الفصل الثاني

القضاء في بلاد أذربيجان

(نفس المكان الذي فيه حوادث الفصل الأول. يظهر كوخ سرجيس وإلى مسافة منه صليب منصوب على الأرض.)

(جماعة من جنود الروم يمرون وينظرون في الجبال ثم يسيرون.)

الأول (ناظرًا حوله) : لا أرى غير هذه الآفاق.
الثاني : إنها نزهة لمن شاء.
الثالث :
سيروا.
إن فسطاطنا أحب إلينا (يخرجون).

(يبقى اثنان من الضباط ويلوح أنهما متعبان فيجلسان للراحة على بعض الصخور.)

قيدروس :
ليس في هذه الجبال أنيس (يذهب الآخر إلى الماء ويشرب).
هي حقًّا منازل للذئاب.
فيدوس (يعود بعد الشرب) :
آه! إني رُويت. ماءٌ لذيذ.
إنه بارد جميل صافٍ.
قيدروس (يرى الكوخ والصليب) : آدمي هنا؟ فذلك كوخ.
فيدوس :
ليته لم يكن هنا آدمي.
إنني إن رأيت ذئبًا بأرضٍ
لم يرعني بمكره. ليت شِعري
ذلك الكوخ كم رأى من قتيل!
قيدروس :
ليس هذا بكوخ لصٍّ مريع،
إن في جنبه صليبًا، وظني
أنه كوخ ناسك أو عجوز.
فيدوس :
ألقهم في الجحيم طُرًّا
(يستلقي على الصخرة متعبًا) لماذا
يحشر الروم مثل هذا بأرض
وعرة توحش النفوس يباب؟
أنا لا أشتري يبابًا كهذا
باذلًا فيه درهمًا.
قيدروس :
نحن جند.
ليس للجند أن يقولوا لماذا.
فيدوس (ساخرًا) :
ليس للجند أن يقولوا لماذا!
أصبح الروم سلعة ذات سعر.
قيدروس : ويك فيدوس!
فيدوس :
لا أبالي. لعلي
جئت تلك البلاد أسعى لحتفي.
ما أبالي من خوف قولي. فإني
فوق جُرف على شفير الهلاك.
أنا إن مِت ما عزاء صغاري
إن أكن قد هلكت في نصر كسرى؟
لست آسى إذا قُتلت دفاعًا
عن بلاد الرومان أهلي وقومي.
غير أني أُرسلت أنصر كسرى
كي يكون الغداة ملِكًا عظيمًا.
فإذا ما غدا مليكًا مهابًا
وخلا جوه وذلت عِداه،
وهزمنا بهرام حتى يراه
تحت أقدامه أسيرًا ذليلًا،
حشر الفُرس ثم أقبل يغزو
دولة الروم كي يزيد فخارًا.
قيدروس :
إن هذا هو الهراء البليغ.
سوف يُضحِي كسرى صديقًا حميمًا.
فيدوس :
ليس قولي الهراء يا قيدروس.
إن موريق قيصر الروم شيخ
يعبد المال، لا يضن بشيء
إن رأى من ورائه أموالًا.
فأتاه كسرى بكنز عظيم
يشتري منه أنفُس الرومان.
فلنحارب حروب كسرى فإنا
باعنا قيصر الشحيح لكسرى.

(تُسمع ضجة في أسفل الجبل فينظر الضابطان نحوها فيريان اضطرابًا عظيمًا.)

(يدخل فرهاد وهو راعٍ فقير تلوح عليه البساطة فيرى الجنديين ويتوارى.)

قيدروس : أترى ذاك: ضجة واضطراب!
فيدوس :
أسرعوا للقتال. ليس عجيبًا
أن يثوروا إلى القتال سِراعًا.
إن رأيت الجنود يومًا وقوفًا
في مجال القتال وجهًا لوجه،
فتيقَّن أن سوف تنشب حرب.
لِمَ نبقى هنا؟
قيدروس (ينهض متثاقلًا) : هلمَّ إليهم.
فيدوس :
ليت شِعْري ماذا يكون المصير (يخرجان).

(يظهر فرهاد يلتف فيما حوله.)

يا إلهي من شر تلك الجنود!
فرهاد :
هم وحوش حياتهم في دماء.

(يذهب نحو الصليب.)

