الفصل الثامن

شبح في برلينج كورت

نادرًا ما يأخذ ثورندايك إجازة رسمية. يبدو أنه لا يحتاج إلى إجازة. وعلى حدِّ قوله: «تعني الإجازة أن تحلَّ مهنةٌ تقلُّ فيها المتعة محلَّ مهنةٍ أخرى تزيد فيها المتعة. ولا توجد مهنة أكثر إمتاعًا من ممارسة الطب الشرعي.» إضافة إلى ذلك، لا يتأثر عمله بالفترات والعطلات بالقدر الذي يتأثر به عمل المحامي العادي، وغالبًا ما نجده مشغولًا حتى في العطلات الطويلة. حتى في الوقت الذي يبدو فيه وكأنه في عطلة، فغالبًا ما يكون الأمر الظاهري مضللًا، ويتبين بعد ذلك أن اختفاءَه من الأماكن التي اعتاد التردد عليها مرتبطٌ بقضية مهمة وغير عادية ولكن في مكان ناءٍ.

ما حدث أن صديقنا الكبير السيد برودريب الذي يعيش في «لينكون إن» أقنعه بقضاء أسبوعين في سانت ديفيد آت كليف، وهي قرية صغيرة تطلُّ على البحر على ساحل كينتش. وقعت جريمة مسبقًا في هذا المكان، وتبين أنها قضية لافتة للانتباه كثيرًا، على الرغم من أنني رأيتُها مسألة عادية في البداية؛ وفيما يلي ملابسات وقوعها.

في أحد أيام الصيف الحارة بعد الظهيرة، وفي بداية الإجازة الطويلة، نزل المحامي المسن من أجل احتساء كوب من الشاي والدردشة. على الأقل، هذا ما أوضحه بشأن زيارته، ولكن معرفتي بالسيد برودريب جعلتني أشكُّ في أن لديه مأربًا آخر خفيًّا في هذه الدعوة، ولما جلس بجانب النافذة المفتوحة ممسكًا بكوب الشاي متأملًا ورأيت محاميًا يتمتع بمظهر غير مساير للموضة ودمثًا، هذا بجانب بشرته الوردية الناعمة وشعره الأبيض الحريري ومظهره الذي لا تشوبه شائبة، انتظرتُ وأنا أترقب أن يبوح بسبب زيارته. وبعد برهة باح بها.

قال: «نويتُ قضاء عطلة قصيرة في سانت ديفيد. مجرد فترة أسترخي فيها بجانب البحر، كما تعلم. إنه مكان رائع؛ فالمكان يمتاز بالهدوء والراحة والهواء العليل والمنعش. هل سبقتْ لك زيارته؟»

ثورندايك: «لا، فأنا لا أعرف سوى الاسم.»

«لماذا لا تأتيان لقضاء أسبوع أو أكثر؟ تأتيان كلاكما. سأمكث في برلينج كورت، بلد عائلة لوملي. لا يمكنني دعوتُكما لأنني مجرد ضيف، ولكنني أعرف بعض الغرف المريحة في القرية ويمكنني أن أحجز لكما فيها.» وأضاف بعد التوقف لبرهة: «أتمنى أن تأتيَ يا ثورندايك. أنا لستُ سعيدًا بشأن لوملي الصغير؛ فأنا محامي العائلة كما تعرف، ومن قبلي أبي وجدِّي؛ ولذا أشعر وكأن عائلة لوملي أقاربي، ولا ريب أنني أودُّ مشورتك ومساعدتك.»

ثورندايك مقترحًا: «وما يمنع أن أقدِّم المساعدة الآن؟»

ردَّ قائلًا: «سأطلبها منك، ولكن أرغب أن تساعدنا في البلد أيضًا. أود أن تزور لوملي وأن تتحدث معه وتُخبرني ما تقول فيه.»

سأل ثورندايك: «ما خطبُه؟»

برودريب: «يبدو أنه يعاني عدمَ راحة وكأنه مصاب بجنون. إنه يعاني أوهامًا، يرى أشباحًا وأشياء من هذا القبيل. وتوجد حالات إصابة بالجنون في تاريخ العائلة، ولكن من الأفضل أن أعطيَك الوقائع بترتيبها الطبيعي.

منذ ما يقرب من أربعة أشهر، توفي جايلز لوملي، من بلدة برلينج كورت؛ ولما كان أرمل وليس لديه أولاد، انتقلت التركةُ إلى أقرب قريب ذكر، وهو موكلي الحالي السيد فرانك لوملي، وهو المستفيد الأساسي بموجب الوصية. في الوقت الذي توفي فيه جايلز، فرانك كان بالخارج، ولكن ابن عمه لويس برايس يمكث في المنزل مع زوجته باعتباره ضيفًا دائمًا تقريبًا؛ ولما كانت ظروف برايس مزرية ولما كان هو الوريث التالي للتركة، كتب إليه فرانك — إذ إنه أعزب — على الفور كي يُخبرَه أن يعتبر برلينج كورت منزلَه طوال المدة التي يرغب أن يمكث فيها.»

علقتُ: «هذا سخاء منه.»

برودريب متفقًا: «نعم، فرانك شخص كريم؛ رجل نبيل ورفيع الأخلاق وجذاب ولكنه غريب الأطوار قليلًا، وأصبح غريب الأطوار للغاية. عاد فرانك من الخارج وبدأ إقامته في المنزل، وجرت الأمور على ما يرام لفترة من الزمن. وفي أحد الأيام، اتصل بي برايس وأعطاني بعض الأخبار غير السارة تمامًا. بدا أن فرانك الذي لم تنفكَّ عنه الإصابة بمرض عصبي ومراودة التخيلات له كان يشغل نفسه بقدر كبير من البحوث النفسية، وهراء من هذا النوع. ربما لم يكن هناك ضررٌ كبير من هذا، ولكن في الآونة الأخيرة بدأ يرى أشباحًا، والأسوأ أنه بدأ يتحدث عنها؛ لدرجة أن برايس شعر بالضيق ودعا طبيبًا في الأمراض العقلية إلى الغداء؛ ولما أجرى الاختصاصي محادثة سرية طويلة نوعًا ما مع فرانك، قال برايس: يبدو أن «فرانك» يعاني أوهامًا جنونية. وبناءً على ذلك، اتصل بي برايس كي يترجَّاني حتى أرى فرانك بنفسي وأرى ما ينبغي فعله؛ ومن ثَمَّ رتبتُ زيارة له كي يأتيَ ويراني في المكتب.»

ثورندايك: «وما رأيك فيما حدث له؟»

السيد برودريب: «كنتُ مرعوبًا، مرعوبًا، ولكني أؤكد لك يا ثورندايك بأن هذا الشاب البائس جلس في مكتبي وتحدث وكأنه يعاني جنونًا تامًّا. أتعرف، كان يتحدث بهدوء. لم يظهر منه انفعال على الرغم من ظهور القلق وعدم السعادة على وجهه، ولكنه جلس يتفوَّه بجدية بأغرب هراء يمكن أن تسمعه.»

