الفصل السادس عشر

عادة ما يكون فبراير شهرًا بلا ضباب، ولكنه شهر الرياح العاصفة، والصقيع، وتساقط الثلوج، ولكن ليلة السابع عشر من فبراير كانت من الليالي الهادئة ذات الضباب الخفيف. لم يكن ذلك الضباب المعتاد في لندن الذي يخافه الأجانب أشدَّ الخوف، ولكن ثمَّة واحدة من تلك الرُّقَع الضبابية التي تنشر دخانها عبر الشوارع، حاجبةً أقرب الأشياء جاعلةً إياها غيرَ مرئية، كانت في تلك اللحظة تنقشع متحولة إلى خيوطٍ شفافة من أجمل ما يكون، تتخذ لونًا رماديًّا باهتًا.

كان السير ويليام بارثولوميو يملك منزلًا في بورتمان بليس، وهو شارع رحيب يعجُّ ببناياتٍ ذاتِ واجهات كئيبة من الخارج، ولكنها مريحة للغاية من الداخل. قبل الساعة الحادية عشرة بقليل، في ليلة السابع عشر من فبراير، توقَّفت سيارة أجرة عند تقاطع شارع ساسيكس مع شارع بورتمان بليس، وترجَّلت منها فتاة. كان الضباب في تلك اللحظة أكثر كثافة من المعتاد وتردَّدت لحظةً قبل أن تغادر الملاذ الآمن داخل السيارة الأجرة.

أعطت السائق بعض التعليمات وواصلت السير بخطًى ثابتة، لتنعطف فجأة وترتقي سلَّم البناية رقم ١٧٣. وبسرعة شديدة وضعت مفتاحها في القفل وفتحت الباب وأغلقته وراءها. أضاءت نور الردهة. بدا المنزل فارغًا ومهجورًا، وهو ما منحها قدْرًا كبيرًا من الارتياح. أضاءت النور، وشقَّت طريقها إلى أعلى عَبْر السلَّم العريض متجهةً إلى الطابَق الأول، ثم توقَّفت لحظةً لتضيء نورًا آخرَ كانت تعلم أنه لن يكون ملحوظًا من الشارع بالخارج، وارتقت المجموعةَ الثانية من درجات السلَّم.

هنأت الآنسة بليندا ماري بارثولوميو نفسها على نجاح خطَّتِها، وكان الشكُّ الوحيد الذي يساور عقلها الآن هو ما إذا كانت غرفة الجلوس قد أُوصدت، ولكنَّ أباها كان يهمل مثل هذه الأمور، وكان جاكس كبيرُ الخَدَم واحدًا من أولئك العُجُز السخفاء الذين لا يُغلقون أيَّ شيء؛ ومن ثَم كانت تواجه كل مراجعة لمحتويات المنزل بوجهٍ مكفهرٍّ وسردٍ طويل لسرقات الخَدَم المؤقتين.

انتابها شعورٌ بالغ بالارتياح حين دار المقبض وانفتح الباب بلمسةٍ منها. وكان لدى أحدهم من الحصافة ما جعله يجذب الستائر المعدنية الحاجبة ويُسدِل الستائر القماشية. أضاءت النور بتنهيدةِ ارتياح. كانت منضدةُ الكتابة الخاصة بأمها مغطاةً بخطاباتٍ لم تُفتح، ولكنها أزاحتها جانبًا في خضم بحثِها عن الطرد الصغير. لم يكن موجودًا ما جعل الخوفَ يدبُّ في قلبها. ربما وضعته في أحد الأدراج. ففتحتها جميعًا دون جدوى.

وقفت إلى جانب المنضدة في حالةٍ من الارتباك الشديد، وهي تعَضُّ على أحد أصابعها في تأمل.

ثم وثبت قائلة: «حمدًا للرب!»؛ إذ رأت الطردَ على رف المدفأة فاجتازت الغرفة وأنزلته.

وبيدَيْن متلهفتَيْن مزَّقت الغلاف فبدت العلبة الجلدية المألوفة لديها. وانطلقت منها تنهيدةُ ارتياح طويلة حين فتحت الغطاء المبطَّن ورأت علبة السَّعُوط راقدةً في طبقةٍ من القطن الطبي.

فقالت بصوتٍ عالٍ: «شكرًا للرب على ذلك.»

قال صوتٌ ما: «ولي أيضًا.»

