تذييل

يريبُ بعض الناس حبِّي للعرب وملوكهم، واهتمامي الدَّائم بشئونهم، وقد انتقدنِي نفرٌ من الكتَّاب، ونصحني الصديق منهم والمحب، فقالوا: إنَّ وطنك القريب لبنان لأحقُّ باهتمامك من الوطنِ البعيد. وقال آخرون أقوالًا تتجاوز النصح والنقد، وكانوا في نقاشهم أقرب إلى تلك التي تنفثُ سمَّها منهم إلى الأديب المحافظ على أدبه، والوطني النزيه في وطنيته، ولكنتُ مُستحقًّا مَذَمَّاتهم كلها لو أنَّ حبي للعرب أفقدني ذرَّة من حبِّي للبنان.

على أنَّ هناك غير الريب في استطاعة المرء أن يجمع بين الحبين، وإن كانا غير مُتناقضَين. إنَّ في الأمر غوامضَ سياسية وفكرية — كما يظنون — لا تلتئمُ وما يعهدونه بي من الصراحة ووضوح البيان، وكيف لا وفي قلبي — وهذا القلب مُتَّجِهٌ الآن بسمعه إلى الناقدين النَّاصحين لا إلى سواهم — تتنازع الأغراض، وتتزاحم الأضداد؟! فهل أنا أميركي أم لبناني أم عربي؟ أم هل أنا الكلُّ في واحد؟ وهل أنا ملكي أم ديمقراطي أم اشتراكي؟ أم هل أنا الثلاثة اليوم وأمس وغدًا؟ إنَّ في أمري لَيَحِير الأصدقاء ويُبلبل الخصوم، ولا يجوز لرجلٍ صريحٍ مثلي ومحبٍّ للناس مسالم مثلي، أن يتركَ أحدًا في مزالق الحيرة وفي لجج البلبال.

ولقد سمعت مَن يرومون لي من العيش خيره، ومن يتمنَّون لي غيره، يقولون: ولكنك على ما نعلم ديمقراطيٌّ، تشرَّبَت روح الديمقراطيَّة في البلاد الأميركية، بل في أكبر وأرقى جمهورية من جمهوريات العالم، وأنت الحامل في خطبك ومقالاتك على الظلم والظالمين، على الاستئثار والاستبداد، على الجهلِ والتعصب، وأنت النصير — يترددون ثم يقولون: الأكبر — لحرية الشعوب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، المطالب بها، والمناضل في سبيلها على الدوام.

نعم، إنِّي كذلك، وإنِّي مع ذلك مُحِبٌّ للعرب، على ما يكتنفهم من الجهل، وعلى ما لا يزالُ فيهم من مساوئ الماضي السياسية والاجتماعية والدينية. وإنِّي أهتمُّ بشئونهم وشئون ملوكهم وأمرائهم، وأخدمهم ما استطعتُ بقلمي ولساني، على ما لِأكثرهم من النعرات الإقليمية الذميمة، والنزعات القديمة التي لا تلتئمُ وروح الزمان.

قلت: «على ما» وكدتُ أن أقول: لما؛ إذ قد تكون الآفات التي ذكرت هي السبب في اهتمامي، وما الفائدة يا تُرى من بذل ما لديك، إذا كنت ذا علمٍ أو مالٍ أو جنونٍ وطنيٍّ، في سبيل مَن لا يحتاج إلى علمك أو مالك أو جنونك.

أليس في هذا ما يكفي ليجلو ما في موقفي ظاهرًا من التناقض والغموض؟ إني إذن أزيدُ في الإيضاح.

إنَّ إقامتي خمسًا وعشرين سنة في الولايات المتحدة وطَّدَت فيَّ المبادئ الديمقراطية — أي حب الحريَّة العامَّة المتساوية، وكُره الامتيازات التي تُعطى لأولي النفوذ والسيادة — وعلمتني أنَّ شكل الحكومة وأساليبها السياسية لا تُطابق دائمًا تلك التعاليم المدوَّنة في دستورها الأساسي والممثلة في تقاليدها؛ فالشعب — لا نُكران — ينتخبُ النوَّاب وكبار رجال الحكومة، ولكن الذين يسيطرون على الحكَّام والمتشرعين، بشتَّى الأساليب الظَّاهرة والخفيَّة، هم أرباب المال؛ أجل، إنَّ الاسم للأحرار والحُكم لملوك الدولار.

