرها بديع، ومسارح لمحاتها تبهج الناظر، ولها رابية مشرفة على البحر يعلوها حصن تداعى الآن إلى الخراب. والبلدة مبنية إلى الجهة الجنوبية الشرقية من هذه الرابية، وقد زرت هذه البلدة في سنة ١٩٣٠ أثناء سياحتي في الأندلس، وبت فيها ليلةً واحدة، وتذكرت أيام العرب الخالية في جملة ما تذكرته في هذه السياحة.

والإسبانيون يلفظون دانية بالإمالة، كما ذكرنا في الجزء الأول من هذا الكتاب، وقد نقلوا هذه الإمالة عن العرب الذين كانوا في الأندلس كلها يميلون الألف فيقولون للباب: بيب، ويقولون: «خمس ميِّهْ» لا خمسمائة، ويقولون: «كل سني» بدلًا من «كل سنة»، وإذا قال الواحد منهم: «والدنا» كسر الواو وأسكن اللام؛ فتسمعه كأنه يقول: «ولِّدنا»، ويقولون: «الإمام الأوزيعي» بدلًا من «الإمام الأوزاعي»، ويلفظون «الحكِم» بكسر الكاف، و«فرقِد» بكسر القاف، ويقولون: «كتيب» بدلًا من «كتاب»، وهلم جرًّا مما لا يحصى.

وكان الرومانيون يقولون لدانية: «دانيوم» Danium، وهي في الأصل مدينة أيبيرية استعمرها اليونانيون أيام ما كانوا بمرسيلية، وكان بحذاء الحصن الذي في دانية هيكل منسوب إلى «ديانا Diana»، ووراء دانية جبال ذات ارتفاع لها مناظر بهيجة أشهرها جبل مونغو Mongo، وعلوه ٧٦١ مترًا، وفي رأس هذا الجبل آثار من وقت وجود الفرنسيس في إسبانيا في أوائل القرن الماضي؛ لأن العالمين الإفرنسيين بيوت Biot وأراغو Arago قاسا من هذه القمة سنة ١٨٠٦ خط نصف النهار الباريزي.
وبالقرب من دانية رأس في البحر يقال له رأس «سان أنطونيو»، وعلى مسافة خمسة كيلومترات إلى غربي دانية قرية يقال لها «جابية Javia»، وفي نواحيها كثير من الكروم، ويخرج منها موسم زبيب عظيم، ودانية اليوم مركز تجارة للزبيب الفاخر يصدرون منه كثيرًا إلى إنكلترة.

جاء ذكر دانية في معجم البلدان؛ قال: دانية — بعد الألف نون مكسورة بعدها ياء مثناة من تحت مفتوحة — مدينة بالأندلس من أعمال بلنسية، على ضفة البحر شرقًا، مرساها عجيب يسمى السُّمان، ولها رساتيق واسعة كثيرة التين والعنب واللوز. وكانت قاعدة ملك أبي الحسن مجاهد العامري، وأهلها أقرأ أهل الأندلس؛ لأن مجاهدًا كان يستجلب القراء ويفضل عليهم وينفق عليهم الأموال؛ فكانوا يقصدونه ويقيمون عنده؛ فكثروا في بلاده، ومنها شيخ القراء أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني — صاحب التصانيف في القراءات والقرآن. ا.ﻫ.

وجاء في النفح: وأما شرق الأندلس ففيه من القواعد مرسية وبلنسية ودانية والسهلة والثغر الأعلى. فمن أعمال مرسية أوريولة والقنت ولورقة وغير ذلك، ومن أعمال بلنسية شاطبة التي يضرب بحسنها المثل، ويعمل بها الورق الذي لا نظير له، وجزيرة شقر، وغير ذلك. وأما دانية فهي شهيرة ولها أعمال. وأما السهلة فإنها متوسطة بين بلنسية وسرقسطة؛ ولذا عدَّها بعضهم من كور الثغر الأعلى، ولها مدن وحصون … إلخ. وقد تقدم نقل ذلك عن نفح الطيب.

وجاء في صبح الأعشى ذكر دانية، قال: هي من شرق الأندلس، وموقعها في أوائل الإقليم الخامس من الأقاليم السبعة، قال ابن سعيد: حيث الطول تسع عشرة درجة وعشر دقائق، والعرض تسع وثلاثون درجة وست دقائق، وهي غربي بلنسية على البحر عظيمة القدر كثيرة الخيرات، ولها عدة حصون، وقد صارت الآن من مضافات برشلونة مع بلنسية. ا.ﻫ.

وقال الشريف الإدريسي في نزهة المشتاق: ومدينة دانية على البحر عامرة حسنة لها ربض عامر، وعليها سورٌ حصين، وسورها من ناحية المشرق في داخل البحر قد بُني بهندسةٍ وحكمة، ولها قصبة منيعة جدًّا، وهي على عمارة متصلة وشجرات تين كثيرة وكروم. وهي مدينة تسافر إليها السفن وبها ينشأ أكثرها؛ لأنها دار إنشاء السفن ومنها تخرج السفن إلى أقصى المشرق، ومنها يخرج الأسطول للغزو. وفي الجنوب منها جبل عظيم مستدير يظهر من أعلاه جبال «يابسة» في البحر، ويسمَّى هذا الجبل «جبل قاعون». ا.ﻫ. يريد بيابسة جزيرة يابسة التي أعلى قمة في جبالها تعلو ٤٧٥ مترًا.

وجاء في الانسيكلوبيدية الإسلامية بقلم المستشرق سيبولد Seybold: دانية مركز كورة من الشمال الشرقي من مقاطعة القنت، وهي المقاطعة الجنوبية من المقاطعات الثلاث التي كانت تتشكل منها مملكة بلنسية، وهذه المقاطعات هي: قشتلون وبلنسية والقنت. فدانية التي عدد أهلها اليوم ١٤٠٠٠ واقعة على الطرف الجنوبي الشرقي من خليج بلنسية، وإلى الشمال من جبل مونغو الذي كان العرب يقولون له جبل قاعون، وهو جبل ارتفاعه ٧١٢ مترًا، وإلى الشمال الغربي من رأس سان أنطونيو مرسى دانية، وهو مرسًى جيد، والمدينة هي من بناء اليونان الفوسيين الذين كانوا في مرسيلية وأمبورية، بنوها في القرن السادس قبل المسيح، وكان مبنيًّا على الأكمة المشرفة على دانية هيكل يقال له: «أرتَميز»، وفي زمن الرومان قيل له: ديانيوم؛ أي مدينة ديانا، ثم جاء العرب فقالوا: دانية، ولفظوها بالإمالة، والإسبانيون يقولون لها دينية Dinia.
وكانت دانية في القديم حليفة للرومانيين، ولكن القرطاجنيين لم يتعرَّضوا لها، وانتصر «كاتون» فيها على الإسبانيول قبل سنة ١٩٥، كما أن «سرتوريوس» — منقذ إسبانية — وجد فيها معقلًا حصينًا، وكانت في زمن الرومان إلى جانب بومبي Pompié، فانتقم منها قيصر، ومع هذا فقد كانت في أيام الرومانيين زاهرة كما يستدل على ذلك من آثارها الحفرية، ولكن لم تبلغ في وقت من الأوقات ما بلغته من العظمة في أيام العرب؛ إذ كان فيها خمسون ألف نسمة. ولا يعلم كيف كانت دانية في أيام القوط.

وكان لدانية شأن في زمن عبد الرحمن الأول الأموي، ولكن تعاظم شأنها في أيام ملوك الطوائف بعد سقوط الخلافة سنة ١٠١٣؛ إذ جاءها مجاهد العامري مولى عبد الرحمن بن المنصور، وهو أبو الجيش مجاهد الموفق الذي استولى عليها سنة ١٠١٥ إلى سنة ١٠٣٠ وعلى جزر الباليار، وأراد أن يستولي على سردانية، ثم خلفه ابنه عليٌّ إقبال الدولة، فملكها من سنة ١٠٤٤ إلى سنة ١٠٧٦، ولم يزل فيها إلى أن انتزعها من يده المقتدر بن هود — ملك سرقسطة — فبقيت إلى سنة ١٠٨١ تابعة لسرقسطة.

ثم عندما تقاسم أولاد المقتدر بن هود مملكة أبيهم خرجت دانية مع لاردة وطرطوشة في حصة المنذر من أولاد المقتدر، فبقيت تحت طاعته إلى سنة ١٠٩٠، ثم وليها سليمان سيد الدولة تحت وصاية بني بتير إلى سنة ١٠٩٢، ثم تعاقبت عليها الولاة من قبل المرابطين والموحدين، وكانت تقع فيها ثورات غير قليلة، وسنة ١٢٤٤ استرجعها الإسبانيون من المسلمين على يد القائد الألماني كرُّوس Carroz، الذي كان أمير جيش جاك الأول ملك أراغون. وسنة ١٣٣٦ جعلها بطرس الرابع كونتية، كما أنه في زمن فرديناند وإيزابلا صارت مركيزية.٢

ثم إنهم في سنة ١٦١٠ طردوا منها المسلمين الذين كانوا هناك، من أهل العمل والصناعة، فسقطت دانية عن مكانتها بذهابهم، وكان ذلك في زمن فيليب الثالث — ملك إسبانية — وفي حرب الوراثة الإسبانية ظهر لها شأن وحاصرها فيليب الخامس ثلاث مرات، وأخذها سنة ١٧٠٨، ثم إن الفرنسيس استولوا عليها سنة ١٨١٢. انتهى ملخصًا. وقد ذكر سيبولد أن أشهر عالم عربي خرج من دانية هو المفسِّر الكبير أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني.

وجاء في كتاب «البيان المُغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب» لأبي العباس بن عذارى المراكشي في الجزء الثالث من هذا الكتاب المطبوع على يد المستشرق لافي بروفنسال أن مجاهدًا العامري المنتزي على مدينة دانية والجزائر الشرقية كان من فحول فتيان بني عامر، قدَّمه المنصور بن أبي عامر عليها، وكان عند وقوع الفتنة بقرطبة مقدمًا على هذه الجزائر الثلاث، فلما صح عنده وقوعها خرج إلى دانية وضبطها وجميع أعمالها المنضافة إليها وتسمَّى بالموفق بالله، وكتب بهذا اللقب عن نفسه، وكُتب له به، وكان ذا نباهة ورئاسة، زاد على نظرائه من ملوك طوائف الأندلس بالأنباء البديعة، منها العلم والمعرفة والأدب، وكان مع ذلك من أهل الشجاعة والتدبير والسياسة، قصد هذه الجزائر ميورقة ومنورقة ويابسة؛ فانتزى على جميعها لنفسه، وتغلَّب عليها وحماها، وغزا منها جزيرة سردانية، فغلب على كثيرٍ منها. وكان مجاهد هذا من أهل العفاف والعلم فقصده العلماء والفقهاء من المشرق والمغرب، وألَّفوا له تواليف مفيدة في سائر العلوم فأجزل صلاتهم على ذلك بآلاف الدنانير، ومضى على ذلك طول عمره إلى أن حانت وفاته بعد أن ملكها ستًّا وثلاثين سنة، جرَّها في أمرٍ ونهي.

قال حيَّان بن خلف:

كان مجاهد فتى أمراء دهره، وأديب ملوك عصره؛ لمشاركته في علوم اللسان ونفوذه في علوم القرآن، عني بذلك من صباه إلى حين اكتهاله، ولم يشغله عن ذلك عظيم ما مارسه من الحروب برًّا وبحرًا حتى صار في المعرفة نسيج وحده، وجمع من دفاتر العلوم خزائن جمة، فكانت دولته أكثر الدول خاصة وأسراها صحابة، على أنه كان مع علمه أشد الناس في الشعر وأحرمهم لأهله وأنكدهم على نشيده، لا يزال يتعقبه كلمة كلمة كاشفًا لما زاغ فيه من لفظة أو سرقة، فلا تسلم على نقده قافية، ثم لا يفوز المتخلص من مضماره على الجهد لديه بطائل ولا يحظى له بنائل، فأقصر الشعراء عن مدحه، وخلَّى الشاكرون ذكره، ولم يكن في الجود والكرم ينهمك فيُعزى إليه، ولا قصَّر عنه فيوصف بضده، أعطى وحرم، وجاد وبخل، فكأنه نجا من عهدة الذم، ثم أكثر التخليط في أمره؛ فطورًا كان ناسكًا، وتارة يعود خليعًا فاتكًا، لا يساتر بلهو ولا لذة ولا يستفيق من شراب وبطالة. ا.ﻫ.

وقال في ولده علي بن مجاهد المسمَّى إقبال الدولة:

كان على هذا أسره الروم في صباه حين وقعتهم على أبيه بجزيرة سردانية، ومكث عندهم سنين كثيرة، وقصته مذكورة مشهورة عند الروم الذين نشأ بينهم، وقد كان أبوه قبل فدائه من الأسر رشَّح للإمارة بعده ولده الأصغر حسن الملقَّب بسعد الدولة وصرَّف الأمر بعده لعلي هذا الطليق؛ فأورثهما العداوة بينهما، فلما فداه أبوه قلَّده الأمر بعده، فمضى أبو الجيش والدهما لسبيله وقد وطَّد الأمر لعلي هذا دون أخيه؛ فخيَّر علي هذا أخاه أن يصرف له الأمر ويتخلَّى له عن الملك فلم يجسر على إظهار ما في نفسه، ولم ينصرم الحول حتى أحدث على أخيه ما نذكره.

