الأزمة الأولى

في فجر السنة الثانية من عهد فيصل، كان العراق يتمخَّضُ بالفتنَةِ. وبكلمةٍ لا مجاز فيها كانت أحوال العراق السياسية تُنذِرُ بثورةٍ ثانيةٍ، لا على الإنكليز وحدهم هذه المرة، بل عليهم وعلى الحكومة الموالية لهم، وقد عصفت العواصف بادئ بدءٍ في ثلاثة أماكن رئيسية، فاشتعلت النار في بغداد، وتطايرت الحمم من بركان النجف، وتحفزت العشائر للوثوب في قلب وادي الفرات.

وما تعددت في الأحزاب الأغراض والنزعات، بل كان صوت الوطنيين — على اختلاف رناته وصيحاته — واحدًا في مطالبه، واحدًا في احتجاجه، واحدًا في يقينه، فكنتَ تسمع وترى كل من يحسن الخطابة أو الكتابة مُطالبًا بحكومةٍ نيابية، وبِمُلكٍ مستقل كل الاستقلال، وحاملًا على الانتداب والمنتدبين.

وقد اختلفت هذه الحملة عن الثورة في صيف عام ١٩٢٠ بأمرَين؛ بشيءٍ من النظام، وبكلِّ شيءٍ من العتاد المعتاد. توحدت فيها المطالب، كما قلت، فكان لها ثلاثة أهداف؛ أيِ الوزارة والبلاط الملكي ودار الانتداب. وتجانست فيها الأسلحة، فكانت كلها، من مصانع اللغة: المدافع الرشاشة (الخطب والمقالات)، والطائرات المدمِّرة (القصائد)، والمدافع الصحراوية (فتاوى المجتهدين). ومن عجائب الأمور أن يتوهَّم الخصوم أنَّها كلها من مصانع «كروب».

وكانت في البداءة تُبشِّر بالنصر؛ فقد صوَّب المجاهدون مدافعهم الرشاشة على الوزارة فأسقطوها، وحلَّقوا بطائراتهم فوق دار الانتداب، فأزعجوا أهلها وروَّعُوهم بالقذائف (القوافي) النارية. وأطلق المُجتهدون مِدفعًا من مدافعهم الصحراوية، فانفجرت بعض قنابله في جوار البلاط الملكي. وما كان للحكومة ولا للبلاط ولا لدار الانتداب، من القوَّات البرية أو الجويَّة في تلكَ الأيَّام ما يكفِي لمحقِ فتنةٍ صغيرةٍ فضلًا عن الكبيرة، ولا كان بإمكانهم، أو أنَّه ما خَطَرَ في بالهم، أن يُجرِّدُوا على الوطنيين السِّلاح نفسه الذي تسلَّحُوا به.

بلغت هذه الحملة أشُدَّها في عيد الجلوس الأول، يوم كان الملك يشكو ألمًا واحدًا من آلامه المتعدِّدَة؛ ألمًا جسديًّا من التهاب في الزائدة المعوية، وكان العراق يُعدِّد، بلسان خطبائه وشعرائه، آلامه كلها، وفي رأسها الزائدة كذلك؛ تلك الزَّائدة التي تُدعى الانتداب. وقد أشار الأطباء على الملك بجراحة في الحال، فشاء أن تؤجل إلى اليوم التالي، ولكن الوطنيين لم يؤجِّلوا، بل كانوا قد باشروها واغتنموا فرصة العيد لإعلانِ أمرها، فراحوا يجتمعون ويخطبون، ويصدرون المناشير.

وهاكَهم في النجف وهم في تحليقهم الشِّعري الوطني أبعدُ وأَسَدُّ منهم في مسالكهم السياسية، ولقد كبروا الخيال وعظَّمُوهُ، شكلًا ولونًا، فتلفَّتوا إلى الماضي متلهِّفين متحسِّرين، وصاحوا بالحاضر مُستعيذين منه بالله، ونظروا إلى المستقبل نظرة المدنف الحزين، كنَّا منذُ سنة نتظلَّلُ ظِلال الذكريات المجيدة، ذكريات الرشيد والمأمون، ونتلمَّسُ الحقيقة في تجديد ذلك العهد العربي السعيد، ونحن اليوم نتحرَّقُ في بوادي الخيبة والهوان. كنَّا منذ سنة في فجر الآمال الذهبية، ونحن اليوم في ليلٍ دامسٍ من البلايا الانتدابية والاستعمارية، ولكنَّ للأمَّة صوتًا قدسيًّا سرمديًّا، يصيحُ اليوم وغدًا، ويستمرُّ صائحًا حتَّى تصير صيحاته سيوفًا وقنابل على المنتدبين وأشياعهم أجمعين، بريطانيين وعراقيين. الله أكبر، الله أكبر!