(ينادي) يا أبانا سرجيس!
سرجيس (مِن الداخل) : مَن ذا؟
فرهاد :
يا أبانا سرجيس أنعم صباحًا.

(يخرج سرجيس من الكوخ.)

يا أبانا لا تنسنا في الدعاء.

(باسمًا، يقبِّل يد سرجيس.)

(يذهب سرجيس إلى الصليب وراءه فرهاد فيركعان بجواره يصلِّيان.)

(الصلاة):

سرجيس :
كلما لاح ضوء شمس الصباح،
خرج الطير ساعيًا من وكوره،
يحمد الله كل ما في البِطاح،
وتصلي على الهواء طيوره.
يا إلهي غمرتنا بنعيم.

(تدخل شيرين أثناء الصلاة وتركع وراءهما وتصلي.)

لا نوفِّيه شكره بلسان.
ربِّ فاقبل دعاء قلب سقيم،
وأغثنا برحمة الغفران.
سرجيس (بعد الخروج من الصلاة يرى شيرين) : أنتِ شيرين؟ كيف أمسى أبوك؟
شيرين :
يا أبانا أمسى طريحًا ضعيفًا.
جئت من أجله أصلِّي وأرجو
منك خير الدعاء.
سرجيس (رافعًا يده بالدعاء) :
يا مولاي،
أنت رب الأنام فاشفِ أباها.
(بخشوع) يا إلهي آمين.
شيرين : يا إلهي آمين.
فرهاد :
يا إلهي آمين (لشيرين) أسأل ربي
بخشوع شفاء ضعف أبيك.
شيرين :
لك شكري. رب استجب. آمين.
(تهُم قائمة) يا أبانا لا تنسَ. مثلك ممَّن
بارك الله قولهم في الدعاء.
سرجيس :
يا ابنتي أسلمي القياد إليه،
لا يرد الدعاء مجرى القضاء.
أسلمي الأمر للذي يتولى
أمر هذا الوجود بالتدبير.

(تتوجه ذاهبة من ناحية المكان الذي فيه الجيوش.)

شيرين (بخشوع) : يا إلهي أسلمت أمري إليك.
فرهاد :
لا تسيري هناك. دونك جيش.
ملأ الرحب بين خيل ورجل.
(لسرجيس) أرأيت الجيوش؟
سرجيس :
هبَّت إلينا
نسمات في الليل تحمل صوتًا
كان في رهبة الظلام رهيبًا.
ما لنا نحن والجيوش، فإنا
قد لجأنا إلى سلام الإله.
يا إلهي هبنا السلام …
شيرين : … … … … إلهي!
فرهاد :
ضل أهل الحروب والعدوان.
(لشيرين) لا تعودي من الطريق وسيري
فوق تلك الجروف (يشير للناحية الأخرى من الجبل)،
فالسير فيها
آمن من جنود تلك الجيوش.
أرأيت الطريق يا شيرين؟
أرأيت الطريق فوق الجروف؟
شيرين (لا تفهم قصده) : لست أدري ما ذاك يا فرهاد.

(يذهب سرجيس إلى الصليب ويجلس بجواره يصلي.)

فرهاد (ببساطة) :
أنسيت الجروف يا شيرين؟
هل نسيت العجوز يوم تردت
فوقها إذ تسير يا شيرين؛
فتألمتِ أجلها بدموع،
ثم ناديتِني وقلتِ: عجوز
نالها في السقوط جرحٌ دامٍ؟
شيرين : قد تذكرت. منذ حين طويل.
فرهاد :
منذ هذا نهضت أبغي رضاك،
فقطعت الربى الصلاب فخرَّت
عن جلاميدها، ومهَّدت جسرًا
من جذوع الأشجار والأوتاد،
ثم أوثقتها وثاقًا شديدًا
بحبال كأنها من حديد.

(مُظهرًا السرور العظيم.)

شيرين : شكر الله ما صنعتَ صديقي.
فرهاد : كل هذا ابتغاء نيل رضاكِ.
شيرين :
كافأ الله ما صنعت فإني
ليس عندي سوى الصلاة لأجلك.
فرهاد (بخشوع) : يا نسيم الحياة أنت رجائي وجزائي.
شيرين (بطيبة) :
فرهاد، أمسك لسانًا
غلب الجهل والضلال زمامه.
ما جزائي وما رضائي؟ إلهي،
لا تؤاخذ فرهاد، واغفر لعبد
زل منه اللسان يا رحمن (بخشوع المصلي).