ولهؤلاء شركاء من رؤساء الأحزاب السياسية، التي لا تقومُ وتتعزَّزُ بدونِ المال، فضلًا عن الانتخابات وما يتقدَّمُهَا من حربٍ خطابيَّة وصحفيَّة، ودعاياتٍ حزبية وشخصية، تعد نفقاتها بملايين الدولارات، فإذا كان المال هو الحاكم المطلق في الحكومة الجمهورية، وخير هذا الحكم عائد بأكثره إلى المتموِّلينَ والمتنفِّذين، فأينَ حريَّة الشعب يا ترى؟ وأين حقوقه السياسية والاقتصادية؟ بل أين المجال الفسيح الشائع لأبناء العمل الحر المستقل؟

لست في هذا المقام مُعدِّدًا سيئات الجمهورية وحسناتها، ومن ينكر الحسنات؟! ولكني أشيرُ إلى رأس الآفات فيها، وهو يكفي لينفر عنها، بل ليجنَّد عليها، حتى الأحرار في هذه الأيام.

هذي هي الحقيقة في جلاءِ ما يُظهر من التناقض بين موقفِي الملكي وبين تربيتي الأميركية الديمقراطية. وهناك حقيقةٌ أُخرى أهم ممَّا ذكرت؛ لأنها أثبتُ وأعمُّ؛ فالإنسان المفكِّر لم يهتدِ حتَّى اليوم إلى حكومةٍ عامَّة في شكلها وروحها، تصلُحُ لكلِّ شعبٍ من شعوبِ الأرض ولا يصلح الحكمُ ويستقيمُ، جمهوريًّا كان أو ملكيًّا، إلَّا إذا كان له ما يُبرِّرُه ويعزِّزُهُ من عقلية الشعب ونفسيَّته، ومن تقاليد الأمَّة وثقافتها.

فالجمهورية لا تصلُحُ اليوم في إنكلترا مثلًا، وإن كان الشعب قد أَلِفَ في ملكها المقيَّد الأحكام الديمقراطيَّة؛ ذلك لأنَّ عقليَّتَه على الإجمالِ ملكية، ونفسيته نفسية الأشراف. ولا تصلح الملكية في أميركا، وإن كان الشعب قد أدرَكَ مساوئ الحكم الجمهوري؛ ذلك لأنَّ نفسيته ديمقراطية مثل عقليته وتقاليده، ولا تشذ هذه القاعدة إلَّا في الانقلاب العام، على أثر حربٍ أو ثورةٍ كما في البلاد الروسية اليوم.

وما هي يا ترى نفسية العربي؟ وما هي تقاليد الأمة العربية؟ مهما قيلَ فيما أَوْجَبه الإسلام من المشورة في الأحكام وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ … الآية؛ فإنَّ تاريخ الأمَّة العربية لَيُثبت إجمالًا تلك الحقيقة التي تُنافي الإسلام. ومع أنَّ العرب هم فطرةً ديمقراطيُّون ولا يزالون كذلك في حياتهم الخاصَّة، فقد طَرَأَ على هذه الفطرة في مظهرها العام في عهدِ الممالك العربية المجيدِ، طوارئُ عديدةٌ أضعفتها فأزالتها تمامًا، وقد نشأ مكانها في عقليَّة المجموع العربي حبٌّ لأبهة الملك، وشغفٌ بالعَظَمَةِ التي تتجلَّى في حاكم البلاد واحترام لسلطته الأبويَّة أو الشبيهة بها، إن كان ملكًا صغيرًا أو سلطانًا ملقَّبًا بأمير المؤمنين.

إنَّ عقلية هذه الأمة العربية مَلكية إذن، وتقاليدها ملكيَّة منذ القدم، وليسَ لها من عوامل الثقافة وأسباب العلم ما يَدعُو للتطوُّر السريع في تلك العقلية، أو للتغيير الأساسي في تلك التقاليد.

فهل يصلح والحالة هذه الحكمُ الجمهوري في البلاد العربية؟ وهل يستقيم حتى وإن كان صافي الروح سليم الأسباب مُطابقًا في أحكامه لتعاليمه؟ إنِّي على يقينٍ أنَّه يستحيلُ خصوصًا في هذه الأيَّام؛ أيَّام الحكم المطلق — أيَّام الدكتاتوريات — في الغرب والشرق. وقد لا يُقْدم قُطر من الأقطار العربية على تجربته مختارًا قبل عشرين أو ثلاثين سنة.

