الفصل الثالث عشر

قال تي إكس: «إذا كنت مهتمًّا بالحضور يا سيدي، فأنا واثق من أن لكسمان سيسعد برؤيتك؛ إنه لعطفٌ كبير منك أن تولي اهتمامًا بالأمر.»

دمدم رئيس الشرطة بشيءٍ عن أنه يتقاضى راتبه من أجل الاهتمام بالجميع وسار مع تي إكس عَبْر أحد أروقة سكوتلاند يارد التي تبدو بلا نهاية.

قال: «لن تواجه أي مشكلة بشأن العفو.» وتابع: «لقد كنتُ أتناول العشاء الليلة مع بارثولوميو العزيز وسيتولى ترتيب هذا الأمر في الصباح.»

تساءل تي إكس: «هل من ضرورةٍ لوضع لكسمان رهنَ الاحتجاز؟»

هزَّ رئيس الشرطة رأسه نفيًا.

ثم قال: «إطلاقًا.»

وساد صمتٌ، ثم قال تي إكس:

«بالمناسبة، هل ذكر بارثولوميو شيئًا عن بليندا ماري؟»

التفت رئيس الشرطة ذو الشعر الأشيب حوله في دهشة.

سأله: «ومَن هي بليندا ماري بحق الجحيم؟»

احمرَّ وجه تي إكس.

ثم قال بسرعة بعض الشيء: «بليندا ماري هي ابنة بارثولوميو.»

قال رئيس الشرطة: «يا إلهي! تذكرتُ، لقد ذكرها؛ إنها لا تزال في فرنسا.»

قال تي إكس ببراءة: «أوه، حقًّا؟»، وكان في أعماق قلبه يتمنَّى بشدة أن تكون ما زالت هناك. وصلا إلى غرفة مانسوس، ووجدا ذلك الرجل الرائع في الانتظار.

أينما يلتقي رجال الشرطة، ينحرف حديثهم تلقائيًّا إلى العمل، وفي غضون دقيقتين كان الثلاثة يتناقشون ببعض الحماس والكثير من اختلاف الرأي، من ناحية تي إكس، في سلسلةٍ من جرائم الاحتيال التي ارتُكبت في وسط البلاد، والتي لا تمتُّ بصلةٍ إلى هذه القصة.

قال رئيس الشرطة: «لقد تأخَّر صديقك.»

صاح تي إكس منتفضًا: «ها هو ذا.» سمع صوت خطوات مألوفًا على الممر المرصوف، فقفز خارجًا من الحجرة لمقابلة الوافد الجديد.

وقف لحظةً يشدُّ على يد هذا الرجل المتجهِّم، وقلبه يفيض بالمشاعر إلى حدٍّ أعجزه عن النطق بأي كلمات.

وأخيرًا قال: «صديقي العزيز! لا تعرف كم أنا سعيد برؤيتك.»

لم يقل جون لكسمان شيئًا، ثم قال بهدوء:

«أعتذر لإدخالك في هذا الأمر، يا تي إكس.»

قال الآخر: «كفَّ عن هذا الهراء، ادخل لتقابل رئيس الشرطة.»

وأخذ جون من ذراعه وقاده إلى حجرة المفتش.

ثمَّة تغيير طرأ على جون لكسمان. أصابه تغيُّر غيرُ ملحوظ في الاتزان لم يكن من السهل اكتشافه. صارت ملامح وجهه أكبر سنًّا، وصار الفم ذو التعبيرات المتباينة جامدًا جمودًا كئيبًا بعض الشيء، وصارت العينان محاطتين بتجاعيدَ أعمقَ. كان يرتدي بِذلةَ سهرة، وبدا كما تراءى لتي إكس سيدًا إنجليزيًّا تقليديًّا مهندمًا، كذلك الذي يفخر أيُّ خادمٍ معتدٍّ بنفسه أن يعلن عن «حضوره».

كان تي إكس ينظر إليه بدقة ولم يستطِع أن يرى أي تغيير مؤثِّر، عدا ندبة امتدت عَبْر جانب إحدى وجنتَيْه الحليقة الملساء نتيجة جرح قديم، لم يكن واردًا أن يكون سوى جرح سطحي.

قال جون وهو يخلع عنه معطفه ويضعه على ظهر أحد المقاعد: «لا بد أن أعتذر عن هذه الثياب، ولكني في الحقيقة كنت أشعر بملل شديد هذا المساء، جعلني أضطر إلى القيام بأيِّ شيءٍ كي أجعل الوقت يمر؛ لذا ارتديت ثيابي وذهبتُ إلى المسرح، وشعرت بمللٍ أشدَّ من ذي قبل.»

