ألش

وعلى مقربة من القنت مدينة ألش Elche، متصلة بالقنت بخط حديدي يضرب إلى الجنوب الغربي مارًّا بأرضٍ شديدة الحرارة، حتى إنهم يحصدون الشعير من شهر مارس قبل أن يُدرك ويطعمونه المواشي. وألش١ بلدة ساحلية يسكنها نحو من ثلاثين ألفًا من النفوس، وهي بلدة أيبيرية كان يقال لها في زمن الأيبيريين: «هيليك Helike»، وسماها الرومان «إيليشي Illici»، وفيها كنيسة سانتا ماريا التي لها برج يعلو ٣٩ مترًا، إذا صعد الإنسان إلى أعلاه أشرف على جميع المدينة، ورأى بيوتها البيض، وأجدر شيء بالذكر في ألش هي غابة النخيل التي لا يوجد لها نظير في جميع الأندلس، عدد أشجارها مائة وخمسة عشر ألف نخلة، وهي مملوكة لأصحابها، تشرب من ماء سيق إليها من وادٍ يقال له: «فينالوبو Vinalopo»، والنخلات طوال ارتفاع الواحدة من ٢٠ إلى ٢٥ مترًا؛ فلذلك قال عنها العرب: إن أرجلها في الماء ورءوسها في النار لشدة حرارة الجو هناك، والناس يزرعون بين النخل أنواع البقول والخضروات، وعندهم رمانٌ كثير، وهم يؤبرون النخل فيصعد المؤبِّر بواسطة حبل يربطه بوسطه، فيرقى تدريجًا، وهكذا يصنعون عند اختراف النخل، وهو لا يحمل كل سنة، ومعدَّل ثمر النخلة الواحدة كل سنتين من ٣٤ إلى ٣٥ كيلو، وليس بُسر نخل ألش كبسر نخيل الصحراء في أفريقية من جهة اللذة. وهم يبيعون سعف النخل اليابسة، وللناس اعتقاد هناك بأنها تقي من الصواعق؛ فلذلك يعلقونها في الرواشن.

وقد كانت ألش من المدن المعدودة في زمان العرب، قال عنها ياقوت في معجم البلدان: ألش — بفتح أوله وسكون ثانيه وشين معجمة — اسم مدينة بالأندلس من أعمال تدمير، لزبيبها فضل على سائر الزبيب، وفيها نخيل جيدة لا تفلح في غيرها من بلاد الأندلس، وفيها بسط فاخرة لا مثال لها في الدنيا حسنًا. انتهى.

وقد بنى أهل ألش سدًّا للمياه يقولون له سد «تيبي Tibi» قامت ببنائه شركة من أصحاب الأملاك، وهم يبيعون من هذه المياه لمن يحتاج إلى سقيا أرضه في المعاطش، ولمصلحة هذا السد ديوان خاص بها، وأهل ألش يبيعون جرائد النخل الذي عندهم في كل إسبانية، ويستفيدون منها أكثر مما يستفيدون من الثمرات. وألش موصوفة بكثرة الغبار وشدة الحر في الصيف، ليس بذلك لها نظير في إسبانية مع كون الحر شديدًا في أكثر أنحاء إسبانية.٢

ذكر من انتسب إلى ألش من أهل العلم، منهم أبو عبد الله محمد بن محمد بن إسماعيل بن سماعة التجيبي، من أهل ألش، سكن مرسية، كان ذا عناية بالرواية، بصيرًا بالحديث، مشاركًا في العربية، توفي معتبطًا سنة ٦١٠.

وأبو عبد الرحمن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الجليل بن غالب بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن خلف بن القاسم بن غالب بن حمدون النصاري الخزرجي، سمع بمرسية من أبي بكر بن أبي جمرة، وأبي عمرو بن عيشون، وببلنسية من أبي عبد الله بن نوح، وأبي الخطاب بن واجب، وفي شيوخه كثرة، كان فقيهًا بصيرًا بالحديث ذا حظ من الأدب، ولِّي قضاء المريَّة فحمدت سيرته، وتوفي بغرناطة سنة ٦٣٦.

وأبو عبد الله محمد بن عبد الواحد أصله من ألش، سكن مرسية، يعرف بابن التيَّان، كان من أهل الحديث، ذكره السلفي وقال: روى لنا عن أبي عبد الله بن الطلاع، وأبي علي الجيَّاني. هؤلاء ترجمهم ابن الأبار.

وممن انتسب إلى ألش بسبب سكناه بها عيسى بن محمد العبدري، أديب شاعر، سمعه أحد ينشد على قبر الفقيه أبي عمرو خفاجة بن عبد الرحمن أبياتًا يرثيه بها منها:

أيا حسرتا ماذا تواريه بالأرض
من الوجنة الحسناء والبدن الغضِّ
تكاثرت الأموات والطين فوقها
خواتم حتى يأذن الله بالفضِّ

وأبو محمد عبد الله بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل، يعرف بابن قمرة، تفقَّه بأبي جعفر بن أبي جعفر، وسمع الحديث من أبي الوليد بن الدباغ، وأبي الحسن بن فيد القرطبي، ولِّي قضاء بلده ألش، وكان مشاركًا في حفظ المسائل، دَرِبًا بالأحكام، ذا حظ من الأدب، توفي سنة ٥٥٩ أو ٥٦٠، ذكره ابن الأبار في التكملة، وقال ابن عميرة في البغية: ألشي فقيه حسن الخط.

