الفصل الحادي والعشرون

رواية جون لكسمان

«كما قد تعلمون جميعًا، أنا كاتب قصصٍ تعتمد في نجاحها على تأليفِ ألغازٍ إجرامية ومن ثَم حلُّها.

كان رئيس الشرطة من الكرم بما يكفي ليخبركم أن قصصي كانت أكثر من مجرد سعي وراء الإثارة، وأنني سعيت من خلال تلك القصص لطرحِ مواقفَ غامضة ولكنها محتملة الحدوث، وتقديم حلٍّ مقبول لتلك المعضلات، بقدْر ما أُوتيتُ من براعة، ليس فقط للقارئ العادي، بل أيضًا للخبير الشرطي.

وعلى الرغم من أنني لا أعتبر أعمالي الأولى ذات جدية، ولم أسعَ فيها في الواقع سوى وراء المواقف والأحداث المثيرة، أستطيع الآن، بالنظر إلى الوراء، أن أرى وراء هذه الأعمال التي بدت في حينها بلا هدف شيئًا أشبه بمخطط دراسات.

لا بد أن تغفروا لي غروري؛ لأن من الضروري أن أقدم هذا التوضيح، وينبغي لكم، وأنتم من ضباط الشرطة الكبار ممن يملكون قدرًا كبيرًا من الخبرة والفراسة، أن تقدروا حقيقة أنني قد استطعت اختراق عقول المجرمين الخياليين الذين صوَّرتُهم في قصصي؛ ومن ثَم فأنا قادر على تتبع عقلية الرجل الذي ارتكب هذه الجريمة، أو إعادة تكوين نفسية قاتل رمينجتون كارا، إن لم أستطع تتبُّع عقليته.

بحوزة معظمكم الحقائقُ المهمة الخاصة بهذا الرجل. تعلمون أيُّ نوع من الرجال كان هذا الرجل، ولديكم أمثلة على عنفه وفظاعته، وتعلمون أنه كان وصمة عار على أرض الرب، نفس شريرة آثمة تسعى إلى إشباع تلك الشهوة الغريبة للدماء والألم، التي لا توجد إلَّا لدى قلةٍ قليلة من المجرمين.»

مضى جون لكسمان ليصف مقتل فاسالارو.

قال: «أعرف كيف حدث ذلك.» وتابع: «كنتُ قد تلقيت عشيةَ عيد الميلاد الفائت، من بين هدايا أخرى، مسدسًا من معجب مجهول. كان هذا المعجب المجهول هو كارا، الذي خطَّط لهذه الجريمة قبل نحو ثلاثة أشهر من وقوعها. كان هو مَن أرسل لي المسدس البراونينج، وكان يعلم وهو يفعل ذلك أنني لم أستخدم مثل هذا السلاح قط من قبل، وأنني لذلك سأكون متحفظًا في استخدامه. ربما كان عليَّ أن أحتفظ بالمسدس في خزانة بعيدًا عن المتناول؛ ومن ثَم كانت خطته المدبَّرة بدقةٍ برمَّتها ستفشل.

ولكن كارا كان منظمًا في كل الأمور. فبعد أن تلقيت السلاح بثلاثة أسابيع، وقعت محاولة خرقاء لاقتحام منزلي والسطو عليه في منتصف الليل. بدت لي آنذاك أنها محاولة خرقاء؛ لأن اللص أحدث جلبة هائلة، واختفى فور بدء محاولته، دون إحداث أضرار سوى كسر نافذة غرفة المائدة. بطبيعة الحال ذهب عقلي إلى احتمال وقوع محاولة أخرى من هذا النوع؛ إذ يقع منزلي على أطراف القرية، وكان طبيعيًّا تمامًا أن آخذ المسدس من أحد خزائني الخاصة وأضعه في مكانٍ في متناولي. ولمزيد من التأكيد، جاء كارا في اليوم التالي، وسمع القصة الكاملة لمحاولة الاعتداء.