•••

إنَّ لِحكَّام البلاد العربية عقليَّاتٍ قديمة، وآمالًا حديثة، وسياداتٍ مُطلقة يجدد الزمان أركانها ويوطد، ولكن أكثرهم مُتشرِّبون حب الرعية الأبوي، وعاملون بالقاعدة الذهبية: العدل أساس الملك؛ فهُم من هذا القبيل عصريون أكثر من بعض زملائهم الغربيين.

وهم عصريُّون من وجهةٍ أُخرى، وإن كانوا مُتأخِّرين في تكييف بلادهم وتقديمها في الرقي والعمران. هم عصريون فيما ينتحله لأنفسهم من قوة التشريع والتنفيذ الحاكمون اليوم بأمرهم في العالم. وبكلمةٍ أُخرى هم مثال الدكتاتورية المتَّبَع، فإذا كان الشعب الأوروبي الرَّاقي يقبل بهذا الحكم، ويرى فيه خير بلاده الأكبر، فهل يُخطِئُ العرب إذا ظلُّوا متمَسِّكِين به، مُحافظين عليه؟

فإذا كنتَ — أيها القارئ — مُحِبًّا لهذه الأمَّة العربية، غيورًا على مصالحها، أو عاملًا مُجاهدًا في سبيلها وسبيل وحدتها القومية، فهل تسعى لقلبِ حكوماتها اليوم ولإعلان الجمهورية فيها بدل الملكية؟ وإذا كان لا يهمك أمرها، وكنت مُتَيَقِّنًا مثلي أنَّ الحكم الجمهوري غير ممكن فيها، وأنَّه اليوم مضرٌّ إذا كان ممكنًا، فهل يجوز أن تنتقد أو تلومَ من يختص ملوكها وأمراءها بما توجبه عليه الوطنية من الخدمة، وهم الموكَّلُون بمقدرات البلادِ، المهيمِنونَ على ما فيها، وإن قلَّ، من عوامِلِ الرُّقيِّ الاقتصادي، وأسباب التمدن الحديث؟ وإنك لتُخطِئُ إذا نظرتَ إليهم بغير العينِ التي تراهم في بيئتهم وفي أحوالهم السياسية، وتقدرهم قدرهم بالنسبة إليها. أقول لك إنهم لَذَوُو فضلٍ جمٍّ، على ما في تلك البيئة من الجمود، وتلك الأحوال من عوامل الهدم، دَاخلًا وخارجًا، وإنهم لَذَوُو مآثرَ جليلة.

إليك بوجيز العبارة البرهان؛ لو لم يقُم الملك حسين بالثورة على الترك لَمَا كانت الثورة، ولما كان العرب اليوم في مُعظم الجزيرة مستقلِّين كل الاستقلال؛ فقد كانَ رجال النهضة العربية في حاجةٍ إلى زعيمٍ يوحِّدُ الصفوف، ويوحِّدُ المحجة، ولم يكن فيهم ذلك الزعيم، لم يكن في الطليعة الرجل الأكبر الأوحد الذي تقبله الأحزاب كلها وتنصره، فنهض الحسين وكان زعيم النهضة المنتظر.

ولو لم يمنَّ الله على العرب بابن سعود لكانت البوادي مَسرحًا شائعًا للغزو والقتال، وللسلبِ والنهبِ والفوضى، ولَظلَّت القبائل كما كانت قبله في عداءٍ دائمٍ واحترابٍ مُستمرٍّ. لو لم يكن ابن سعود لَمَا كانت نجد والحجاز الآن بلادًا موحَّدةً مُطمئنةً مسالمة، وفيها مِن عوامل المدنية ما تستطيعُ أن تَنتفعَ به، ما يُلائم اليوم طبائع أهلها البدو والحضر، ويمكنها غدًا من الاستزادة عملًا باستعدادهم، وتطور أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية.