قفزت من مكانها والتفتَت حولها وفي عينَيْها نظرةُ هلع.

قالت متلعثمة: «السيد … السيد ميرديث.»

وقف تي إكس بجوار ستائر النافذة التي دخل منها دخلته الدرامية المثيرة إلى المشهد.

وبعد قليل قال: «أظن أن عليكِ أن تشكريني أنا أيضًا، يا آنسة بارثولوميو.»

تساءلت ببعض الفضول: «كيف عرفت اسمي؟»

أجابها قائلًا: «أعرف كل شيء في العالم»، فابتسمت. وفجأة غشيت الجديةُ قسماتِ وجهها وسألته في حدة:

«مَن أرسلك في إثري … السيد كارا؟»

كرَّر الاسم في استغراب قائلًا: «السيد كارا؟»

تابعت بسرعةٍ قائلة: «توعَّدني بأن يرسل في طلب الشرطة، وأخبرته أن بإمكانه أن يفعل ذلك. فلست عابئةً بالشرطة؛ بل كارا هو مَن كنت أخشاه. أنت تعرف لِمَ فعلت هذا؛ إنه من أجل شيء مِلك أمي.»

وأمسكت بعلبة السَّعُوط في يدها المبسوطة.

«لقد اتهمني بالسرقة، وكان يشعُّ حقدًا وكراهية، ثم أنزلني إلى ذلك القبو السفلي البشع ثم …»

قال تي إكس: «ثم ماذا؟»

أجابَت بشفتَيْن مشدودتَيْن: «هذا كل ما حدث، ماذا أنت فاعل الآن؟»

قال: «سوف أسألكِ بضعة أسئلة إذا سمحت لي بذلك.» وأضاف: «قبل كل شيء، ألم تسمعي أيَّ شيءٍ عن كارا منذ رحيلك؟»

هزَّت رأسها نافية.

ثم قالت بتجهُّم: «لقد ابتعدتُ عن طريقه.»

سألها: «هل اطلعتِ على الصحف؟»

أومأت برأسها.

«طالعتُ عمود الإعلانات الشخصية، كنت قد أرسلتُ برقيةً طالبت فيها أبي بالرد على برقيتي.»

ابتسم قائلًا: «أعرف … لقد رأيتها، وهذا ما جاء بي إلى هنا.»

قالت في حزن: «كنت أخشى ذلك، إن أبي شديد الإسهاب في الكتابة … فهو يُلقي خُطَبًا كما تعرف. كل ما أردته منه أن يقول نعم أو لا. ماذا تقصد بشأن الصحف؟ هل وقع لأمي مكروه؟»

هزَّ رأسه نافيًا.

«الليدي بارثولوميو، حسب علمي، في أحسن صحة وفي طريق عودتها إلى الوطن.»

سألته قائلة: «إذن ماذا تعني بسؤالك لي عن الصحف؟ لمَ يجب أن أطالع الصحف … ماذا بها يخصني لأراه؟»

قال: «أمر كارا؟»

هزَّت رأسها في حيرة.

«لا أعرف شيئًا عن كارا ولا أريد أن أعرف عنه شيئًا. لماذا تقول لي ذلك؟»

قال تي إكس ببطء: «لأن رمينجتون كارا قُتل في الليلة التي اختفيتِ فيها من كادوجان سكوير.»

قالت لاهثة: «قُتِل.»

أومأ برأسه.

«تلقَّى طعنةً في قلبه من مجهول أو مجهولين.»

وأخرج تي إكس يده من جيبه وأمسك بها شيئًا ملفوفًا في منديل ورقي. أزال المنديل بحرصٍ وراحت الفتاة تراقب بنظرة اندهاش، وشعور رهيب بالخوف. وبعد قليل ظهر الشيء الملفوف داخل المنديل. كان مقصًّا لُفَّ مقبضُه بمنديلٍ ملطَّخ ببقع بُنيَّة. اتخذت خطوة إلى الخلف، رافعةً يديها إلى وجنتيها.

ثم قالت بصوتٍ مبحوح: «إنه مقصي، أنت لن تظن أن …»

رفعت بصرها محدقة إليه، وبداخلها صراعٌ من أجل السيطرة بين مشاعر الخوف والسخط.

