العزاء الثاني: تفسير الموجة الدليلية غير المستحيل تمامًا

سعى لوي دي بروي إلى حل لغز ازدواجية الموجة والجسيم لا بالقول إن كِيانًا مثل الإلكترون قد يكون موجة أو جسيمًا، حسب الطريقة التي تنظر إليه بها، ولا بالقول إنه موجة وجسيم في الوقت ذاته. فقد أشار إلى احتمال وجود كِيانين منفصلين، موجة وجسيم، يعملان معًا من أجل تحقيق النتائج التي نراها في تجاربنا.

كان دي بورلي أحدَ رواد فكرة الموجات في ميكانيكا الكَم. فكان هو مَن أوعَز بأنه، كما أشار أينشتاين، ما دام من الممكن لشيء كنا نراه فيما سبق موجات (الضوء) أن نعتبره جسيمات (الفوتونات) أيضًا؛ إذَن من الممكن للأشياء التي كنا نعتبرها جسيمات (الإلكترونات) أن تُعامَل أيضًا باعتبارها موجات. وسرعان ما أكَّدت التجارب هذا الطرح، وقاد شرودنجر لوضع معادلته الموجية. كان من البديهي أن يُمعن دي بروي التفكيرَ في معنى ازدواجية الموجة والجسيم هذه، وطرح حله للغز في نفس المؤتمر الذي عُقد في كومو، حيث وضع بور قواعدَ ما صار معروفًا بتفسير كوبنهاجن.

يُعَد تفسير «الموجة الدليلية» لدي بروي، من عدة نواحٍ، الطريقَ الأبسط والأوضح لتفسير ازدواجية الموجة والجسيم. فقد اقترح أن الموجة والجسيم كلاهما حقيقي، وأن الموجة (التي صارت معروفة بالموجة الدليلية) توجِّه الجسيم إلى وِجهته، مثل مَن يركب الأمواج في البحر. في تجربة الثقبين، تنتشر الموجة الدليلية من خلال كلا الثقبين، وتتداخل مع نفسها لتصنع نمطًا من الموجات المتداخلة. تنتشر الجسيمات التي تُطلَق خلال تجربة الثقبين بتفاوتات طفيفة في السرعة أو الاتجاه؛ لذا تتخذ في النهاية اتجاهات مختلفة قليلًا، متَّبعةً الموجات لبناء نمط تداخُل على شاشة الكاشف. نحن نقيس خواص الجسيمات، لكننا لا نستطيع أبدًا قياس خواص الموجة، وإنما نستدل فقط على وجودها من سلوك الجسيمات، التي تظل خفية عنا حتى تُكتشف. وصار هذا النهج معروفًا بنظرية «المتغيرات الخفية».

ولنا في أوراق اللعب المختلطة جيدًا خيرُ تشبيه. تخيَّلْ مجموعةً من أوراق اللعب صغيرةً بما يكفي لأن تخضع لقوانين فيزياء الكَم، داخل جهازٍ دون مجهري يُمكِّنك من قلب الأوراق واحدةً بواحدة للكشف عن قيمتها. وفقًا لنظريات المتغيرات الخفية، حين تقلب الورقة تتحدَّد القيمة التي تراها عشوائيًّا من بين الاحتمالات الاثنين والخمسين التي تتيحها لك المجموعة. فاحتمال أن تكون البطاقة حمراء ٥٠:٥٠، واحتمال أن تكون ورقة الخمسة إسباتي ١:٥٢، وهكذا دوالَيك. كانت قيمة الورقة مخفيَّة حتى نظرت إليها. لكنها طالما كانت بتلك القيمة، حتى وأنت لا تنظر إليها (وبذلك المفهوم لا تكون متغيرًا بحق!). بعد رؤية هذه الورقة الأولى — لنفترض أنها كانت بالفعل خمسة إسباتي — يصير بذلك احتمال العثور على الخمسة إسباتي صفرًا، واحتمال العثور على ورقة حمراء ٥١:٢٦، وهكذا دوالَيك. قارِن هذا بتفسير كوبنهاجن، الذي يقول إن الورقة تظل بلا قيمة حتى النظر إليها. إن فعل النظر هو ما يُرغمها على الاختيار من بين الاحتمالات المتاحة. ولكن في كلتا الحالتين، إذا ظلِلتَ تقلِّب الأوراق فسترى النوع نفسه من نمط العشوائية الذي تُمليه الاحتمالات؛ فلن تجد مثلًا ورقة الخمسة إسباتي مرتين. لا تفرِّق التجربة بين تفسير وآخر. لكنَّ ثَمَّة اختلافًا هائلًا في تفسير الشيء الذي أدَّى لظهور ذلك النمط.
figure
لوي دي بروي