وكذلك قل في اليمن وسيدها الإمام يحيى؛ فهو حاكم اليمن المطلق، الضابط أمْرَها بيدٍ من حديد، المدبِّر شئونها بحزمٍ تُنيره الحكمة، وعزمٍ يمدُّهُ اليقين، الحامي ذمارها، دَاخلًا من أغراضِ كبار السَّادة الشخصية، ونزاع القبائل، وخارجًا من أطماع الأجانب ودسائسهم؛ أولئك المسيطرين في جوار اليمن جنوبًا وعبر البحر غربًا. إنَّ الإمام لَيدرك السر فيما يفعلون ويقولون، متزلِّفين كانوا أو مُكابرين، فيحمل في سياسته الميزان، وقد عَلِمَ أنَّ الكفَّة الرَّاجحة اليوم قد تكون غدًا ناقصة، فلا تخدعه الواحدة، ولا تغره الأُخرى.

وفي عسير اليوم البرهان القاطع على صحَّةِ ما أقول في الحكم المطلق وعكسه؛ فقد كان هذا القطر العربي، في عهدِ السيد الإدريسي، مثل نجد واليمن، عزيز الجانب، آمنًا مطمئنًا، وكانَ أهله مُخْلدين إلى السكينة، مُستمتِعين بما في البلاد من أسباب العيش والرَّاحة والرفاهية. ولكن الأحوال سَاءَت بعد وفاة السيد محمد، فاضطرب حبل الأمن في البلاد، وتزعزعت أركان الحكم في صبيا وجيزان، فَسَرَت في القبائل روح الشغب والفوضى، وتنازعت السيادة القوتان الغالبتان المجاورتان في الجنوب وفي الشمال، ولا يزالُ عسير موطن الخلاف والنزاع بين الإمامِ يحيى والملك عبد العزيز، هذه هي إِحدى نتائج التفكُّك في الحكم، والانحطاط في البيت الحاكم. ولولا النزاع بين العاهلَين الكبيرَين، والخوف من عواقبه المشئومة، لَكان التفكك في هذه الإمارة الصغيرة وأمثالها مفيدًا للقضية العربية، والوحدة المنشودة.

وماذا أقولُ فيمن حمل لواء هذه القضيَّة، وجَاهَدَ في سبيلها، في ساحات الحرب والسياسة، عشرين سنة، وكان في القطرِ العراقي ظَافرًا ببعضِ أمانيه؟ فهل يُنكِرُ أحد أنَّ للملك فيصل، رحمه الله، الفضل الأكبر في استقرار العراق وتقدُّمِهِ؟! هل ينكر أحد الحقيقة النَّاصعة الرَّائعة في جهادِهِ الذي استمرَّ اثنتي عشرة سنة؟ فلولا هذا الجهاد العظيم لَمَا كان العراق اليوم مُوحَّدًا، ولما كان قد تخلَّصَ من الانتداب، ولما كان يسلك الآن الطريق الفسيح القويم، المؤدِّي إلى حريته واستقلاله.

هذه هي كلمتي لمن يريبهم اهتمامي بملوك العرب، ولمن يغيظهم موقفي العربي. وإنِّي أسألهم، باسم الإنسانية أولًا وباسم الوطنية. ثانيًا: ألا يستحق الذكر والثناء والإعجاب من يقيمون العدل، ويوطِّدون الأمن والسلام، في أمَّة من أمم هذا العالم المضطرب المكترب؟ ألَا يستحقُّون، وهم القائمون بأعباءِ هذه الأمَّة العربية، الحبَّ والبذل من أبناء الأمة؟ فلو كان الملك فيصل أوروبيًّا لَرَفعه شعبُه إلى منزلة بسمرك ودزرائيلي، ولو كان ابن سعود أوروبيًّا لجعلته أمته بطلًا من أبطال العالم.

•••

أعودُ إلى لبنان لأقولَ كلمةً وجيزة، هي كل الحقيقة وكل اليقين، في محنته اليوم، وفيما أشعَّ من حظِّهِ يوم كَانَ فيصل سَيِّدَ البلاد السورية.

ثلاث عشرة سنةً مرَّت على استقلال لبنان المقيَّد بالانتداب، المثقل بالضرائب، المُسربَل بسربال السخرية الجمهوري، المُسمَّر بمسامير الفاقة، المكلَّل بإكليلٍ من الشوك، ومع كلِّ هذا لا يزال في البلاد من يُنادون ويُفاخرون بالاستقلال، ويقولون بوجوب الانتداب لحمايته وتعزيزه. وبالرَّغمِ من كلِّ هذا ليسَ في البلاد أحد راضيًا بحالةٍ واحدةٍ من أحوال لبنان السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليسَ في البلاد من يُطالِبُ بالاستقلال والانتداب، ولا يندب حظَّ لبنان في الحالين.