وهاكهم في بغداد وهم في وطنيتهم وفي منطقهم أبلغ وأَسَدُّ منهم في الأسجاع والقوافي؛ فقد كان لصوت الوطنيين المعتدلين والمتطرفين معنًى ومغزًى ورنَّةٌ بدت جميعها جليَّةً صَافية فوق الشقشقات الخطابية، وَعَدْتُم البلاد في حفلة التتويج بحكومةٍ نيابيةٍ دستورية، وها قد مرَّت السنة بكاملها والحكومة لا تُعرف أَدُستورية هي أم انتدابية أم ملكية مُطلقة. إنَّ البلاد تشكو السياسة البريطانية المسترشدة بمبدأ «فرِّقْ تسُدْ» الهادمة لآمالنا القومية والوطنية كلها. إنَّ البلاد مهدَّدَة بالانتداب، والانتداب خطرٌ على الحرية والاستقلال … لقد أسقطنا الوزارة التي عيَّنها البريطانيون، وجئنا نطلبُ وزارةً وطنية صادقة يعيِّنها مليك البلاد … إنَّنَا نؤيِّد العرش، ونرفض الانتداب، ونطلب أن تحدد السلطة البريطانية في الدوائر الإدارية كلها، وأن يُعقد المجلس الوطني، وألَّا تُعقَدُ مُعاهدة بين العراق وبريطانيا قبل أن يتم ذلك كله.

صَبَرَ الملك فيصل على آلامه يوم العيد، عيد الجلوس الأول، واستقبل المهنِّئِين من رجال الحكومة والأمَّة، وقد جاء صباح ذاك اليوم وفدٌ يمثِّل الحزبَين الوطنيَّين ليسمع الملكُ شكوى العراق ومطالبَه. مشى الوفد في شبه مُظاهرةٍ وطنيَّة، فانضمَّ إليه جماعات من النَّاس، فوصل إلى القصرِ حشدًا كبيرًا مُتحَمِّسًا هائجًا، وهناك في فناءِ القصر وقفَ الخطيب يُنادي الملك فيصلًا ويسأله مُقابلة الوفد.

وكان الملك وقتئذٍ يستقبلُ المهنِّئِين، فبعث برئيس الأُمَناء ليُقابل الوفد، ويجيب الخطيب بكلمة شكر واطمئنان تناسب المقام، فجاء الرئيس يقوم بهذا الواجب، ولكنه — وهو يسمع ويرى — ذُهل عن نفسه الرسمية، فنفذت إليه من كلمات الخطيب شرارة أَشْعلت فيه الحمية والحماسة، فراح في جوابه يُجاريه في مضمارِ السياسة الوطنية، فهتف له الجمهور أضعاف هتافهم لخطيب الوفد. وبينا هو يخطب تلك الخطبة التي «تُناسب المقام»، وصل المندوب السامي السر برسي كوكس، وقد جاء يُهنِّئ الملك، وكان من واجب رئيس الأُمَنَاء أن يستقبل العميد، فختم خطبته بكلمةٍ من نار، فصاحَ إذ ذاك الناس قائلين: ليسقط الانتداب! ليسقط البريطانيون!

وهكذا، بعون رئيس الأمناء، تمَّت المظاهرة وكانت مفلحة، ولكنها ما أثَّرت ظاهرًا بالسر برسي، الذي مشى إلى غرضه على عادته هَادِئ البال. وبعد أن أتمَّ واجبه الرسمي في تهنئة الملك، وعادَ إلى مقرِّه، كتبَ إليه يُعلمه بالحقيقة المؤلمة، فمهما قِيلَ في اجتماعٍ عام، وبشعبٍ متهيِّج، لتخفيفِ الذنب، فلا يصحُّ أن يُقال إنَّ المظاهرة هي غير رسمية، وقد حدثت في فناء القصر، وكان رئيس الأمناء أحد الخطباء، هذا هو الحادث الذي زَادَ يومئذٍ بآلام فيصل الروحية والجسدية، فكتب إلى العميد يفصح عن أسفه الشديد، ثم أقال رئيس الأمناء من وظيفته.