«مثل ماذا؟»

«مثل الأشياء اللعينة التي يراها. الطيور المضيئة التي تضيء حوله في الظلام، وكذلك الرأس البشري المعلَّق في الهواء مقلوبًا، ولكن من الأفضل أن أُخبرَك قصته حسبما رواها؛ فقد دوَّنتُ ملاحظات سريعة وهو يتحدث، وقد أحضرتُها معي، على الرغم من أنني نادرًا ما أحتاجها.

يبدو أن مشكلته بدأت بعدما رجع وسكن في برلينج كورت بفترةٍ وجيزة، ولأنه شخصٌ محبٌّ للاطلاع، بدأ يتردَّد على المكتبة في أوقاتٍ منتظمة؛ ومن ثَم عكف على كتاب صغير عبارة عن مخطوطة، وتبيَّن أن الكتاب يتناول تاريخ العائلة، أو بالأحرى مجموعة حلقات من تاريخها. بل إنه كتاب صغير صادم؛ فالكتاب في المقام الأول يتحدث عن جرائم وقعت في العائلة، وعن الأشباح وحالات الإصابة بالجنون في العائلة.»

سأله ثورندايك: «هل سبق أن عرفتَ شيئًا عن هذه الموروثات؟»

«لا، كانت هذه المرة الأولى التي أعرف فيها عن هذه الموروثات. علم برايس أن هناك شيئًا من الاعتقاد في الخرافات لدى العائلة، ولكنه لم يعرف ماهيته؛ وعرف جايلز عنه ولكنه لم يأبَهْ به؛ ومن ثَم أخبرني برايس. لم يذكر هذه الأشياء أمامي مطلقًا.»

ثورندايك: «ما طبيعة هذه الموروثات؟»

أخرج برودريب دفتر ملاحظاته وقال: «سأُخبرك؛ فقد دونتُها هنا، كما ذكرها فرانك البائس من دون عناء وكأنه يعرفها عن ظهر قلب. يعود الكتاب لعام ١٨١٩ ولا يخفى أن المؤلف هو وولتر لوملي وتسير مجريات الجريمة والأشباح كما يلي:

في حوالي عام ١٧٢٠، انتقلت الممتلكات إلى جيلبرت لوملي الذي كان يعمل ضابطًا في البحرية، ثم اعتزل البحر وتزوج واستقر في برلينج كورت. بعد عام أو اثنين، نشأت مشكلات بشأن زوجته ورجل يُدعى جلين، يعمل حارسًا في الحي. سواء كان هناك سببٌ أم لا، تملَّكت غيرةٌ مرعبة من لوملي مما دفعه في النهاية إلى استدراج جلين إلى كهف كبير في الأجراف الصخرية وقتله هناك. كانت أبشعَ الجرائم وأشدَّها انتقامًا. كان الكهف يستخدمه المهربون في ذلك الوقت، وكان فيه فتحة بها بكرة لرفع حمولات القوارب؛ وفي هذه البكرة، ربط لوملي جلين من الكاحلين بعدما شدَّ وثاقه ورفعه بحيث أصبح معلقًا وأصبح رأسُه إلى الأسفل وأصبح بينه وبين أرضية الكهف ارتفاع قدم أو ما شابه. تركه معلقًا في الكهف إلى أن غمر مدُّ البحر المرتفع الكهف وأغرقه.

اكتُشفت جريمة القتل في اليوم التالي، ولما كان لوملي هو أقرب قاضٍ للصلح، أبلغه المكتشفون بالجريمة وأخذوه إلى الكهف كي يرى الجثة. عندما دخل إلى الكهف، وجد الجثة لا تزال معلقة على الحال التي تركها عليه وقت أن كان الرجل حيًّا، ووجد خفاشًا يحوم حول رأس الرجل الميت. أمر بإنزال الجثة وحملها إلى منزل جلين واتخاذ الإجراءات اللازمة من أجل التحقيق. بالطبع اشتبه الجميعُ في أنه القاتل، ولكن الاشتباه افتقر إلى الأدلة التي تُدينه. وبذلك صدر الحكم بتقييد القضية ضد مجهول، ولم يكن لدى جيلبرت لوملي إحساسٌ بالذنب، وبدا أن كل شيء مرَّ كما يريد تمامًا.

ولكنه لم يمرَّ؛ ففي إحدى الليالي بعد مرور شهر من جريمة القتل، دخل جيلبرت إلى مخدعه في الظلام. أخذ يتحسَّس بطول رف الموقد بحثًا عن الولاعة، وعندها أدرك وجود حركة خافتة وخفيفة في الغرفة. أخذ يتجول في الغرفة بسرعة ثم رأى أن هذه الحركة بسبب خفاش — أغرب خفاش غير طبيعي إذ بدا أنه يُصدر ضوءًا يميل إلى اللون الأخضر وكأنه شبح — وأخذ يحوم حول الفراش. لما حدث هذا وتذكر الخفاش في الكهف، اندفع إلى خارج الغرفة وفرائصه ترتعد من الخوف. عاد بعد ذلك مع اثنين من الخدم وشمعتَيْن، ولكنه وجد الخفاش قد اختفى.

منذ ذلك الوقت، أخذ الخفاش المضيء يُطارد جيلبرت؛ إذ كان يظهر في الغرف المظلمة وعلى درج السلم والممرات والردهات، وهذا أتلف أعصابه ولم يجرؤ على التحرك في المنزل ليلًا من دون شمعة أو مصباح، ولكن لم يكن هذا هو الأسوأ؛ فبعد مرور شهرين بالتمام من جريمة القتل، اتخذت المطاردة مرحلة أخرى. لما دخل إلى غرفة نومه وأوشك على الدخول إلى مخدعه، تذكَّر أنه ترك ساعته في غرفة الملابس الصغيرة المتاخمة لغرفته. أمسك شمعة في يده وذهب إلى غرفة الملابس وركل الباب كي يفتحه. وهنا توقف متخشبًا ووقف وكأنه تحول إلى حجارة؛ فعلى مسافة ياردتين منه، رأى رأس الرجل معلقًا بالمقلوب في الهواء.

وقف لبضع ثوان متصلبًا في مكانه وغير قادر على الحركة. ثم أطلق صرخة تنمُّ عن رعبه ثم انطلق مندفعًا إلى غرفته ومنها إلى الصالة بالطابق الأسفل. لم يشكَّ في أمر صاحب الرأس الغريب والمرعب لأنه رآه من قبل في هذه الوضعية المقلوبة وغير الطبيعية؛ لقد رآه مرتين قبل ذلك معلقًا بتلك الوضعية نفسها في الكهف الكبير. من الواضح أنه لم يتخلص من جلين.

