الضوء والكلام

استعدَّ الشياطين، وفي منتصف الليل تمامًا كان الثلاثة «أحمد» و«إلهام» و«بو عمير» يستقلُّون قاربًا ويحومون به حول الشاطئ … وسرعان ما ظهر «عثمان» ومجموعته «فهد» و«زبيدة» … وتبادل الستة التحيَّات السريعة، وتبادل الفريقان المعلومات، واتفقوا على الاتجاه إلى جزيرة «القرن الذهبي»، وهي أقرب مكان يحتمل أن يكون الرجال الثلاثة قد اتجهوا إليه بالقارب … وكانت المسافة بين شاطئ الفندق حيث اجتمعوا وبين الجزيرة نحو عشرين كيلومترًا، وسرعان ما أخذت المجاديف تضرب صفحة المياه، وكان «بو عمير» يتولَّى التجديف، فلم يكن ذراع «أحمد» المصاب يسمح له بالحركة، وكانت «إلهام» تساعده. وفي القارب الآخر كان «عثمان» يتولَّى التجديف ويساعده «فهد»، وكانت هناك ريح قوية تهبُّ من مسطح الصَّحْراء الواسع على سطح البحيرة، فأخذ القاربان يتأرجحان بشدة، ولكن قوة عضلات الشياطين استطاعت أن تتغلب على الريح المعاكسة وأن تمضيَ بالقاربين في الاتجاه المطلوب …

أخيرًا برزت في الظلام كتلة جزيرة «القرن الذهبي»، وكانت معلومات «أحمد» عنها أنها جزيرة قاحلة وسط بحيرة «قارون»، مساحتها ٥٠٠ فدان، صخرية وعرة، كانت تعيش بها بعض قطعان الغزال ثم انقرضت، ولم يبقَ عليها من الأحياء إلَّا نوع من السحالي الضخمة تعيش بين صخورها الضخمة العالية.

لم يكن في ذهن «أحمد» خطة معينة، كان كلُّ ما يرجوه هو أن يجدَ شيئًا يدله على اتجاه القارب الذي استقلَّه الرجال الثلاثة، والذي كان يعتقد أنَّ لهم صلةً قويةً بحادث الغريق والصندوق الأسود الخطير الذي يحوي عيِّنة اليورانيوم الثمينة … وفكَّر أنها مصادفة طيبة التي وضعتهم مباشرة خلف ما جاءوا من أجله …

أخذت الجزيرة التي تُشبه كتلة الفحم القاتمة تظهر أكثر فأكثر، وقال «أحمد»: ستدور أنت يا «بو عمير» ناحية اليمين، ويدور «عثمان» ناحية اليسار، وهكذا نحيط الجزيرة تمامًا، ولا بُدَّ أن يعثر أحد القاربين على أثرٍ ما في الجزيرة يهدينا إلى القارب الذي كان يركبه الرجال الثلاثة.

هدَّأ «بو عمير» من سرعته، فقد كان يسبق «عثمان» ببضعة أمتار، وعرف «عثمان» من إبطاء القارب أنهم سيتبادلون الحديث، وهكذا أبطأ قاربه هو الآخر والتصق القاربان، وفي كلمات قليلة شرح «أحمد» خطته التي استقرَّ عليها، ووافق «عثمان»، واتجه كلُّ قاربٍ في الناحية المضادة للآخر …

أخرج «أحمد» بطاريةً قويةً وسلَّط شعاعَها على شاطئ الجزيرة، بينما مضى «بو عمير» و«إلهام» يُجدِّفان بسرعة بسيطة ليُتيحا له فرصة المضيِّ على ضوء الكشَّاف. ونظرًا لارتفاع الأمواج، كانت مهمة ضبط توازن القارب مهمةً شاقة، ولكن الأمور سارت على ما يُرام، وأخذوا يدورون حول الجزيرة في الخط المرسوم، حتى أتمُّوا مهمتهم دون أن يجدوا أيَّ شيء يدلُّ على الرجال الثلاثة، ولا على أيِّ أثر لحياة.

لم يكن قارب «عثمان» قد وصل بعد، فوقفوا عند نقطة اللقاء المتَّفَق عليها في انتظار ظهوره، قالت «إلهام»: أظنُّ أننا لن نصل إلى شيء إلَّا في الصباح …

أحمد: أعتقد العكس، فهم في الصباح سيُخفون أنفسَهم جيدًا في أحد كهوف الجزيرة أو الشاطئ الغربي، ويصعُب العثور عليهم.

اشتدَّت الرياح، وزاد ارتفاع الأمواج، وقالت «إلهام»: إنني أشعر بالبرد.

قال «بو عمير» وهو يفرك كفَّيْه: فعلًا، اشتدَّ البرد … وقد تأخَّر «عثمان».

إلهام: ربما يكونون قد عثروا على شيء.

أحمد: لقد اتفقنا على ألَّا يتصرَّفوا مطلقًا إلَّا بعد أن نلتقي.