وما انتهى مع ذلك الحادث المشئوم؛ فقد كان المندوب السامي يفكِّر يومئذٍ بخطةٍ سياسيةٍ فاصلة، ويتردَّدُ في تنفيذها، فجاء هذا الحادث يقرُّه في رأيه، يستفزه، يشحذ منه العزيمة. وقد جاءَ على ذكر تلك الخطَّة وأسبابها في مُقدِّمةٍ كَتَبَها لكتاب المس بل، وفي تقريره الرسمي للحكومة البريطانية، وفي الاثنين يقولُ إنَّ الحالة كانت تُنذِرُ بثورةٍ ثانية، وقد عدَّدَ من الأسباب استعفاء الوزارة، والاضطرابات في ولاية بغداد، والهياج المستمر في العشائر، ومرض الملك فيصل الذي حَالَ دُونَ التعاون، ثمَّ قال: «لم يكن في البلاد من سُلطة غير سُلطة المندوب السامي التي وجب عليَّ استخدامها حتمًا على الإطلاق.»

ولكنه وقد ذكر مرض الملك، لم يذكر أنَّه حاول أن يشرك جلالته في العمل، ليحفظ في الأقلِّ صُورته الشرعية، فأخفق وكان مدحورًا. وقد حدث الحادث المؤلم بعد المظاهرة في فناء القصر، وقبل تنفيذ الخطَّة الحاسمة، فمثَّل السر برسي كوكس فيه دورًا شائنًا شبيهًا بدور البطل الشرير في الروايات. مثَّل الدور وسكت، وسكتت كذلك المس بل التي كانت عالمة به. يا للعجب كيف أنَّ المس بل التي كانت تُضمِّن رسائلها كل ما يحدث في بغداد في حومة السياسة وخارجها من صغير الأمور وكبيرها، نسيت هذا الحادث المؤلم أو تناسته، فما أشارت إليه؟!

وكان السر برسي والمس بل عالمَين بحالة الملك الصحيَّة، وعالمين كذلك بالجراحة وبموعدها في اليوم التالي، وهو والمس بل من ذوي الشعور الرَّاقي إذا لم نقل كذلك الرقيق، فضلًا عن ذلك أنَّ الرجل الكريم لا يحرج امرأً ساعة مِحنته، أو يخلو الرضى، في مثل هذه الحال، من الكره والإنكار. فإذا سلَّم المُكرَه بأمرٍ ما أو رضي بعملٍ ما، أيُعَد ذلك لخصمه فوزًا سياسيًّا؟ وهل هو شرعًا من العدل بشيء؟ وهبْ أنَّه في الحالَين فوز وعدل، فهل ننكر أو نتجاهل أنَّه خلقيًّا في الأقلِّ مخجلٌ شائنٌ؟

قال المندوب السامي إنه لم يكن في البلاد يومئذٍ غير سُلطةٍ واحدة هي سلطته، فلِمَ لَمْ يستخدمها مُنفردًا دُون أن يزيد بألم ملكٍ مريض، ودون أن يُعرِّض نفسه للإهانة؟ فقد قُدر، على ما يظهر، أن تُشفع المظاهرةُ الوطنية بالتوبيخ الملكي. وكان التوبيخ، وكان أنْ عَمِلَ السر برسي بالكلمة العربية: الكريم مَن ستر إهانته. فما ذكر الحادث فيما كتب، لا في التقرير، ولا في كتاب المس بل.

وما الدَّاعي لذكره الآن؟ ليسَ الأمر شخصيًّا ليُغضى عنه؛ فهو يتعلَّق بالملك فيصل وبعددٍ من زُعَمَاء الأمَّة وصحفييها؛ إذن هو وطنيٌّ عمومي. زِد على ذلك أنَّ فيه مأثرة من مآثر فيصل التي يجبُ أن يعرفها خصوصًا العراقيون.