(تسير نازلة من جهة الطريق الجديد.)

فرهاد (متألمًا) :
جئت أرجو رضا الحبيب جزاءً،
فتولَّى وعُدت بالآثام.
هل قضى الله أن أعيش طريدًا
وبقلبي لواعج من سقامي؟
كان قطْع الصخور عندي شهيًّا
إذ توقعت أن أنال رضاها،
فإذا بي من بعد كدي وجهدي
لم أفز عندها بغير العبوس.

(يذهب نحو سرجيس.)

يا أبانا، في القلب جرح، وإني
أحسب الجرح طِبُّه الاعتراف.
سرجيس (ينهض إليه) :
إن تُرِد الاعتراف عندي تجدني
لك خدنًا مواسيًا وصديقًا.
فرهاد :
قيل إن الذنوب تُمحى إذا ما
هتك المرء سترها باعتراف.
سرجيس :
لا تقل لي مقال أهل دهاء
تخذوا الناس لعبة أو تجارة.
لا أرى الاعتراف يمحو ذنوبًا
عن قلوب تلوثت بالذنوب.
هذه قولة لمن شاء حسوًا
في ارتغاء.
فرهاد (بألم) :
سرجيس يا أبتاه،
إن قلبي به جروح فخفِّف
من سقامي برقوة أو دعاء.
سرجيس :
سأواسيك يا بني بقلبي.
فاشكُ لي ما أصاب قلبك. إني
لذوي النائبات خدن مواسي.

(يذهب بفرهاد إلى الكوخ.)

(يدخل خسرو صاعدًا من أسفل الجبل من ناحية الطريق الجديد لابسًا ملابسه الحربية وعليها أثر مجهود شاق ويرتمي متعبًا.)

خسرو :
لا أرى في الأنام أحرى بسخر
مِن مُعنًّى بكاذبات الأماني.
من يكن همه التماسًا لرزق،
لم يجد في طلابه إسقامًا.
قد يهيم الفقير بين الفيافي
في التماس الأحطاب والأعشاب،
فإذا فاز بعد جهد جهيد
برغيفين لم يعكره همٌّ.
غير أن الذي يحاول مجدًا،
يدع النوم والسلام ويأبى
ثغره الابتسام، حتى إذا ما
طالعته المُنى رآها سرابًا.

(ينظر إلى الكوخ ويذهب إليه فينادي)

صاحب الكوخ أنت، من ذا هنا؟
سرجيس (مِن الداخل) : مَن ينادي؟
خسرو : أمَا بكوخك مأوى؟
سرجيس (مطلًّا من الباب) :
مَرْحبًا بالنزيل إن كان كوخي
لائقًا للنزول.

(يخرج سرجيس وفرهاد.)

خسرو (بدهشة عظيمة) : من؟! سرجيس؟!

(ينظر سرجيس إلى خسرو نظرة فاحصة ثم يتبين ملامحه بعد قليل، ويتسلل فرهاد أثناء ذلك كالهارب.)