وذلك أنه صار إلى المعتضد بن عبَّاد وكان زوج أخته؛ فشكا إليه بثَّه، ودبَّر معه أمره، وقد وقع في نفسه الفتك بأخيه علي، فوجَّه المعتضد معه إلى مدينة دانية غلامًا من غلمانه شجاعًا، وجاء حسن معه على وجه الزيارة لأخيه، فدبَّر معه الرأي في غدر أخيه وزير أبيه في أي وقت ويوم يكون، فكان اتفاقهم على حين خروجه من صلاة الجمعة، وكانت عادته إذا خرج سار إلى ساحل البحر، فيقف عليه ساعة ثم ينصرف. وكان إذا ركب يكون حسن أخوه وراءه، فلما انصرف أخذ في زقاق ضيق، فعندما دخل فيه غمز غلام ابن عَبَّاد لحسن بن مجاهد أن يجرد السكين ويضرب به أخاه؛ فجرده وضربه ضربةً دهش فلم يصنع بها شيئًا، ثم ثنى عليه بضربةٍ أخرى فلقيه أخوه بيده اليسرى، وأراد الغلام أن يطعنه بالرمح الذي كان بيده فحاول تقليبه إليه؛ فنشب في الحائط لضيق الزقاق، وندَر بعض فتيان علي بن مجاهد فقتلوا الغلام، وفر حسن هذا على وجهه راكضًا فرسه، ووقعت هوشة في الناس ودهشة ولم يعرفوا خبر الكائنة.

وخرج حسن فارًّا من باب المدينة يقول: غُدرنا يا مسلمين، إلى أن وصل بلنسية وبها زوج أخته عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي عامر وقد خاب أمه، وحمل علي بن مجاهد إلى قصره على حاله؛ فأقام بقية يومه مطرحًا لا يتكلم إلى غد ذلك اليوم، ثم عانى نفسه حتى رجعت قوته. وخرج ذلك الغادر من مدينة بلنسية إلى صهره المعتضد بن عبَّاد فلم يمكنه من أمنيته، وشاعت قصته في بلاد الأندلس، فلم تكن له منزلة عند الناس، ثم رجع إلى بلنسية فكان في كنف أخته إلى أن فارق الدنيا، وبقي أخوه في بلاده، وتقدم في معاقدة قواده، واستوى على سرير ملكه، فلم يختلف عليه أحد من أهل عسكره، وتصرَّفت في إمارته أمور كثيرة يطول شرحها إلى أن أخرجه ابن هود منها. ا.ﻫ.

ثم ذكر ابن عذارى في محلٍّ آخر أحمد بن سليمان بن هود المسمَّى بالمقتدر بالله، فقال إنه أُحرج إقبال الدولة علي بن مجاهد من دانية بعد أن حاصره بها حتى بادر إليه بإرساله في أن يسلمه في نفسه وأهله وولده ويسلِّم إليه ملكه، وينزل له عن قصره بفرشه؛ فقبل منه ابن هود، وأمر برفع القتال عنه، فكان خروج ابن مجاهد من دانية في سنة ثمانٍ وستين «وأربعمائة»، وأقطع له فيها إقطاعًا لمؤنة عيشه فكان آخر العهد به.

قال الورَّاق: وقد كان علي بن مجاهد هذا وجَّه بمركب كبير مملوء طعامًا إلى بلاد مصر سنة الجوع العظيم الذي كان بها، وذلك في عام سبعة وأربعين وأربعمائة؛ فرجع إليه المركب مملوءًا ياقوتًا وجوهرًا وذهبًا، فكان ذلك كله عند ابن مجاهد المذكور في خزائنه، فلما استولى ابن هود على دانية ظفر به. وبايع أهل دانية ابن هود خاصتهم وعامتهم، فاتسع عمله وزادت مملكته، وأقام في دانية ريثما نظر في أمرها، وأتقن ما رأى إتقانه منها، ورحل منها إلى حضرة سرقسطة وفي عسكره علي بن مجاهد في زيٍّ خشن. ا.ﻫ. ببعض تصرف.

وذكر أحمد بن يحيى الضبي في كتابه بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس مجاهد بن عبد الله العامري أبا الجيش الموفَّق — مولى عبد الرحمن الناصر بن المنصور محمد بن أبي عامر — أنه كان من أهل الأدب والشجاعة والمحبة للعلوم وأهلها، نشأ بقرطبة، وكانت له همة وجلادة وجرأة، فلما جاءت أيام الفتنة، وتغلَّبت العساكر على النواحي بذهاب دولة ابن أبي عامر قصد هو في من تبعه الجزائر التي في شرق الأندلس، وهي جزائر خصب وسعة فغلب عليها وحماها. ثم قصد منها في المراكب إلى سردانية جزيرة من جزائر الروم كبيرة في سنة ست أو سبع وأربعمائة، فغلب على أكثرها وافتتح معاقلها، ثم اختلفت عليه أهواء الجند، وجاءت أمداد الروم، وقد عزم على الخروج منها طمعًا في تفرق من يشغِّب عليه، فعاجلته الروم وغلبت على أكثر مراكبه. فأخبرني أبو الحسن نجبة بن يحيى قال: أنبأنا شريح بن محمد عن أبي محمد بن حزم قال: أخبرنا أبو الفتوح ثابت بن محمد الجرجاني قال: كنت مع أبي الجيش مجاهد لما غزا سردانية فدخل بالمراكب في مرسى نهاه عنه أبو خرُّوب — رئيس البحريين — وهبَّت ريح فجعلت تقذف مراكب المسلمين مركبًا مركبًا إلى الريف والروم وقوف لا شغل لهم إلا الأسر والقتل للمسلمين، فكلما سقط مركب بين أيديهم جعل مجاهد يبكي بأعلى صوته لا يقدر هو ولا غيره على أكثر لارتجاج البحر وزيادة الريح، وكان أبو خروب يقول: قد كنت حذرته من الدخول ها هنا فلم يقبل، فبجريعة الذقن ما تخلصنا في يسير من المراكب. هذا آخر خبر ثابت بن محمد.

ثم عاد مجاهد إلى الجزائر الأندلسية التي كانت في طاعته، واختلفت به الأحوال حتى غاب على دانية وما يليها، واستقرَّت إقامته فيها، وكان من الكرماء على العلماء باذلًا للرغائب في استمالة الأدباء، وهو الذي بذل لأبي غالب اللغوي تمام بن غالب ألف دينار على أن يزيد في ترجمة الكتاب الذي ألفه في اللغة مما ألفه لأبي الجيش مجاهد، على ما ذكرنا في باب التاء.

والذي ذكره ابن عميرة هو أن الأمير المذكور أبا الجيش مجاهدًا وجَّه إلى تمام بن غالب أيام غلبته على مرسية — وأبو غالب ساكن بها — ألف دينار أندلسية على أن يزيد في ترجمة كتابه في اللغة لأبي الجيش مجاهد، فرد الدنانير وأبى من ذلك، ولم يفتح في هذا بابًا البتة، وقال: والله لو بُذلت لي الدنيا على ذلك ما فعلت ولا استجزت الكذب؛ فإني لم أجمعه له خاصة لكن لكل طالب عامة. قال ابن عميرة: فأعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها، واعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها، توفي أبو غالب تمام بن غالب بن عمر المعروف بابن التيَّاني المرسي سنة ٤٣٦، وفي السنة نفسها مات أبو الجيش مجاهد الموفق هذا. وفي أبي الجيش مجاهد المذكور يقول أبو العلاء صاعد بن الحسن اللغوي، وقد استماله على البعد بخريطة مال ومركب:

أتتني الخريطة والمركبُ
كما اقترن السعد والكوكبُ
وحط بمينائه قلعة
كما وضعت حملها المُقْرَبُ
على ساعة قام فيها الثنا
على هامة المشتري يخطبُ

إلى أن قال في آخرها:

مجاهد رضت إباء الشموسِ
فأصحب من لم يكن يصحبُ
فقل واحتكم بسميع الزمانِ
مُصيخٍ إليك بما ترغبُ

وقد ألَّف مجاهد في العروض كتابًا يدل على قوته فيه. ومن أعظم فضائله تقديمه للوزير الكاتب أبي العباس أحمد بن رشيق وتعويله عليه وبسطه يده في العدل، وحسن السياسة، وكان موته في دانية سنة ٤٣٦، وقال ابن عميرة: إنه كان يروي عن عبد الوارث بن سفيان عن قاسم عن ابن قُتيبة، ويروي عنه حاتم بن محمد وغيره.

وقد ذكرت الانسيكلوبيدية الإسلامية مجاهدًا العامري بترجمة خاصة، وقالت: إن العامريين أرسلوه واليًا على دانية في زمن هشام الثاني، وأنه عندما انحلَّ أمر الخلافة في قرطبة كان أول من أعلن استقلاله من الأمراء، وذلك بين سنة ١٠٠٩ و١٠١٠ وفق رأس القرن الخامس للهجرة. ثم استولى على جزر الباليار، وقليلًا على طرطوشة، ونادى بخلافة رجل من بني أمية اسمه عبد الله المُعيطي، وذلك سنة ٤٠٥، وكان قد غزا سردانية وتوفق في أوائل غزاته، إلا أنه فشل في الآخر، ووقعت امرأته وابنه في الأسر. وقد وصفه مؤرخو العرب بالعلم والفضل وتنشيط العلوم والآداب، وكان مؤرخو النصارى في القرون الوسطى يسمونه بالملك «لوبو Rey Lobo»، فكان له أقوى أسطول في البحر المتوسط ترتجف منه سواحل كتلونية وبروفنسة وإيطالية. ا.ﻫ. ملخصًا.

وقد ذكرنا هذا القدر من أخبار مجاهد العامري مع أنها متعلقة بالقسم التاريخي من الكتاب، ونحن الآن في القسم الجغرافي منه، والسبب في ذلك هو أن دانية اشتهرت بولاية مجاهد العامري وهو اشتهر بها، وفي زمانه عظم شأنها وغلظت شوكتها، وكان لها إقليم كبير من جملته قسنطانية، وهي اليوم بلدة صغيرة سكانها سبعة آلاف، وكانت عامرة في أيام العرب ذات قلاعٍ وأسوارٍ وأبراج، وقد نسب إليها رجال من أهل العلم.

وبين دانية وشاطبة تقع بلدة يقال لها بنو غانم على ١٣ كيلومترًا من شاطبة وبلدة أخرى يقال لها «البيضاء» على نحو من ثلاثين كيلومترًا، وبلدة «أونتنيان» وقد مرَّ ذكرها في تراجم بعض العلماء الذين انتسبوا إلى شاطبة، وبلدة يقال لها اليوم «القوي Alcoy»، وهي عامرة، فيها ثلاثون ألف نسمة، والطريق من القوي إلى القنت هي طريق عربات، وفي تلك المساحة بلدة يقال لها: «جيجونة» أهلها سبعة آلاف، وفيها حصن عربي قديم، وهاتيك البلاد في غاية الخصب وكثرة الخيرات.

ذكر من انتسب، من أهل العلم إلى دانية

أبو عبد الله محمد بن خلصة النحوي الكفيف، أصله من شذونة، وسكن دانية، وأخذ بها عن أبي الحسن بن سيده، وأقرأ العربية بدانية وببلنسية، وكان شاعرًا مجودًا متقدمًا في علوم اللسان، وشعره مدوَّن، وممن أخذ عنه أبو عمر بن شرف، وأبو عبد الله بن مطرف التطيلي، وغيرهما، ذكره ابن عزيز، وقال الحميدي: كان من النحويين المتصدِّرين والأساتيذ المشهورين والشعراء المجوِّدين، رأيته بدانية بعد الأربعين وأربعمائة، وقرأت أنا في ديوان شعره قصيدة له على رويِّ الراء يهنئ فيها المقتدر أحمد بن سليمان بن هود بدخول دانية وتملكها سنة ٤٣٨.

وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن سعود الأنصاري المقري، أخذ عن أبي عمرو المقري، وكان من كبار أصحابه، وتصدَّر للإقراء، وعنه أخذ أبو داود سليمان بن نجاح قراءةَ نافع من طريق قالون عند قدومه دانية للأخذ عن أبي عمرو سنة ٤٣٢، وحُكي أنه ساكنه ونسخ الأصول منه وهو غلام دون العشرين، ولابن سعود هذا تواليف منها كتاب «الاختلاف بين نافع من رواية قالون وبين الكسائي من رواية الدوري»، وكتاب «السنن والاقتصاد في الفرق بين السين والصاد»، وكتاب «الاقتضاء للفرق بين الذال والضاد والظاء»، قال ابن الأبار في التكملة: وقفت عليها، وبعضها مكتوب عنه قبل السبعين والأربعمائة.

وأبو عبد الله محمد بن يحيى بن سليمان العبدري، أخذ القراءات عن أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني إمام القراء، وروى عنه تواليف، وحدَّث عنه أبو العباس بن عيشون بالتيسير والتلخيص من كتب أبي عمرو، نقل ذلك ابن الأبَّار عن ابن خير.

وأبو عبد الله محمد بن أبي المسك يروي عن أبي الوليد الوقشي، وعن أبي داود المقري، حدَّث عنه أبو زكريا بن صاحب الصلاة — والد الأستاذ أبي محمد المعروف بعبدون — بعضه من خط محمد بن عيَّاد الذي نقل عنه ابن الأبار.

وأبو بكر محمد بن عيسى بن محمد اللخمي، يعرف بابن اللبَّانة. كان من جلَّة الأدباء وفحول الشعراء، غزير الأدب، قويَّ العارضة، متصرفًا في البلاغة، وله تواليف منها كتاب «مناقل الفتنة»، وكتاب «نظم السلوك في وعظ الملوك»، وكتاب «سقيط الدُّرَر ولقيط الزَّهَر»، سُمع منه بعضها في حاضرة المرية، وشعره مدوَّن، توفي بميورقة سنة ٥٠٧، ودفن إزاء أبي العرب الصقلي. وكان هذا طوالًا، وكان ابن اللبَّانة دحداحًا، ذكر ذلك ابن الأبَّار في التكملة.