ويجب أن يعرفها الإنكليز؛ فالأمَّة صاحبة الانتداب تجهلُ غالبًا ما يعمله باسمها كبار رجالها السياسيين، وعندي أنَّ علمها بذلك كله وبالسيئ منه قبل الحسن، بما فيه تُذَلُّ وبما فيه تُعزُّ، هو مُفيدٌ لها وللأمة المنتدبة عليها. وأين العدل يا ترى وأين الوطنية — إني ها هنا ناظر إلى المسألة من الناحية البريطانية — في سكوت المندوب السامي عن عمل له ليس فيه مأثرة أو محمدة؟!

قد أطلتُ الشرح، فهاكم الحادث؛ في صباح اليوم التالي لعيد الجلوس، عندما كان الملك فيصل مُحاطًا بالأطباء والممرضات، وقد أعدُّوا المباضع والأدوات للجراحة؛ وصل المندوب السامي السر برسي كوكس، فسلَّم وأخرج مِن جيبه أمرًا قدَّمه للملك ليوَقِّعه، هو أمر باعتقال سبعة من الزعماء الوطنيين ونفْيِهم من العراق. قرأه الملك مكمودًا وهزَّ برأسه، فأفصح السر برسي عمَّا يبرِّرَ العمل، فما أجاب الملك بكلمة، ولكن أحد الأطباء الإنكليز تَقدَّم وخاطبه قائلًا: «ليس هذا الوقت، يا حضرة المندوب، لمثل هذه المسائل.»

السر برسي: «المسألة ضرورية لحفظ الأمن، إنَّ البلاد في خطر.»

الطبيب: «أجِّلْها إلى أن تتمَّ الجراحة، وهي أَلْزَمُ لحياة جلالة الملك، فيجب أن نُباشرها حالًا.»

الملك، والأمر بيده، يخاطب السر برسي: «بعد دقائق قليلة أكونُ بين أيدي هؤلاء الأطباء، وقد لا أعودُ من غيبوبتي إلى الحياة، فهل تطلب مني، يا سر برسي، أن يكون هذا الأمر آخر أعمالي في الدنيا؟ هل تنتظر منِّي أن أنفي هؤلاء الناس، أهل البلاد، من بلادهم قبل موتي؟! لا والله، إنَّه غير ممكن، غير ممكن.»

قال هذا ودفع الأمر إلى المندوب السامي فوضعه في جيبه، وخرج من القاعة دونَ أن يفوه بكلمةٍ واحدةٍ.

ولكنه مضى في عمله مُنفردًا؛ إذ نفَّذ الأمر في اليوم التالي باسم المندوب السامي للحكومة البريطانية، فنفى الزعماء السبعة إلى جزيرة هنجام في خليج البصرة، وأقفل الناديَين الوطنيَّين، وعطَّلَ بعض الصُّحُف، ثمَّ طلب من اثنين من مُجتهدي الشيعة أن يسفِّرا ولديهما — وهما مِن الوطنيين المتطرفين — إلى إيران، ففعلا دُون احتجاج، وسكت المجتهدون الآخرون.

أمَّا العشائر فقد استمر أكثرهم ثائرين، مُنادين بسقوط الانتداب، عاملين بأوامر المجتهدين، دُونَ أن يعلموا بما تغيَّرَ من حالهم، أو أنهم أبوا أن يسكتوا مثلهم، فأرسلت السلطة عليهم سربًا من الطائرات، فرمتهم ببعض المناشير والقذائف، فسكتوا مثل رؤسائهم، وأخلدوا بعد ذلك للسكينة.

هذا هو العمل الذي كان يتردَّدُ السر برسي فيه، خاف أن يُضرم في البلاد نار ثورةٍ ثانية لا تستطيع السلطة إخمادها، ولا أظنُّ أنَّ أحدًا في موقفه كان يطمعُ بمثلِ هذا النجاح لعمل أقدم عليه مُتردِّدًا. ومع ذلك فقد قال السر برسي للمؤلِّف في حديثٍ عن حوادث تلك الأيام، إنَّه يكره استخدام القوَّة لحلِّ المشاكل السياسية، وهو في ذلك فوق كلِّ ريب، فإنَّ من يعرفه، ويُدرِكُ شيئًا من السر في قوته، يتيقَّنُ أنَّه يؤْثر قوى العقل وأساليب الجدل والمنطق، يؤْثر المفاوضة والمناورة والمساومة في حسم الأمور، على القوات المسلحة بالنار والحديد.