ابتسم قائلًا: «لا أظنكِ قد ارتكبت الجريمة، إن كان ذلك هو ما تقصدين سؤالي عنه، ولكن لو أن شخصًا آخرَ قد عثر على ذلك المقص وتعرَّف على هذا المنديل، لوقعتِ في ورطةٍ يا صديقتي الصغيرة.»

نظرت إلى المقص وارتعدت.

وقالت بصوتٍ خفيض: «لقد قتلتُ شيئًا بالفعل، قتلت كلبًا بشِعًا … لا أعرف كيف فعلتها، ولكن ذلك الشيء المتوحِّش قفز نحوي فطعنته وأرديته قتيلًا، وأنا سعيدة بذلك»، وأومأت برأسها عدة مرات وكرَّرت: «أنا سعيدة.»

«هكذا استشفَفْتُ؛ لقد عثرتُ على الكلب، والآن لعلكِ ستشرحين لي لماذا لم أجدْك؟»

تردَّدَت مرةً أخرى وشعر أنها تُخفي شيئًا عنه.

قالت: «لا أعرف لماذا لم تجدني، لقد كنتُ هناك.»

«كيف خرجتِ؟»

قالت متحديةً إياه في جرأة: «كيف خرجتَ أنت؟»

اعترف قائلًا: «خرجتُ من الباب، تبدو طريقةً عادية إلى حد السذاجة للمغادرة، ولكنها الطريقة الوحيدة التي استطعتُ رؤيتها.»

أجابت بابتسامةٍ واهية: «وهكذا خرجتُ أيضًا.»

«ولكنه كان موصدًا.»

ضحكت.

ثم قالت: «فهمت الآن، لقد كنتُ في القبو. لقد سمعتُ صوتَ مفتاحك في القفل، فأغلقتُ الباب السري، تاركةً ذلك المقص الشنيع ورائي. ظننتك كارا ومعه بعض أصدقائه، ثم تلاشت الأصوات، وغامرتُ بالصعود ووجدتك قد تركت الباب مفتوحًا. لذا … لذا …»

تحيَّر تي إكس من هذه الوقفات البسيطة الغريبة. كان ثمَّة شيء لم تخبره به. كان لا يزال هناك شيء لم تُفصِح عنه بعد.

تابعتْ قائلة: «لذا هربتُ كما تعلم.» وأضافت: «خرجتُ إلى المطبخ، ولم يكن ثمَّة أحد هناك، ثم عبرتُ من الباب وصعدتُ الدرج وعلى مقربةٍ شديدة وجدتُ سيارةَ أجرة، هذا كل ما حدث.»

وفردت يداها في إشارةٍ تمثيلية بسيطة.

قال تي إكس: «أهذا كل ما حدث حقًّا؟»

قالت مرددة: «هذا كل ما حدث، والآن ماذا أنت فاعل؟»

نظر تي إكس إلى السقف وراح يداعب ذقنه.

«أظن أنه ينبغي أن ألقي القبضَ عليكِ. أشعر بأن هذا واجبٌ عليَّ القيام به. هل لي أن أسألكِ إن كنتِ قد نِمتِ في السرير بالأسفل؟»

تساءلت قائلة: «تقصد في القبو السفلي؟» وتوقَّفت برهةً ثم قالت: «نعم، كنتُ نائمةً في القبو الواقع بالأسفل.»

كان ذلك الفاصل من التردُّد يكاد يفصل بين كل كلمة والأخرى.

تساءلت ثانية: «ماذا أنت فاعل؟»

كانت أكثرَ ثقةً في نفسها وخَمَد بداخلها ذلك الذعرُ الذي انتابها جرَّاء ظهوره المفاجئ. كان يُجعِّد خصلات شعره، في تقليدٍ صارخ، لو كانت تدري، لأحدِ أساليب مرءوسه المتكلفة، ولاحظت أن شعره كثيفٌ جدًّا ويميل للتموُّج. كذلك رأت أنه وسيم الطلعة إلى حدٍّ مقبول، له عينان رماديتان جميلتان، وأنف مستقيم، وذقن انسيابي للغاية.

قالت بصوت ناعم خفيض: «أظن أن من الأفضل أن تقبض عليَّ.»

قال في استجداء: «لا تكوني سخيفة.»

قالت في غضب: «ماذا قلت؟»

كرَّر الشاب الهادئ: «قلت: «لا تكوني سخيفة».»

سألَتْه قائلة: «أتعرف أنك في غاية الوقاحة؟»

بدا مهتمًّا بهذا الرأي الجديد بشأن سلوكه ومندهشًا له.