لم يتحدث عن أيِّ أسلحة، ولكن أذكر الآن، مع أنني لم أتذكَّر ذلك في حينها، أنني قد ذكرت حقيقة أن لديَّ مسدسًا تحت يدي. بعد أسبوعين وقعت محاولةٌ أخرى لاقتحام المنزل. أقول محاولة، لكنني لا أظن أن الغرض من ورائها كان جادًّا على الإطلاق. لقد دُبِّر هذا الاعتداء بهدف جعل ذلك المسدس في مكانٍ يسهُل الوصول إليه.

وحضر كارا مجددًا لرؤيتنا في اليوم التالي للسطو، ومرة أخرى لا بد أنني قد أخبرته بما حدث في الليلة الماضية، وإن كنت لا أذكر ذلك بوضوح. فلم يكن من الطبيعي ألا أذكر تلك الحقيقة؛ إذ كانت محور نقاش بيني وبين زوجتي والخدم.

ثم جاء خطاب التهديد، ويشاء القدر أن يكون كارا موجودًا. في ليلة ارتكاب الجريمة، وبينما لم يزل كارا في منزلي، خرجتُ للبحث عن سائقه. بقي كارا بضع دقائق مع زوجتي، وبحجةٍ ما دلف إلى المكتبة. وهناك قام بتعبئة المسدس بالرصاص، واضعًا خرطوشًا في خزينة المسدس، ومعولًا على الحظ في ألا أسحب الزناد إلى أن أصوبه في وجه الضحية. وهنا انتهز أكبر فرصة أُتيحت له؛ لأنه قبْل أن يرسل لي المسدس، كان قد أرخى نابض المسدس بشدة حتى إن أقلَّ لمسة من شأنها أن تجعله ينطلق، ولكون السلاح آليًّا، كما تعرفون، ومع انطلاق خرطوش واحد، يُعاد تعبئته ويطلق الخرطوش التالي وهكذا، ربما كان من شأن لمسة عابرة أن تفسد مخططه … وربما أنا أيضًا.

أنتم تعلمون ما حدث في تلك الليلة.»

ثم مضى يتحدَّث عن محاكمته وإدانته وتحدَّث سريعًا عن الحياة التي عاشها حتى ذلك الصباح في دارتمور.

«علم كارا بثبوت براءتي ولأن كراهيته لي هي الهاجس الأكبر الذي يسيطر عليه؛ كوني أملِك الشيء الذي كان يريده ولكن لم يَعُد مرغوبًا لديه، فالأمر مفهوم؛ فقد رأى المعاناة التي دبَّرها لي ولزوجتي الحبيبة تنتهي فجأة. وبالمناسبة، كان قد وضع خطته بالفعل وصارت في حيز التنفيذ بالفعل، وكانت عبارة عن حملة تعذيب ممنهج لها.»

والتفت إلى تي إكس وقال: «لعلك لم تعرف أنه لم يكن قد مرَّ شهر حين حضر شقي معروف إلى شقتها مدعيًا أنه قد أُطلِق سراحه من بورتلاند أو وورموود سكرابس في صباح ذلك اليوم وأنه قابلني. كانت القصة التي يحملها لها كل رسول يأتيها كفيلة بأن تفطر فؤاد حتى أشجع النساء. كانت تدور حول سوء المعاملة التي أتلقاها من المسئولين الغلاظ القلب، وإصابتي بالمرض، والجنون، وكل ما من شأنه أن يحطِّم قلب زوجة مخلصة محبة.

كانت هذه خطة كارا. ألا يؤلمها بسوط أو بسكين، بل يجرح قلبها جرحًا غائرًا بلسانه الخبيث الملعون، ويتوغَّل إلى عقلها الغر. وحين وجد أنني سأنال حريتي — ربما يكون قد خمَّن، أو ربما عرف بوسيلةٍ ما ماكرة، أن ثمَّة عفوًا على وشك الصدور — نسجَ خطته الكبرى. ولم يكن أمامه سوى أقل من يومين لتنفيذها.

فعن طريق أحد عملائه وجد حارسًا لديه بعض المشاكل مع السلطات، وكان رجلًا جشعًا؛ بل وكان على وشك الفصل من الخدمة على خلفية اتِّجاره غير المشروع مع السجناء. كانت الرشوة التي عرضها على هذا الحارس ضخمة ولذلك قبِلها.