بيد أنَّه لو تحقَّقَ ما وراء تلك الحركة، لو أدرك أنَّ وراء خط النار الأول — وراء القصائد والفتاوى والخطب والمقالات — أمَّةً مكدودةً مُنهكة من الثورة الأخيرة، مثل الإنكليز أنفسهم، لَمَا خرج عن المألوف في خطته، المأثور في سياسته، من الحصافة والكياسة واللين.

أوَيحتاج الأمر إلى برهان؟ فقد نفى الزعماء الوطنيين، وأقفل أنديتهم، وعطل صحفهم، وأسكت المجتهدين، وأدَّب العشائر، وبكلمةٍ واحدة سحق المعارضة سحقًا بأمرٍ منه جازف مُجازفة فيه، ولو اضطرَّ إلى تنفيذه بالقوَّة المسلَّحة لما استطاع؛ لأنَّ تلك القوَّة كانت يومئذٍ مفقودة.

وقد خضعت الأمَّة للأمر. ولم تعلم يومئذٍ، ولا يعلم الآن إلَّا بعض السياسيين، أنَّ الملك فيصلًا رفضَ أن يوقِّعه، وأنَّ السر برسي كوكس جَازَفَ فيه، وأنَّ العراق أطاعه وطأطأ له الرأس لعجزٍ في الأمَّةِ، لا لخوفٍ من القوَّات البريطانية.

وممَّا زادَ في الفتور والتخاذل تلك الإشاعات التي كانت تُشاعُ عن الملك فيصل في أثناء مرضه، وأولها أنَّ الجراحة لم تنجح، ثم قالوا: «الملك في حالة تُنذِرُ بالخطر — الملك مشرفٌ على الموت — الملك مات!» وغيرها من الإشاعات السياسية.

figure
الملك فيصل الأول بين زعيمي المعارضة الحاج جعفر أبو التمن (إلى يساره) وياسين الهاشمي (في الطرف الأيمن).

حدثني الملك فيصل قال: «في تلك الأيَّام العصيبة كان يجيئني النَّاس مُتحمِّسين قائلين: «ارفع العلم، ونحن رجالك، نفديك بأرواحنا.» وإنِّي أذكر واحدًا من أولئك الفدائيين، وهو من كبار رجالات العراق، وأشدهم تحمُّسًا، ولكنَّه غابَ قبل أن نفذ السر برسي كوكس أمره بنفي الزعماء الوطنيين، ثمَّ عاد، فجاء يُهنِّئني بالشفاء، فسألته قائلًا: «وماذا فعلتم بالإنكليز؟ هل عَدَلتم عن إخراجهم من البلاد؟» فأجاب فورًا دون ارتباك: «قالوا لنا إنكم أنتم أُخرجتم من البلاد، فسكتنا».»

وقد كان لهذه الإشاعات أَلْسِنة تشيعها للغرض منها ولغرابتها، وآذان تسمعها مُصدقة، وتسمعها مُستحبَّة مُتفائلة، وفي الأمرين ما يريكَ أنَّ الجوَّ السياسيَّ في تلكَ الأيَّام لم يكن مكفهرًّا فقط، بل كان مُفعمًا بالسموم البريطانية والوطنية أيضًا، بسموم الشهوات السياسية والشبهات، والدسائس والخدعات، والمخاوف والمناورات.

يقولُ العرب: الحربُ خُدعة. ويقول الإنكليز: كل شيء يجوز في الحرب وفي الحب. وها هنا الشيء الكثير بين العراقيين والبريطانيين من أسباب الحرب، وأسباب الحب، مُلتفَّة بعضها على بعض، مُشتبكة بعضها ببعض، فلو تمكنَّا من الفصلِ بين الاثنين ومعرفة الواحد من الآخر، لو تمكنَّا أن نميِّزَ بين مواقف الحرب ومواقف الحب، ونتفهَّم الاثنين في الفريقَين، لَاستقامت المنازع وهانَ أمرها. ولكن في ذلك أغوارًا من التناقض والغموض. خذ المس بل مثلًا، فإنها في مواقفها تارة عربية وطورًا إنكليزية، وإنها في عواطفها مثل كرمة يتخللها العليق، فتختفي عرائش الحب بين أشواك الحرب، وتلتفُّ فسائل الشوك حول العرائش فتكاد تخنقها. وخذ السر برسي كوكس وهو في حبِّه الصافي للعرب عمومًا، وللعراق خصوصًا، لا يتجاوز الحدود التي لا ينمو ضمنها غير حبِّ المصالح البريطانية، والغيرة على الاسم البريطاني.