في تلك الليلة، وفي كل ليلة بعد تلك الليلة، كان ينام في غرفة زوجته. وطيلة الليل، يراوده دافعٌ قوي ومخيف يحاول دفعه إلى النهوض والذهاب إلى الشاطئ؛ ومن ثَم يتسلل إلى الكهف الكبير وينتظر تدفق المد. جفاه النوم وهو يجاهد القوة الخفية التي يبدو أنها تجرُّه إلى الهلاك، ولكن هذا الدافع المرعب يبدأ في الانقشاع مع حلول الصباح. تملَّك الرعب منه، ولم يجرؤ على الاقتراب من الشاطئ وبات يخاف من أن يثق في قواه بمفرده.

بعد مرور شهر، أخذ تأثيرُ الأشباح يضعف مع مرور الأيام، وحمته كثرةُ الأضواء في المنزل من أن يزوره الخفاش. وبعد جريمة القتل بثلاثة أشهر بالتمام، رأى الرأس مرة أخرى. رآه هذه المرة في المكتبة حينما ذهب لإحضار كتاب. كان يقف بجانب رفوف الكتب وأخذ مجلدًا، ولما انصرف رأى شيئًا شديد القبح معلقًا بوضعية مرعبة ومروعة، كان الذقن إلى الأعلى والشعر الخفيف يتدلَّى وكأنه أهداب مبتلة. أسقط جيلبرت الكتاب الذي كان يُمسكه من يده وهرب من الغرفة وهو يصرخ، ولم يفارقه إحساسُ الأيدي الخفية التي تشدُّه وتسحبه إلى مكان يتردد فيه صدى الموج في الكهف.

هذه المرة أثَّرت فيه تأثيرًا بالغًا؛ فهو لم يستطع أن يتخلص من هذا الدافع المشئوم بأن يذهب إلى الشاطئ. فقدَ الرجل حماسه وبات ضحيةً لرعب لا يفارقه؛ إذ أصبح يتشبث بالحماية من الخدم أنفسهم ويزحف على أطرافه المرتعدة مُيمِّمًا بصرَه تجاه البحر. لم يخرج من أذنيه هديرُ الأمواج والأصداء الخافتة في الكهف.

أصبح يسعى إلى النسيان بالانكفاء على الخمور، ولكنها لم تَعُد تُجدي نفعًا. هذا دفعه إلى تعاطي الأفيون. في كل ليلةٍ قبل الذهاب إلى الفراش الذي يُصيبه بالرعب، كان يمزج اللودانيوم بالخمر وهذا يُشعره بحالة سُكر مخدر إن لم يشعره بأنه في مكان آخر. بدأ الخمر والأفيون يظهر تأثيرُهما في ارتعاش يديه وتورم وجنتيه واحمرار عينيه. مر شهر آخر على ذلك.

لما اقترب الشهر الرابع من الانقضاء، أسكنه رعبُه من زيارة ضيفه المعتاد الذي بات يتوقعه في حالة من الانهيار العقلي التام. بات النوم — حتى النوم بسبب حالة الخدر — أمرًا محالًا في تلك الليلة؛ ومن ثَم قرر الجلوس مع عائلته على أمل أن يجد وسيلةً للهروب من زائره المرعب. ولكن الأمل تلاشى. أخذت الساعات تمر واحدة تلو الأخرى وهو جالس على كرسيه المزود بمسندٍ للذراعين بالقرب من المدفأة، وكانت زوجته تغفو على الكرسي المقابل له، حتى دقت الساعة الثانية عشرة في الصالة. استمع إلى دقات الجرس وعدَّها، واضطجع بظهره وأغمض عينيه. مرَّ نصف هذه الليلة المرهقة. لما صدر آخر صوتٍ لدقة الساعة وخيَّم الصمت العميق على المنزل، فتح عينيه، ونظر في وجه جلين على مسافة بضع بوصات من وجهه.

جلس لبعض الوقت مشدوهًا واتسعت حدقة عينه وأخذ يحملق مرعوبًا إلى هذا الشيء المرعب من دون أن يتفوَّه ببنت شفة؛ ثم أصدر صرخةً مدوية وانزلق من الكرسي ليصبح أشبه بكومةٍ على الأرض.

في ظهيرة اليوم التالي، فُقد ولم يكن في المنزل. بحثوا عنه في الحديقة وفي الجوار، ولكنهم لم يجدوه في أي مكان. وفي النهاية، تذكَّر أحدُهم الكهف الذي كان يتحدث عنه في تمتماته الغريبة ومن ثَم توجهت مجموعةٌ من الباحثين إلى الكهف. عثروا عليه في الكهف عندما انحسر المد، وجدوه ممددًا على الرمال الرطبة والنباتات البحرية المتشابكة ذات اللون البنِّيِّ ملتفة حول أطرافه وزجاجة اللودانيوم — التي امتلأت بمياه البحر — بجانبه.

بموت جيلبرت لوملي، بدا وكأن روح الرجل المقتول أصبحت راضية. وطوال حياة توماس ابن جيلبرت، لم تظهر أيُّ علامة للراحل جلين، ولكن بموته ليعقبَه ولده آرثر — الذي كان رجلًا في منتصف العمر وقتئذٍ — بدأت الزيارات من جديد وبالترتيب نفسه. في نهاية الشهر الأول، ظهر الخفاش المضيء؛ وفي نهاية الشهر الثاني، بدأ الرأس المقلوب في الظهور، ثم ظهر مرة أخرى في الشهرين الثالث والرابع؛ وفي غضون أربع وعشرين ساعة من الزيارة الأخيرة، وُجدت جثة آرثر لوملي في الكهف. وهكذا دواليك منذ ذلك التاريخ. جيل يمرُّ من اللعنة بسلام، ولكن الجيل التالي يطلب جلين والبحر حقهما فيه.»

ثورندايك: «على حدِّ علمك، هل هذا صحيح؟»

برودريب: «لا أستطيع الجزم. ما أفعله هو الاقتباس من الكتاب الصغير اللعين الذي كتبه وولتر لوملي، ولكن في الحقيقة تذكرت أن والد جايلز مات غريقًا. فهمت أن القارب انقلب به، ولكن قد تكون هذه القصة مجرد تغطية على ارتكاب الانتحار.

الآن، بتَّ تعرف تاريخ الموت والرعب من الكتاب الذي وجده فرانك البائس من سوء حظه. وكما تعرف فهو اطلع على ما فيه عن ظهر قلب، ومن الواضح أنه قرأه مرارًا وتكرارًا. أسرد الآن قصتَه هو التي رواها لي بهدوء تامٍّ غير أن الحديث ينمُّ عن اقتناع شديد ونذير شؤم واضح وضوح الشمس.