اشترى كارا طائرة جديدة أحادية السطح وهو، كما تعلمون، كان طيارًا متميزًا. وبواسطة هذه الآلة طار إلى ديفون ووصل عند الفجر إلى أحد الأجزاء المهجورة من المستنقع.

لست في حاجةٍ لسرد قصة هروبي. فقصتي تبدأ فعليًّا من اللحظة التي وضعت فيها قدميَّ على متن السفينة بريت. وكان أول شخص طلبت رؤيته بطبيعة الحال هو زوجتي. بيد أن كارا أصر على أن أذهب إلى المقصورة التي أعدَّها لي وأبدل ثيابي، وحتى ذلك الحين لم أكن أدرك أنني ما زلت بلباس السجن. كان بانتظاري ثياب نظيفة، ولا أستطيع أن أصف لكم رفاهية القمصان الناعمة والملابس المحكمة على الجسد بعد زي السجن.

بعد أن ارتديت ثيابي وتأنقت، اصطحبني خادم اليوناني إلى المقصورة الخاصة الأكبر حجمًا وهناك وجدت حبيبتي في انتظاري.»

انخفض صوته إلى حد الهمس، ومرت دقيقة أو دقيقتان قبل أن يستطيع السيطرة على مشاعره.

ثم أضاف: «كانت تساورها شكوك إزاء كارا، ولكنه كان مثابرًا وعنيدًا للغاية. فقد شرح لها الخطط تفصيلًا، وأراها الطائرة، ولكن حتى في ذلك الحين لم تكن لتأمن على نفسها على متن السفينة، وكانت تنتظر في قاربٍ بخاري يتحرك بموازاة اليخت، إلى أن رأت عملية هبوط الطائرة وأدركت أن كارا لم يكن يخدعها كما كانت تظن. كان كارا قد استأجر القارب البخاري وعلى الأرجح أن الرجلين القابعين بداخله قد تلقيا رشوةً كبيرة مثل الحارس.

لا يعرف فرحةَ الحرية إلا مَن عانوا أهوال السجن. لعلها عبارة عادية وواضحة بما يكفي، ولكن حين يصف المرء أشياءَ أساسية جوهرية، فلا مجال للغموض. مرت الرحلة بلا أحداث إلى حدٍّ كبير. ولم نرَ كارا إلا قليلًا؛ إذ لم يفرض نفسه علينا، وكان مصدر إثارتنا الوحيد يكمن في الخوف من أن تعترضنا مدمرةٌ بريطانية، أو أن تبحث عنا السلطات الإنجليزية عند وصولنا جبل طارق. كان كارا قد تنبَّأ بذلك الاحتمال، وتزوَّد بما يكفي من الفحم للهرب.

اجتزنا البحر المتوسط وسط أجواء عاصفة إلى حدٍّ كبير، ولكن بعد ذلك لم يحدث شيء حتى وصلنا إلى دوريس. اضطررنا للنزول على الشاطئ متنكرَين؛ لأن كارا أخبرنا أن القنصل الإنجليزي قد يرانا ويتسبَّب لنا في مشكلةٍ ما. ارتدينا ثيابًا تركية، فتلثمت جريس تمامًا وارتديتُ أنا قفطانًا قديمًا مليئًا ببقع الشحم، ومع النحول الذي طال وجهي إلى حدٍّ ما وذقني غير الحليق، عبَرت دون تعليق من أحد.

إن منزل كارا كان، ولا يزال، على بُعد نحو ثمانية عشر ميلًا من دوريس. إنه لا يقع على الطريق الرئيسي، والوصول إليه يكون عن طريق أحد المسارات الجبلية الصخرية التي تتعرج وتتمعج وسط التلال وصولًا إلى جنوب شرق المدينة. إن المنطقة هناك مقفرة وأراضيها بائرة بالأساس. فاضطررنا إلى اجتياز المستنقعات والبحيرات الشاطئية الحدودية الضخمة بينما نرتفع ونرتفع من مصطبة إلى أخرى حتى وصلنا إلى الطرق التي تقطع الجبال.