وابن اللبَّانة هذا هو الذي قال أحسن قصائده في المعتمد ابن عبَّاد صاحب إشبيلية، وكتب عن آل عبَّاد من النثر أيضًا ما حفظه الناس حفظ النظم لنفاسته. ولما كان كلٌّ من نظمه ونثره فيهم قد شرَّق وغرَّب، وأبكى وأطرب، فلا بأس في ذكر بعض ما قاله فيهم، فمن ذلك رثاؤه لهم بعد انقراض ملكهم في إشبيلية، وهي قصيدة رثاء لا يُماثلها في التاريخ إلا قصيدة رثاء عمارة اليمني للخلفاء الفاطميين بمصر. قال ابن اللبَّانة في بني عبَّاد، والراثي والمرثي كلٌّ منهما من آل لحم منسوب إلى شرف عبل الذراع ضخم:

تبكي السماء بمزنٍ رائحٍ غادِ
على البهاليل من أبناء عبَّادِ
على الجبال التي هُدَّت قواعدها
وكانت الأرض منهم ذات أوتادِ
والرابيات عليها اليانعات ذوت
أنوارها فغدت في خفض أوهادِ
عِرِّيسة دخلتها النائبات على
أساودٍ لهمُ فيها وآسادِ
وكعبة كانت الآمال تخدمها
فاليوم لا عاكف فيها ولا بادِ٣
يا ضيف أقفر بيت المكرمات فخُذ
في ضم رحلك واجمع فضلة الزادِ
ويا مؤمل واديهم ليسكنه
خَفَّ القطين وجفَّ الزرع بالوادي٤
وأنت يا فارس الخيل التي جعلت
تختال في عدد منهم وإعدادِ
ألقِ السلاح وخلِّ المشرفي فقد
أصبحت في لهوات الضيغم العادي
لما دنا الوقت لم تُخلف له عدةٌ
وكل شيءٍ بميقاتٍ وميعادِ
إن يُخلعوا فبنو العباس قد خُلعوا
وقد خلت قبل حمصٍ أرضُ بغدادِ٥
حموا حريمهمُ حتى إذا غُلبوا
سيقوا على نسقٍ في حبل مقتادِ
وأُنزلوا عن متون الشُّهب واحتُملوا
فويق دهمٍ لتلك الخيل أندادِ
وعِيث في كل طوقٍ من دروعهمُ
فصيغ منهن أغلال لأجيادِ
نسيتُ إلا غداة النهر كونهمُ
في المنشآت كأموات بألحادِ
والناس قد ملئوا البرَّين واعتبروا
في لؤلؤ طافيات فوق أزبادِ
حُطَّ القناع فلم تُستر مخدَّرةٌ
ومُزِّقت أوجهٌ تمزيق أبرادِ٦
حان الوداع فضجَّت كل صارخةٍ
وصارخٍ من مُفدَّاةٍ ومن فاد
سارت سفائنهم والنوح يصحبها
كأنها إبلٌ يحدو بها الحادي
كم سال في الماء من دمعٍ وكم حملت
تلك القطائع من قطعات أكباد

وله في قضية المعتمد بن عبَّاد القصيدة التالية:

انفض يديك من الدنيا وساكنها
فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا
وقل لعالمها السفلي: قد كتمت
سريرة العالم العلوي أغمات
طوت مظلتها لا بل مذلتها
من لم تزل فوقه للعز رايات
من كان بين الندى والبأس أنصله
هندية وعطاياه هنيدات
رماه من حيث لم تستره سابغة
دهر مصيباته نبل مصيبات
أنكرت إلا التواءات القيود به
وكيف تنكر في الروضات حيات
غلطت بينهما بينٌ عقدن له
وبينها فإذا الأنواع أشتات
وقلت: هن ذؤابات فلم عكست
من رأسه نحو رجليه الذؤابات
حسبتها من قناة أو أعنته
إذا بها لثقاف المجد آلات
دَرَوْهُ ليثًا فخافوا منه عاديةً
عذرتهم فلعدو الليث عادات
لو كان يفرج عنه بعض آونة
قامت بدعوته حتى الجمادات
بحر محيط عهدناه تجيء له
كنقطة الدارة السبع المحيطات
لهفي على آل عباد فإنهمُ
أهلَّة ما لها في الأفق هالات
راح الحيا وغدا منهم بمنزلة
كانت لنا بكر فيها وروحات
أرض كأن على أقطارها سرجًا
قد أوقدتهن بالأذهان أنبات
وفوق شاطئ واديها رياض رُبًا
قد ظللتها من الأنشام دوحات
كأن واديها سلك بلبتها
وغاية الحسن أسلاك ولبات
نهر شربت بعبرَيْهِ على صور
كانت لها من قبيل الراح سورات
وربما كنت أسمو للخليج به
وفي الخليج لأهل الراح راحات
وبالغروسات لا جفَّت منابتها
من النعيم غروسات جنيات

وله أيضًا قصيدة عملها في المعتمد وهو في الأسر بأغمات سنة ٤٨٦، وهي من الطبقة الأولى:

تنشق بريحان السلام فإنما
أفض به مسكًا عليك مختما
وقل لي مجازًا إن عدمت حقيقةً
لعلك في نعمى فقد كنت منعما
أفكر في عصر مضى بك مشرقًا
فيرجع ضوء الصبح عندي مظلما
وأعجب من أفق المجرة إذ رأى
كسوفك شمسًا كيف أطلع أنجما
لئن عظمت فيك الرزية إننا
وجدناك منها في الرزية أعظما
قناة سعت للطعن حتى تقسمت
وسيف أطال الضرب حتى تثلما

ومنها:

بكى آل حمود ولا كمحمد
وأولاده صوب الغمامة إذ همى
حبيب إلى قلبي حبيب وقومه
عسى طلل يدنو بهم ولعلما
صباحهمُ كنا به نحمد السُّرى
فلما عدمناه سرينا على عمى
وكنا رعينا العزَّ حول حماهمُ
فقد أجدب المرعى وقد أقفر الحمى
وقد ألبست أيدي الليالي قلوبهم
مناسج سَدَّى العَيث فيها وألحما
قصور خلت من ساكنيها فما بها
سوى الأدم تمشي حول واقفة الدمى
تجيب بها الهام الصدى ولطالما
أجاب القيان الطائر المترنما
كأن لم يكن فيها أنيس ولا التقى
بها الوفد جمعًا والخميس عرمرما

ومنها:

حكيت وقد فارقت ملكك مالكًا
ومن ولهي أحكي عليك متمما
مصاب هوى بالنيرات من العلا
ولم يُبق في أرض المكارم معلما
تضيق عليَّ الأرض حتى كأنما
خلقت وإياها سوارًا ومعصما
ندبتك حتى لم يخلِّ ليَ الأسى
دموعًا بها أبكي عليك ولا دما
وإني على رسمي مقيم فإن أمت
سأجعل للباكين رسميَ موسما
بكاك الحيا والريحُ شقت جيوبها
عليك وناح الرعد باسمك معلما
ومزق ثوب البرق واكتست الضحى
حدادًا وقامت أنجم الجو أفحما
وحار ابنك الإصباح وجدًا فما اهتدى
وغار أخوك البحر غيظًا فما طمى
وما حل بدر التم بعدك دارة
ولا أظهرت شمس الظهيرة مبسما
قضى الله أن حطوك عن ظهر أشقر
أشمَّ وأن أمطوك أشأم أدهما

وكان قد انفكت عنه القيود فأشار إلى ذلك بقوله:

قيودك ذابت فانطلقت لقد غدت
قيودك منهم بالمكارم أرحما
عجبت لأن لان الحديد وإن قسوا
لقد كان منهم بالسريرة أعلما
سينجيك من نجى من السجن يوسفًا
ويؤويك من آوى المسيح ابن مريما

ومن شعر ابن اللبانة في بني عباد بعد نكبتهم قوله:

أستودع الله أرضًا عندما وضحت
بشائر الصبح فيها بدلت حلكا
كان المؤيد بستانًا بساحتها
يجني النعيم وفي عليائها فلكا
في أمره لملوك الدهر معتبر
فليس يغتر ذو ملك بما ملكا
نبكيه من جبل خرَّت قواعده
فكل من كان في بطحائه هلكا
ولابن اللبَّانة في بني عبَّاد من النثر قوله:

بماذا أصفهم وأحلِّيهم؟ وأي منقبةٍ من الجلالة أوليهم؟! فهم القوم الذين تجل مناقبهم عن العدِّ والإحصاء، ولا يتعرض لها بالاستيفاء والاستقصاء، ملوك بهم ازَّيَنَتْ الدنيا وتحلَّت، وترقَّت حيث شاءت وحلَّت، إن ذكرت الحروب فعليهم يُوقف منها الخبر اليقين، أو عدَّت المآثر فهم في ذلك في درجة السابقين، أصبح الملك بهم مشرق القسام، والأيام ذات بهجةٍ وابتسام، حتى أناخ بهم الحمام، وعطل من محاسنهم الوراء والأمام، فنقل إلى العدم وجودهم، أو لم يرع بأسهم وجودهم، وكل ملك آدمي فمفقود، وما نؤخره إلا لأجلٍ معدود، فأول ناشئة ملكهم، ومحصَّل الأمر تحت ملكهم، عظيمهم الأكبر، وسابقة شرفهم الأجل الأشهر، وزينهم الذي يعد في الفضائل بالوسطى والخنصر، محمد بن عبَّاد، ويكنى أبا القاسم، واسم والده إسماعيل.

إلى أن يقول في وصف المعتضد والد محمد الملقب بالمعتمد:

المعتضد أبو عمرو عبَّاد — رحمه الله تعالى — لم تخلُ أيامه في أعدائه من تقييد قدم ولا عطِّل سيفه من قبض روح وسفك دم، حتى لقد كانت في باب داره حديقة لا تثمر إلا رءوسًا، ولا تُنبت إلا رئيسًا ومرءوسًا، فكان نظره إليه أشهى مقترحاته وفي التلفُّت إليها استعمل جلَّ بكره وروحاته، فأبكى وأرَّق، وشتَّت وفرَّق، ولقد حكي عنه من أوصاف التجبُّر ما ينبغي أن تصان عنه الأسماع ولا يتعرَّض له بتصريح ولا إلماع. ا.ﻫ.

ومن هنا يعلم أن ابن اللبَّانة لم يكن ممن تعميه العلائق عن الحقائق؛ فإن المعتضد بن عبَّاد كان مشهورًا بالقسوة، وكان يُروى عنه في ذلك نوادر تشمئزُّ النفوس من مطالعتها؛ مثل أنه كان يجعل رءوس الأعداء الذين ظفر بهم فقطع رءوسهم في معرض خاص يتلذذ بالاختلاف إليه من وقتٍ إلى آخر، ويأخذ كل رأس بيده يقلبه بين أنامله تشفِّيًا وتبريدًا لإحنته التي لم تزل في صدره لم يخففها كون ذلك العدو قد ذهب وكانت منيته على يده، بل هو يريد أن يديم تذكار ذلك الظفر بمشاهدة تلك الرءوس المقطوعة بين يديه، ويتلذذ بحصول تلك الجماجم لديه، وهذه هي القسوة الوحشية التي جعلت مثل ابن اللبانة مع اجتماعه بآل عبَّاد في النسب اللخمي، ومع تقلبه في نعم المعتمد التي أنطقته بتلك المدائح السائرة والأوابد التي لا تزول من الذاكرة، يشير إليها مع الاستنكار والاقشعرار.

ولنعد إلى ما قال الشاعر المذكور في آل عبَّاد، فمن ذلك أنه كان للمعتمد ولد رشحه للملك من بعده ولقبه بالمؤيد بنصر الله؛ فعاقته الفتنة عن مراده، وخُلع ونفي إلى أغمات في المغرب الأقصى، كما سيأتي الخبر عن ذلك في محله، فجاء محمد بن اللبَّانة إلى أغمات يفتقد ممدوحه القديم، فرأى ولده فخر الدولة هذا يشتغل في دكان صائغ بعد أن كان يحل من المجد أبراجًا ويطلع في هالة الملك هلالًا وهَّاجًا، لا تسعه القصور الشامخة، والصروح الممرَّدة، فأذكره ذلك من مجد هذا الشاب السالف ما أنطقه بهذه القصيدة الفريدة:

أذكى القلوب أسًى أبكى العيون دمًا
خَطْبٌ وجدناك فيه يشبه العدما
أفراد عقد المنا منا قد انتثرت
وعِقد عروتنا الوثقى قد انفصما
شكاتنا فيك يا فخر العلا عظمت
والرُّزء يعظم فيمن قدره عظما
طُوِّقتَ من نائبات الدهر مخنقة
ضاقت عليك وكم طوقتنا نعما
وعاد كونك في دكان قارعة
من بعد ما كنت في قصرٍ حكى إرما
صرَّفت في آلة الصواغ أنملةً
لم تدرِ إلا الندى والسيف والقلما
يدٌ عهدتك للتقبيل تبسطها
فتستقلُّ الثريا أن تكون فما
يا صائغًا كانت العليا تصاغ له
حليًا وكان عليه الحلي منتظما
للنفخ في الصور هول ما حكاه سوى
هول رأيناك فيه تنفخ الفحما
وددت إذ نظرت عيني إليك به
لو أن عينيَ تشكو قبل ذاك عمى
ما حطك الدهر لما حط من شرف
ولا تحيَّف من أخلاقك الكرما
لح في العلا كوكبًا إن لم تلح قمرًا
وقم بها ربوةً إن لم تقم علما
واصبر فربتما أحمدت عاقبة
من يلزم الصبر يحمد غبَّ ما لزما
والله لو أنصفتك الشهب لانكفأت
ولو وفى لك دمع المزن لانسجما
بكى حديثك حتى الدر حين غدا
يحكيك رهطًا وألفاظًا ومبتسما
وروضة الحسن من أزهارها عريت
حزنًا عليك لأن أشبهتها شيما
بعد النعيم ذوى الريحان حين رأى
ريحانك الغضَّ يذوي بعدما نعما
لم يرحم الدهر فضلًا أنت حامله
من ليس يرحم ذاك الفضل لا رُحما
شقيقك الصبح إن أضحى بشارقة
وأنت في ظلمة فالصبح قد ظلما