سرجيس : أنت بنداد؟ (مترددًا) شاه خسرو؟ …
خسرو :
لست إلا بنداد. بالله أقبل
وتناسَ الألقاب والأسماء (يتعانقان).
سرجيس : أيُّ سعد بني يا بنداد!
خسرو : يا صديقي سرجيس أي لقاء!
سرجيس :
غيَّرتك السنون يا بنداد.
(يتردد) شاه خسرو …
خسرو :
سرجيس أقصر، فإني
قد كرهت الألقاب، فاجعل ندائي
بأحب الأسماء عندي.
سرجيس :
ولكن ما وراء الستار؟ هل كان حرب؟
قد سمعنا في الليل صوتًا رهيبًا،
في سكون الظلام بين صليل
وصهيل ودعوة وغناء.
(بحزن) أي صديقي، قد كان حرب، ولكن
لست أدري مصيره، ويل نفسي!
عجب هذه الحياة، أراها
مثل كأس مريرة غير أني
لا أرى شاربًا يمل شرابًا.
سرجيس : حكمة الله فوق دَرَك العقول.
خسرو :
كان كسرى قباذ ملكًا عظيمًا،
ملأ الأرض عزة وجلالًا،
ناشئ في الشباب يزهى جمالًا،
وبيمناه معقد الآمال،
فإذا الحسن بعد حين مشيب،
وإذا المجد صائر للزوال.
سرجيس :
قد علمنا أن الحياة غرور،
ثم لا نستطيع غير الغرور.
جعل الله في النفوس نزوعًا
لاضطراب الحياة رغم العقول.
خسرو : أنت لازلت موبذًا يا صديقي.
سرجيس :
غير أني أرى عليك اكتئابًا،
فأجبني، ما كان؟
خسرو :
إني طريد،
وكفى أن أقول إني طريد.
سرجيس (بحزن شديد) : أي صديقي!
خسرو :
نازلت قِرنًا عنيدًا
سمع الناس باسمه: بهرام،
باسل فاتك، فظيع اللقاء.
فظللنا ما بين كر وفر،
وبعدنا إلى شِعاب الجبال،
فإذا بي وقد كبا بي جوادي،
وعلت بين أضلعي أنفاسي،
وأتاني العدو يعدو ويُرغي
بسنان تلوح فيه المنايا.
سرجيس : يا إلهي من هول تلك الخطوب!
خسرو :
فتوغلت في الجبال طريدًا،
وعلوت الصخور أطلب منجًى،
فإذا الشِّعب دون جرف منيف،
ليس فيه مفازة من سبيل.
سرجيس : أيُّ كرب؟!
خسرو :
لكن أراد إلهي،
فإذا بي أرى على البُعد شخصًا
في ثياب خضراء لاح مشيرًا،
فتوجهت نحوه، فمضى بي
في طريق بين الصخور خفي،
جانباه جلامد وجذوع
وحبال متينة وغصون،
ورآني العدو أرقى عليها
مثل طير معلق في الهواء.
سرجيس : يا إلهي! هذا قضاء عجيب.
خسرو :
فإذا ما بلغت أمنًا، إذا بي
أبصر الشخص قد تباعد عني،
فتوجهت نحوه كي أراه،
فاختفى في الشِّعاب مثل خيال،
ثم نادى في الجو صوت جميل،
قال: «أبشر فقد نُصرت عزيزًا.»
عند هذا ناديت: «من أنت؟ قل لي،
ملَك أنت؟» قال: «إني رسول
بعث الله بي إليك لأمر
خطَّه في القضاء فاعدل وأحسن.»
سرجيس :
تلك بشرى. فالسعد إن جاء يومًا
كانت المعجزات من إقباله.
خسرو : غير أني هنا طريد شريد.
سرجيس : يا صديقي، ما أنت بالمخذول.
خسرو :
لا أبالي بما يكون، ولكن
قد أطلنا الحديث في غير قصد،
ونسيت الذي أردت ابتداءً:
أين شيرين؟ قل وحدِّث طويلًا.
سرجيس :
في سلام. كانت هنا منذ حين،
ومضت من هناك منذ قليل.

(مشيرًا إلى جهة الطريق الجديد.)

ويقيني لو كنتَ أسرعت سيرًا،
كنتَ لاقيتها هناك.
خسرو :
ولكن،
لم يكن ها هنا من الناس فرد.
سرجيس (باسمًا) : غير ذاك الذي لقيت.
خسرو :
ولكن،
لم يكن ذاك آدميًّا.
سرجيس :
صديقي،
قلت ذاك الرسول لاح بعيدًا
في ثياب من سندس خضراء؟
خسرو : هو هذا.
سرجيس :
إذن فقد سخَّرتها
لك تلك الأقدار عن تدبير.
خسرو (متأثرًا) :
يا إلهي! لقد أحس فؤادي.
ويح قلب المحب كيف يحس!
يا صديقي إني مدين بنفسي
وحياتي لها.

(يدخل جماعة من الجنود الرومان: نياطوس ومرقص ويلاجوس، ويهم كسرى إليهم.)