«جيتي إيميدجز»

يشبِّه ديفيد ليندلي الأمر بلاعب جولف يتدرَّب على منطقة حفرة الجولف. يقذف اللاعب مجموعة من كرات الجولف موجَّهةً كلها للحفرة نفسها، ولكنَّ كلًّا منها تنطلق بسرعة مختلفة قليلًا متجهةً في اتجاه مختلف قليلًا نتيجةً للتفاوتات البسيطة الحتمية في طريقة ضرب اللاعب للكرات. كما أن سطح الملعب ليس منبسِطًا تمامًا. ومن ثَم تذهب كل كرة في اتجاه مختلف قليلًا، وتسير مسافة مختلفة بعض الشيء. بعد أن ضرب اللاعب مائة كرة، تنتشر الكرات في أرجاء السطح العشبي في نمطٍ حدَّده عدم انتظام السطح الذي انطلقت عليه. لكن يمكن نظريًّا تحديد الموقع النهائي لكل كرة إذا كنت تعرف شكل السطح والسرعة والاتجاه الذي ابتدأت به الكرة حركتها معرفة دقيقة. من هذا المنطلَق، يكون تفسير الموجة الدليلية حتميًّا، مستبعدًا عنصر الاحتمال المرتبط بانهيار الدالة الموجية، إضافة إلى استبعاد انهيار الدالة الموجية نفسه. فلكل جسيم خواصُّ محدَّدة تظل معه طوال الوقت. كلُّ ما هناك أننا لا نعلم تلك الخواص حتى نراها، شأن أوراق اللعب المختلطة جيدًا.

شرح دي بروي حجةَ الموجة الدليلية في مؤتمر كومو شرحًا تفصيليًّا، فلم يكن محض نقاش مبهَم على غِرار ما قدَّمته. وحين عاد جون بيل لتأمُّلها بعد فترة من الزمن، كتب في عام ١٩٨٧ في كتابه «اليسير والمستعصي في ميكانيكا الكَم»: «تبدو هذه الفكرة أكثرَ بديهية وبساطة من أن تحل معضلة الموجة والجسيم بأسلوب واضح ومألوف هكذا، حتى إن هذا التجاهل العام الذي قوبلت به يبدو لي لغزًا كبيرًا.»

إنه ليس باللغز الكبير في الواقع. والسبب الأول في ذلك، كما ذكرت، أن بور، بمساعدة فولفجانج باولي وبتحريض منه، انهال على الفكرة بالسخرية والاستخفاف حتى قضى على دي بروي الأكثر منهما حياءً، وكان ذلك لقوة شخصيتَيهما وذيوع صيتهما لا لصحة حُججهما. لكن الصيت ليس كل شيء. السبب الثاني وراء تحطُّم فكرة دي بروي، إلى جانب نظريات المتغيرات الخفية الأخرى، هو «البرهان» الخاطئ الذي توصَّل إليه فون نيومان على استحالة مثل تلك النظريات. امتنع دي بروي عن أي محاولة للترويج لفكرته، فنسيَها الفيزيائيون تمامًا، حتى إن ديفيد بوم عندما توصَّل إلى فكرةٍ شبيهة في أوائل خمسينيات القرن العشرين لم يكن يعلم أي شيء عن العمل السابق. وأدَّى هذا في البداية إلى بعض التوتر بينه وبين دي بروي، الذي انزعج لعدم الاعتراف بفضله، ولكن هدأ هذا الخلاف، وصارت فكرةُ الموجة الدليلية الآن يُشار إليها عادةً بتفسير دي بروي-بوم.