وما موقف أهل العراق؟! هذه الشيعة وهي حرب على الإنكليز متقطعة، حرب تتخلَّلها هدنات يبرَءون منها إلى الله ويسكتون، وهي حربٌ على فيصل يتخلَّلها فترات من الحب يبرَءون منها إلى الله ويسكتون. أمَّا العشائر فهم في فيافيهم يعمهون، ولا يعرفون موقفهم الحقيقي إلَّا بعد أن تصدُر الفتاوى بالمُقاطعة، أو بالحرب، أو بالطَّاعة والاستكانة. وأمَّا السياسيُّون والفدائيُّون فقد قرأتُ ما قاله فيهم الملك فيصل نفسه، وقد رأيت السلطة البريطانية تعتقلُ الزُّعماء الوطنيين وتنفيهم خارج بلادهم بضعة أشهر؛ وبغداد في ذلك الأثناء ساكتة ساكنة، تتحمَّلُ الألم والصبر.

إنِّي أكتفي بذكرِ سببٍ واحدٍ من أسبابِ التخاذل في تلك الأيَّام، فقد كانت بغداد على شيءٍ من الغرور، تظنُّ نفسها سياسيًّا العراق كل العراق، وما كانت في الحرب ولا في الحبِّ صاحبةَ العلم، بل صاحبة القول والقلم، وخصوصًا في تلك الأيام؛ فقد كان سلاحها كلامًا على ورق، وكلامًا يحمله الأثير فيذيعه دون أن يعودَ بشيءٍ من صداه.

وها نحن الآن سائرون في السبيل ذاته، سبيل الحبر والورق، إلَّا أنَّنَا هذه المرَّة كاتبون بدل المقالات والقصائد مُعاهدةً دولية؛ أجل، إنَّ المعاهدة الآن لَمحور الأعمال كلها، وسيُخلد فيها غير حبِّ المس بل وحبِّ السر برسي للعراق والعراقيين، سيخلد فيها كذلك حب المستر تشرشل للعرب، اللهم إذا استطاع أُولو الأمر وأولو الألباب أن يستخلصوا من الكلمة الإنكليزية المأثورة «كل شيء يجوز في الحرب وفي الحب.» ما فيه خير البلدَين على السواء.

وهذا ما يريده السر برسي كوكس، وهذا ما ينشده الملك فيصل، أمَّا السر برسي الذي جنح إلى العنف ليفتح الطريق ويؤمِّنه للمعاهدة، فإنَّ له في المفاوضة — كما أسلفتُ القول — أساليب وقواعدَ شتَّى، وهو فيها كلها السياسي المحنَّك كما يُقالُ، وصارَ في إمكانه الآن، وقد بلغ الأرب في خطة العنف، أن يبسم على عادته، ويسيرَ مُتمَهِّلًا إلى غرضه، فيُقاوم ما لا يزال يعترضه من الصعوبات والعقبات ويُغالِبها بما يستحبُّه ويستلذُّه من ثمارِ الفِكرِ والتبصُّر، من البراعة في عقدِ الخيوط الدقيقة، من الكياسة في تلوينِ الألفاظ، من الدَّهاء في رمي الحبالة وشدِّ الرِّبَق.

أمَّا الملك فيصل فقد أَساءَ النَّاسُ فهمَ موقفه في تلك الأيَّام، فلم يُنصِفْهُ الإنكليز ولا أَنْصَفَه العراقيُّون. قال الإنكليزُ أصدقاؤه إنَّه انقلبَ عليهم بعد التتويج، وقال المتطرفون من الوطنيين إنه يخدم مصالح الإنكليز ويعمل بأوامرهم. أمَّا الحقيقة، وإن بدا شيءٌ منها هُنَا وهناك، الحين بعد الحين، فهي أصلًا وأساسًا واحدة، لا إنكليزية ولا وطنية؛ بل فيصليةٌ عراقية. وبكلمةٍ أَوْضَح كان فيصل واقفًا في تلكَ الأيَّام موقف الدفاع، وكان همه الأول أن يحفظ العرش، فيُعزِّز مركزه كمليك العراق ليستطيع أن يعزِّز جانب العراق في المعاهدة، وكان همه الثاني أن يَحْمل المستر تشرشل على البرِّ بوعده دُون أن يُعادي الإنكليز. هذي هي الحقيقة الفيصلية العراقية، وفي حديث الملك فيصل — المدوَّن لحسن الحظِّ عندي — ما يثبتها ويزيدها بيانًا.