نياطوس (بصوت عالٍ تظهر فيه الدهشة) :
وكيف! إلهي!
نحمد الله إذ نجوت سليمًا (يعانقه).
خسرو : أين جندي؟ وأين جيشك؟
نياطوس : ساروا إثر بهرام.
خسرو (بتعجُّب) : هل مضى بهرام؟
نياطوس : قد مضى مسرعًا بخيل ورَجْل.
خسرو :
إنها حكمة القضاء، وإنا
في بنان القضاء نسعى لأمر.
نياطوس :
عندما سرت في الشِّعاب جزِعنا،
ورأينا بهرام يعدو جريئًا؛
فيئسنا من النجاح وجئنا
نتوقَّى القتال فوق الجبال،
ورأينا العدو يقفو سريعًا
بعد بهرام صائحًا منصورًا.
غير أنَّا من بعد حين رأينا
هيعة في العدو ثم اضطرابًا،
ورأينا بهرام عاد وحيدًا
كاسفًا مبطئًا، فعدنا سراعًا
وهبطنا على العدو غريرًا،
فمضى هاربًا كسرب وعول.
خسرو :
كيف أبدي ما في فؤادي، وأنى
أجد اللفظ كي أصيغ ثنائي؟

(يسجد خسرو.)

(يركع سرجيس بجوار الصليب يصلي ويرتل أنشودة.)

سرجيس (منشدًا) :
مولاي رب البرايا
مصرِّف الحدثان،
ما شئت كان وأنى
تسمو إليك المعاني،
ضعوا الجباه سجودًا
للمالك الرحمن.

(يسجد ويسجد الجميع.)

لك الثناء ولكن
يضيق عنه بياني.

(يقومون.)

خسرو (للروم) :
يا رفاقي جزاكم الله عني،
قل عندي جزاء هذا الصنيع.
فاذهبوا الآن واستعدوا، ولموا
شعث الجند بعد تلك الخطوب.
إنما الحرب فرصة فاغنموها،
سيرانا الصباح إثر العدو.
ودعوني هنا لأقضي حقوقًا
من ثناء لله عند صديقي؛
ذلك الراهب المبارك.
نياطوس (يحيِّي ويهم سائرًا مع الروم) :
سمعًا.

(مناديًا مع إخوانه.)

شاه خسرو برويز، يا منصور.

(يخرجون.)

خسرو (لسرجيس) :
لا أحب الرحيل قبل لقاها،
فالتمس لي وسيلة للقاء.
كنت من قبل موثقًا بفؤادي
من هواها، واليوم أصبحت ملِكًا.
سرجيس : أنا هذا مولاي مرني.
خسرو :
صديقي،
سر معي كي تكون عني لسانًا
عندما تعقد الشجون لساني.
سرجيس :
سر بنا يا بني.

(يهم ثم يقف فجأةً إذ يبصر شيرين راجعة.)

قف، ما دهاها،
هي هذي تعود، لكن أراها
في خطاها ثقيلة. قم سريعًا
وادخل الكوخ كي أراها وحيدًا،
ففؤاد المحزون يزداد نارًا
إن تراه العيون في أحزانه.

(يُسرع خسرو ذاهبًا إلى الكوخ، وتدخل شيرين.)

(لشيرين)

أقبلي يا ابنتي إليَّ، تعالي.
شيرين (باكية) :
يا أبي، لم يصر لشيرين أهل.
كان شيخي علالتي فتولى،
وقلاني لوحشتي في الحياة.
سرجيس (متأثرًا ويحاول تسكينها) :
قد مضى الشيخ في السبيل مطيعًا
لقضاء يطيعه كل حي.
شيرين :
قد مضى تاركًا حماي مباحًا،
ودياري لوحشة وانفراد.
سرجيس :
اذكري الله، إنه خير جار،
هو يحمي حماك يا شيرين.
شيرين :
يا أبي هذه الحياة عذاب،
ليس لي بُغية بتلك الحياة.

(تزيد بكاءً.)