إن الطريقة التي توصَّل بها بوم لصيغته للموجة الدليلية ذاتُ أهمية خاصة في السياق الحالي. فقد كتب بوم كتابًا دراسيًّا عن فيزياء الكَم حين كان باحثًا شابًّا، نشره في أوائل عام ١٩٥١، شرح فيه بالتفصيل تفسير كوبنهاجن حتى إنه نال استحسان باولي نفسه، وهو المعروف بكونه ناقدًا لاذعًا لأي شخص يراه دونه على المستوى الفكري (وهو ما يعني الكل). كذلك شعر أينشتاين أن بوم قد أبلى بلاءً حسنًا في شرح تفسير كوبنهاجن قدرَ ما استطاع. غير أنه تواصل مع بوم وشدَّد على رأيه الخاص بشأن خطأ تفسير كوبنهاجن. فقرَّر بوم أن يرى إن كانت ثَمَّة طريقة أخرى لشرحِ ما يحدث في عالَم الكَم، وسرعان ما اكتشف أن هناك طريقة أخرى بالفعل. كان نموذجه للموجة الدليلية مكافئًا لتفسير كوبنهاجن رياضيًّا، وقدَّم نفس الإجابات على الأسئلة الكمية التي قدَّمها ذلك التفسير؛ فلم يكن يختلف تمامًا في أساسه عن نموذج دي بروي، لكنه زاد عنه قليلًا من ناحية وصف التفاعل بين عالَم الكَم والعالَم التقليدي. غير أنه كان قائمًا على المتغيرات الخفية، التي قال عنها فون نيومان إنها مستحيلة. ولذلك السبب على الأخص (وكذلك لما كان يُشاع عنه، على الأقل في الولايات المتحدة، بشأن تعاطفه مع الشيوعية إبَّان الحملة المكارثية ضد الشيوعيين)، لم يكترث العديد من الفيزيائيين ببوم؛ إذ كانوا يرون أنه ما دام فون نيومان قال إنه مستحيل فلا بد أن في النموذج خطأً. وكان هناك استثناءٌ واحد مهم.
figure
ديفيد بوم

«جيتي إيميدجز»

في عام ١٩٥٢ كان جون بيل يعمل في مؤسسة بحوث الطاقة الذرية التابعة للمملكة المتحدة في مالفيرن، في ورشسترشاير، واختِير ليكون واحدًا من العلماء الشبان الذين سُمح لهم بإجازة لمدة عام لإجراء أبحاث. فاختار أن يذهب للعمل والدراسة في جامعة برمنجهام، حيث تقصَّى نظرية الكَم، واطَّلع على فكرة الموجة الدليلية التي وضعها بوم. وفي الحال تبنَّى وِجهة النظر المضادَّة لوجهة نظر أغلب الفيزيائيين. ما دامت فكرة بوم منطقية، وقال فون نيومان إنها مستحيلة، فهذا يعني حتمًا أن «فون نيومان» هو الذي ارتكب خطأً. لسوء الحظ، كان كتاب فون نيومان قد نُشر آنذاك بالألمانية فقط، التي لم يكن بيل يجيد قراءتها، واضطُر بيل إلى العودة لوظيفته اليومية في تصميم مُسرعات الجسيمات، قبل الانتقال إلى المختبر الأوروبي لفيزياء الجسيمات عام ١٩٦٠. بحلول عام ١٩٦٣، نُشر كتاب فون نيومان باللغة الإنجليزية، واكتشف بيل الخطأ، وراح يدوِّن نتائجه خلال إجازة تفرُّغ علمي لمدة عام في الولايات المتحدة. وكذلك وضع صيغته الخاصة لنظرية المتغيرات الخفية كدليل إضافي على أن فون نيومان كان مخطئًا. لكنه أوضح، كما ذكرت، أن كل نظريات المتغيرات الخفية، بما في ذلك فكرة الموجة الدليلية، غير موضعية. وكما ذكر في أحد الأبحاث التي كتبها وهو بالولايات المتحدة: «إنه اشتراط الموضعية، أو بتعبير أدقَّ ألا تتأثر نتيجةُ قياس أُجري على نظامٍ ما بالعمليات التي جرت على نظامٍ بعيد كان قد تفاعل معه في الماضي، هو مكمن المشكلة الأساسية» في أشياءَ من قبيل لغز إي بي آر (أو فكرتي عن هِرتَي الفضاء بالطبع، حيث يظل الإلكترون دائمًا في أحد نصفَي الصندوق ولا يوجد تراكب وفقًا لنظرية دي بروي-بوم). يقتضي تفسير الموجة الدليلية صراحةً أن تظل أيُّ خواص آنية للجسيم، كالسرعة، أو طريقة تغييره لاتجاه حركته، معتمدةً على الخواص الكائنة «في اللحظة ذاتها» لكل الجسيمات الأخرى التي تفاعل معها.