أعود إذن إلى مذكراتي في تلك الأيام.

في ١٠ أيلول ١٩٢٢، حدثني الملك بما تمَّ بينه وبين المستر تشرشل قبل مؤتمر القاهرة، وفي ذلك الاتفاق تعترفُ الحكومة البريطانية باستقلالِ المملكة العراقية، وتتعهَّدُ أن تلغي الانتداب، وأن تساعد العراقيين في تأسيسِ حُكُومَةٍ وطنيَّةٍ موطَّدَةِ الأركان، وستُعقَد لقاء ذلك مُعاهدة ولاء وتحالُف بين بريطانيا والعراق، يُضمَن فيها للحكومة البريطانية بعض الحقوق في ترقية اقتصاديات البلاد واستثمارها، وفي استخدام مُستشارين وإخصائيين من الإنكليز لهذه الغاية، ولمعاونة الموظفين الوطنيين كذلك في إدارات المُلك الجديد.

قال الملك فيصل: «وعدني المستر تشرشل وعدَين؛ أن يَلغي الانتداب، وأن يعترفَ باستقلال العراقِ. وقد جاءنا الآن بمُعاهدةٍ طَافحة بذكرِ الانتداب وعُصبة الأمم. فإذا كان الانتداب، فما الفائدة من المعاهدة وما الغرض منها؟ وإذا كانت المعاهدة، فما الحاجة إلى الانتداب؟ غنيٌّ عن البيان أنَّ أحد الصكَّيْن غير لازم وغير مفيد. إنَّنَا مُصرُّون على ما وَعَدَنا به المستر تشرشل، وهو ما يطلبه العراقيون، المعتدلون منهم والمتطرفون، وإنِّي لا أزالُ أعتقلُ وآمل أنه يبرَّ بوعده، وإلَّا فالموقف حرج، يا أخي، حرج جدًّا.»

قد كانت الأمَّة بأجمعها، إذا استثنينا فريقًا من الموظفين وقسمًا من أهلِ البصرة، ضدَّ الانتداب قلبًا وقالبًا. وما كانَ لفيصل، حتى إذا صَرَفَا النظر عن وعْد المستر تشرشل، غير هذا السبيل يسلكه فيقودها ويهديها إلى المحجَّة العليا، فلو أرادَ يومئذٍ أن يغير في سيرها، أو يلطِّف نزعتها إلى الاستقلال، لَما استطاع ذلك. هي ذي الحقيقة التي أَدْركها وقَبِلَها، ومشى في نورها حتَّى العقبة الأولى. ولا عَجَبَ إذا فضَّل مُلكًا مستقلًّا على مُلكٍ مُقيَّدٍ بالانتداب، وبإرادة المندوب السامي.

بيد أنَّه كان يدرك دائمًا ما عليه للإنكليز، ويُوازن ويقارن بين الحقيقتَين؛ حقيقة الدين وحقيقة الوعد، فيحاول أن يقف بين الاثنين وقفة الصادق الكريم؛ الصادق في وطنيته العراقية، الكريم في تقديره الجميل، وكان يتحاشى ما فيه شيء من العداء أو الجفاء للإنكليز، وهم يومئذٍ أصدقاؤه الوحيدون. هو الذي صرَّحَ بذلك، وكانت صراحته تشفُّ عن مراكد الغمِّ في أعماق نفسه.

وهاك الحديث من مُذكراتي: «لو رحت أبحث اليوم عن حليفٍ للعراقِ فأين أجده؟ في فرنسا؟ الفرنسيس أعدائي. في تركيا؟ ما انتهت الحرب بيننا وبين الأتراك. في العجم؟ إن حكومة العجم تزيدُ بمتاعبنا وبمشاكلنا في تدخُّلها بشئون الشيعة في العراق. أين أجد الحليف؟ في نجد؟ لا تزال خطة ابن سعود حربيَّة أكثر منها سلمية، وفيها الخطر عليه وعلينا سواءٌ. أفلا ترى أنَّنَا مُحاطون بالأعداء،١ ولا أصدقاء لنا غير الإنكليز؟ هي الحقيقة، يا أخي، وإذا اعترفتُ بها، وقبِلتُها وعالجتُها بالتي هي أحسن؛ قالوا إني أُمَالِئُ الإنكليز وأخدم سياستهم … والإنكليز، العياذ بالله.»