ما الذي أبتغيه منها وقِدمًا
لم أجدها سوى دموع وحزن.
سرجيس :
أنتِ تنسين يا ابنتي. لا تسيري
في سبيل الأحزان نحو الضلال.
شيرين :
غفر الله لي. فإن فؤادي
مزقته سهام دهر عاتٍ.
سرجيس :
نِعم الله حولنا تتوالى،
وأرى الناس قلَّ منهم شكور.
فاصبري يا ابنتي إذا حل يومًا
بعض ما تكرهين. كم لإلهي
من أيادٍ عليك: رزق حلال،
وشراب من سلسل، وقلوب
تتولاك رحمة وحنانًا.
شيرين :
يا أبانا جُزيت خيرًا، فإني
لا أحس السلام إلا بقولك.
سرجيس :
إن في الناس من يفديك حبًّا
بدماء القلوب.
شيرين :
أحمد ربي
إذ أرى في الحياة بعدُ صديقًا.
سرجيس : لك ربٌّ يفوق كل صديق.
شيرين :
أحمد الله أنه هو حسبي،
وكفاني في الناس قلب صديق.
سرجيس :
أنت تنسين. هل نسيت زمانًا
كان فيه النسيم يسري عليلًا،
وتفوح الزهور فيه فتُحيي
أملًا في الفؤاد غير بعيد،
وتُضيء النجوم ليلًا فتعلو
بالأماني إلى سماء النعيم؟
شيرين (بحزن) :
كان هذا، وقد مضى بي كحلم،
فإذا بي صحوت للأحزان.
سرجيس :
اذكري ذلك الزمان وقولي
رحم الله عهده في العهود،
واسألي الله أن يعيد الليالي
باسمات كما مضين.
شيرين : وأنَّى يبعث الله ما مضى؟
سرجيس :
شيرين،
ليس هذا إيمان قلب وفيٍّ.
شيرين : قد تولَّى زمان سعدي وأُنسي.
سرجيس :
إن من كان للعهود وفيًّا،
لا تموت الآمال بين ضلوعه.
أنسيت الصديق بنداد؟
شيرين : ربي!
سرجيس : ليس في قلبه سوى شيرين.
شيرين :
يا أبي ما عهدت منك حديثًا
باطلًا.
سرجيس :
لم يكن حديثي لغوًا.
إن بنداد ها هنا، آه خسرو.
شيرين (بدهشة) : كيف تدري؟
سرجيس :
قد كان عندي وأفضى
لي بما كان من أمور عجاب.
كان في مأزق الهلاك طريدًا،
ثم لاحت له فتاة هدَتْه
لطريقٍ بين الشِّعاب خفي.
أعرفتِ الفتاة يا شيرين؟
شيرين : يا إلهي!
سرجيس (باسمًا) :
هو القضاء، وإنا
في سبيل القضاء نسعى بأمر.
بعثتك الأقدار كيما تكوني
آلة في نجاة هذا الصديق.
شيرين : يا إلهي لك الثناء الجميل.
سرجيس :
أتحبين أن أسير إليه؟
إنه كان يبتغي أن يراك.

(تسكت شيرين مطرقة ثم تبكي.)

شيرين : يا إلهي رحماك!
سرجيس (ناهضًا ينادي) : بنداد أقبل!

(يُفتح الكوخ ويخرج منه خسرو مسرعًا.)

شيرين (إلى جانب) : هو في القلب لم يُزله بِعاد.
خسرو (لشيرين) : يا هوى القلب ما نسيتك يومًا.

(يمسك يديها بشدة ويقبلِّها.)

شيرين (تبكي) :
أسعفي يا دموع إن فؤادي
كاد من هذه الشجون يذوب.
خسرو :
كنت في الهالكين حتى بدا لي
ملَك في ثيابك الأطهار،
فإذا بي على جناحيه ناجٍ،
وإذا بي بيُمنه منصور.
شيرين : أحمد الله.
خسرو :
أقبلي. إن قلبي
مثل طير ظمآن في أسر سجن
أبصر الماء ليس يسطيع شربًا.

(يمد لها ذراعيه.)

أقبلي أنتِ نشوتي وهُيامي،
أنت زادي ونسمة الأنفاس.
شيرين (مترددة) :
يا إلهي! غالبت قلبي، ولكن
لم أطق في غلاب قلبي انتصارًا.
كنت أهوى بنداد، لكن فؤادي
ظل يهوى بنداد في شاه خسرو.

(تندفع بين ذراعيه.)

خسرو :
أقبلي للمحب، ماذا يبالي
خالص الحب باسمِ من يهواه.
أقبلي ملِكتي لقد شاء ربي
أن تكوني شريكتي في انتصاري.
أنت للعرش زينة فهلمي،
ذلك التاج باسمٌ في انتظار.
(انتهى)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