أَعجبُ لشعبٍ يئِنُّ من النير، ويصيحُ قائلًا إنَّ النير لازمٌ له ومفيد، لازم لخلاصه، مفيد لسعادته الأبدية، شعبٌ قديسٌ شهيد!

ولكن في لبنان من المفكرين البصيرين الجريئين بالإفصاحِ عمَّا يجيشُ في صدورهم، مَن يرون في هذه الحال شيئًا غير معقول، غير طبيعي، شيئًا جد منكر، جد فظيع، ويُدركون التناقُضَ بين العقيدة الوطنية وحقيقة الحال، وكلهم يستغيثون ويرومون الخلاص.

ولكنهم مُختلفون في ما هي حقيقة الخلاص؛ فمنهم من يظنون أنها في إعادة الدستور والحكم النيابي.

ومنهم من يقولون إنَّ لبنان الكبير هو رأس مصائب اللبنانيين، ويرومون تصغيره، يطلبون إعادته إلى ما كان عليه عهد المتصرفية السعيد.

ومنهم من لا يقبلون بهذا التصغير، ولا يتنازلون عن شبرِ أرض في لبنان الكبير.

ومنهم من لا يعرفون ماذا يريدون.

أمَّا أولو الأمر أصحاب الانتداب، فهم يسمعون ويبسمون ويعلِّلون ويسوِّفُون، ولكنهم يعرفون ماذا يريدون.

هم يريدون لبنان كبيرًا لا صغيرًا؛ لأنهم يريدونه لأنفسهم؛ أجل، مهما تطوَّرت أحواله، وتعدَّدَت وتلوَّنَت مطالبه وآماله، فهو منذُ البدءِ كان وسيظل مطمح أنظار الفرنسيين، يريدونه قيد سياستهم الخارجية، ليعزِّزُوا به مركزهم الحربي البحري في هذه الزاوية المباركة من البحر المتوسط.

فإذا تعهَّدُوا لأشياع لبنان الكبير بالمحافظة على وحدته الجغرافية والسياسية فهُم في تعهُّدِهِم صادقون، وكيف يقبلون بأن تسلخ طرابلس مثلًا عن لبنان، ولهم فيها المصلحة الحربيَّة السياسية، والمصلحة الاقتصادية؛ أيِ المطار ومصب أنابيب البترول. إنَّ غرضهم في لبنان منذ عهد غورو وقبله هو واحدٌ لم يتغيَّر، وقد لا يتغيَّر، وهم يسيرون إليه هادئين مُتحفِّظِينَ، فيتذرَّعُونَ لتحقيقه تدريجًا بمُختلف الوسائل.

وإنهم عاملون — على ما أظنُّ — ليخلصوا البلاد ويخلصوا أنفسهم من الانتداب كما فعل الإنكليز في العراق، فيعقدون مُعاهدة مع سوريا تضمنُ مصالحهم بها، ويستمرُّون في سياستهم اللبنانية، الممهدة لتحقيقِ الغرض الأكبر جميعه، فيُلغى الانتداب في لبنان كذلك، وتعلن فيه الحماية. هو ذا المستقبل الزَّاهر، وقد لا يكونُ بعيدًا؛ الحماية الفرنسية في البلاد الساحلية، وحكومةٌ ضعيفة، ملكية أو جمهورية، في سوريا.

وهل من مناص؟ هل انطفأت أنوار الأمل كلها؟ ألا تستطيع سوريا أن تخلِّص لبنان؟ ألا يستطيع لبنان أن ينجوَ بنفسه، ويسهِّل سبيل الخلاص لجارته ورفيقته في هذه الأحوال؟

هب أنَّ ذلك غير ممكن الآن، فهناك صاحبة القوة والإرادة في الأمر؛ هناك الدولة المنتدبة. فهلَّا تعدل وتعمل لسوريا ولبنان ما فيه خيرهما وخيرها؟ إنَّ ما يطلبه العاقلون المنزَّهُون عن الأغراض إنما هو هذا العمل في سبيل توحيد البلاد، بل العمل الذي يُوجبه عليها صك الانتداب، وإنِّي على يقينٍ أن ليس في الأمَّة من يرفض التعاون الوثيق والمشارفة النزيهة في هذا السبيل.