عاد إلى وعدَي المستر تشرشل واستطرد قائلًا: «وهم يطلبون منِّي أن أُوقِّع مُعاهدة لا تمكنني من تأسيس حكومةٍ وطنيةٍ قوية، ولا تمكننا لذلك من القيام بتعهداتنا. خذ الجيش مثلًا، نحن نبغي جيشًا وطنيًّا، ولا أحد يتطوَّعُ وفي البلاد انتداب، والبرهان بسيط، يقول العراقيون: إذا كان الإنكليز مُقيمين في العراق فليدافعوا عنه بجيوشهم، هذا حق، بل هذا منطق.»

كان يحدثني بلهجةٍ هادئةٍ صافية، إلَّا أنَّها شديدةٌ بليغة، وقد ظهرت شدتها حتَّى في همسه، وبدت بلاغتها حتَّى في وقفاته، وفي ملامحه وحركاته، فكان ينزع خاتمًا من أصبعه ويلعب به، تهدئةً لأعصابه. وعندما ذكر المستر تشرشل، لاحَ على جبينه لهبٌ من الغيظِ، فرفع السدارة عن رأسه ووضعها إلى جانبه على الديوان.

هي أول مرَّة شاهدته مكشوف الرأس، وكان ذلك بُعَيدَ شفائه من الجراحة، فذكرت، وأنا أتأمَّلُ وجهه، ما قاله فيه أحد الفرنسيين، وهو أنَّه شبيهٌ بوجه المسيح؛ كان الشعر فوق جبينه العالي النَّاصع كثيفًا يومئذٍ وخلوًا من الشيب، وكانت سيماءُ وجهه الشَّاحب المتضمِّرُ أكثرَ وُضوحًا، وأبلغَ معنًى، فبدت العين أكبر ممَّا هي وأبعد غورًا ونورًا، وبدا الفم في نبضه وغضِّه أكثر انفعالًا وأشدَّ كآبةً، وذكَّرَنِي النتوءُ في عظمَي الخدين بما يبرز في وجه أبراهام لنكولن، وما كانت اللحية إلَّا لتزيدَ بطابع الهزال الذي زانه النبل، وتجلَّت فيه الروحية السامية.

فهل يُستغرب أن يكونَ لفيصل تلك الشخصية الساحرة، التي قلَّ — ممن عرفوه — مَن لم يَعترف بها؟ أجل، إنَّه لَقليلٌ في الناس مَن لا تستولي عليهم مثل السجايا التي زانت فيصلًا وتجلَّت في ملامحه ومجالسه، ومِن هذا القليل المندوبُ السامي السر برسي كوكس؛ ذلك الإنكليزي القح فيما بدا من نفسه، وفيما صفا من خلقه. لقد كان يحترم فيصلًا ويُجِلُّه، ولكنه كان يُوصِدُ باب قلبه ونوافذه كلها، في مجالس الملك وفي أحاديثه، فلا يدع لسحره نخروبًا يدخل منه.

وقد ظلَّ النِّزاعُ بينه وبين فيصل نزاعًا سياسيًّا صرفًا، فترك السحر والانفعالات الروحية لِلْمِس بل، تُنعش بها النفس في ساعات قَيظها، وترصِّع بها الرسائل إلى أمِّها، وكان السر برسي يُقِيم بينه وبين المس بل في الساعات الحَرِجَة جدارًا من المنطق الصَّافي الصلب الصقيل كالرخام، فلا يَدَعُها تتغلَّبُ عليه بما سرى إلى قلبها دُونَ العقل، أو بما تغلغل في القلب وما فيه من آثار العقل غير الخيال؛ فالنزاع إذن هو سياسي، ولكنه في أسبابه الشخصية يشمل الطباع والتقاليد النفسيَّة والقوميَّة.

وبكلمةٍ أُخرى، إنَّ النزاع في المعاهدة بين فيصل والسر برسي كوكس هو نزاع بين روحٍ عاقلة، وبين عقل لا روح له.

١  وكل هؤلاء الأعداء صَاروا بعدئذٍ، بفضل فيصل، أصدقاءَ للعراق والعراقيين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