ولما ورد أبو بكر محمد بن اللبَّانة أغمات متفقدًا المعتمد في أسره سُرَّ المعتمد بوروده سرور ملك منكوب ذهب ملكه وانتثر سلكه، بصديق قديم كان من خواصه ومن تأنس نفسه به، فأقام عنده ما أقام، فلما أزمع السفر استنفد المعتمد وسعه ووجه إليه بعشرين مثقالًا وثوبين، وكتب إليه معها — وقد كان المعتمد سيد الشعراء كما كان سيد الأمراء:

إليك النَّزْر من كف الأسيرِ
فإن تقبل تكن عين الشكورِ
تقبَّل ما يذوب له حياءً
وإن عَذَرته حالات الفقير
ولا تعجب لخطب غض منه
أليس الخسف ملتزم البدور
ورجِّ لجبره عقبى نداه
فكم جبرت يداه من كسير!
وكم أعلت علاه من حضيضٍ
وكما حطت ظباه من أميرِ!
وكم من منبر حنت إليه
أعالي مرتقاه ومن سرير
زمانَ تزاحفت عن جانبيه
جياد الخيل بالموت المبير
فقد نظرت إليه عيون نحس
مضت منه بمعدوم النظير
نحوس كنَّ في عقبى سُعودٍ
كذاك تدور أقدار القدير
وكما أحظى رضاه من حَظِيٍّ
وكم شهرت علاه من شهيرِ!
زمانَ تنافست في الحظ منه
ملوك قد تجور على الدهور
بحيث يطير بالأبطال ذُعرٌ
ويُلفَى ثَمَّ أرجح من ثَبيرِ

فامتنع ابن اللبانة عن قبول ذلك ورده إليه بجملته، وكتب مجيبًا له:

سقطت من الوفاء على خبير
فذرني والذي لك في ضميري
تركت هواك وهو شقيق ديني
لئن شُقَّت برودي عن غدور
ولا كنت الطليق من الرزايا
إذا أصبحت أجحف بالأسير
أسير ولا أصير إلى اغتنامٍ
معاذ الله من سوء المصير
إذا ما الشكر كان وإن تناهى
على نعمَى فما فضل الشكور
جذيمة أنت والأيام خانت
وما أنا من يقصِّر عن قصير
أنا أدرى بفضلك منك إني
لبست الظل منه في الحرور
غني النفس أنت وإن ألحَّت
على كفيَّك حالات الفقير
تصرَّف في الندى حيل المعالي
فتسمح من قليلٍ بالكثير
أحدث منك عن نبع غريب
تفتَّح عن جنى زهر نضير
وأعجب منك إنك في ظلام
وترفع للعفاة منار نور
رويدك سوف توسعني سرورًا
إذا عاد ارتقاؤك للسرير
وسوف تحلُّني رتب المعالي
غداة تحل في تلك القصور
تزيد على ابن مروانٍ عطاءً
بها وأُنيف ثَمَّ على جرير
تأهب أن تعود إلى طلوعٍ
فليس الخسف مُلتَزَم البدور

فراجعه المعتمد بهذه الأبيات:

ردَّ بِرِّي بغيًا عليَّ وبِرَّا
وجفا فاستحق لومًا وشكرَا
حاط نزري إذ خاف تأكيد ضرِّي
فاستحق الجفاء إذ حاط نزرا
فإذا ما طويت في البعض حمدًا
عاد لومي في البعض سرًّا وجهرا
يا أبا بكرٍ الغريب وفاءً
لا عدمناك في المغارب ذخرا
أي نفع يجدي احتياط شفيق
مت ضرًّا فكيف أرهب ضرَّا

فأجابه ابن اللبَّانة:

أيها الماجد السميدع عذرَا
صَرْفي البرَّ إنما كان بِرَّا
حاش لله أن أجيح كريمًا
يتشكَّى فقرًا وكم سدَّ فقرا
لا أزيد الجفاء فيه شقوقًا
غدر الدهر بي لأن رمت غدرا
ليت لي قوة أو آوي لركنٍ
فترى للوفاء مني سرَّا
أنت علمتني السيادة حتى
ناهضت همتي الكواكب قدرا
ربحت صفقةٌ أُزيل برودًا
عن أديمي بها وألبس فخرا
وكفاني كلامك الرطب نيلًا
كيف أُلقي درًّا وأطلب تبرا
لم تمت إنما المكارم ماتت
لا سقى الله الَارض بعدك قطرا

قال عبد الواحد المراكشي في المعجب:

وابن اللبَّانة هذا هو أبو بكر محمد بن عيسى، من أهل مدينة دانية، وهي على ساحل البحر الرومي، كان يملكها مجاهد العامري وابنه علي. ولابن اللبَّانة هذا أخٌ اسمه عبد العزيز وكانا شاعرين إلَّا أن عبد العزيز منهما لم يرضَ الشعر صناعة ولا اتخذه مكسبًا، وإنما كان من جملة التجار. وأما أبو بكر فرضيه بضاعةً وتخيَّره مكسبًا وأكثر منه وقصد به الملوك فأخذ جوائزهم، ونال أسنى الرتب عندهم، وشعره نبيل المأخذ، وهو فيه حسن المهيع، جمع بين سهولة الألفاظ ورشاقتها، وجودة المعاني ولطافتها، كان منقطعًا إلى المعتمد، معدودًا في جملة شعرائه، لم يفد عليه إلا آخر مدته؛ فلهذا قلَّ شعره الذي يمدحه به. وكان — رحمه الله — مع سهولة الشعر عليه وإكثاره منه قليلَ المعرفة بعلله، لم يُجِد الخوض في علومه، وإنما كان يعتمد في أكثره على جودة طبعه وقوة قريحته، يدل على ذلك قوله في قصيدة له:

من كان ينفق من سواد كتابه
فأنا الذي من نور قلبي أنفقُ٧

ولما خلع المعتمد على الله وأخرج من إشبيلية لم يزل أبو بكر هذا يتقلَّب في البلاد إلى أن لحق بجزيرة ميورقة، وبها مبشِّر العامري المتلقب بالناصر؛ فحظي عنده وعلت حاله معه، وله فيه قصائد أجاد فيها ما شاء، فمنها قصيدة ركب فيها طريقة لم أسمع بها لمتقدم ولا لمتأخر؛ وذلك أنه جعلها من أولها إلى آخرها صدر البيت غزل وعجزه مدح، وهذا لم أسمع به لأحد، وأول القصيدة:

وضحت وقد فضحت ضياء النيرِ
فكأنما التحفت ببشر مبشر
وتبسمت عن جوهر فحسبته
ما قلدته محامدي من جوهر
وتكلمت فكأن طيب حديثها
متعت منه بطيب مسكٍ أذفرِ
هزَّت بنغمة لفظها نفسي كما
هزَّت بذكراه أعالي المنبر
أذنبت فاستغفرتها فجرت على
عاداته في المذنب المستغفر
جادت عليَّ بوصلها فكأنه
جدوى يديه على المقل المقتر
ولثمت فاها فاعتقدت بأنني
من كفه سوَّغت لثم الخنصر
سمحت بتعنيفي فقلت: صنيعة
سمحت علاه بها فلم تتعذر
نهدٌ كقوة قلبه في معرك
وحشًا كلين طباعه في محضر
ومعاطف تحت الذوائب خلتها
تحت الخوافق ما له من سمهري
حسنت أمامي في خمار مثل ما
حسن الكميُّ أمامه في مغفر
وتوشحت فكأنه في جوشن
قد قام عِثْيره مقام العنبر
غمزت ببعض قِسِيِّه من حاجبٍ
ورنت ببعض سهامه من محجر
أومت بمصقول اللحاظ فخلته
يومي بمصقول الصفيحة مشهر
وضعت حشاياها فويق أرائكٍ
وضع السروج على الجياد الضمَّر
من رامة أو رومة لا علم لي
أأتت عن النعمان أم عن قيصر
بنت الملوك فقل لكسرى فارس
تُعزَى وإلا قل لتبع حمير
عاديت فيها غر قومي فاغتدوا
لا أرضهم أرضي ولا هم معشري
وكذلك الدنيا عهدنا أهلها
يتعافرون على الثريد الأعفر
طافت عليَّ بجَمرة من خمرة
فرأيت مَرِّيخًا براحة مشتري
فكأن أنملها سيوف مبشر
وقد اكتست علق النجيع الأحمر
ملك أزرة برده ضمت على
بأس الوصيِّ وعزمة الإسكندر

هذا ما اخترت له منها. ومن نسيبه المليح الخفيف الروح. قوله يتغزل ويمدح مبشرًا هذا:

هلا ثناك عليَّ قلب مشفقُ
فترى فراشًا في فراش يحرقُ
قد صرت كالرمق الذي لا يرتجى
ورجعت كالنفس الذي لا يلحق
وغرقت في دمعي عليك وغمَّني
طرفي فهل سبب به أتعلقُ
هل خدعة بتحية مخفية
في جنب موعدك الذي لا يصدق
أنت المنية والمنى فيك استوى
ظل الغمامة والهجير المحرق
لك قدُّ ذابلةِ الوشيح ولونها
لكنْ سناؤك أكحلٌ لا أزرق
ويقال: إنك أيكة حتى إذا
غنيت قيل: هو الحمام الأورق
يا من رشقت إلى السلوِّ فردني
سبقت جفونك كل سهمٍ يرشق
لو في يدي سحر وعندي أخذة
لجعلت قلبك بعض حينٍ يعشق
لتذوق ما قد ذقت من ألم الجوى
وترق لي مما تراه وتشفق
جسدي من الأعداء فيك لأنه
لا يستبين لطرف طيف يرمق
لم يدر طيفك موضعي من مضجعي
فعذرته في أنه لا يطرق
جفت عليك منابتي ومنابعي
فالدمع ينشع٨ والصبابة تورق
وكأن أعلام الأمير مبشر
نشرت على قلبي فأصبح يخفق

وفيها يقول يصف لعب الأسطول في يوم المهرجان:

بشرى بيوم المهرجان فإنه
يوم عليه من احتفائك رونق
طارت بنات الماء فيه وريشها
ريش الغراب وغير ذلك سوذق٩
وعلى الخليج كتيبة جرارة
مثل الخليج كلاهما يتدفق
وبنو الحروب على الجواريِّ التي
تجري كما تجري الجياد السبق
ملأ الكماة ظهورها وبطونها
فأتت كما يأتي السحاب المغدق
خاضت غدير الماء سابحة به
فكأنما هي في سراب أينق
عجبًا لها ما خلت قبل عيانها
أن يحمل الأُسْدَ الضواري زورق
هزت مجاديفًا إليك كأنها
أهداب عين للرقيب تحدِّق
وكأنها أقلام كاتب دولة
في عرض قرطاس تخط وتمشق

وله فيها إحسان كثير. وله من قصيدة يتغزل:

فؤادي معنى بالحسان منعَّت
وكل موفًّى في التصابي موقت
ولي نَفَسٌ يخفي ويخفت رقةً
ولكنَّ جسمي منه أخفى وأخفت
وبي ميِّت الأعضاء حيٌّ دلاله
غرامي به حي وصبريَ ميت
جعلت فؤادي جفن صارم جفنه
فيا حرَّ ما يصلى به حين يصلت
أذل له في هجره وهو ينتمي
وأسكن بالشكوى له وهو يسكت
وما انبت حبل منه إذ كان في يدي
لريحان ريعان الشبيبة منبت

ومن جيد ما له من قصيدة يمدح بها مبشرًا ناصر الدولة أولها:

راق الربيع ورق طبع هوائه
فانظر نضارة أرضه وسمائه
واجعل قرين الورد فيه سلافة
يحكي مشعشعها مصعَّد مائه
لولا ذبول الورد قلت بأنه
خد الحبيب عليه صبغ حيائه
هيهات أين الورد من خد الذي
لا يستحيل عليك عهد وفائه
الورد ليس صفاته كصفاته
والطير ليس غناؤها كغنائه
يتنفس الإصباح والريحان من
حركات معطفه وحسن روائه
ويجول في الأرواح روح ما سرت
رياه من تلقائه بلقائه
صرف الهوى جسمي شبيه خياله
من فرط خفته وفرط خفائه

ومن أحسن ما على خاطري له بيتان يصف بهما خالًا وهما:

بدا على خده خالٌ يزينه
فزادني شغفًا فيه على شغفِ
كأن حبة قلبي عند رؤيته
طارت فقال لها في الخد منه: قِفي

انتهى ما انتخبناه من شعر ابن اللبَّانة نقلًا عن نفح الطيب وعن كتاب المعجب في تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي، وقد قال صاحب النفح: وعاش أبو بكر بن اللبانة المعروف بالداني بعد المعتمد، وقدم ميورقة آخر شعبان سنة ٤٨٩، ومدح ملكها مبشر بن سليمان بقصيدة مطلعها:

ملك يروعك في حلى ريعانه
راقت برونقه صفات زمانه

قال المقري: وأين هذا من أمداحه في المعتمد؟ قلت: يظهر أن المقري لم يطلع على قصائد ابن اللبانة في مبشر صاحب ميورقة، ولو اطلع عليها لرآها مع أمداح المعتمد من نسجٍ واحد، ثم قال: وتذكرت هنا من أحوال الداني أنه دخل على ابن عمَّار في مجلس، فأراد أن يندِّر به، قال له: اجلس يا داني بغير ألف. فقال له: نعم يا ابن عمَّار بغير ميم، وهذا هو الغاية في سرعة الجواب والأخذ بالثأر في المزاح.

وممن ينسب إلى دانية، من أهل العلم أبو عبد الله محمد بن عيسى بن معيون الزهري الفارض، له رواية عن ابن سيده، وكان من أهل المعرفة بالعربية والتقدم في علم الفرائض والحساب، روى عنه أبو بكر بن أبي الدوس وغيره، قاله ابن الأبار.

وأبو بكر محمد بن علي بن بشري، رحل حاجًّا، ودخل بغداد فسمع بها من أبي بكر بن طرخان سنة ٥١٣، وسمع أيضًا أبا محمد بن عمر السمرقندي وغيرهما، وقفل إلى بلده دانية، فحدَّث، وسمع منه زاوي بن مناد وغيره، عن ابن الأبار.