ومع أنَّ الحاضر مبهم والمستقبل مُظلِم، فإنِّي أرى في ظُلمة الآفاق نورًا واحدًا من أنوار الأمل، لا يزالُ ثابتًا في أُفُقِهِ القريب، نافذًا في أشعته القليلة، وقد بَدَأَ بعض إخواني اللبنانيين يرون هذا النور ويرون فيه الأمل المنشود، وهم من المُوالين لا المُعادين للانتداب.

حلمت مرَّة حلمًا سياسيًّا جميلًا؛ حلمتُ أنِّي حضرتُ اجتماعًا وطنيًّا حولَ التفاهم بين سوريا ولبنان، وتحديد سبل التضامن الاقتصادي والسياسي بين البلدين.

هو حلم حلمته، ولكنه صورةٌ صادقة لما في نفسي من عقيدةٍ ويقين، ومن أملٍ ورجاء، ولا حاجة لترداد ما كتبته وقلته في هذا الموضوع. إنِّي أرى الهاوية، ولا أرى غير طريقٍ واحدة للنجاة، وإنِّي أستشهد الله والتاريخ أنَّ حبِّي للبنان لا يقلُّ ذرَّة عن حبِّ إخواني اللبنانيين الذين يقدِّسُون أَرزَهُ، ويتغنَّون بمجد الجدود الفينيقيين.

ولكنِّي، وأنا أنظر إلى الماضي مثلهم، أتطلَّعُ كذلك إلى المستقبل، وإلى أبناءِ المستقبل — أبنائنا وأحفادنا — وأريدُ أن يكونوا أحرارًا مثل أجدادهم الفينيقيين، ومثل أجدادهم العرب.

وأنى لهم أن يكونوا كذلك، إذا كُنَّا لا نقومُ نحن بشيءٍ من الواجب علينا، فنمهِّدَ في الأقل سبيل الخلاص من نير الرق والاستعمار؟! ولا يتمهَّدُ السبيل ويزداد نور الأمل ضياءً إلَّا إذا تفاهم لبنان وسوريا، وتقرَّرَت سبل التضامن السياسي والاقتصادي بين البلدَين.

وهناك تضامنٌ آخر لا تستغني سوريا عنه وإن توحدت تمامًا، فإذا ظلَّ لبنان مُنفصلًا عن سوريا فمصيره الحماية لا محال، وإذا ظلَّت سوريا مُنحصرة بالأربع المدن — حتَّى وإذا ضُمَّت إليها اللاذقية وإسكندرونة وجبل الدروز — فإنَّ كيانها القومي متزعزِعٌ، ومصيرها لا يدعو للتفاؤل، إذا كان لا يتم التضامن الاقتصادي والسياسي بينها وبين العراق.

أمَّا إذا عُقِدَ التضامن اللبناني السوري، وتمَّ الاتحاد السوري العراقي وكانت فرنسا صديقة هذا الاتحاد، ومطمئنَّة إليه؛ إذ تكون مصالحها الاقتصادية والسياسية مضمونة فيه؛ فالبلاد العربية الموحدة تستطيعُ إذ ذاكَ أن تُساعِدَ عرب فلسطين مُساعدةً فعلية. وقد يقتنع الإنكليز هناك، ويقنعون كما فعلوا في العراق، فتنجو البلاد المقدَّسَة من الصهيونية والاستعمار الصهيوني.

رحم الله فيصلًا، فلو استقرَّ مُلكه السوري واستمرَّ، لما كان لبنان اليوم في هذه الحالة السياسية المبلبلة المُحزنة.

رحم الله فيصلًا، فلو أنَّه — تعالى — أَمَدَّ بأجله، لاستمرَّ في جهاده الشريف الذي لم يكن يعتريه شيءٌ من المللِ والفتورِ، ولَتَحقَّقَت آماله العربية في الوحدة السورية العراقية اللبنانية الفلسطينية.١

أنا اللبناني المحب للبنان، الغيور على مصالح اللبنانيين إخواني، وعلى كرامتهم قبل مصالحهم، أقولُ ذلك وأتيقَّنه كل اليقين. وأنا اللبناني الرَّاغب للبنان بمنزلةٍ رفيعة في الوحدة السورية، المُطالِب بها، آسَف جد الأسف؛ لأنَّ الفرنسيين لم يُدرِكوا ما كان مضمونًا لهم في مُلكٍ سوري موطَّد الأركان، وفي مليكٍ كفيصل، رحب الصدر، حصيف حكيم.