مضت الدقائق بطيئةً دون أن يظهر «عثمان» ومن معه، وبدأ القلقُ يتسرَّب إلى نفوس الشياطين الثلاثة … وعندما اكتملت نصف ساعة دون أن يظهر «عثمان»، قال «أحمد»: سنُجدِّف في اتجاه نصف الجزيرة الأيسر لندور حوله؛ ربما يكون قد حدث للقارب شيء.

ومضى «بو عمير» و«إلهام» يُجدِّفان بنشاط، وهو حلٌّ ممتاز للتغلُّب على البرد الذي يشعران به … وأضاء «أحمد» البطارية القوية، وأخذ يدور بضوئها في كلِّ اتجاه — علَّه يعثر على أثرٍ لقارب «عثمان» و«فهد» و«زبيدة» — دون جدوى، واشتدَّ قلقه … كيف اختفى القارب دون أن يصدر أي صوت مقاومة … هل يمكن أن يغرق القارب؟ حتى لو غرق فإنَّ الشياطين جميعًا سبَّاحون مهَرَة … هل أُطلقَ عليهم الرَّصاص دون أن يسمع هو و«بو عمير» و«إلهام»؟ كان ذلك ممكنًا لسبب تَبَيَّنَه في هذه اللحظة؛ هو أنَّ قارب «عثمان» كان يدور تحت اتجاه الريح، ومن الممكن أن يختفيَ الصوت؛ لأن الريح القوية ستحمله معها دون أن يصل إلى ناحيتهم …

وعندما أتمَّ قارب «أحمد» نصف دورة الجزيرة دون أن يعثروا على قارب «عثمان» تأكَّد للثلاثة أنَّ شيئًا قد حدث … وعندما أدار «أحمد» يده ليضع الكشاف خُيِّل إليه أنه يرى شيئًا يعوم، شيئًا أبيض اللون … وسلَّط ضَوْءَ الكشَّاف في اتجاه ذلك الشيء وبالفعل، كان ثمَّة شيءٌ يعوم صاعدًا وهابطًا على الأمواج …

صاح «أحمد»: لنتَّجه ناحية ضوء الكشاف يا «إلهام».

وأدارت «إلهام» اتجاه القارب … وسرعان ما كان القارب يقترب تدريجيًّا من الشيء المجهول العائم على صفحة المياه السوداء، وعندما أوقف «بو عمير» القارب مدَّت «إلهام» مجدافها وقرَّبت الشيء الأبيض من القارب ثم التقطته بيدها وقالت: إنه ترمس الشاي الساخن الخاص ﺑ «زبيدة»!

صمت «أحمد» و«بو عمير» لحظات … كان كلٌّ منهم يفكِّر فيما حدث … لقد ذهب الشياطين الثلاثة «عثمان» و«فهد» و«زبيدة» ضحيةَ عملية غدر، وهم الآن في الأغلب يرقدون تحت المياه على قاع البحيرة السوداء.

ظلَّ القاربُ يتأرجح لحظات مكانَه دون أن يتحدَّث أحدٌ ثم فجأة تهشَّم زجاجُ البطارية التي يحملها «أحمد» وساد الظلام، وصاح «أحمد»: تحرَّكوا من المكان …

لقد فهم الآن ما حدث … رَصاصةٌ غادرةٌ صامتةٌ تُحطِّم مصدرَ الضَّوْء، ثم رَصاصات أخرى غادرة تقتل دون أن يستطيع أحد تحديد مصدرها … وأخذ قاربهم يبتعد عن المكان، واستطاع «أحمد» أن يحدِّد مصدرَ الرَّصاص، فقد كان يلمع في الظلام، ولدهشته الشديدة وجد أنه يأتي من مصدرين، من الجزيرة، ومن نقطة على سطح البحيرة … لا بُدَّ أنه قارب … ورغم خطورة الموقف فقد أحسَّ «أحمد» أنه في قرارة نفسه مسرور، أخيرًا سيشتبكون مع العدوِّ الغامض، وقال: هل لبست المايوه يا «بو عمير»؟

ردَّ «بو عمير»: نعم …

أحمد: هيَّا بنا …

إلهام: إلى أين؟ إنك مصاب!

أحمد: سنذهب إلى الشاطئ. عليكِ أنتِ حمايتنا.

حرَّك «أحمد» ذراعَه المصابة، أحسَّ ببعض الألم لكنَّه لم يهتم، خلع ثيابَه وخلع «بو عمير» ثيابه، وربط كلٌّ منهما مسدسًا مُغطًّى بالبلاستيك حتى لا تُصيبه المياه، وخنجرًا على الساق، وكشَّافًا صغيرًا لا تنفُذ منه المياه، وقال «أحمد» ﻟ «إلهام»: إذا لم نظهر بعد الفجر، فاتصلي ببقية الشياطين ليحضروا، وبرقم «صفر» طبعًا …

كانت «إلهام» تفكِّر … لماذا لم يستمرَّ الضربُ عليهم؟ … وهل اكتفى الرجال بإبعادهم عن مكانهم؟ … لم يكن هناك سوى هذا التبرير للموقف …