تابعت وهي تسوِّي رداءها متجنبةً نظرات عينه: «أعرف بالطبع أنك تظن أنني سخيفة وأن لي اسمًا مضحكًا للغاية.»

رد ببرود: «لم أقُل قطُّ إن اسمكِ مضحك، لم أكن لأصلَ إلى هذا الحد من الوقاحة.»

قالت محتجةً: «قلت إنه «غريب»، وهذا أسوأ.»

قال معترفًا: «ربما قلت إنه «غريب»، لكنه وصفٌ مختلف عن القول إنه «مضحك.» فالأشياء الغريبة تنطوي على شيء من الهيبة. فالكوابيس مثلًا ليست مضحكة، ولكنها غريبة.»

قالت في حدة واضحة: «أشكرك.»

رد: «لا أقصد تمامًا أن اسمكِ أقرب إلى الكابوس.» وقدَّم هذا الاعتراف بإيماءةٍ مهيبة بيده وكأنه مَلِك يتفضَّل بمنحها حقَّها في البقاء بغطاء رأسها في حضرته. وأضاف: «أعتقد أنه بليندا آن …»

صحَّحت له الاسم قائلة: «بليندا ماري.»

«بليندا ماري، هكذا كنت سأقول»، ثم أضاف في اضطرابٍ وتخبُّط: «أو في الواقع كنت سأقول بليندا وماري.»

صحَّحت له قائلة: «لم تكن ستقول أي شيء من هذا القبيل.»

«على أي حال، أعتقد أن بليندا ماري اسمٌ جميل جدًّا.»

«أنتَ لا تعتقد أيَّ شيء من ذلك.»

ورأت في عينيه ضحكةً واستشعرت رغبةً غيرَ منطقية في الضحك أيضًا.

«قلتَ إنه اسمٌ غريب وتعتقد أنه اسمٌ غريب بالفعل، ولكني حقًّا لا أستطيع أن أعبأ بالتفكير في آراء كل شخص. أنا أيضًا أراه اسمًا غريبًا.» ثم أضافت مدافعةً عن نفسها: «لقد سُميتُ بهذا الاسم نسبةً إلى إحدى عمَّاتي.»

فأمال رأسه بتأدُّب وقال: «إذن فأنتِ أوفرُ حظًّا مني. لقد سُمِّيتُ على اسم كلب أبي المفضَّل.»

تساءلت في فضول: «إلامَ يرمز تي إكس؟»

قال: «توماس زافير Thomas Xavier»، وأسندت ظهرها في مقعدها الكبير الذي كانت قبل دقائق معدودة قابعةً على حافته في هلع وفزع، ودخلت في نوبةٍ من الضحك الهستيري.

تساءل قائلًا: «اسمٌ مضحك، أليس كذلك؟»

قالت بأنفاسٍ متقطعة: «أوه، آسفة لوقاحتي الشديدة.» وأردفت: «تخيَّل أن يكون اسمك تومي زافير … أقصد توماس زافير.»

«يمكنكِ أن تدعوني تومي إذا شئتِ؛ فهكذا يدعوني معظم أصدقائي.»

قالت وهي لا تزال مبتسمةً وتمسح الدموعَ من عينيها: «لسوء الحظ أني لستُ من أصدقائك؛ لذا سأظل أدعوك السيد ميرديث إذا كنت لا تمانع.»

ونظرت إلى ساعة يدها.

«إذا كنتَ لن تلقيَ القبضَ عليَّ، فسوف أرحل.»

قال: «بالتأكيد ليس لديَّ أيُّ نيةٍ للقبض عليك، ولكني سأوصلكِ إلى المنزل!»

هبَّت منتفضةً من مقعدها بسرعة.

وقالت بلهجةٍ آمرة: «لن تفعل.»

كانت في غايةِ الحسم في ذلك إلى حدٍّ أدهشه.

قال محتجًّا: «يا طفلتي العزيزة.»

قالت في جدية: «من فضلك لا داعيَ لمشاعر العطف الأبوي تلك، سوف تكون لطيفًا وتدعني أعود إلى المنزل بمفردي.»

ومدَّت يدها إليه مباشرة وكان إغراء الضحك في عينيها لا يُقاوَم.

قال في إصرار: «حسنًا، سأوصلكِ إلى سيارة أجرة.»