ومحمد بن حسين بن أبي بكر الحضرمي، يعرف بابن الحنَّاط، ويكنى أبا بكر، كان من بيت علم وصلاح، تفقه بأبيه، وسمع من أبي داود المقري، وأبي علي الغساني، وأبي علي الصدفي، ودرَّس الفقه ببلده دانية، وأخذوا عنه، وتوفي ليلة الاثنين مستهل جمادى الآخرة سنة ٥١٤، قال ابن الأبار: قرأت ذلك في رخامة بإزاء قبره.

وأبو بكر محمد بن سعيد بن زكريا بن عبد الله بن سعد، كان عالمًا بالطب، وألَّف كتاب التذكرة، وتعرف بالسعدية نسبةً إليه، وأنشد فيها قصيدة للوقشي، قال ابن الأبار: وأحسبه لقيه، وكان حيًّا في سنة ٥١٦.

ومحمد بن طاهر بن علي بن عيسى الأنصاري الخزرجي، يكنى أبا عبد الله، وهو أخو أبي العباس بن عيسى، سمع ببلده دانية من أبي داود المقري، قال ابن الأبار: ووجدت سماعه لكتاب التقصِّي لأبي عمر بن عبد البر مع أخيه وأبي الحسن بن هذيل في سنة ٤٩٤، ولقي أبا الحسن الحصري، ثم خرج حاجًّا سنة ٥٠٤، وأقام مدة بدمشق بقرى العربية، وكان شديد الوسوسة في الوضوء، ذكره ابن عساكر، وقال: أنشدني أخي أبو الحسين هبة الله بن الحسن الفقيه قال: أنشدنا أبو عبد الله محمد بن طاهر بن علي بن عيسى الأنصاري الأندلسي الداني بدمشق قال: أنشدنا أبو الحسن علي بن عبد الغني المقري القيرواني المعروف بالحصري لنفسه:

يموت مَنْ في الأنام طُرًّا
من طيبٍ كان أو خبيثِ
فمستريحٌ ومستراحٌ
منه كذا جاء في الحديثِ

قال: وأنشدنا الحصري لنفسه:

لو كان تحت الأرض أو فوق الذُّرا
حُر أُتيح له العدو ليوذا
فاحذر عدوك وهو أهون هيِّنٍ
إن البعوضة أَرْدَت النمروذا

قال ابن عساكر: وقد رأيته وأنا صغير ولم أسمع منه شيئًا، وخرج إلى بغداد فأقام بها إلى أن توفي سنة ٥١٩.

ومحمد بن إبراهيم بن مختار اللخمي، يكنى أبا عبد الله، كان فقيهًا مشاورًا، وله سماع من أبي بكر بن برنجال في سنة ٥٢٩، عن ابن الأبار.

وأبو عبد الله محمد بن علي بن عطية العبدري، له رحلة حج فيها وسماع من أبي العباس بن عيسى في سنة ٥٣١، ذكره ابن الأبار.

ومحمد بن الحسن بن محمد بن سعيد المقري، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن غلام الفرس، والفرس لقب لرجل من تجار دانية اسمه موسى المرادي، كان سعيد — مولاه — أخذ القراءات عن أبي داود بن نجاح، وأبي الحسن بن الدوش، وغيرهما، وسمع من أبي علي الصدفي، وأبي محمد البطليوسي، وأبي بكر الفرضي، وغيرهم، وكتب إليه من أعلام الأندلسيين أبو بكر بن العربي، وأبو عبد الله بن الحاج، وأبو عبد الله البلغي وسواهم، ورحل حاجًّا من دانية يوم الاثنين التاسع من جمادى الآخرة سنة ٥٢٧، فأدى الفريضة، وسمع بالإسكندرية من أبي طاهر السلفي وغيره في أثناء رحلته إلى الشرق، حيث أقام ثلاثة أعوام ونيفًا.

ثم رجع إلى دانية فدخلها ليلة عيد الأضحى سنة ٥٣٠، وتصدر للإقراء، وإسماع الحديث، وتعليم العربية، وكان إمامًا فاضلًا ضابطًا متقنًا، مشاركًا في علوم جمة، حسن الخط، أنيق الوراقة، رحل الناس إليه للقراءة عليه لعلوِّ روايته واشتهار عدالته، وانتهت إليه الرئاسة في القراءات وعللها، وولي بآخرة من عمره الخطبة بجامع بلده من قبل القاضي مروان بن عبد العزيز المتأمِّر عند خلع دولة المرابطين، وروى عنه ابن بشكوال، وأبو العباس الأقليشي، وأبو عمر بن عياد، قال ابن الأبار: وحدثنا عنه من شيوخنا أبو عبد الله بن سعادة المعمر، وحكى ابن عيَّاد عنه قال: أنشدني أبو الحسن بن الدوش الشاطبي لما أتيت إليه للقراءة عليه متمثلًا في معرض التواضع:

لعمر أبيك ما نُسب المعلَّى
إلى كرم وفي الدنيا كريمُ
ولكن البلاد إذا اقشعرَّت
وصوَّح نبتها رُعيَ الهشيمُ

قال ابن الأبَّار: توفي ابن سعيد بدانية عصر يوم الأحد الثالث عشر من المحرم سنة ٥٤٧، وصُلي عليه يوم الاثنين بعده، ودفن بقبلي جامعها الأكبر أثناء سماء مدرار كثر عنها الماء في قبره، فاحتيج إلى امتياحه وفرش الرمل عند إنزاله فيه، وكان مولده في ٢١ رمضان سنة ٤٧٢.

وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الأموي الداني، نزيل سبتة، يعرف بالأشقر، أخذ القراءات عن ابن شفيع، وأبي محمد بن إدريس وغيرهما، وأقرأ القرآن بسبتة، وكان فاضلًا عالي الرواية، توفي في ١٩ جمادى الآخرة سنة ٥٥٩.

وأبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعيد بن يوسف الحضرمي، يعرف بابن الخسراته، أخذ القراءات عن أبي عبد الله بن سعيد، واقتصر عليه، وخلفه في الإقراء، وكان ضعيف الخط، توفي حول سنة ٥٦٤ وقد قارب الثمانين، ومولده سنة ٤٨٧، ذكره ابن الأبار.

وأبو عبد الله محمد بن حاضر بن منيع العبدري، صحب الأستاذ أبا الحسن طاهر بن سبيطة، وأخذ عنه تأليفه في البروج والمنازل، حدث عنه به عُليم بن عبد العزيز الحافظ، ذكره ابن الأبار ولم يذكر سنة وفاته.

وأبو عبد الله محمد بن محمد بن طاهر بن علي بن عيسى الأنصاري الخزرجي، تفقه بأبيه أبي العباس، وبأبي بكر الحناط، وأخذ القراءات عن ابن سعيد، وقدم للشورى، قال ابن الأبار: وكان جليلًا نبيهًا فاضلًا نزيهًا، توفي بمرسية سنة ٥٦٦، واحتمل إلى دانية فدفن بها، ومولده سنة ٥٠٠.

وأبو بكر محمد بن إبراهيم بن أحمد بن خلف بن جماعة بن مهدي البكري، سمع من أبيه ومن ابن سعيد، وأجاز له أبو المظفر الشيباني، وأبو علي بن العرجاء، وأبو طاهر السلفي، وأبو عبد الله المازري، وولي قضاء دانية بلده، وكان عارفًا بالأحكام مقدمًا في عقد الشروط، حسن الخط، مشكور السيرة، امتحن في آخر عمره؛ فقبض عليه واعتقل بمرسية، وتوفي بها على تلك الحال في العشر الأول من ربيع الأول سنة ٥٨١، وصلِّي عليه بها، وسيق إلى قسطنطانية فدفن فيها مع سلفه، ذكره ابن الأبار.

وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم العبدري، روى عن أبي العباس بن عيسى، وأبي إسحاق بن جماعة، قال ابن الأبَّار: حدَّث عنه شيخنا أبو عامر الفهري، لقيه ببلنسية، وأجاز له في سنة ٥٨٠.

وأبو عبد الله محمد بن سعيد بن خلف بن جهور القضاعي، من أهل بيران، عمل دانية، سمع من أبي عبد الله بن بركة الشاطبي في سنة ٥٣٧، وسمع منه أبو عبد الله بن أبي البقاء، وتوفي في نحو السبع والتسعين والخمسمائة، عن ابن الأبَّار.

وأبو عبد الله محمد بن عمر بن علي بن عبيد الله بن عامر المعافري، من بيت نَبَاهةٍ وعلم وأدب في دانية، روى عن مشيخة بلده، وتولى الأحكام بدانية، وكان له حظ من قرض الشعر، توفي في نحو سنة ٦١٠، ذكره ابن الأبَّار.

وأبو عبد الله محمد بن عبد الجبار بن محمد بن خلف القيسي، من أهل دانية، سكن بلنسية، سمع من أبي الحسن بن النعمة كثيرًا، وأخذ القراءات عن ابن طارق، وكان من أهل الضبط، شديد الأخذ على القارئ، متعنتًا في ذلك، حتى كان يعاب به، وكان ورعًا منقبضًا مع حدة كانت فيه، أقرأ بمسجد ابن عيشون من داخل بلنسية، وأمَّ في صلاة الفريضة به، توفي في رمضان سنة ٦١١، قال ابن الأبَّار: استجازه لي عبد الكريم بن عمَّار صاحبنا.

وأبو عبد الله محمد بن الحسن بن علي اللخمي، يعرف بابن التجيبي، سمع من أبي القاسم بن حبيش، وأبي محمد بن الفرس، وأجاز له أبو طاهر السلفي، وقرأ كتاب سيبويه على الذهبي، وكان أديبًا كاتبًا بليغًا، عالمًا بالعربية، تولَّى قضاء بلده، وكان سمحًا جوادًا، كريم العشرة، واسع المروءة. قال ابن الأبَّار: لقيته ببلنسية ثم بدانية، وأخذت بها عنه كتاب «جذوة المقتبس» للحميدي بين سماع ومناولة، توفي صدر الأربعاء ١٦ رمضان سنة ٦١٨، ومولده سنة ٥٦٠.

وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن عطية بن موسى بن عبد العزيز الأنصاري. قال ابن الأبَّار: سمع من أبي الخطاب بن واجب وأبي عمر بن عات من شيوخنا، وأجاز له أبو القاسم بن حبيش، وأبو بكر بن أبي زمنين، وغيرهما، ثم رحل حاجًّا وسمع بمكة من أبي عبد الله بن أبي الصيف اليمني وغيره، ولقي بالإسكندرية أبا عبد الله الحضرمي، وأبا الثناء الحرَّاني، وجماعة، وكتب إليه أبو الطاهر الخشوعي سنة ٥٩٥ وغيره. قال ابن الأبَّار: وكتب كثيرًا على رداءة خطه، وقفل إلى بلده دانية وحدَّث بيسير، وسمعت من يغمزه فتركت الأخذ عنه، وتوفي سنة ٦٢٣، نقلنا هذا عن ابن الأبَّار ملخصًا.

ومفرِّج مولى إقبال الدولة علي بن مجاهد — صاحب دانية — يروي عن أبي عمرو المقري، ذكره ابن نقطة، ونقل ذلك ابن الأبَّار.

وأبو علي الحسن بن خلف بن يحيى بن إبراهيم بن محمد الأموي، المعروف بابن برنجال، سمع من أبي بكر بن صاحب الأحباس، وأبي عثمان طاهر بن هشام وغيرهما. وله رحلة حج فيها، وسمع من أبي إسحاق إبراهيم بن صالح القروي، وببيت المقدس من أبي الفتح نصر بن إبراهيم سنة ٤٦٥، وبعسقلان من أبي عبد الله محمد بن الحسن بن سعيد التجيبي، أخذ عنه كتاب الوقف والابتداء لابن الأنباري بسماعه من عبد العزيز الشعيري عن مؤلفه، وكان فقيهًا على مذهب مالك، وولِّي الأحكام ببلده دانية، توفي في نحو الخمسمائة، ذكره ابن الأبار، ونقل بعض خبره عن ابن عياد.

وأبو العلي حسن بن علي بن محمد بن فرج الكلبي، يعرف بابن الجميِّل، أصله من دانية، سكن سبتة، كان من أهل النباهة، وهو والد أبي الخطاب عمر وأبي عمرو عثمان المحدثَيْن، توفي في رمضان سنة ٥٧١ وهو ابن ثمانين سنة.

وأبو علي حسين بن أبي بكر الحضرمي، يعرف بابن الحنَّاط، سمع أبا عبد الله بن مبارك الصائغ، ودرس الفقه، وكان فاضلًا زاهدًا، تفقَّه به ابنه محمد، وروى عنه عبد الله بن سعيد، وحدَّث عن أبي علي هذا أبو عبد الله الخولاني البَلَغي بكتاب «حياة القلوب» لابن أبي زمنين عن ابن مبارك عن أبي عمرو المقري عن مؤلفه، قال ابن الأبَّار: وقرأت في لوح رخام بإزاء قبره أنه توفي ليلة الاثنين لعشر بقين لربيع الأول سنة ٥٠٠، وكان وقوفي على ذلك أيام اشتغالي بقضاء دانية.

وأبو القاسم خلف بن سعيد بن خلف بن أيوب اليحصبي، يعرف بالمارمي، روى عن أبي عمرو المقري، سمع منه تأليفه في الفتن والأشراط عام وفاة أبي عمرو المذكور، ذكره ابن الأبار.

وأبو القاسم خلف بن أفلح الأموي، لقي أبا عمرو المقري بدانية وأخذ عنه بها، وأقرأ، وهو أحد شيوخ ابن سعدون الوشقي، ذكره ابن الأبار، ولم يذكر وفاته.

وأبو القاسم خلف بن مجرِّب، كان ممن أقرأ القرآن وعلَّم به، ومن الآخذين عنه أبو عبد الله بن عبد الجبار الداني، ذكره ابن الأبار.