رحم الله فيصلًا، صديق لبنان واللبنانيين، المحب لهم حبًّا جمًّا، المعجب بهم إعجابًا قلبيًّا، الرَّاغب في استخدام مواهبهم ومعارفهم لخير البلاد جمعاء، بل لخيرهم قبل كل خير. ولقد طالما قال لي وللكثيرين غيري إنه يجب أن يرى اللبناني عاملًا مكرمًا، مفيدًا ومستفيدًا، في كلِّ بلدٍ من البلدان العربيَّة، فيشعر حيث كان أنَّه في وطنه وبين قومه.

ومَن مِنَ اللبنانيين الذين عَرفوا الملك فيصلًا وحدَّثُوهُ يشكُّ بِصِدقِ تلك الكلمات الذهبية التي كان يفوه بها، وتلك العواطف الساميَّة التي كان يُفصح عنها، كلَّما ذُكِرَ لبنان لديه؟ ومن منَّا — نحنُ الفخورين بمعرفته، السعيدين بذكرى مُجالسته — ينسى تلك الكلمة الوديعة العذبة يا أخي التي كان يُخاطِبُ بها جليسه؟ فقد كان حقًّا أخًا للجميع، وخصوصًا للبنانيين، وما كَانَ ملكًا بغيرِ سجاياه الشريفة العالية.

ومع أنَّ قسطه من العلومِ لم يكن وافرًا، فقد كان لعقله، كما كان لقلبه، أُفُق منفرج وجوٌّ فسيح. وإنِّي لأذكره في دينه، وما كان يُوحي إليه، قولًا وعملًا، من حقيقة الإخاء الإنساني، الممثَّلَة في سائِرِ الأديان الإلهية. وإني لأذكره في وطنيَّته، وما كانت تُوحي إليه من حقيقة الوحدة القوميَّة التي كان يرفعها دائمًا، قولًا وعملًا، فوقَ كلِّ وحدةٍ من الوحدات الدينية المتعددة في هذه البلاد.

•••

ولكن التَّاريخ يُسَجِّلُ على فيصل أمورًا في سياسته السورية، وطنيَّةً ودوليةً، منها ما ضاقَ خبره في تلك الأيَّام دُون إدراكه، ومنها ما كانَ في الإمكان تداركه. وقد كنت فيما كتبت مؤرِّخًا أمينًا لذاك العهد عهده٢ فحقَّقتُ الحوادث، ومحَّصتُ الحقائق، بقدرِ ما مكَّنَتِ المصادر والأحوال. وأسفت لأنِّي لم أتمكن من إطلاق العنان لقلمي في مضمار الثناء والإعجاب.

ثمَّ مرَّت السنوات، عشر منها، وأنا في أثنائها أُراقِبُ مجرى السياسة العراقية الإنكليزية، وأُطَالِعُ ما استطعتُ إليه سبيلًا ممَّا كانَ يُكتَب فيها، وفي الملك فيصل وجهاده، وقد كنت مُغتبطًا بعملي الجديد؛ لأنِّي أستطيعُ أن أكتبَ في عهد فيصل العراقي ما يُسرُّ به القلب ويقبله التاريخ. ولكنِّي مع ذلك كنتُ أشعر بما يشعر به المصوِّر عندما تحُولُ الأيام دُونَ إكمال صورته، فلا يستأنِفَ العمل قبل أن يعودَ إلى المشهد ويجدِّدَ النَّظَرَ فيه.

أحجمتُ لذلك عن التأليف، ووطَّنتُ النفس على أن أزورَ العراق ومليكه مرَّةً ثانية، فكتبتُ مُستأذنًا بذلك، وأنا غير متيقِّنٍ ما عسى أن يكونَ الجواب؛ نظرًا لما أسلفتُ في الصراحة في الملك فيصل وفي سعيد الذكر والده. فإذا كان الإذن، فهل يقرن يا ترى بالترحيب؟ لقد أخطأتُ فيما كان من ارتياب؛ فقد جَاءَنِي من الملك جواب بخطِّ يده، تجلَّت فيه تلك السجايا الشريفة — رحابة الصدر، وكرم الأخلاق، والتواضع — التي فُطِرَ عليها، وكانت تزيِّن أعماله كلها وأقواله.