رغم أنني لم أرَ شخصًا آخر يقول بهذا الارتباط، فإن هذا يذكِّرني بلغزٍ يُعرف بمبدأ ماخ. لفت عالِم الفيزياء إرنست ماخ — الذي كان له تأثير مهم على أينشتاين — الانتباهَ إلى اللغز الذي ظل يؤرِّق العلماء بالفعل منذ عصر نيوتن على الأقل. وهو يتعلق بالقصور. إنك حين تدفع شيئًا، فإنه يقاوم تحريكه. لا أتحدَّث عن الاحتكاك، وإنما عن موقف مثالي، حيث يسبح جسمٌ ما بحرية في الفراغ. سوف يظل ساكنًا أو يواصل الحركة في خط مستقيم (حسبما أشار روبرت هوك الذي كان أول مَن لفت النظر إلى ذلك) إلى أن يُدفَع؛ إذ سيغيِّر سرعته، أو اتجاهه، أو كليهما معًا. لكن كيف يعرف أنه سيغيِّر اتجاهه أو سرعته؟ وعلى أي أساس يُقاس هذا التغيير؟ لا يستلزم الأمر كثيرًا من الرصد لنلاحظ أن القصور يمثِّل مقاومة للتغيير في الحركة بالنسبة إلى الكون عامةً.

لستَ بحاجة لأن تتخيَّل أنك في الفضاء لترى اللغز في أوضح صوره. فقد وصف إسحاق نيوتن نفسه، في كتابه الرائع «المبادئ»، تجربةً حقيقية يمكن إجراؤها بين جدران المنزل. فقد أخذ دلوًا من الماء تدلَّى من مقبضه بحبل طويل، وظلَّ يلويه مرارًا حول نفسه ثم تركه. بدأ الدلو يدور، لكن ظل مستوى المياه في الدلو كما هو في البداية. فلم يتأثَّر مستواه حين كان الدلو يتحرك بالنسبة إلى المياه. بعد ذلك، حين انتقل تأثير الدوران إلى المياه وبدأت في الدوران، هبطت في المنتصف، فصار سطحها مقعَّرًا. حين أمسك نيوتن الدلو من الجانب، توقَّف عن الدوران، لكن استمرت المياه في الدوران، وظل سطحها محتفِظًا بشكله المقعَّر، الذي تحوَّل تدريجيًّا إلى التسطح مع تباطؤ سرعتها. توقَّف شكل سطح المياه على الطريقة التي تحرَّكت بها المياه بالنسبة إلى إطار إسنادٍ ما ثابت مبهَم، ولم يكن له أي صلة بكيفية حركته بالنسبة إلى الدلو؛ وقد صار إطار الإسناد هذا الآن يُعرَّف بأنه متوسط توزيع كل شيء في الكون. في الواقع لا حاجة حتى إلى دلوٍ لرؤية تأثير الكون بأسره على الأشياء الموضعية؛ حسبُك أن تشاهد سطح السائل وأنت تقلِّب فنجان شاي أو قهوة!

إذَن يعطي متوسط توزيع كل شيء في الكون إطارًا إسناديًّا لقياس مثل تلك التغيرات استنادًا إليه. فبطريقةٍ ما، يتأثر الجسم «الموضعي» بكل شيء «من حوله». ويخبرنا مبدأ ماخ أن القصور الذاتي للجسيم ناتج عن تفاعلٍ ما بين ذلك الجسيم وكل الأجسام الأخرى في الكون. أما طبيعة ذلك التفاعل فطالما كان لغزًا. وقد يكون تفسير الموجة الدليلية واللاموضعية هما حل ذلك اللغز.

يقودنا هذا إلى استنتاجٍ آخرَ مثير للاهتمام، يتجلَّى كذلك في تفسير آخر (العزاء الثالث). ينطبق تفسير دي بروي-بوم للموجة الدليلية على الكون بأسْره. فسلوك جسيم واحد في المكان والزمان الحاليَّين يتوقَّف على مواضعِ كل جسيم آخر في الكون في هذه اللحظة. لكن من الأفضل استكشاف التبعات في سياق ذلك العزاء الثالث؛ تفسير العوالم المتعددة. ولكن قبل الانتقال إليه، يجدُر بي أن أذكر تعليقًا مدهِشًا على نظرية بوم، من شخص ربما كان المتوقَّع منه أن يؤيدها. فعلى الرغم من أن أينشتاين كان مَن حثَّ بوم على محاولة إيجاد بديل لتفسير كوبنهاجن، فقد كتب في ١٢ مايو عام ١٩٥٢ إلى ماكس بورن قائلًا:

هل لاحظت أن بوم يعتقد (كما اعتقد دي بروي، قبل ٢٥ عامًا بالمناسبة) أنه قادر على تفسير نظرية الكَم في نموذجٍ حتمي؟ تبدو لي تلك الطريقة مبتذَلة للغاية.

لا أحد يعلم يقينًا ما كان يقصده بذلك، لكنه يسلِّط الضوء على البلبلة التي أحاطت بكل تفسيرات ميكانيكا الكَم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