وجد هذا الكتاب اللعين بعد وصوله إلى برلينج كورت بعدة أيام؛ ومن ثَم عرف أنه هو الضحية التالية إذا كانت هذه القصة حقيقية، والسبب أن سلفه جايلز لم تمسَّه اللعنة. وهذا ما حدث بالفعل. بعد شهر بالتمام من وصوله، وهو ذاهب إلى غرفة نومه في الظلام — ولا شك في أنه كان يتوقع ظهور الشبح — وبمجرد أن فتح الباب، رأى شيئًا وكأنه دودة متوهجة كبيرة أو يراعة كبيرة ترفرف في أرجاء الغرفة. لا بد أنه انزعج للغاية؛ ولذا اندفع إلى الطابق السفلي في حالة من الهياج الشديد وأحضر برايس كي يرى الشبح. على الرغم من أن ما يلي قد لا يوحي باستغراب شديد؛ ولكن الغريب في الأمر أنه على الرغم من أن هذا الشيء لا يزال يرفرف في أرجاء الغرفة، إلا أن برايس لم يستطع أن يرى شيئًا، ولكنه رفع الستارة — وكانت النافذة مفتوحة — وانسلَّ الخفاش خارجًا واختفى.

في خلال الشهر التالي، ظهر الخفاش عدة مرات في غرفة النوم وفي الردهات ومرة في العلِّيَّة وطار بالخارج عندما فتح فرانك الباب.»

ثورندايك: «ما الذي كان يفعله فرانك في العلِّيَّة؟»

«صعِد إلى العلِّيَّة كي يُحضر مقعدًا صغيرًا رأته زوجة برايس وأخبرته عنه. هذا ما جرى حتى نهاية الشهر الثاني. ثم حان وقت الفعل التالي. يبدو أنه انتابتْه حماقةٌ ودخل إلى غرفة النوم التي كان يستخدمها جيلبرت. وبمجرد أن صعد إلى الغرفة في تلك الليلة، لا بد أنه مرَّ بغرفة الملابس الصغيرة التي تُعرف الآن بمقصورة جيلبرت — وهو من أخبرني بهذا الاسم لأنني لم أكن أعرفه — وهي الغرفة التي يُحفظ فيها السيف المقوس والتليسكوب والربعية وجهاز الملاحة القديم الخاص بجيلبرت.»

ثورندايك: «هل أخذ معه مصباحًا؟»

«أظن لا، يوجد موقد غاز في الردهة وأظن أنه أضاءه. بعد ذلك، فتح المقصورة؛ ورأى من فوره على بُعد خطوات منه رأسَ رجلٍ مقلوبًا ومن الواضح أنه معلقٌ في الهواء. انتابتْه صدمةٌ مروعة — ربما كان السبب أنه لم يكن متوقعًا إياه توقعًا تامًّا — ومن ثَم جرى إلى الطابق السفلي كما فعل من قبل وهو يرتجف. خلد برايس إلى النوم ولكن زوجته صعدت معه، وحاول أن يُريَها الشيء المروع المعلق في وسط الغرفة المظلمة.

لكن زوجة برايس لم ترَ شيئًا. طمأنتْه أن هذه كلَّها مجردُ أوهام؛ وحتى تُثبت له، دخلت إلى الغرفة ومرت بالرأس مباشرةً — حسبما يرى — ولما عثرتْ على أعواد الثقاب أشعلت المصباح الغاز. بالطبع لم يكن هناك أيُّ شيء في الغرفة.

مر شهر آخر. ظهر الخفاش على فترات مما تسبب في استمرار شد أعصاب فرانك البائس. وفي ليلة اليوم الموعود، وكما ستتوقع، ذهب فرانك مرة أخرى إلى مقصورة جيلبرت، واستدرجه إلى هناك عامل الجذب الذي لا يخفى على أحد. وبالطبع، تشوش عقله مثلما حدث من قبل. وقع هذا الحادث منذ أسبوعين؛ وبالتالي فالمسألة تحتاج إلى تدخُّلٍ عاجل كما ترى. إما أنه يوجد بعض الصدق في هذه القصة الغريبة — التي لم أصدقها للحظة — أو أن فرانك الكبير البائس بحاجةٍ إلى الحجر في مصحة عقلية، ولكن في أي حالة، لا بد من فعل شيء.»

ثورندايك: «تحدَّثتَ منذ قليل عن حالات جنون في العائلة. كم عدد تلك الحالات، بغض النظر عن هذه الأشباح؟»

«أقدَم ابنُ عم فرانك على الانتحار في إحدى المصحات العقلية.»

«وماذا عن والدَي فرانك؟»

«كانَا بكامل قواهما العقلية. ابن عمه كان ابنَ أخت أم فرانك؛ وكانت بصحةٍ جيدةٍ أيضًا؛ ولكن والد الصبي دخل إلى مستشفى الأمراض العقلية.»

ثورندايك: «إذن، يبدو أن الجنون لم يُصِب عائلة فرانك على الإطلاق، بالمعنى الطبي. الميراث الشرعي ووراثة العوامل النفسية لا يلتقيان على خطٍّ واحد. إذا تزوجت أختُ الأم من رجلٍ مخبول، فيمكن أن يرث سمةَ الخبل هذه، ولكنه لا يرث الجنون من أبيه. لا يوجد قرابة دم.»

برودريب معترفًا: «نعم لا يوجد قرابة دم، على الرغم من أن فرانك بالتأكيد يبدو أنه مجنون تمامًا. لنَعُد الآن إلى السؤال بشأن الإجازة، ما رأيك في المكوث لأسبوعٍ أو أكثر في سانت ديفيد؟»

نظر إليَّ ثورندايك متسائلًا: «ما قول صديقي المثقف؟»

رددتُ: «أرى أن نأخذ عطلةً ونترك بولتون في مهمته.» وهنا وافق ثورندايك من دون أن يقول شيئًا.

بعد مرور أقل من أسبوع، نزلنا في مسكن مريح للغاية وجده برودريب من أجلنا في قرية سانت ديفيد؛ تبلغ المسافة من المسكن إلى الشاطئ خمس دقائق مشيًا من نفق شديد الانحدار. بدأ ثورندايك الإجازة بحماسةٍ تُذهل المقيمين في كينج بنش ووك. استكشف القرية وألقى نظرةً فاحصة على الكنيسة من الداخل والخارج، وعايَن جميع مسارات السير على الأقدام باستخدام خرائط هيئة المساحة، كما اجتمع مع الصيادين على الشاطئ وجدَّد معرفته بصنعة القوارب؛ ومن ثَم توجَّه تلقاء الكهف الكبير التاريخي — بلغ طوله أقل من ميلٍ بطول الشاطئ — وتفحَّص ظُلمته وبرودته من الداخل وهو يتملَّكه حبُّ استطلاع عجيب.