لاحظ تي إكس أنه لم يكن مبتسمًا وأنه حين تحدَّث، كان يتحدَّث ببطء وحذر، وكأنه يزن قيمة كل كلمة.

تابع قائلًا: «والآن لقد جئت كي أضع نفسي بين أيديكم.»

قال تي إكس: «أعتقد أنك لم تقابل كارا، أليس كذلك؟»

أجاب باقتضاب: «لا رغبةَ لديَّ في مقابلة كارا.»

تدخَّل رئيس الشرطة قائلًا: «حسنًا، يا سيد لكسمان، لا أظن أنك ستواجه أيَّ مشكلة بشأن مسألة هروبك. بالمناسبة، أعتقد أنه قد نُفِّذ بواسطة طائرة، أليس كذلك؟»

أومأ لكسمان بالإيجاب.

«وهل كان لديك مَن ساعدك؟»

أومأ لكسمان بالإيجاب مجددًا.

ثم قال: «أفضِّل ألا أناقش ذلك الأمر بعض الوقت يا سير جورج، إلا إذا ضغطتَ عليَّ، ثمَّة أمور كثيرة سوف تحدُث قبل أن تُعرف القصةُ الكاملة لهروبي.»

أومأ السير جورج.

وقال مبتهجًا: «سوف نترك هذا الأمر عند هذا الحد، والآن أتمنى أن تكون قد عُدتَ لتسعدنا جميعًا بواحدة من قصصك الرائعة.»

قال جون لكسمان بتلك النبرة المتأنية الهادئة المعهودة: «لقد طويت صفحة القصص الرائعة في الوقت الحالي.» وتابع: «أتمنى أن أغادر لندن الأسبوع القادم إلى نيويورك وأعيش هناك ما تبقَّى من الحياة. فقد ولَّى الجزء الأكبر منها.»

فهِم رئيس الشرطة.

كسر رنينُ جرسِ الهاتف العالي والمصرُّ الصمتَ الذي تلا ذلك.

قال مانسوس وهو يهمُّ سريعًا بالنهوض: «مرحى، إنه جرس هاتف كارا.»

وبخطوتَيْن سريعتَيْن توجَّه إلى الهاتف ورفع السماعة.

صاح قائلًا: «مرحبًا.» ثم صاح مرة أخرى: «مرحبًا.» لم يجد ردًّا سوى الطنين المتواصل، وحين أغلق السماعة مجددًا، استمر الجرس في الرنين.

نظر الشرطيون الثلاثة بعضهم إلى بعض.

قال مانسوس: «ثمَّة مشكلة هناك.»

قال تي إكس: «ارفع السماعة وأعِد المحاولة.»

امتثل مانسوس، ولكن لم يتلقَّ إجابة.

قال جون لكسمان وهو يلملم معطفه: «أخشى أن الأمر لا يخصني.» وأضاف: «ماذا تريدني أن أفعل، يا سير جورج؟»

قال السير جورج مادًّا يده له: «فلتَحضُر صباح الغد لمقابلتنا يا لكسمان.»

سأله تي إكس: «أين تقيم؟»

أجاب الآخر: «في فندق ذا جريت ميدلاند، على الأقل أُرسلت حقائبي إلى هناك.»

قال تي إكس وهو يمسك بكتف الآخر برفق ومودة: «سوف آتي لرؤيتك صباح الغد. من الغريب أن يحدث هذا في ليلة عودتك.»

لم ينطق جون لكسمان بشيء حينها.

ثم قال بنبرة متثاقلة: «إذا أصاب كارا خطبٌ ما، أو إذا وقع له أسوأ ما يمكن أن يحدث، فصدقني لن أذرف دمعةً واحدة أسفًا عليه.»

نظر تي إكس في عينَي الآخر في تعاطُفٍ.

وقال بلطف: «أظنه قد آلمك بشدة، يا عزيزي.»

أومأ جون لكسمان إيجابًا.

قال مهمهمًا: «لقد فعل، عليه اللعنة.»

كانت سيارة رئيس الشرطة تنتظره بالخارج ودلف إليها تي إكس، ومانسوس، وضابط تحرٍّ وانطلقوا جميعًا إلى كادوجان سكوير. كان فيشر في الرَّدهة حين قرعوا الجرس وفُتح الباب في الحال.