وأبو القاسم خليفة بن أبي بكر القروي، سكن دانية ودرَّس الفقه بها، وكان بصيرًا بمذهب مالك يشاوره القضاة، تفقَّه به جماعة منهم ابن سماحة، توفي بدانية يوم الثلاثاء ١٩ ذي القعدة سنة ٥١٤، ذكره ابن الأبار.

وأبو الربيع سليمان بن سعيد بن محمد بن سعيد العبدري الداني، يعرف باللوشي، سمع من أبيه، وأبي داود المقري، وأبي علي الصدفي، وولي قضاء دانية سنة ٥٣٠، وعزل سنة ٥٤٠، وكان فاضلًا مع غفلة كانت فيه، توفي بدانية في ربيع الآخر سنة ٥٤٥.

وأم العز بنت محمد بن علي بن أبي غالب العبدري الداني، تروي عن أبيها، وأبي الطيب بن برنجال، وعن زوجها أبي الحسن بن الزبير، وأبي عبد الله بن نوح، وكانت تحسن القراءات السبع، قال ابن الأبار: وسمعت بقراءتها مرتين صحيح البخاري من أبيها، وتوفيت سنة ٦١٦.

وأبو محمد عبد الله بن محمد بن يحيى بن فرج بن الزهيري العبدري، قال ابن الأبار: كذا قرأت اسمه بخطه، نشأ بالمرية، وأخذ بدانية في جامعها القديم عن أبي داود المقرئ سنة ٤٩٢، وسمع من أبي علي الصدفي رياضة المتعلمين لأبي نعيم سنة ٤٩٥، ولقي ابن الطراوة فأخذ عنه العربية، وحدَّث عنه في حياته بالغريب المصنَّف لأبي عبيد، ونزل قلعة حمَّاد من العدوة، فأقرأ بها نحوًا من عشرين عامًا، ثم انتقل إلى بجاية وأقرأ بها أيضًا نحوًا من ذلك، وتوفي في بجاية سنة ٥٤٠، ودفن بغار العابد منها، ذكره ابن الأبار.

وأبو محمد عبد الله بن محمد بن خلف بن سعادة الأصبحي، أخذ عن أبي بكر بن نمارة، ولازم ببلنسية أبا الحسن بن سعد الخير، ورحل إلى المشرق فسمع بالإسكندرية من أبي الطاهر بن عوف، وأبي طاهر السلفي وأكثر عنه، وسمع من غيره، وكان نازلًا في الإسكندرية بالمدرسة العادلية، قاله أبو عبد الله التجيبي الذي هو من تلاميذه، كما أن من تلاميذه أيضًا أبا مروان عبد الملك بن محمد بن الكردبوس التوزري، وأبا محمد جعفر بن ميمون الشاطبي، وكان ابن سعادة هذا مقرئًا محدِّثًا ورعًا فاضلًا، روى التجيبي المارُّ الذكر أنه مات غريقًا في البحر شهيدًا، ذكره ابن الأبار.

وأبو محمد عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن فتوح بن محمد بن يحيى بن عبد الله الحضرمي النحوي، من أهل دانية، أصله من قرية «بالمة» من جزء «بيران»، كان يعرف بابن صاحب الصلاة، ويشهر بعبدون، أخذ القراءات عن أبي عبد الله بن سعيد، وقرأ عليه الأدب وعلى أبيه يحيى، وتعلم العربية على طاهر بن سبيطة، ونزل شاطبة، فأقرأ بها ودرَّس الأدب والنحو، ثم نقله السلطان إلى بلنسية واستأدبه لبنيه لما كان عليه من التصاون والعدالة، فكان يعلِّم أولاد السلطان العربية بالقصر، ويعلم الناس بمسجد رحبة القاضي من بلنسية، وكان أديبًا مبرزًا مشاركًا في الفقه ظاهر التواضع طاهر الخلق، وكان أبو القاسم بن حبيش يُثني على تعليمه، وكان له شعر كثير اعتنى بتدوينه، وأخذ عنه جلَّة من المحدثين والأدباء، توفي ببلنسية بعد صلاة الظهر من يوم الأحد مستهل رجب سنة ٥٧٨، وحمل إلى دانية فدفن بقريته بالمة، ومولده سنة ٥١٧، كما ذكر ابن الأبَّار.

وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن موسى بن حفص الأنصاري، من أهل دانية، سكن شاطبة، وقد قدمنا ترجمته بين علماء شاطبة، ونقلنا عن ابن الأبار أنه توفي بالقاهرة سنة ٦٤٦.

وأبو محمد عبد الله بن إسماعيل بن أبي إسحاق الجبنياتي، يعرف بابن أبي الطاهر، نشأ بسفاقس من أعمال إفريقية، ودخل الأندلس، واتصل بالموفق مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية، كان من ذوي النباهة والنزاهة، قال ابن الأبار: وتوفي هنالك ذبيحًا سنة ٤١٥، ولم يعيَّن محل وفاته ذبيحًا أفي دانية أم في ميورقة أم في إحدى أخواتها؟

وأبو المطرَّف عبد الرحمن الألبيري من ألبيرة، سكن دانية، رحل وحج ورابط، وكان جارًا لابن أبي زمنين الفقيه بغرناطة، وسلك طريقة الزهَّاد والعباد، ولما كان في دانية بسيف البحر بأسفل قاعون جبل دانية رباط معروف لازم المترجَم هذا الرباط، وغرس الشجر الذي يرى هناك، وجعل قبره في هذا المحل، ذكره ابن الأبار نقلًا عن أبي داود المقرئ.

وأبو زيد عبد الرحمن بن عامر بن عبد العظيم المعافري، أخذ عن أبي عبد الله بن خَلَصَة الكفيف وغيره، وكان أديبًا شاعرًا عالمًا بالعربية حسن الخط جيد الضبط، أخذ عنه ابن أخيه أحمد بن عبد الله بن عامر المعافري، ذكره ابن الأبار نقلًا عن أبي الحجَّاج بن أيوب وعن محمد بن عيَّاد.

وأبو محمد عبد الرحمن المعروف بابن أوريا، ولِّي قضاء دانية، وتوفي بعد صلاة الجمعة للنصف من شعبان سنة ٥١٥، عن ابن الأبار عن ابن عيَّاد.

وأبو زين عبد الرحمن بن محمد بن تقي الحضرمي، روى عن أبي العباس بن عيسى الداني، سمع منه صحيح مسلم في سنة ٥٣١، عن ابن الأبار.

وعبد العزيز بن خلف بن محمد المعافري، روى بدانية عن أبي داود المقري سنة ٤٩٤، وقدم دمشق فحدَّث بها عنه بموطأ مالك، وسمع منه فيها أبو محمد بن الأكفاني، وأبو الحسين هبة الله بن عساكر، وجماعة، ذكره ابن عساكر وقال: سُئل عن مولده فقال: عند طلوع الفجر من يوم الثلاثاء لثمانٍ خلون من رجب سنة ٤٤٨، وكان مقدمه دمشق سنة ٥٠٢، ذكره ابن الأبار، ولم يذكر سنة وفاته.

وأبو الأصبغ عبد العزيز بن محمد بن أحمد العبدري، كان معتنيًا بلقاء الشيوخ ودراسة الرأي، كتب بقرطبة عن أبي الحسن بن الوزَّان نوازلَ أبي الوليد بن رشد، سمعها منه سنة ٥٣٤، وكان حسن الخط، ذكره ابن الأبار.

وأبو محمد عبد الجبار بن خلف بن لب اللاردي، من لاردة، سكن بلنسية ودانية، قرأ جميع البخاري على الباجي بدانية، وقد تقدمت ترجمته في الجزء الثاني من هذا الكتاب عند الكلام عن لاردة.

وعمر بن محمد بن عبد الرحمن بن بيبش أبو حفص البكري الداني، يقال له: ابن أبي رطلة، سمع بدانية من أبي الحسن بن عز الناس، وأبي بكر بن جماعة، ورحل إلى مالقة، وسمع من علمائها. قال ابن الأبار: وكان مضعَّفًا إلا أنه كان صدوقًا في ما يرويه، توفي في شوال سنة ٦٠٦.

وعمر بن حسن بن علي بن محمد بن فرج الكلبي أبو الفضل الداني الأصل، السبتي الدار، ثم كنى نفسه أبا الخطاب، يعرف بابن الجميل، يذكر عنه أنه من ولد دحية بن خليفة الكلبي وسبط ابن البسَّام الفاطمي، نزيل ميورقة، سمع بالأندلس أبا القاسم بن بشكوال، وأبا بكر بن الجد، وأبا القاسم بن حبيش، وهذه الطبقة، وحدَّث بتونس بصحيح مسلم عن طائفة من هؤلاء وعن آخرين، وكان بصيرًا بالحديث، حسن الخط، معروفًا بالضبط، له حظٌّ وافر من اللغة، ولي قضاء دانية مرتين، ثم صُرف عنه لأمور نعيت عليه، فرحل إلى العدوة، ولقي بتلمسان قاضيها ابن حيون، وحدَّث بتونس سنة ٥٩٥، ثم حج وكتب بالمشرق عن جماعة بأصبهان ونيسابور، وعاد إلى مصر فاستأدبه الملك العادل بن أيوب أخو صلاح الدين لابنه الملك الكامل محمد الذي تولَّى الديار المصرية، وهو الذي أخرج الإفرنج من دمياط بعد حربٍ مشهورة في التاريخ، فنال المترجم في ظل بني أيوب دنيا عريضة، وله تآليف منها «أعلام النص المبين في المفاضلة بين أهل صفِّين»، قال ابن الأبار: كتب إليَّ بالإجازة سنة ٦١٣، ومات في ربيع الأول سنة ٦٣٣.

وعلي بن الدراج النحوي أبو الحسن الداني، أخذ العربية عن أبي تمام القطيني، وقعد للتعليم، أخذ عنه أبو القاسم بن محمد الخزرجي، وأبو عبد الله بن سعيد الداني، ذكره ابن الأبار، ولم يذكر تاريخ وفاته.

وأبو الحسن علي بن محمد بن لب بن سعيد القيسي المقرئ الشهيد، يُعرف بالباغي نسبةً إلى باغة من دانية، سكن إشبيلية، روى عن أبي عبد الله المغامي، وأبي داود المقرئ، وأخذ عنه أبو بكر بن رزق وغيره. قال ابن الأبار: استُشهد بعد سنة ٥٣٥، ولم يذكر كيف استشهد.

وأبو الحسن علي بن يوسف بن خلف بن غالب العبدري، روى عن أبي بكر بن الحنَّاط، وأبي بكر بن برنجال، وغيرهما، وكان فقيهًا، مشاورًا، مفتيًا كبيرًا، متضلعًا من العلوم، ولد سنة ٤٨٢، وتوفي في آخر سنة ٥٦٢.

وعلي بن صالح بن أبي الليث بن أسعد العبدري أبو الحسن بن عزِّ الناس الداني الدار، الطرطوشي الأصل، سمع أبا محمد بن الصيقل، وأبا بكر بن العربي، وأبا القاسم بن ورد، وكان فقيهًا متقنًا عالمًا بالأصول والفروع، دقيق النظر، جيد الاستنباط، لسنًا فصيحًا، وكان كبير فقهاء دانية ورأس الفتوى فيها، وله مصنَّفات، قال ابن الأبار: وقتل مظلومًا بدانية سنة ٥٦٦، وقال محمد بن عيَّاد: قُتل لسعاية عند السلطان محمد بن سعد سنة ٥٦٧، وكان مولده سنة ٥٠٨ بطرطوشة.

وعلي بن أحمد بن قوَّة الأزدي الداني، أخذ القراءات عن أبيه، وعن أبي القاسم بن حبيش، وأبي الحسن بن كوثر، وكان أديبًا شاعرًا، كتب أبو القاسم الملَّاحي كثيرًا من شعره، قال ابن الأبار: وكانت وفاته سنة ٦٠٨.

وأبو الحسن علي بن يوسف بن محمد بن أحمد الأنصاري الضرير الداني، يعرف بابن الشريك، كُفَّ بصره في صباه؛ فأقبل على العلم، واستفاد بتعليم العربية مالًا جليلًا، وكان أخذه للعلم في مرسية، حيث سمع من أبي القاسم بن حبيش، وأبي عبد الله بن حميد، وكذلك كان أخذ في دانية عن أبي القاسم بن تمام، وأبي إسحاق بن محارب، ولد سنة ٥٥٥، وتوفي في رجب سنة ٦١٩، قاله ابن الأبار.

وأبو الحسن عليم بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبيد الله العدوي الحافظ، سمع أبا عبد الله بن مغاور، ومن أبي جعفر بن جحدر، ومن أبي عبد الله بن سعيد الداني، وابن جماعة، ورحل إلى المرية سنة ٥٣٨، حيث سمع من أبي القاسم بن ورد، وأبي الحجاج القضاعي، وكان من العلماء الزهاد كثير المحفوظات إلى الغاية، وكان يقول: ما حفظت شيئًا فنسيته. وكان كثير الميل إلى الآثار والسنن، وله حظ عظيم من علم العربية، وكان ورعًا متواضعًا معظمًا في النفوس، ولد بشاطبة سنة ٥٠٩، وتوفي ببلنسية سنة ٥٦٤، وإنما ترجمناه هنا لأنه بدأ بطلب العلم في دانية.

وأبو يحيى زكريا بن محمد، لقي أبا عمرو المقرئ بدانية، وأخذ عنه أبو عبد الله بن باسه المقري الخطيب بجامع بلنسية، وسمع منه بدانية أبو عبد الله البَلَغي، وقال في اسمه أبو زكريا يحيى بن محمد لا أبو يحيى زكريا بن محمد، قاله ابن الأبار.

وأبو محمد الزبير بن محمد الفرضي، له سماع من أبي علي الصدفي، وكان من أهل العلم بالفرائض والحساب، أخذ عنه أبو عبد الله بن سعيد المقرئ الداني.