لم نكن قد قضينا في سانت ديفيد أربعًا وعشرين ساعة قبل أن نتعرف على فرانك لوملي. حرص السيد برودريب على ذلك. المحامي المسنُّ انتابه قلقٌ شديد على موكله — وأخذ مسئولياته على محمل الجد، هكذا كان السيد برودريب. كان يتعامل مع موكليه من «العائلة» وكأنهم أقرباؤه، ومع مصالحهم كأنها مصالحه الشخصية — وثقته في حنكة ثورندايك لا حدود لها. أُعجبنا من أعماقنا بالشاب الهادئ والمهذب غير أنه هزيلُ الجسم؛ وفيما يخصُّ رأيي في مسألة الاختلال العقلي المؤكد لديه، فقد وجدته شخصًا عقلانيًّا وذكيًّا على نحوٍ فريد وبعيدًا عن الأوهام، أو بالأحرى الهلوسات، فقد بدا بكامل قواه العقلية؛ الاهتمام الحثيث إلى حدٍّ ما بالظواهر النفسية والخارقة للطبيعة (التي لا يُخفيها) تكاد لا تكفي لأن تُثير الشكوك حول السلامة العقلية للمرء.

ومع ذلك لم يَخفَ الاضطرابُ في حالته العقلية. إنه يُدرك أن الأشباح ربما تنتج عن اضطراب عقلي، على الرغم من أنه لم يكن يراها كذلك؛ ومن ثَم ناقش المسألة معنا بأسلوبٍ منفتح وصريح للغاية.

ثورندايك مقترحًا: «ألَا تظنُّ أن تلك الأشباح ربما يكون ظهورُها أمرًا طبيعيًّا وأنت أسأتَ التقدير أو هوَّلت من الأمر نتيجةً للاطلاع على هذه القصة المحشوة بالاستدلالات؟»

هزَّ لوملي رأسه بإشارة التأكيد. قال: «هذا مستحيل؟ كيف يكون ذلك مني؟ لنأخذ حالة الخفاش. لقد رأيتُه عدة مرات رأْيَ العين. لا شك في أنه خفاش، ولكنه يظهر بأضواء مائلة إلى اللون الأخضر وكأنه شبحٌ مثل الأضواء التي تبثُّها اليراعة. فإن لم يكن خفاشًا، فماذا يكون؟ ثم ظهر الرأس. لقد رأيتُه بأمِّ عيني وكدتُ ألمسه وأتحقَّق منه، شاهدتُه معلقًا في الهواء على مسافة ثلاث أو أربع أقدام مني. كنت سألمسه إذا واتَتْني الجرأة.»

ثورندايك: «ما الحجم الذي ظهر به؟»

فكَّر لوملي. «لم يكن بالحجم الطبيعي. يمكن القول بأن الحجم يبلغ ثلثَي حجم رأس الإنسان العادي.»

«هل تتعرَّف على الوجه إذا رأيتَه مرة أخرى؟»

لوملي: «لا أستطيع الجزم؛ فقد ظهر مقلوبًا كما تعلم. لم أسجل في ذهني صورة شديدة الوضوح له، أعني أنني قد لا أتعرف على الوجه إذا كان الرأس بالوضعية الطبيعية.»

سأل ثورندايك: «هل كان الظلام دامسًا في الغرفة في المرتَيْن؟»

«أجل، ظلام دامس؛ فموقد الغاز في الردهة يعلو الباب مباشرة ولا يدخل أيُّ ضوءٍ إلى الغرفة.»

«وما الذي يوجد في الجهة المقابلة للباب؟»

«نافذة صغيرة ولكن عادةً ما تُترَك مقفلةً هذه الأيام. وأسفل النافذة، توجد تسريحة صغيرة قابلة للطي تخصُّ جيلبرت لوملي. أحضرها عندما عاد إلى المنزل من البحر.»

بذلك وجدنا إجابات لوملي واضحةً ومتسقةً تمامًا. لم يُبرهن أسلوبُه على أيِّ ضربٍ من الجنون، ولكن المسألة نفسها غير طبيعية. كذلك ليس لديه أدنى شك في حقيقة الأشباح، ولم توجد أدنى درجات التفاوت في وصفه لظهورها. وحقيقة عدم ظهورها لكل من برايس وزوجته فسرها بأن اللعنة لا تصيب سوى الذرية التي تنحدر من جيلبرت لوملي مباشرةً، وتُصيب جيلًا وتترك آخر بالتناوب.

بعد إحدى المحادثات التي أجريناها، أبدى ثورندايك رغبتَه في الاطلاع على المخطوطة الصغيرة التي سبَّبت كلَّ هذه المشكلات، أو على الأقل التي أنذرت بحدوثها، ووعدنا لوملي بإحضارها إلى مسكننا بعد الظهيرة في اليوم التالي، ولكن انقطعت الإجازة لسبب لم نتوقعه البتة؛ وصل تلغراف عاجل من أحد أصدقائنا المحامين يطلب استشارة في قضية مهمة ومستعصية وقعت بين يديه، وألحَّ علينا في الذهاب إلى المدينة في أول قطار في الصباح التالي.

أرسلنا خطابًا إلى برودريب كي نُخبرَه أننا سنغيب عن سانت ديفيد ربما لمدة يوم أو يومين، ولكنه قابلَنا في طريقنا إلى المحطة.

قال: «لعله لم يُصبْكَ كدرٌ بسبب قطع الإجازة، ولكن أرجو أن تعود قبل يوم الخميس.»

ثورندايك: «لماذا الخميس بالتحديد؟»

«لأن الخميس هو اليوم الموعود الذي سيظهر فيه هذا الرأس اللعين للمرة الثالثة. سيكون يومًا عصيبًا. فرانك لم يذكر شيئًا، ولكني أعرف أن أعصابه تالفة لدرجة تُقضُّ مضجعَه.»

ثورندايك: «يجب أن تراقبَه، لا تجعله يغيب عن ناظرَيك إذا استطعت.»

برودريب: «هذا مفهوم تمامًا، ولكنه ليس طفلًا، ولستُ وصيًّا عليه. فهو صاحب المنزل وأنا مجرد ضيف عنده. فلن أستطيع أن أتبعه إذا أراد الاختلاء بنفسه.»

ثورندايك معقبًا: «يجب أن تتخلى عن هذه الآداب يا برودريب. سيكون الوقت عصيبًا ويجب ألَّا تغفلَ عنه.»

برودريب خجلًا: «سأبذل قصارى جهدي، ولكن أرجو أن تعود قبل ذلك الوقت.»

صحبنا إلى الرصيف والاكتئابُ بادٍ على وجهه، وانتظر معنا إلى أن وصل القطار. وفجأة، ونحن في طريقنا للدخول إلى العربة، أدخل يده في جيبه.

قال متعجبًا: «ليسامحني الله! أوشكتُ أن أنسى هذا الكتاب. طلب مني فرانك أن أعطيَه لك.» لما كان يتحدث، أخرج مجلدًا صغيرًا بغلاف من الجلد وكان عليه صدأ وسلَّمه إلى ثورندايك. قال: «يمكنك الاطلاعُ عليه في وقت فراغك. وإذا كنتَ تعتقد أنه لا بد من رمي هذا الشيء اللعين من النافذة، فافعل ذلك. أظن أنه من الأفضل لفرانك البائس ألا يطلعَ على ما فيه على الدوام كما يفعل.»