وقفز «أحمد» و«بو عمير» في المياه السوداء، وسرعان ما كانا يتقدَّمان صوبَ شاطئ الجزيرة الساكنة … لم يكن في رأس «أحمد» أيةُ فكرةٍ عمَّا سيجده، كل ما كان يتمنَّاه هو أن يجد شيئًا يدلُّه على آثار زملائه الثلاثة بعد أن وجدوا ترمس الشاي الخاص بهم، والذي يُشير إلى أن قاربَهم قد غرِقَ قُرْبَ هذا المكان …

وصل «أحمد» و«بو عمير» إلى صخرة ضخمة، ولحسن الحظِّ لم يرهما أحد، فلم يُطلَق عليهما أيُّ رَصاص، ولكن حدث فجأة ما فسَّر كلَّ شيء، فقد صَعِدَ من أعماق المياه السوداء رجل يلبس ملابس الغوص، وقبل أن يتبيَّن «أحمد» أو «بو عمير» ما سيفعله، كان قد قبض على رقبة «أحمد» وجرَّه معه إلى أعماق المياه … التفت «بو عمير» مع رذاذ الماء فلم يجد «أحمد» … وأدرك على الفَوْر أنَّ ما حدَثَ لا يمكن أن يكون إلَّا أنَّ قوةً ما قد جذبت «أحمد» إلى عمق المياه، فغاص فورًا. وأطلق شعاع بطاريته في المياه، وشاهد المعركةَ الناشبةَ بين «أحمد» والرجل، كان كلٌّ منهما قد استلَّ خنجرًا وأخذ يحاول طَعْنَ الآخر. وقدَّر «بو عمير» أنَّ ذراع «أحمد» المصابة لا بُدَّ ستجعله في موقف الأضعف. ولكنَّ الشيطان القوي «أحمد» كان يمسك زمام الموقف، وقد تشابكت الأيدي وأخذت الأقدام تضرب المياه، وكل منهما يحاول أن يتوازن.

كان للرجل ميزة كبرى على «أحمد»؛ أنه يتنفَّسُ براحةٍ فقد كان يحمل جهاز تنفُّس تحت الماء، بينما لم يكن مع «أحمد» مثل هذا الجهاز، وكان مُضطرًّا بين فترة وأخرى أن يصعد إلى سطح الماء ثم يعود، وفي كل مرة كان يجرُّ معه الرجل إلى فوق حتى لا يطعنَه أثناءَ صعوده …

وقرَّر «بو عمير» أن يحسم الصراع. دار حول المتصارعين وهوى بكلِّ قوته على رأس الرجل بيد المسدس وسرعان ما تحوَّل الرجل إلى قطعه من القماش الطري. وأخذ يهوي إلى القاع …

أشار «بو عمير» إلى «أحمد» بضوء البطارية، طالبًا منه الصعود إلى السطح، فلمَّا أصبح رأساهما فوق المياه قال «بو عمير»: أعتقد أنهما اصطادا بقية الشياطين بنفس الطريقة … إنهم قريبون من الشاطئ …

أحمد: هل تذهب في طلب النجدة؟

بو عمير: من الأفضل أن نهجم … لقد خسروا واحدًا منهم، ولم يبقَ سوى رجلين فقط، ونحن قادرون على القضاء عليهما.

عاود الاثنان الغطسَ تحت الماء. ثم مضيا حتى وصلا إلى الشاطئ وصَعِدُوا إليه … وقال «بو عمير» على الفور: توجد عوَّامة فارغة من الهواء.

ورفع يدَه أمام «أحمد» بالعوَّامة الفارغة وعاد يقول: إنهم قريبون منَّا جدًّا …

وأشار «أحمد» له بالصمت … لقد خُيِّل إليه أنه يسمع صوتًا ما قريبًا منهم. وأصاخ «بو عمير» سمعه … وفعلًا كان هناك ما يشبه صوت ضربات مكتومة تأتي خلف تلٍّ من تلالِ الشاطئ الصخرية. وقفز «أحمد» و«بو عمير» بسرعة ناحية الأصوات … لقد أحيت الأمل في أن يكون الشياطين الثلاثة «عثمان» و«فهد» و«زبيدة» أحياء لم تبتلعْهم مياهُ البحيرة السوداء …

تسلَّقا جانبَ التلِّ الصخري، وكانت مفاجأة … كان تحته أربعة أشخاص مشتبكون في صراع … ورغم الظلام فقد عرف «أحمد» قامة «فهد» ولونه «الأبيض» بين المتصارعين الأربعة … وسرعان ما كان ينقضُّ على غريم «فهد» ويُوَجِّه له ضربةً على رقبته بسيف يده … فصاح الرجل على أثرها صيحةً عاليةً ثم سقط على الأرض الصخرية.

وعندما تقدَّم «بو عمير» ليشتبك هو الآخر مع الرجل كالمجنون حتى وصل إلى الشاطئ واختفى …

قال «أحمد» محدثًا «فهد»: أين «زبيدة»؟

أشار «فهد» ناحيةَ الشاطئ الغربي من البحيرة وقال: لقد أخذوها هناك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