وأبو بكر زاوي بن مناد بن عطية الله بن المنصور الصنهاجي، يعرف بابن تقسوط، سمع ببلده دانية أبا داود المقري، وأبا بكر بن برنجال، وبمرسية أبا علي الصدفي، وبقرطبة أبا محمد بن عتاب وغيره، وأجاز له جلة من العلماء، وكان رجلًا صالحًا فاضلًا، قعد لإسماع الحديث، ولد بدانية، وتوفي بها ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة ٥٣٩، وفي آخر هذه السنة انقرضت دولة قومه المرابطين أو الملثمين بالأندلس، نقل ابن الأبار عن ابن عياد.

وأبو بشر طاهر بن عبد الرحمن بن سعيد بن أحمد الأنصاري، يعرف بابن سبيطة، كان من كبار تلاميذ أبي محمد البطليوسي، أقرأ العربية والآداب، وكان له حظ من علم النجامة، وألَّف فيه، روى عنه أبو الحجاج بن أيوب، وابن سيدبونه، وابن منيع، وغيرهم، وتوفي بدانية بعد سنة ٥٤٠، ذكره ابن الأبَّار عن ابن عيَّاد.

وأبو محمد القاسم بن علي بن صالح الأنصاري المقرئ المُرلِّي، نزيل دانية، أخذ القراءات عن أبي العباس القصبي، وأبي الحسن بن اليسع، وابن العريف الزاهد، وابن غلام الفرس، وأبي الوليد بن الدبَّاغ، وتصدَّر بدانية للإقراء، وأخذ عنه الكثيرون، منهم أبو بكر أسامة بن سليمان الداني، ذكره ابن الأبار، ولم يذكر تاريخ وفاته.

وأبو بكر يحيى بن محمد بن عبد الله المعروف بابن الفرضي الداني، كان من أهل العلم بالعربية، متقدمًا فيها، وسكن المرية، وأخذ عنه ابن يسعون، وأبو عبد الله بن سعيد، قال ابن الأبار: كان حيًّا في سنة ٤٩١.

وأبو زكريا يحيى بن عبد الله بن فتوح الحضرمي، يقال له ابن صاحب الصلاة، روى عن البطليوسي أبي محمد، وعن أبي بكر بن اللبَّانة وغيرهما، وكان أديبًا لغويًّا، روى عنه ابنه الأستاذ أبو محمد عبدون، توفي سنة ٥٥٠، قاله ابن الأبار.

وأبو زكريا يحيى بن أحمد بن يحيى بن سيدبونه الخزاعي من قسطنطانية، عمل دانية، روى عن أبيه، وعن أبي إسحاق بن جماعة، وأخذ القراءات عن أبي عبد الله بن سعيد، وحج فلقي بالإسكندرية أبا عبد الله بن أبي سعيد الأندلسي وغيره، سمع منه محمد بن عمر بن عامر الداني سنة ٥٧٨، عن ابن الأبَّار.

ويحيى بن عبد الله بن محمد بن حفص الأنصاري أبو الحسين الداني، سمع أبا القاسم بن حبيش، وعبد المنعم بن الفرس، وجماعة، وكتب للولاة، وخطب ببلده دانية، وكان جوادًا مضيافًا، قال ابن الأبار: لقيته بدار الإمارة، وسمعت منه، وتوفي بدانية في شوال سنة ٦٢٣، وكان مولده سنة ٥٦٤.

وأبو الحسين الداني، وهو يحيى بن أحمد بن محمد بن أحمد بن طاهر الأنصاري، من ولد سعد بن عبادة، سكن شاطبة، سمع من أبي الخطاب بن واجب وجماعة كثيرة، وعني بالعلم، وكان ذا حظ من البلاغة والكتابة إلى نباهة البيت. قال ابن الأبار: صحبتُهُ مدة، ولما جرت الفتنة صارت إليه رئاسة شاطبة وتدبير أمورها من قبل محمد بن يوسف بن هود والي الأندلس، وتوفي في شعبان سنة ٦٣٤ عن خمس وخمسين سنة.

وأبو الحجاج يوسف بن محمد بن سماحة الداني، سمع من أبي علي الصدفي، وأبي محمد بن أبي جعفر، وتفقَّه به، وكان مائلًا إلى علم الكلام وأصول الفقه، ولِّي قضاء دانية ثم قضاء بلنسية بعد جعفر بن ميمون، وتوفي يوم عيد الفطر من سنة ٥٦١ وهو قاضٍ ببلنسية.

وأبو الحجاج يوسف بن عبد الله بن يوسف بن أيوب الفهري، كان يقال له: أبو الحجاج الداني، سكن بلنسية، وكانت قراءته على أبيه وعلى ابن برنجال، وأخذ القراءات عن ابن سعيد الداني، والعربية عن أبي العباس بن عامر، وتفقه بابن بقي، وأجاز له ابن عتَّاب، وكان متقدمًا في الآداب، إمامًا في معرفة الشروط، كاتبًا بليغًا شاعرًا، ناب في الأحكام، وتوفي في شعبان سنة ٥٩٢، وولد سنة ٥١٦، ذكره ابن الأبار.

ويوسف بن أحمد بن عبَّاد التميمي أبو الحكم الملياني، تجوَّل في الأرض، ولقي السهروردي بمدينة ملَطية سنة ٥٩٠ وأخذ عنه، وسكن دانية ونوظر عليه بها، وأخذ عنه أبو إسحاق بن المناصف، وأبو عبد الرحيم بن غالب، قال ابن الأبار: ورأيته مرارًا، وكان شاعرًا مجودًا، شيعيًّا غاليًا، توفي بدانية ليلة عاشوراء سنة ٦٢١.

وأبو الوليد يونس بن أبي سهولة بن فرج بن بنج اللخمي، يقال له: الشنتجالي، سكن دانية قريبًا من أربعين سنة، وأخذ عن أشياخ طليطلة، وكان فقيهًا مشاورًا مدرِّسًا، أخذ عنه ابن برنجال، وابن سعيد الداني، وأبو إسحاق بن خليفة، وأبو الحسن بن أبي غالب، توفي بدانية في ربيع الأول سنة ٥١٤.

وأبو عبد الله محمد بن مبارك، يعرف بابن الصايغ، من أهل دانية، قال ابن بشكوال في «الصلة»: كان فقيهًا حافظًا، أخذ عن أبي عمرو المقري وغيره، وقد أخذ عنه ابن مطاهر، وأبو محمد بن أبي جعفر شيخنا، وتوفي سنة ٤٧٦.

وأبو بكر محمد بن الحسن بن خلف بن يحيى الأموي، يعرف بابن برنجال، له رحلة إلى المشرق بعد الخمسمائة، سمع فيها من أبي عبد الله الحضرمي، وأبي بكر بن الوليد الفهري، وكان من أهل الدراية والرواية، تولى خطة القضاء بصعيد مصر، ثم زاده والي عيذاب قضاء أخميم ولقبه بقاضي القضاة، ثم رجع إلى الأندلس، وتوفي ببلده دانية يوم الأحد الثالث والعشرين من رجب سنة ٥٣٦، وقد نيَّف على الخمسين، ذكره ابن بشكوال في الصلة، وابن عميرة في بغية الملتمس، وقال ابن عميرة عنه إنه فقيه عارف مشهور.

وأحمد بن طاهر بن علي بن عيسى، فقيه مشهور، يروي عن القاضي أبي علي بن سكَّرة وغيره، توفي بدانية سنة ٥٣١، ذكره ابن عميرة في بغية الملتمس.

وأبو العباس أحمد بن عثمان بن سعيد الأموي، والد أبي عمرو المقرئ الحافظ المشهور، وأصلهم من قرطبة، روى عن أبيه وعن غيره، وأقرأ الناس القرآن بالروايات، وتوفي يوم الاثنين لثمانٍ خلون من رجب سنة ٤٧١، ذكره ابن بشكوال في الصلة.

وأبو العباس أحمد بن طاهر بن علي بن عيسى الأنصاري، روى عن أبي داود المقرئ، وأبي علي الغسَّاني، وأبي محمد بن العمَّال، وغيرهم، وله رحلة وله تصنيف، وولِّي الشورى ببلده دانية، وامتنع من ولاية قضائها، وتوفي في نحو العشرين وخمسمائة، ترجمه ابن بشكوال في الصلة.

وأبو القاسم خلف بن إبراهيم بن محمد القيسي المقرئ الطليطلي، سكن دانية، روى عن أبي عمرو المقرئ، وأبي الوليد الباجي وغيرهما، وأقرأ الناس القرآن. قال ابن بشكوال: وسمع منه بعض شيوخنا، وتوفي يوم الاثنين عقب ربيع الأول سنة ٤٧٧.

وأبو داود سليمان بن أبي القاسم نجاح — مولى أمير المؤمنين هشام المؤيد بالله — سكن دانية وبلنسية، روى عن أبي عمرو عثمان بن سعيد المقرئ المشهور، وهو أثبت الناس به، وروى عن ابن عبد البر، وعن أبي العباس العذري، وعن ابن سعدون القروي، وأبي شاكر الخطيب، وأبي الوليد الباجي، وهذه الطبقة العالية، وكان من جلَّة المقرئين وأهل الفضل والدين، وله تواليف كثيرة في معاني القرآن العظيم، وكان حسن الخط جيد الضبط، روى الناس عنه كثيرًا. وقال ابن بشكوال في الصلة أنه قرأ بخطه رواية عن أبي عمرو المقرئ عن أبي الحسن علي الربعي بالقيروان عن سعيد بن يوسف السدري عن عيسى بن مسكين: أن الإجازة قوية، وهي رأس مال كبير، وجاز له أن يقول: حدَّثني فلان. وقال ابن بشكوال أنه سمع ذلك من طريق آخر نقلًا عن أبي داود سليمان هذا. قال: وكانت وفاته يوم الأربعاء بعد صلاة الظهر، ودفن الخميس لصلاة العصر بمدينة بلنسية، واحتفل الناس لجنازته، وتزاحموا على نعشه، وذلك في رمضان لست عشرة ليلة خلت منه سنة ٤٩٦، وكان مولده سنة ٤١٣.

وأبو عثمان سعيد سليمان الهمداني، أندلسي، يعرف بنافع، أخذ القراءة عن أبي الحسن الأنطاكي، وضبط عنه حرف نافع بن أبي نعيم، وأقرأ به، وكان من أهل العربية ومن ذوي الإتقان مع الستر، قال ابن بشكوال: توفي بساحل الأندلس بمدينة دانية يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ٤٢١، ذكره أبو عمرو المقرئ.

وأبو محمد عبد العظيم بن سعيد اليحصبي المقرئ، من أهل دانية، بلد القراءة في الأندلس، روى عن أبي سهل المقري، وعن أبي الوليد الباجي، وأبي الحسن بن الخشَّاب، وأبي القاسم الطليطلي. قال ابن بشكوال في الصلة: وروى عن أبي عبد الله الخولاني شيخنا — رحمه الله — قال: وأقرأ الناس ببلده، وأخذ عنه بعض أصحابنا، وتوفي في نحو العشرين وخمسمائة.

وأبو الحسن علي بن أحمد بن أبي الفرج الأموي، صحب أبا عمرو المقرئ، وأخذ عن أبي عمر الطلمنكي، وعن مكي بن أبي طالب. قال ابن بشكوال إنه كان من أهل التقييد والاعتناء بالعلم، وذكر أنه من دانية.

وأبو محمد عامر بن خليفة الأزدي، كان راوية للعلم فقيهًا بصيرًا بالشروط، توفي قريبًا من الستين والأربعمائة، ذكره ابن بشكوال في الصلة، نقلًا عن ابن مدير.

وأبو بكر عتيق بن محمد بن أحمد بن عبد الحميد الأنصاري، روى عن أبي داود المقري، وأبي الوليد الوقَّشي، وأبي علي الغسَّاني، وأبي علي بن سكَّرة، وطاهر بن مفوَّز، وتولَّى الصلاة والخطبة بجامع دانية بلده، وكان فاضلًا ثقة. قال ابن بشكوال: أخبرنا عنه صاحبنا أبو عمرو، وأثنى عليه.

وأبو تمام غالب بن عبد الله القيسي القطيني المقري، من أهل دانية، وأصله من قطين؛ قرية بميُّورقة، قال ابن بشكوال في الصلة إنه روى عن أبي عمر بن عبد البَر، وأبي عمرو المقرئ، وأبي الوليد الباجي، وإن الحميدي ذكره وقال: إنه مقرئ شاعر أديب، وأنشد له أبو عبد الله بن عمر الأشبوني:

يا راحلًا عن سواد المقلتين إلى
سواد قلب عن الأضلاع قد رحلا
بي للفراق جوًى لو مرَّ أبرده
بجامد الماء مرَّ البرقِ لاشتعلا

قال ابن بشكوال: إنه توفي بدانية سنة ٤٦٦، وإنه كان رجلًا زاهدًا قاضيًا. وترجمه ابن الأبار في التكملة، فقال عنه: غالب بن عبد الله بن أبي اليمن القيسي أبو تمام النحوي، يعرف بالقطيني، وقطين قرية بميورقة، سكن دانية، سمع غريب الحديث لابن قتيبة، وغريب القرآن ومشكله لابن قتيبة أيضًا، سمعه من أبي عبد الله حبيب بن أحمد، وكان هذا قد قارب التسعين، وأجاز له ما رواه عن قاسم بن أصبغ، وأبي علي القالي وغيرهما. ثم رحل إلى قرطبة سنة ٤١٤، فلقي أبا العلاء صاعدًا اللغوي وقد أسنَّ؛ فقرأ عليه، وأخذ عن ثابت بن محمد الجرجاني، وقعد لتدريس العربية، وأخذ عنه أبو بكر الفرضي، وأبو الأصبغ بن شفيع، وأبو الحسن بن أفلح، قال ابن الأبار: إن مولده سنة ٣٩٣، وإنه توفي في رمضان سنة ٤٦٥.