أعتقد أن رأي برودريب فيه قدرٌ كبير من المنطقية. أظن أن التخيلات التي يراها لوملي ناتجة عن قراءة هذه القصة، وبالتأكيد سيتعزز هذا الاقتراح بالاطلاع عليها مرارًا وتكرارًا، ولكن اقتراح المحامي الكبير لم يكن عمليًّا.

بمجرد أن بدأ القطار يأخذ سرعته، بدأ ثورندايك في تصفُّح هذا المجلد الصغير، ولمحتُ في أسلوبه تميزًا واضحًا. الشخص العادي كان سيفتح الكتاب ويتصفح المحتويات، ربما سيبحث على الفور عن التاريخ المشئوم لجيلبرت لوملي.

ولكن ثورندايك لم يفعل ذلك. بدأ يطلع من بداية الكتاب وتقدَّم بشكل منهجي في التعامل مع كل واقعة تناولها الكتاب. بدايةً أجرى فحصًا شاملًا للغلاف؛ بمعنى أنه أمعن النظر في الزوايا وتفحَّص الحواف السفلية وقارنها بالحواف العلوية؛ وكذلك قارن الجزء العلوي من كعب الكتاب بالجزء السفلي منه. بعد ذلك أخرج عدسته وفحص طريقة كتابة الحروف على الغلاف التي كانت بسيطة ومكتوبة بطريقة «غير مدمغة» (أي غير مذهبة). فحص أيضًا طرفَي استدارة ظهر الكتاب باستخدام العدسة، ثم حوَّل انتباهه إلى الجزء الداخلي للكتاب. أمعن النظر في كلٍّ من الورقتين الأولى والأخيرة، وفتح الأقسام وفحص خيط الحياكة ورفع الورق في الضوء وفحص الورق بالنظر واللمس وشاهد الكتابة في عدة أماكن من الكتاب باستخدام عدسته. وفي النهاية سلَّمني الكتاب والعدسة من دون تعليق.

كان مجلدًا قديمًا وصغيرًا وكأنه مخطوطة قديمة مثيرة للفضول، على الرغم من أنه لم يمرَّ على تأليفه أكثرُ من قرن. كان الغلاف من الجلد البنيِّ بلون الصدأ وبه كشطٌ في أجزاء كثيرة إلا أن حالته لم تكن سيئة، ولكن من المحتمل أنه تناوله عددٌ قليل نسبيًّا. كان الورق ذا خطوط مائية تبرز عليه خطوطُ السلك ولكن من دون علامة مائية؛ تغيَّر لون الورق بمرور الزمن وتحول إلى لون جلد الجاموس؛ بهتت الكتابة وأصبحت باللون البنيِّ المحروق، ولكنها كانت سهلة القراءة وواضحة ومكتوبة بخط واضح. بملاحظة هذه النقاط، قلبتُ في الصفحات حتى أتيتُ على قصة جيلبرت لوملي مع جلين ذي الطالع السيئ وقرأت هذه القصة منتبهًا ووعيتُ أن ملاحظات السيد برودريب سردت مضمون القصة كاملة من دون نقصان.

لما سلَّمتُ الكتاب إلى ثورندايك مرة أخرى، قلت: «أظن أن هذه القصة غير حقيقية وأنا غير مقتنع بها. فلا أحد يعلم مصدر معلومات وولتر لوملي.»

ثورندايك: «أوافقك الرأي، إنها محمولة على الخيال. يتحدث الراوي بأسلوب الروائي الذي لديه معرفة كاملة بالأحداث والمجريات التي لا شك أنها لم تكن معروفة إلا للشخصيات.»

«هل تظن أن وولتر لوملي ربما لم يفعل شيئًا سوى أن نسج رواية؟»

ردَّ: «هذا مرجَّح في رأيي، وفي الواقع ربما كانت الرواية كلها نسجًا من الخيال. سنتناقش في هذا السؤال فيما بعد. أما في الوقت الحالي، أحسب أنه من الأفضل أن نُوليَ اهتمامنا للقضية التي بين أيدينا الآن.»

وُضع المجلد الصغير جانبًا، ودار حديثُنا طوال الرحلة حول مسألة الاستشارة التي توليناها في عملنا في الوقت الحالي، ولكن لما كانت هذه المسألة لا علاقة لها بالقصة التي نسردها، فلا أريد الخوض فيها أكثر من ذِكْر أنها شغلت كلينا لمدة ثلاثة أيام وانتهينا منها في مساء اليوم الثالث.

لما عُدْنا إلى منازلنا، سألتُ: «هل تقترح أن نزور سانت ديفيد الليلة أم غدًا؟»

ثورندايك: «الليلة، إنه يوم الخميس، ولا بد أن برودريب قلقٌ بشأن عودتنا في أي وقت اليوم. أرسلتُ له تلغرافًا أُخبره أننا سننزل بالقطار الذي يصل حوالي الساعة العاشرة. وإذا كان يريد مقابلتنا، فيمكنه مقابلتُنا في المحطة أو إرسال رسالة لنا.»

قلت: «إنني أتساءل هل شبح رأس جلين سيكرر زيارته المتوقعة الليلة أم لا.»

ثورندايك: «ربما إذا سُنحت الفرصة، ولكنني أرجو أن يتمكن برودريب من مَنْع حدوث هذه الزيارة. وبالحديث عن لوملي، وبما أننا لسنا مشغولين لمدة ساعة، يمكننا الانتهاء من فحص كتابه. قصصتُ طرفَ ورقة وأعطيتها إلى بولتون كي يغليَها في صودا كاوية مخففة. ستصبح جاهزة للاختبار الآن.»

قلت: «أنت لا تشك في أن الكتاب تعرض للتزييف، أليس كذلك؟»

فتح ثورندايك الدرج وأخرج مجلدًا صغيرًا، وقال: «إن الشك يعتريني من أعماقي بشأن هذا الكتاب. فقط انظر إليه يا جيرفيس. انظر إلى الغلاف على سبيل المثال.»

قلبت الكتاب في يدي وقلت: «يبدو أن الغلاف عتيق بالنسبة إليَّ، قديم جدًّا، جلدٌ بنيُّ اللون يُشبه الصدأ ومضى عليه قرنٌ من الزمان.»