إن قصر كارا، والذي لا يمكنك أن تصفه بأقل من ذلك، شُيِّد بإطلالة على البحر. فهو يطل على شبه جزيرة أكروسيروانيان بالقرب من رأس لنجويتا. والمنطقة في هذا المكان مأهولة أكثر بالسكان والمزروعات. اجتزنا منحدرات كبيرة مغطاة تمامًا بأشجار التوت الأمريكي والزيتون، بينما يوجد في الأودية حقول الذرة. يقع القصر الضخم على تلة شاهقة. ويُوصل إليه بطريقين، كانا محصَّنَين جيدًا في الماضي ضد قوات السلطان العسكرية، أو ضد العصابات التي كانت القرى المعادية تحشدها بغرض اقتحام هذا الحصن ونهبه.

كان الألبان، وهم جماعة متعطشة للدماء بلا شفقة أو رحمة، مخلصين تمامًا لزعيمهم، شأنهم شأن كارا. فكان يجزل لهم العطاء حتى إن سرقته لم تكن مجدية؛ وفوق ذلك، كان يشغل العناصر المشاغبة منهم بالغارات المحدودة التي كان يطلقها هو أو أعوانه من آنٍ لآخر. وكان القصر مشيدًا على الطراز المغربي وليس التركي.

كان أقرب إلى الطراز الشرقي المُطعم بملامح من العمارة الإيطالية؛ فكان منزلًا به ساحاتٌ ذات أعمدة بيضاء، وأفنية كبيرة مرصوفة، ونوافير وغرف داكنة رائعة.

حين مررت من البوابات أدركت لأول مرة بعضًا من وزن كارا ومكانته. كان ثمَّة عشرون خادمًا، كلهم من الشرق، وكانوا مدربين على أعلى مستوًى، وصامتين، وخانعين. وقادنا إلى غرفته الخاصة.

كان جناحًا كبيرًا به مقاعدُ تمتد عبر الحائط، ومجموعةٌ من غرف الاستقبال المزخرفة على الطراز الفرنسي، وسجادة فارسية ضخمة من أفخر أنواع السجاد الشيرازي على الإطلاق. واسمحوا لي هنا أن أقول إن أسلوبه تجاهي طوال الرحلة كان ودودًا تمامًا وكان أسلوبه تجاه جريس أفضل ما يمكن أن أتوقَّعه من صديقٍ مقرَّب؛ إذ كان مهذبًا ولطيفًا.

لم نكد نصل إلى غرفته حتى قال لي بتلك الوداعة التي التزمها طوال الرحلة: «هل تودُّ أن ترى غرفتك؟»

أبديت رغبة في ذلك. فصفَّق بيديه وجاء خادمٌ ألباني ضخم الجثة عَبْر المدخل المزدان بالستائر، ملقيًا التحيةَ المعتادة، وتحدَّث إليه ببضع كلمات بلغةٍ أعتقد أنها كانت التركية.

قال كارا بابتسامته الشديدة الرقة: «سوف يريك الطريق.»

اتبعت الخادم عَبْر الستائر التي لم تكد تنسدل من ورائي حتى أمسك بي أربعة رجال، وطرحوني أرضًا بعنف، وحُشِر طربوش قذر في فمي، وقبل أن أدرك ما يحدث قُيدت يداي وقدماي.

حين أدركت خيانة الرجل الكبرى، اتجهت أولى أفكاري التي اجتاحت عقلي بجنون إلى جريس وسلامتها. أخذت أغالب بقوة الرجال، لكن كثرتهم غلبتني، وجرجرت عبر الممر وفُتِح باب وأُلقيت داخل حجرةٍ خاوية من كل شيء. لا بد أنني قد ظللتُ مستلقيًا على الأرض لمدة نصف ساعة حين جاءوني وكان برفقتهم هذه المرة رجلٌ في منتصف العمر يُدعى سالفوليو، والذي كان إما إيطاليًّا وإما يونانيًّا.

كان يتحدَّث الإنجليزية جيدًا إلى حدٍّ كبير وأوضح لي أن عليَّ أن أكون لطيفًا وعاقلًا. اقْتِدتُ مرةً أخرى إلى الغرفة التي جئتُ منها لأجد كارا جالسًا على واحدٍ من تلك الكراسي الضخمة ذات الذراعين التي كان يفضِّلها، يدخن سيجارة. كانت جريس المسكينة تجلس في مواجهته، ولم تزل بثوبها التركي. سرَّني أن أجدها بلا قيود، ولكن حين نهضتْ عند دخولي وبدتْ كأنها مقبلة نحوي، دفعها الحارس الواقف بجوارها إلى الوراء بغلظة.