أممتُ بغداد ورفيقي، رفيق رحلاتي، الشيخ قسطنطين يني، فوصلناها في ١٣ آذار سنة ١٩٣٢، وتشرَّفنا بمُقابلة الملك فيصل في اليوم التالي، ففاقَ في جميلِ ترحيبه ما جاءَ في كتابه من اللطف والإكرام، وكان في أثناءِ الشهر الذي أقمته في العاصمة يدعوني — تارة وحدي، وطورًا ورفيقي — ثلاث أو أربع مرَّات كل أسبوع إلى القصرِ أو إلى الحارثيَّة، فأتحدَّثُ إليه بحُريَّةٍ عهدها بي، وكان يُشجعني عليها بما يبدو في حديثه ومُحيَّاهُ من أُلفَةٍ وارتياح. وقد شاء — رحمه الله — أن يحدثني في العامِّ والخاص من الشئون التي لم يكن يُفضِي بها — على ما أظنُّ — إلى غيرِ القليلين من بطانته وأهلِ بيته، وكنتُ أدوِّنها. وذاكرة الرفيق قسطنطين تُعينُ في أكثر الأحايين ذاكرتي، عندما نعود من مجلسه.

figure
تمثال الملك فيصل الأول في جانب الكرخ في الصالحية.

وهذا الكتاب، إذا كان لا يجوزُ أن يُدعَى تاريخًا بمعنى الكلمة المدرسي، هو في الأقل مصدر ثقة يرجع إليه مَن قد يكتب في المستقبل تاريخ النهضة العربية والعراق؛ إذ ليس فيه غير ما رأى المؤلف وسمع، وغير ما عرفه وتحرَّاهُ بنفسه، فهو على الإِجمالِ مجموعة صُوَرٍ قلميَّة للملك فيصل؛ صُور تُمثِّله في مجالسه غير الرسمية، وصور تُريكه في عمله وجهاده. وقد حاولت أكثر من ذلك، حاولت أن أصوِّر عقل الملك فيصل في جوِّهِ المضطرب وأُفُقِهِ الهادي، وأن أصوِّر قلبه في مدِّه وجزره، في مرحه وغمِّه، في يقينه وحيرته، بل في كلِّ ما كان يتنازعه ويتزاحم فيه، من العواطف والخواطر والآمال.

وفي الكتاب حوادثُ مُفصَّلَة، تتعلَّقُ بالملك والإنكليز، لم يذكرها أو يشيرُ إليها مَن كتبوا في أحوال العراق السياسية؛ لأنها لا تبيض من صحيفتهم، ولا تدعو لحسن الظنِّ بهم.

أمَّا مصادر الكتاب فأهمها، بعد أحاديث الملك، الوثائق الرسمية التي أطلعني عليها — بإذنٍ منه — كاتبُ سِرِّه الأوَّل يومئذٍ عبد الله الحاج.

الفريكة في أول تشرين الأول سنة ١٩٣٣م
١١ جماد الثاني سنة ١٣٥٢ﻫ
أمين الريحاني
١  ومن مساعيه في هذا السبيل، عندما زَارَ إنكلترا المرَّة الأخيرة، ما حدَّثنا عنه الأستاذ كريم ثابت الذي قابله في نزل «هايد بارك» بلندن. قال الأستاذ ثابت في المقطم:
«ولاحظتُ عند دخولي على جلالته أنَّه كان يُملي على سعادة الدكتور قدري بك، قنصل العراق العام في مصر — وكان يومئذٍ بلندن — مذكرتَين ليُرسلهما إلى الحكومة البريطانية إحداهما عن سكَّة حديد العراق والأُخرى عن فلسطين.
وقد طَلَبَ في المذكرة الأخيرة أن يكونَ للعراق منفذ إلى البحر المتوسط عن طريق فلسطين … فيتسرَّبُ إليها النفوذ العراقي، ويساعد كثيرًا في المستقبل على حلِّ القضية الفلسطينية.»
٢  ملوك العرب، الجزء الثاني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