قال: «أوه، لا شك أن الجلد قديم، إنه من نوع الجلود التي ربما قُطعت من غلاف قديم بمقاس ربع أو نصف فرخ، ولكن ألَا ترى أن علامات البلى هذه كلها في الأماكن الخطأ؟ كيف تبلى هذه الأجزاء عمليًّا؟ بدايةً توجد الحواف السفلية التي تحتك مع الرف. ثم الزوايا وهي أرق جزء في الجلد وأكثرها تعرضًا للبلى. ثم الكعب العلوي الذي يعلق فيه الإصبع عند سحب الكتاب من على الرف. ثم شريط التقوية أو رباط المفصلة، الذي يبلى بسبب تكرار الفتح والقفل. الجوانب هي أقل الأجزاء تعرضًا للتهالك. أما في هذا الكتاب، فالحواف السفلية والكعب العلوي وشريط التقوية كلها بحالة جيدة. فنسبة البلى فيها أقل من الجوانب، كما أن طريقة الكتابة بأشكال حروف حديثة. يبدو أن الكتاب لم يمرَّ عليه وقت طويل وعلامات طباعة الحروف تجدها فوق الأجزاء التي أصابها البلى بدلًا من أن تتعرض هي نفسها للبلى. وهذه الأمور الظاهرة تقول لي إن الكتاب جُمع حديثًا ولكن وُضع له غلاف من جلد قديم.

انظر كذلك إلى الورق. إنه يُوهمك بأن اللون بُهت بعامل الزمن، ولكن تبهت ألوانُ الأوراق في الكتاب القديم من الحواف أولًا لأن الورق يتأكسد بتعرضه للهواء. أما أوراق هذا الكتاب فقد بُهت لونها جميعًا بدرجة واحدة. وأقول إن السبب في هذا غمسها في الشاي الخفيف وليس بسبب مرور الزمن عليها.

ثم توجد الكتابة. يوحي مظهرُها أنها بُهتت بسبب أنها مكتوبة بحبر قديم مصنوع من كبريتات الحديد وعفص البلوط، ولكن لا يبدو أن هذا هو اللون المناسب تمامًا. ومع ذلك، يمكننا اختبارُه بسهولة. إذا كان الحبر من العفص والحديد، فستحوله نقطةٌ من كبريتات الأمونيوم إلى اللون الأسود. لنأخذ الكتاب إلى المختبر ونجرِّب ذلك، ومن الأفضل أن يكون لدينا «وسيلة تحكم» للمقارنة.»

مرَّر عينيه على رفوف الكتب وأنزل مجلدًا بجلد يُشبه لون الصدأ وهي رواية «همفري كلنكر»، تضمنت الورقة الأخيرة من المجلد العديدَ من التوقيعات البنيَّة التي بهت لونُها.

قال: «هذا التوقيع يعود إلى عام ١٨٠٣. هذا التاريخ قريب جدًّا.» وأخذ الكتابين في يده وصعد إلى المختبر. وفي المختبر، أخذ زجاجة كبريتات الأمونيوم وسكب قدرًا ضئيلًا من السائل في أنبوب زجاجي رقيق، وفتح غلاف كتاب «همفري كلنكر»، وأسقط قطرة صغيرة على الرقم ٣ من التاريخ. بدأ اللون البنيُّ الباهت في التحول إلى اللون الأسود على الفور إلى أن أصبح أسودَ كالفحم في النهاية. وبالطريقة نفسها، فتح الكتاب الذي كتبه وولتر لوملي وعلى الرقم ٩ من التاريخ ١٨١٩ أسقط قطرةً من المحلول، ولكن في هذه المرة لم يتحول الخطُّ ذو اللون البنيِّ الباهت إلى اللون الأسود؛ بل على النقيض من ذلك، اختفى سريعًا وتحول إلى اللون البنفسجي الباهت والفاتح.

ثورندايك: «الحبر ليس مصنوعًا من الحديد، وأشك في أنه بنيٌّ مستخلص من الأنيلين، ولكن لنتعرف على المادة التي صُنع منها الورق. هل غُليت القصاصة يا بولتون؟»

أجاب المساعد في المختبر: «نعم يا سيدي، وغسلتُ عنها الصودا؛ وبالتالي كل شيء جاهز.»

أخرج أنبوب اختبار عليه لاصقة ويحتوي على قصاصة صغيرة من الورق تطفو في المياه، ثم سكبها بحذر في غطاء ساعة زجاجي كبير. ومن غطاء الساعة، نقلَ ثورندايك القصاصة الصغيرة ذات القوام العجيني إلى شريحة مجهر، ثم قطعها إلى الألياف التي تتشكل منها باستخدام زوجٍ من الإبر المركبة. ثم أسقط عليها قطرةً من سائل الأنيلين ثم أزال الأجزاء الزائدة باستخدام ورقة ماصة، وأضاف قطرة من الجليسرين ووضع عليها شريحة تغطية زجاجية كبيرة.

ناولني الشريحة وقال: «ها هو يا جيرفيس، لنسمع رأيك في ورق وولتر لوملي.»

وضعتُ الشريحة على منصة المجهر وشرعتُ في فحص العينة. ولم يلزم إجراء فحص شامل. المسألة انحلت من النظرة الأولى.

قلت: «الورق مصنوع كلُّه من الخشب تقريبًا. ألياف خشب محضرة ميكانيكيًّا، مع بعض الحَلْفاء وقليل من القطن وبعض ألياف اللينين.»

ثورندايك: «إذن، فالورق حديث. في عام ١٨٤٠، استُخدم للمرة الأولى لبُّ الخشب المحضر ميكانيكيًّا والمعالج بطريقة كيلر في صناعة الورق. ثم ظهر لبُّ الخشب المحضر كيميائيًّا؛ ولم تُستخدم الحَلفاء حتى عام ١٨٦٠؛ وبالتالي يمكننا الجزمُ بأن هذا الورق لم يُصنع إلا بعد التاريخ المدوَّن على الكتاب بما يزيد على عشرين عامًا. ربما كانت حديثةَ الصنع.»

قلت: «في هذه الحالة، الكتاب مزيف — وربما تم تزويرُه.»

«نعم، إنه مزيف بالفعل.»

«ولكن يبدو أن الأمر ينطوي على مؤامرة.»

ثورندايك: «نعم بالفعل، خاصة إذا اعتبرنا أن له صلةً بالأشباح. وفي رأيي أن الكتاب كُتب بهدف تحفيز حالة عقلية مواتية لقبول المظاهر الخارقة للطبيعة. والاستنتاج الواضح أن تلك الأشباح نفسها كانت عبارة عن خدعة لحبك أغراض التضليل، ولكن حان وقتُ ذهابنا.»

تصافحنا مع بولتون وجمعنا حقائب أمتعتنا من غرفة الضيوف وانطلقنا إلى المحطة.

في طريق رحلتنا، فكرتُ في المنعطف الجديد الذي اتخذته قضية فرانك لوملي. من الواضح أن برودريب أخطأ في الحكم على موكله. لم يكن لوملي بهذا الجنون حسبما افترض المحامي المسن. فلم يكن سوى شخص ساذج سريع التأثر؛ فالهلوسات كانت ظاهرةً حقيقية أساء تفسيرها ببساطة، ولكن من الذي وراء هذه الخدع المخزية؟ وما الدافع من هذا كلِّه؟ حاولتُ فتح السؤال مع ثورندايك؛ ولكن على الرغم من أنه رغب في مناقشة هذه المخطوطة المخزية وأسلوب كتابتها، لم يُردِ الخوض في المسألة أكثر من ذلك.