قال كارا متشدقًا: «سيد جون لكسمان، أنت في بداية خيبة أمل كبيرة. لدي بضعة أمور أودُّ أن أخبرك بها ستجعلك تشعر بالانزعاج نوعًا ما.» وكانت هذه هي المرة الأولى التي سمعت فيها أن أمر العفو عني قد وُقِّع وأنهم اكتشفوا براءتي.

قال كارا: «بعد كل ما تجشمته من عناء لأزجَّ بك في السجن، ليس واردًا أن أسمح بإحباط كل خططي، وخطتي هي أن أشقيكما شقاءً لا حدَّ له.»

لم يرفع صوته، وكان لم يزل يتحدث بنفس نبرة الحديث، الهادئة وشبه المستمتعة.

قال: «أنا أكرهك لأنك أخذت المرأة التي كنت أريدها. وهذه جريمة لا تُغتفر لرجلٍ له طباعي. لم أكن يومًا راغبًا في النساء قط، سواء على سبيل الصداقة أو المتعة. فأنا واحد من القلائل ممن يكتفون بذاتهم في هذا العالم. وحدث أن كنت راغبًا في زوجتك، ورفضَتْني لأنها فضَّلتك على ما يبدو.»

ونظر إليَّ في سخرية.

وأردف بنبرةٍ متباطئة: «لعلك تعتقد في هذه اللحظة أنني راغب فيها الآن، وأن جزءًا من انتقامي أن أضعها في الحرملك. هذا أبعد ما يكون عن رغباتي أو أفكاري. فالروماني الأسود لا يرضى بفضلات أمثالك من الحثالة. إنني أكره كليكما بالقدْر نفسه، وفي انتظاركما تجربةٌ أبشعُ مما يمكن أن يستحضرها خيالُك المرن.» وسألني وهو لا يزال محتفظًا بهدوئه: «أتفهم ما يعنيه ذلك؟»

لم أُجِب. ولم أجرؤ على النظر إلى جريس التي كان ملتفتًا إليها.

قال لها: «أعتقد أنكِ تحبين زوجك، يا صديقتي، سوف يخضع حبيبكِ إلى اختبارٍ عصيبٍ للغاية. سوف ترينه وقد صار مجرَّد حطام رجل. سوف ترينه تحت وطأة بطشٍ أكبر مما تتعرَّض له الماشية في الحقل. لن أجعلكما تنعمان بأي بهجة، ولن تذوقا راحة البال. منذ هذه اللحظة فصاعدًا أنتما عبدان، بل أقل من العبيد.»

وصفَّق بيديه. وانتهى اللقاء ومنذ تلك اللحظة لم أرَ جريس إلا مرة واحدة فقط.»

توقَّف جون لكسمان عن الكلام ودفن وجهه بين يديه.

ثم أضاف: «أخذوني إلى زنزانةٍ سريَّة تحت الأرض حُفرت في الصخر الصلد المصمت. كانت تشبه إلى حدٍّ كبير قلعة شيون في أن نافذتها الوحيدة كانت تطل على بحيرةٍ متطرفة تجتاحها العواصف وكانت أرضيتها من صخر محزز. لقد وصفتها بأنها تحت الأرض؛ لأنها كانت بالفعل على ذلك الجانب؛ إذ كان القصر مشيدًا على منحدرٍ شديد الانحدار يمتد من حافة التلال.

صفدوا ساقيَّ بالسلاسل الحديدية وتركوني وحيدًا بلا رقيب. كانوا يعطونني قطعةً صغيرة من لحم الماعز وكوبًا معدنيًّا صغيرًا من الماء مرة واحدة في اليوم، وكان كارا يدخل مرة واحدة أسبوعيًّا وخارج نطاق دائرة نصف القطر التي تشكِّلها أصفادي الحديدية كان يفتح مقعدًا قابلًا للطي بلا مسند ويجلس يدخِّن سيجارته ويتحدث. يا إلهي! ما أبشعَ الأشياء التي كان ينطق بها ذلك الرجل! ما أبشع الأشياء التي كان يصفها! ما أشنع الفظائع التي كان يرويها! وكانت جريس دائمًا هي محور وصفه. وكان يروي القصص التي كان يخبرها بها عني. لا أستطيع أن أصفها. إنها لا تقبل التكرار.»