وأشهر قرَّاء دانية هو المشهور بأبي عمرو المقرئ، واسمه عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد الأموي، كان يقال له ابن الصيرفي، وهو من قرطبة، من أحد أرباضها، سكن دانية، روى في قرطبة عن أبي المطرِّف عبد الرحمن القُشيري الزاهد، وعن أبي بكر البزَّاز، وأبي عثمان بن القزاز، وأبي بكر التجيبي، وابن أبي زمنين، وجماعة، وسمع بأستجة من أعمال قرطبة، ورحل إلى بجَّانة وسرقسطة وسمع بهما وببلاد أخرى من الثغر، وذهب إلى المشرق، وسمع بمكة من ابن فراس العبقسي وغيره، وسمع بمصر من أبي محمد بن النحاس، وأبي القاسم بن منير وغيرهما، وسمع بالقيروان من أبي الحسن القابسي وغيره. وعاد إلى الأندلس وألقى عصا التسيار في دانية؛ ولذلك كان يقال له: أبو عمرو الداني، ولم يكن مثله في علم القرآن وتفسيره وإعرابه وطرقه، وله فيه تصانيف كثيرة مفيدة، وكذلك كانت له معرفة تامة بالحديث وطرقه ورجاله، هذا مع حسن الخط وجودة الضبط والدين والورع، وكان مالكي المذهب، ذكره الحميدي فقال: محدِّث مكثر ومقرئ متقدم، سمع بالأندلس والمشرق، وله في القراءات أرجوزة مشهورة.

قال ابن بشكوال في الصلة: قال أبو عمرو: سمعت أبي — رحمه الله — غير مرة يقول: إني ولدت سنة ٣٧١، وابتدأت بطلب العلم وأنا ابن ١٤ سنة، وتوجهت إلى المشرق لأداء فريضة الحج سنة ٩٧، وحججت سنة ثمانٍ وتسعين، وانصرفت إلى الأندلس سنة ٩٩، وهي سنة ابتداء الفتنة الكبرى، ووصلت إلى قرطبة في ذي القعدة سنة ٩٩.

قال ابن بشكوال: وقرأت بخط أبي الحسن المقري قال: توفي أبو عمرو المقرئ بدانية يوم الاثنين في النصف من شوال سنة ٤٤٤، وكان دفنه بعد صلاة العصر في اليوم الذي توفي فيه، ومشى السلطان أمام نعشه، وكان الجمع في جنازته عظيمًا.

وقد ترجمه المقري في النفح فقال إنه الحافظ المقرئ الإمام الرباني أبو عمرو الداني عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر الأموي، مولاهم القرطبي صاحب التصانيف، التي منها «المقنع» و«التيسير»، ثم ذكر رحلته إلى المشرق سنة ٣٩٧، وأنه مكث بالقيروان أربعة أشهر وفي مصر سنة، وحج ورجع إلى الأندلس، وأنه أخذ عن عبد العزيز بن جعفر الفارسي، وأبي الحسن بن غلبون، وخلف بن خاقان المصري، وأبي الفتح بن أحمد، وأبي مسلم الكاتب، وهو أكبر شيخ له، وذكر أنه سمع من القشيري، وحاتم البزَّاز والقابسي، وأنه خلف كتبه بالحجاز ومصر والمغرب والأندلس، ونقل عن بعض الشيوخ أنه لم يكن في عصر الحافظ أبي عمرو الداني ولا بعد عصره أحد يدانيه في حفظه وتحقيقه.

وكان يقول: ما رأيت شيئًا قط إلا كتبتُهُ ولا كتبته إلا حفظته ولا حفظته فنسيته. وقال بعض أهل مكة: إن أبا عمرو الداني إليه المنتهى في علم القراءات، والقرَّاء خاضعون لتصانيفه واثقون بنقله في القراءات والرسم والتجويد والوقف والابتداء وغير ذلك، له مائة وعشرون مصنفًا، وروى عنه بالإجازة رجلان أحمد بن محمد بن عبد الله الخولاني، وأبو العباس أحمد بن عبد الملك بن أبي حمزة، وكانت وفاته — رحمه الله تعالى — بدانية في نصف شوال سنة أربع وأربعين وأربعمائة.

وأبو مروان عبد الملك بن محمد بن مروان بن زهر الأيادي، من أهل إشبيلية، نذكره هنا لأنه انتهى إلى دانية ومات ودفن فيها. قال ابن الأبار في تكملة الصلة: هو والد أبي العلاء بن زهر، كان من أهل العلم والفقه، سلك طريقة أبيه في ذلك، ومال إلى التفنن في أنواع التعاليم، ورحل إلى المشرق لأداء الفريضة، ودخل القيروان ومصر، وأخذ في تعلُّم الطب هنالك زمانًا طويلًا، وبرع فيها براعةً شُهِر بها هو وعقبه بعد ذلك، ثم قفل إلى الأندلس، وفيها توفي، وبها قبره وقبر أبي الوليد الوقشي بإزاء الجامع القديم، إلا أنهما لا يُعرفان، ذكره السالمي ولم يذكر تاريخ وفاته، وأحسبها في نحو السبعين وأربعمائة. ا.ﻫ.

وترجمة هذا الرجل واردة في نفح الطيب، قال المقري عنه: صاحب البيت الشهير بالأندلس، وتولى رئاسة الطب ببغداد ثم بمصر ثم بالقيروان، ثم استوطن مدينة دانية وطار ذكره فيها إلى أقطار الأندلس والمغرب، واشتهر في علم الطب، وفاق أهل زمانه، ومات في مدينة دانية.

ووالده محمد بن مروان كان عالمًا بالرأي، حافظًا للأدب، فقيهًا حاذقًا بالفتوى، متقنًا للعلوم، جامعًا للدراية والرواية، توفي بطلبيرة سنة ٤٢٢، وهو ابن ست وثمانين سنة، حدَّث جماعة من علماء الأندلس، ووصفوه بالدين والفضل والجود والبذل — رحمه الله تعالى.

وأما أبو العلاء زهر بن عبد الملك المذكور، فقال ابن دحية فيه إنه كان وزير ذلك الدهر وعظيمه، وفيلسوف ذلك العصر وحكيمه، توفي ممتحنًا من «نغلة» بين كتفيه سنة ٥٢٥ بقرطبة؛ فلذلك نترك ترجمة زهر هذا إلى أن يأتي الكلام على علماء قرطبة.

هوامش

(١) قال الحميري في الروض المعطار: دانية مدينة بشرقي الأندلس على البحر، عامرة حسنة، لها ربض عامر، وعليها سور حصين، وسورها من ناحية المشرق في داخل البحر، قد بُني بهندسة وحكمة، ولها قصبة منيعة جدًّا، وهي على عمارة متصلة وشجرتين كثير وكروم، والسفن واردة عليها صادرة عنها، ومنها كان يخرج الأسطول إلى الغزو، وبها ينشأ أكثره؛ لأنها دار إنشاء، وفي الجنوب منها جبل عظيم مستدير تظهر من أعلاه جبال يابسة في البحر. ومن دانية أبو عمرو الداني المقرئ المعروف بابن الصيرفي، له تواليف في القراءات، سمع بالأندلس من محمد بن عبد الله بن أبي زمنين، ووصل إلى المشرق، فسمع من جماعة، توفي بدانية سنة ٤٤٤. ا.ﻫ. قلت: تكون وفاته قبل وفاة اللغوي ابن سيده الأندلسي في دانية بأربع عشرة سنة.
(٢) أي: إقطاعًا لمركيز.
(٣) هذا كما في نفح الطيب، وقد رأيت عبد الواحد المراكشي في كتابه «المعجب في تلخيص أخبار المغرب» يذكر هنا أبياتًا لم ترد في النفح، وهي:
تلك الرماح رماح الخط ثقَّفها
خطب الزمان ثِقافًا غير معتادِ
والبيض بيض الظبى فلَّت مضاربها
أيدي الردى وثَنَتْهَا دون إغمادِ
كم من دراريِّ سعد قد وهت وهوت
هناك من دررٍ للمجد أفرادِ
نور ونَوْرٌ فهذا بعد نعمته
ذوى وذاك خبا من بعد إيقادِ
(٤) وهنا في كتاب المراكشي هذا البيت:
ضلت سبيل الندى بابن السبيل فسِرْ
لغير قصدٍ فما يَهديك من هادِ
(٥) هذا البيت غريب هنا، ونظنه مدسوسًا على هذه القصيدة فيما بعد؛ لأن دولة بني العباس لم تكن انقرضت يوم انقراض بني عبَّاد، بل عاشت من بعدها أكثر من مائة وسبعين سنة. فبنو عبَّاد قد ثُلَّ عرشهم سنة ٤٨٤، ولم يُثَلَّ عرش بني العباس إلا الأربعاء رابع عشر صفر سنة ست وخمسين وستمائة. وقد كانت تقدمت هذه الحادثة حوادث طبيعية هائلة تشاءم الناس بها، واستدلوا منها على قرب كائنة عظيمة من قبيل طغيان المياه في العراق وظهور نار في الحجاز وحريق المسجد النبوي وغير ذلك، فقال المؤرخ أبو شامة شعرًا:
نار أرض الحجاز مع حرق المسـ
ـجد مع تغريق دار السلامِ
بعد ستٍّ من المتين وخمسيـ
ـن لدى أربع جرى في العامِ
ثم أخذ التتار بغداد في أوْ
وَل عام من بعد ذاك وعامِ
لم يُعَنْ أهلها وللكفر أعوا
ن عليهم يا ضيعة الإسلامِ!
وانقضَت دولة الخلافة منها
صار مستعصم بغير اعتصامِ
فحنانًا على الحجاز ومصر
وسلامًا على بلاد الشامِ
(٦) وهنا جاء في تاريخ عبد الواحد المراكشي البيت الآتي:
تفرقوا حيرة من بعد ما نشئوا
أهلًا بأهلٍ وأولادًا بأولادِ
وفي آخر القصيدة هذا البيت ليس في النفح وهو:
من لي بكم يا بني ماءِ السماء إذا
ماءُ السماء أبى سقيًا حشا الصادي
(٧) يظهر أن ابن اللبانة كان على نمط صاحبنا محمود سامي باشا البارودي — سيد شعراء المحدثين — الذي بلغ في الشعر الدرجة التي لم يكن فوقها، وذلك دون أن يقرأ كتابًا من كتب القواعد العربية، بل بمجرد صفاء القريحة ومطالعة شعر الأولين. قال الشيخ حسين المرصفي في كتابه «الوسيلة الأدبية للعلوم العربية»، وهو خير كتاب في بابه، ما يلي: فتقرر بجميع ما سلف أنه لا طريق لتعليم صناعة الإنشاء إلَّا حفظ كلام الغير وفهمه وتمييز مقاصده، وها أنا مستشهد على ذلك بما هو حاضر معنا في هذا العصر المخالف بالكلية للعصور التي كان أمر الشعر والكتابة الصناعية قائمًا فيها ورغبات الملوك وأعيان الأمراء فيها متوفرة؛ إذ كانت الدولة العربية وأمراؤها من العرب أو من غيرهم وهم مضطرون لإتقان معرفة لسانهم حسب ما كانت تبعث الحاجة إليه ويتوقف تحصيل الأغراض عليه، وبتغير الدولة تتغير الأحوال؛ فإن الكتابة الصناعية بلسان الدولة القائمة بالغة درجتها باللسان العربي أو أعلى كما تسمعه من العارفين بطرائف اللسانين ومحاسن اللغتين، وليس يقوى أمر كما هو بديهي إلا بحسب قوة الحاجة إليه.
هذا الأمير الجليل ذو الشرف الأصيل والطبع البالغ نقاؤه والذهن المتناهي ذكاؤه، محمود سامي البارودي، لم يقرأ كتابًا في فن من فنون العربية، غير أنه لما بلغ سن التعقل وجد من طبعه ميلًا إلى قراءة الشعر وعمله، فكان يستمع بعض من له دراية وهو يقرأ بعض الدواوين حتى تصور في برهة يسيرة هيئات التراكيب العربية ومواقع المرفوعات منها والمنصوبات والمخفوضات حسب ما تقتضيه المعاني والتعلقات المختلفة، فصار يقرأ ولا يكاد يلحن، وسمعته مرةً يسكِّن ياء المنقوص والفعل المعتل بها المنصوبين، فقلت له في ذلك؛ فقال: هو كذا في قول فلان، وأنشد شعرًا لبعض العرب، فقلت: تلك ضرورة، وقال علماء العربية: إنها غير شاذة. ثم اشتغل بقراءة دواوين مشاهير الشعراء من العرب وغيرهم حتى حفظ الكثير منها دون كلفة، واستثبت جميع معانيها ناقدًا شريفها من خسيسها واقفًا على صوابها وخطئها، مدركًا ما كان ينبغي وفق مقام الكلام، وما لا ينبغي، ثم جاء من صنعة الشعر اللائق بالأمراء ولشعر الأمراء كأبي فراس والشريف الرضي والطغرائي تميز عن شعر الشعراء كما ستراه. ومصداق ذلك ما سألقيه عليك من قصائد أنشأها «إلى آخر ما قال».
ومن أراد أن يعلم هل البارودي سيد الشعراء في العصر الأخير، فعليه بمطالعة ديوانه.
(٨) لا يظهر لي هنا جيدًا معنى «ينشع»، ولعله مما حرف النساخ، أو هو في لغة الأندلسيين غير ما هو في الفصيح؛ فإن «نشع» في الفصيح لا وجه له في هذا المحل، فقد قالوا: «نشع بالشيء: أخذه بعنف، والطيب: شمه، وفلانًا بشربة ماء: أغاثه بها، وفلانًا الكلام: لقنه إياه، والناقة: سعطها.» وإذا كان لازمًا فهو بمعنى «شهق»، وإذا قلنا إنه مضارع «أُنشع» مبنيًّا للمجهول، فلا يصح معه المعنى أيضًا؛ «فأنشعه: أعطاه أجرته، وأنشع فلانًا الكلام: لقنه إياه.»
(٩) السوذق، بفتح فسكون: الصقر أو الشاهين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