بدت عليه الدهشة جليةً حين رأى الزوار. أوضح لهم في امتعاض، وكأن تي إكس كان يجب أن يعلم بذلك دون أن يبلغه به أحد، أن السيد كارا في غرفته. لم يسمع رنين الجرس، ولم يُستدعَ إلى الغرفة فعليًّا.

قال: «يفترض أن أذهب إليه في الحادية عشرة، وقد تلقيتُ تعليماتٍ واضحة بألا أذهب له ما لم يرسل في طلبي.»

صعد تي إكس إلى الطابَق العلوي، متوجهًا مباشرة إلى غرفة كارا. طرق الباب، ولكن لم يتلقَّ إجابة. فطرقه ثانية، ولما لم يتلقَّ إجابة، أخذ يركل الباب بقوة.

تساءل قائلًا: «هل لديكم هاتف بالأسفل؟»

أجاب فيشر: «أجل، يا سيدي.»

التفت تي إكس إلى ضابط التحري.

وقال له: «اتصل بمقر سكوتلاند يارد وأحضِر رجلًا بحقيبة أدوات. يجب أن نكسر هذا القفل ولم أُحضِر عُلبة أدواتي معي.»

قال فيشر، الذي كان يشاهد ما يدور باهتمام: «كسْر القفل لن يجدي؛ فالسيد كارا أغلق المزلاج.»

قال تي إكس: «لقد نسيت ذلك.» وأردف: «أخبِره بأن يُحضِر منشاره، فسوف نضطر إلى قطع الخشب هنا.»

وبينما كانوا ينتظرون وصول الضابط، حاول تي إكس جاهدًا جذب انتباه ساكن الغرفة، ولكن دون جدوى.

سأل مانسوس: «هل يتناول الأفيون أو أيَّ شيءٍ من هذا القبيل؟»

هزَّ فيشر رأسه نافيًا.

ثم قال: «لم أعرف عنه أنه يعاقر أيَّ شيءٍ من هذا القبيل.»

أجرى تي إكس معاينةً سريعةً للغرف الأخرى الواقعة في هذا الطابق. كانت الغرفةُ المجاورة لغرفة كارا هي المكتبة، ثم تأتي بعدها غرفة الملابس، التي كانت الآنسة هولاند تستخدمها، حسبما قال فيشر، وفي أقصى الممر كانت توجد غرفة المائدة.

كان أمام غرفة المائدة مصعد خدمات صغير وبجواره مخزن به عدد من الصناديق، كان من بينها صندوق ضخم للغاية عليه تعليمات مكتوبة بثلاث لغات بضرورة «حمله بحرص.» لم يكن في هذا الطابَق أيُّ شيءٍ آخر ذي بال، وكان على الموجودين بالطابق العلوي والسفلي أن ينتظروا النجار. وفي خلال ربع ساعة كان النجار قد وصل من سكوتلاند يارد، وصنع فتحةً في باب غرفة كارا المصنوع من خشب الورد، وانكب على تشغيل منشاره النحيل.

عَبْر الفتحةِ التي جرى عملها، لم يستطِع تي إكس أن يرى شيئًا إلا أن الغرفةَ غارقةٌ في ظلامٍ حالك، وخلت من أي ضوء عدا وهج النار المستعرة. أدخل يده وراح يتحسس بيده بحثًا عن مقبض المزلاج الفولاذي، الذي كان قد لاحظه في زيارته السابقة إلى الغرفة، فرفعه وفُتح الباب.

ثم قال آمرًا: «فليبقَ الجميع بالخارج.»

تحسَّس بيده بحثًا عن مفتاح الكهرباء، ووجده، وفي الحال غمر الضوء الغرفة. كان الباب المفتوح يخفي السرير عن الأنظار. دلف تي إكس إلى الغرفة ورأى ما فيه الكفاية. كان كارا مستلقيًا، نصفه على السرير ونصفه الآخر خارجه. كان ميتًا وكانت بقعة الدماء التي استقرت فوق قلبه تروي ما حدث له.

وقف تي إكس ينظر إليه، ورأى الهلع المتجمِّد على قسمات وجه المتوفى، ثم أشاح ببصره بعيدًا وأخذ يعاين الغرفة على مهل. وجد دليلًا في منتصف السجادة؛ وهو شمعة صغيرة ملتوية ومنبعجة كتلك التي توجد في أشجار عيد الميلاد الخاصة بالأطفال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