«وتتنصت بينما أوجِّه السائقَ إلى المكان الذي سيصطحبني إليه؟»

وهزَّت رأسها في استنكار.

«لا بد أن كونَ الشخص ضابطَ شرطة أمرٌ في غاية البشاعة.»

وتراجع إلى الخلف عاقدًا ذراعَيْه، وعلى وجهه تقطيبةٌ صارمة.

ثم تساءل قائلًا: «ألا تثقين بي؟»

أجابت: «نعم.»

قال موافقًا إياها: «لكِ كل الحق، على أي حالٍ سأوصلكٍ إلى السيارة الأجرة، ويمكنكِ أن تطلبي من السائق أن يتوجَّه إلى محطة تشارينج كروس، وفي الطريق يمكنكِ تغيير الاتجاه.»

سألته: «وهل تَعدُني بأنك لن تتبعَني؟»

أقسم قائلًا: «أعِدُك بشرفي، ولكن بشرط واحد.»

ردت باستعلاء: «لن أقبل بأي شروط.»

قال متوسلًا: «أرجوكِ، انزلي من برجكِ العاجي وأنصتي لصوت العقل. الشرط الذي أشترطه هو أن يكون بإمكاني دومًا استدعاؤكِ إلى موعدٍ محدَّد كلما احتجت إليك. هذا أمرٌ ضروريٌّ حقًّا، يا بليندا ماري.»

صحَّحت له في برود: «آنسة بارثولوميو.»

أردف قائلًا: «هذا ضروري كما ستفهمين. عديني بأنني إذا نشرتُ إعلانًا في أعمدة الإعلانات الشخصية، سواء في صحيفةٍ مسائية سوف أحدِّد اسمها، أو في «ذا مورنينج بوست»، فسوف تلتزمين بالموعد الذي أحدِّده، إذا كان بالإمكان الالتزام به.»

تردَّدت لحظة، ثم مدت يدها نحوه.

ثم قالت: «أعدك.»

قال: «رائعٌ جدًّا يا بليندا ماري»، ووضع ذراعها في ذراعه وخرج بها من الغرفة مطفئًا النورَ ومسرعًا بها عبر السلَّم.

إذا كان لا يزال متبقيًا الكثيرُ من روح التلميذة لدى بليندا ماري بارثولوميو، فلم يكن المتبقي من روح التلميذ لدى مفوَّض الشرطة بأقلَّ منها. كان يمكن أن يجري بها عبر الضباب، ضاربًا بالأصول والتقاليد عُرضَ الحائط، لكنه لم يكن متلهفًا قط لتوصيلها إلى السيارة وغيابها عن ناظريه.

قال ممسكًا يدَها في يده: «طابت ليلتك.»

قالت معترضةً إياه: «هذه ثالث مرة تصافحني فيها الليلة.»

قال في استعطاف: «لا تدعي أيَّ شيء يعكِّر صفو ليلتنا في نهايتها، وتذكري وعدك.»

ردت قائلة: «لقد وعدتُك.»

تابع قائلًا: «ويومًا ما سوف تخبريني بكلِّ ما حدث في ذلك القبو.»

قالت بصوت خفيض: «لقد أخبرتك به.»

«لم تخبريني بكل شيء، يا طفلتي.»

وأدخلها إلى سيارة الأجرة. وأغلق الباب خلفَها وانحنى عَبْر النافذة المفتوحة.

وسألها في تهذيب: «فيكتوريا أم ماربل آرتش؟»

أجابت بضحكةٍ خفيفة: «تشارينج كروس.»

شاهد سيارة الأجرة وهي تبتعد، ثم توقَّفت فجأة وخرج جسدٌ من النافذة يشير إليه في لهفةٍ شديدة. فهُرع إليها.

تساءلت قائلة: «افترض أني احتجتُ إليك.»

قال على الفور: «انشري إعلانًا، مستهلةً إياه ﺑ «عزيزي تومي».»

قالت في سخط: «سوف أضع «تي إكس».»

رد قائلًا: «إذن لن ألقيَ بالًا لإعلانك»، ووقف في وسط الشارع، ممسكًا قبَّعته في يده، ما أثار ضيقَ أحدِ سائقي سيارات الأجرة بشدة، وكاد أن يصطدم به، وظل يذمُّه حتى صار تي إكس بعيدًا عن مرمى السمع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