ارتعد جون لكسمان وأغلق عينيه.

ثم أردف: «كان هذا سلاحه. لم يواجهني صراحة بتعذيب حبيبتي، ولم يقدِّم لي دليلًا ملموسًا على معاناتها، فقط كان يجلس ويتحدث، واصفًا بلغة واضحة إلى حدٍّ استثنائي بدا مدهشًا بالنسبة إلى أجنبي، «الفقرات الترفيهية» التي كان يشهدها.

ظننت أنني على شفا الجنون. قفزتُ نحوه مرتين وفي المرتين كانت الأصفاد التي تلفُّ ساقي تطيح بي بقوة على تلك الأرضية القاسية. ذات مرة أدخل حارس الزنزانة ليجلدني، ولكني تحملتُ ضربات السوط برباطة جأش شديدة لم تمنحه أيَّ شعور بالتشفي. كنت قد أخبرتكم أنني قد رأيت جريس مرة أخرى وقد جاءت على النحو التالي.

كان ذلك بعد واقعة الجلد، وقد خطَّط كارا، الذي كان في ثورته شيطانًا بمعنى الكلمة، للثأرِ مني عقابًا لي على لا مبالاتي. أحضروا جريس على متن قاربٍ وجدَّفوا بالقارب إلى حيث أستطيع أن أراها من نافذة زنزانتي. وهناك سلَّط السوطَ الذي جُلدتُ به عليها.» وأضاف في انكسار: «لا أستطيع أن أخبركم بأيِّ شيء آخرَ عن ذلك، ولكن لا تعلمون كم كانت بداخلي رغبةٌ محمومة في أن أنهار وأشفي غليل ذلك الوغد كما يريد. يا إلهي! كان الأمر مريعًا!

حين جاء الشتاء اعتادوا اصطحابي مصفَّد الساقين لجمع جذوع الأشجار من الغابة. لم يكن ثمَّة مبرِّر لتكليفي بهذا العمل، ولكن الحقيقة، كما عرفتها من سالفوليو، أن كارا كان يرى أن زنزانتي دافئةٌ أكثرُ مما ينبغي. فقد كان التل الواقع بالخلف يحميها من الرياح وحتى في أبرد الأيام كانت محتملة. ثم رحل كارا لفترة. أعتقد أنه قطْعًا ذهب إلى إنجلترا، وعاد ثائرًا ثورةً عارمة. فقد اتخذت واحدة من خططه الكبرى منحًى خاطئًا وكان التعذيب النفسي الذي سلَّطه عليَّ أشدَّ من أيِّ وقتٍ مضى.

كان قبل ذلك معتادًا المجيءَ مرةً واحدة أسبوعيًّا، ولكن في تلك الآونة صار حضوره شبهَ يومي. عادة ما كان يصل بعد الظهيرة وفُوجئت في إحدى الليالي حين أُوقظت من نومي لأراه واقفًا عند الباب وبيده مصباحٌ وسيجارته في فمه كالمعتاد. كان دائمًا ما يرتدي الثياب الألبانية التقليدية حين يكون بالبلدة، تلك الثياب المؤلَّفة من تنانير اسكتلندية بيضاء وسترات الزواف القصيرة المفتوحة من الأمام التي يفضِّلها أهالي التل، ولم يكن لها تأثيرٌ سوى أن زادت من مظهره الشيطاني. وضع المصباح أرضًا واستند إلى الحائط.

قال في تثاقل: «أخشى أن زوجتك تنهار، يا لكسمان، إنها ليست تلك المرأة الإنجليزية الجذابة القوية التي ظننتها.»

لم أردَّ بشيء. فقد وجدت بالتجربة المريرة أنني إذا تدخلت في الحديث، فلن أجني سوى مزيد من المعاناة.