وأبو عمرو خفاجة بن عبد الرحمن بن أحمد الأسلمي من ألش، روى أيضًا عن أبي الوليد بن الدباغ، وأبي الحسن بن فيد، وكان فقيهًا متصرفًا في الوثائق، عارفًا بالأحكام، مات سنة ٥٧٤.

وعبد الله بن إبراهيم بن معزول الألشي، يكنى أبا محمد، يروي عن أبي علي الصدفي، ذكره ابن عميرة في البغية.

وممن ينسب إلى ألش آل الألشي في دمشق الشام، منهم صاحبنا المرحوم الشيخ زاهد الألشي، وكان من أهل الفقه والفضل، فصيحًا مفوهًا، سريع البادرة، موقد الذهن، بديع الفكاهة. كان أظرف الظرفاء في عصره، تقصد الناس مجالسه للتمتع بمحاضرته، وتولى القضاء في دوما وفي بعلبك، وابنه جميل بك الألشي كان من ضباط الجيش العثماني، وكان متميزًا بالبراعة والمقدرة، وقد تولى رئاسة الحكومة في دمشق بعد الحرب العامة في أثناء الاحتلال الإفرنسي، وكنت غفلت عن سؤال والده — رحمه الله — عن سبب تسميتهم «بالألشي» مع كثرة معاشرتي له، فلما شرعت في تصنيف هذا الكتاب تنبهت إلى أنه قد يجوز أن يكونوا منسوبين إلى ألش هذه؛ فأرسلت إلى جميل بك الألشي أسأله عن ذلك؛ فأجابني بما يؤيد ظني بأنهم من مدينة ألش بالأندلس، وأنه كان يسأل أباه فيقول له: أصلنا من الغرب.

هوامش

(١) جاء في كتاب «الروض المعطار في خبر الأقطار» لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد المنعم الحميري، الذي عاش في أواسط القرن التاسع للهجرة ما يأتي:

بالأندلس إقليم ألش من كور تدمير بينه وبين أوريولة خمسة عشر ميلًا. وألش: مدينة في مستوٍ من الأرض، يشقها خليج يأتي إليها من نهرها يدخل من تحت السور، ويجري في حمامها ويشق أسواقها وطرقها وهو ملح سبخي. ومن ألش إلى لقنت خمسة عشر ميلًا. ومن الغرائب أن بساحل ألش، بمرسى يعرف بشنت بول، حجرًا يعرف بحجر الذئب إذا وضع على ذئب أو سبع لم يكن له عدوان وفارق طبعه من الفساد.

(٢) حتى في بلادها الشمالية فما ظنك بالجنوبية، وتمتاز ألش مع الحرارة بملوحة ترابها، وهذه الملوحة هي السبب في نمو غيضة النخل التي فيها، ومن ألش إلى القنت قطار كهربائي إذا سافر المسافرون به في الصيف يحتاجون إلى إغلاق الأبواب والنوافذ اتقاءَ الحر.
وأما انطباعات خاطري بما رأيته بنفسي من جهة ألش ونواحيها، فهي مذكورة في كنَّاش الجيب الذي كان معي في إسبانية، وكنت أقيِّد فيه عفو الساعة ما أراه وأشعر به، وقد تقدم المنقول عنه.
ومما يجدر بالذكر بمناسبة ألش كتابة عربية وجدت في سقف بيت في هذه البلدة في شارع منها يقال له «ألبادو Alvado» بقي منها الأسطر الآتية:

أقبل على صلاتك، ولا تكن من الغافلين، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، صُنع الفاضل أبي الضيا سراج بن سَلَمة … عليه عام اثني عشر ود … صلى الله على سيدنا …

وقد تكلم على هذه الكتابة الباحث «سافيدرا Savedra»، فذهب إلى أن هذه الكتابة هي من عصر متأخر؛ لأنها ليست بالخط الكوفي بل بالخط النسخي المعروف؛ ولأن فيها لفظة «عام»، وهذا الاصطلاح لم يكن معروفًا في تواريخ القبور العربية بالأندلس وما ماثلها إلى القرن السادس للهجرة، فمن قوله: «عام اثني عشر»، ووجود هذه الكلمة «د» التي لم يبق منها إلا الحرف الأول الذي يشبه أن يكون كرسيًّا للثاء تكون الجملة «اثني عشر وثمانمائة»، أو تكون كرسيًّا للتاء فتكون الجملة «عام اثني عشر وتسعمائة»، وهي السنة الموافقة لسنة ١٥٠٦ المسيحية، ومن هذه الكتابة يظهر أنه في ذلك العهد كان مسلمون في ألش، ومن المحقق أنه لذلك العهد كانت مئات ألوف من العرب لا تزال في شرق الأندلس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