تابع قائلًا: «لقد أرسلت في إحضار طبيب من دوريس؛ فبعد كل العناء الذي تكبدتُه، لا أرغب بطبيعة الحال في أن أفقدها بالموت.» وكرَّر بلذة استمتاع ولكن بنبرة ضيق خافتة في صوته: «إنها تنهار، وطلبتْ رؤيتك ثلاث مرات هذا الصباح.»

سيطرتُ على نفسي كما لم أتوقَّع مطلقًا من رجلٍ يمر بمثل هذه الظروف العصيبة.

قلتُ بأقصى قدْر ممكن من الهدوء: «كارا، ماذا فَعَلَتْ كي تستحق كلَّ هذا الجحيم الذي عاشت فيه؟»

نفث حلقةً طويلة من الدخان من سيجارته وراح يشاهد تقدُّمها عَبْر الزنزانة.

قال مثبِّتًا عينه على حلقة الدخان: «ماذا فعلت؟» — سأظل دائمًا أذكر كل نظرة، وكل إيماءة، وكل نبرة في صوته. وأضاف: «لقد فعلت بي كلَّ ما يمكن أن تفعله امرأةٌ برجلٍ مثلي. جعلتني أشعر بالضآلة. كنت أملِك العالم كله تحت قدمي حتى صدتني، يا لكسمان. كنت أفعل كلَّ ما يحلو لي. إن أشرتُ بإصبعي الصغير، كان الناس يُهرعون خلفي، وتجربتي معها حطمتني.» وأردف سريعًا: «أوه، لا تظن أن العشق هو ما حطمني. فأنا لم أحبها قط، فلم تكن سوى عاطفة عابرة، ولكنها قتلَت ثقتي بنفسي. من بعدها، كلما وصلت إلى لحظة حاسمة في علاقاتي، حين أكون في أشد الاحتياج للوصول إلى الحالة واليقين اللازمَين لبلوغ هدفي وتنفيذ خططي، حينما أكون في أقصى درجات الثقة بنفسي وبقدراتي وبخطتي، يُبعَث خيالُ هذه الفتاة الملعونة، وأشعر بذلك الضعف اللحظي، وتتراءى لي ذكرى تلك الهزيمة، التي صنعت كل الفارق بين النجاح والفشل.»

ثم قال بحدة وعنف: «لقد كرهتها وما زلت أكرهها، وإن ماتت فسوف أكرهها أكثر؛ لأنها ستظل للأبد تهدِّد أفكاري وتفسد خططي إلى الأبد.»

ثم مال إلى الأمام واضعًا مرفقيه على ركبتيه، وقبضته تحت ذقنه — كم أراه جيدًا في خيالي! — وحملق بي.

ثم قال ملوِّحًا بيده إلى محيط الزنزانة الداخلي: «كان بوسعي أن أكون ملِكًا هنا في هذه الأرض، كان بوسعي أن أسلك طريقي إلى عرش ألبانيا بالرشوة والقتل. ألا تدرك ما يعنيه ذلك لرجلٍ مثلي؟ لا يزال هناك فرصة وإذا استطعت أن أبقي زوجتك على قيد الحياة، وإذا استطعت أن أراها محطمة العقل والعافية، مجرَّد حطام مسكين هزيل تهذي وتركع على قدمي حين أقترب منها، سوف أستعيد سيطرتي على نفسي.» ثم قال مومئًا برأسه: «صدقني، سوف تحظى زوجتك بأفضل رعاية طبية يمكن الحصول عليها.»

خرج كارا ولم أرَه ثانية لفترة طويلة جدًّا. وأرسل لي بعدها رسالةً صغيرة كُتبت في عجالة في الصباح، ليخبرني أن زوجتي قد فارقت الحياة.»

نهض جون لكسمان من مقعده وراح يذرع الغرفة ورأسه مستند إلى صدره.

ثم قال: «منذ تلك اللحظة وأنا أعيش لأجل شيء واحد فقط، معاقبة رمينجتون كارا. وقد عاقبته أيها السادة.»

وقف في منتصف الغرفة وخبط صدره العريض بقبضة يده.

ثم قال: «لقد قتلت رمينجتون كارا»، وانطلقت زفرةُ تعجُّب خفيفة من كل الحاضرين عدا واحد. كان ذلك هو تي إكس ميرديث، الذي كان يعرف ذلك طوال الوقت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