عندما وصلنا إلى سانت ديفيد، نظر ثورندايك على الرصيف يمينًا وشمالًا وبالقرب من المحطة. قال: «لا توجد أيُّ علامة من برودريب أو مرسال منه؛ وبالتالي يمكن افتراض أن كلَّ شيء على ما يرام في برلينج كورت حتى هذه اللحظة. وإني آمل أن وجود برودريب تسبَّب في منع ظهور الأشباح.»

على الرغم من ذلك، بدا على وجهه عدمُ الارتياح. وفي أثناء العشاء، بدا عليه الأرق وانشغال البال، وبعدما تناولنا الطعام، اقترح أن ننزل إلى الشاطئ؛ ومن ثَم ترك رسالةً مع صاحبة المنزل بشأن المكان الذي سيوجد فيه إذا أراد أحدٌ معرفته.

كانت الساعة حوالي الحادية عشرة إلا الربع عندما وصلنا إلى الشاطئ، وكان المدُّ بدأ في الانحسار. لم نجد أحدًا على الشاطئ باستثناء اثنين من الصيادين؛ إذ يبدو أنهما أتيَا مع المدِّ ووجدناهما عاكفَيْن على تأمين القارب في الليل قبل الذهاب إلى منزليهما. اقترب ثورندايك منهما وخاطب الصياد الكبير قائلًا: «هذا قارب كبير وقوي. وسريع أيضًا، أليس كذلك؟»

ردَّ عليه الصياد: «بلى يا سيدي، إنه سريع ويجاري الريح. إننا نطلق عليه اسم «جالي بنط». صُمِّم في ديل لاستخدامه في نقل حطام الحظائر الخشبية — إنقاذ الممتلكات التالفة كما تعلم يا سيدي — ولكن لم تَعُد الحظائر الخشبية موجودة هذه الأيام.»

ثورندايك: «هل ستخرج غدًا؟»

«لا على حدِّ علمي يا سيدي. هل كنتَ تفكر في رحلة صيد قصيرة؟»

ثورندايك: «إذا لم يكن لديك أشغال، فإني أرغب في استئجار القارب غدًا. أنا لا أعلم متى سأبدأ رحلتي، ولكن إذا تأهبت للإبحار بمجرد أن آتي، فيمكننا أن نحسب وقت الانتظار ضمن زمن الإبحار.»

قال الصياد: «هذا حسن يا سيدي، القارب تحت تصرفك بدءًا من اليوم وحتى الغد. إذا أردتَ المجيء إلى هنا بعد السادسة أو قبلها، ستجدني وزميلي على أهبة الاستعداد ومعنا الطُّعم والقارب جاهز للإبحار.»

ثورندايك: «يعجبني هذا كثيرًا.» بات برنامج الغد محددًا بذلك، وحيَّينا الصيادين بتحية المساء ومشينا ببطء إلى المسكن حيث خلدنا إلى النوم بعد تدخين الغليون الأخير.

في الصباح التالي، كدنا ننتهي من طعام الإفطار الذي كنا نتناوله على مهل، ورأينا من النافذة السيد برودريب وهو يهرول في الشارع باتجاهنا. أسرعتُ وفتحت الباب ولما دخل أخذته إلى غرفة الضيوف. ومن أسلوبه القلق والمضطرب، كان واضحًا أن هناك سوءًا في الأمر، وكلماته الأولى أكدت هذا الانطباع المنذر بالسوء.

قال: «أخشى أننا في ورطة يا ثورندايك. فرانك غير موجود.»

ثورندايك: «منذ متى؟»

«منذ الساعة الثامنة هذا الصباح. إنه ليس في أيِّ مكان في المنزل ولم يتناول الإفطار.»

سأل ثورندايك: «متى كانت آخر مرة شوهد فيها؟ وأين؟»

«حوالي الساعة الثامنة، في غرفة تناول الإفطار. من الواضح أنه ذهب إلى هناك من أجل أن «يودع» أسرة برايس؛ فقد ذهبوا في زيارة اليوم إلى فولكستون وتناولوا الإفطار في الصباح الباكر كي يلحقوا بقطار الساعة الثامنة والنصف، ولكنه لم يتناول الإفطار معهم. ما فعله هو الذهاب إلى هناك وتمنى قضاء رحلة سعيدة، ويبدو أنه خرج للتنزُّه سيرًا في الحديقة. عندما نزلتُ من أجل الإفطار في الساعة الثامنة والنصف، وجدتُ أن أسرة برايس ذهبت وفرانك لم يدخل. دقت الخادمة الجرس ولما بقي فرانك من دون أن يظهر، خرجَت إلى الحديقة بحثًا عنه؛ ثم خرجتُ بنفسي، ولكنه لم يكن في الحديقة ولم يكن في أي مكان بالمنزل. لا بد أنه وقع في مشكلة. فعادته أنه لا يتأخر عن موعد تناول الطعام. ما الذي تفضِّل أن نفعله يا ثورندايك؟»

نظر زميلي في ساعته ورن الجرس.

قال: «أظن يا برودريب أننا يجب أن نتصرف بناءً على الاحتمالات الظاهرة وأن نحتاط لأكبر خطر معلوم لدينا.» خاطب السيدة روبنسون صاحبة المنزل التي أجابت على الجرس بنفسها وقال: «هلا أحضرتِ لنا إبريقًا من القهوة المركزة الآن؟»

سمحت السيدة روبنسون وذهبت كي تُحضر القهوة، وأخرج ثورندايك من الدولاب دورق تخلية كبير.

السيد برودريب: «أنا لا أفهم ما تفعله تمامًا يا ثورندايك. ماذا تقصد بالاحتمالات والخطر؟»

«أقصد أنه حتى هذه اللحظة، كرَّر فرانك لوملي في تجاربه وأفعاله تجاربَ وأفعال جيلبرت لوملي بحذافيرها حسبما ورد في رواية وولتر لوملي. والاحتمال الغالب هو أنه سيستمر في محاكاة قصة جيلبرت حتى النهاية. ربما رأى الشبح للمرة الثالثة الليلة الماضية، وهو الآن يتهيأ للمشهد الأخير.»

برودريب لاهثًا: «اللطف يا رب! كم أنا أحمق! هل تعني الكهف؟ ولكن لا يمكننا الوصول إلى هناك الآن. سترتفع المياه في غضون ساعة وسنجد أنها غطت الشاطئ في سانت ديفيد هيد. إلا لو استطعنا الحصول على قارب.» قالها واليأس يملؤه.

ثورندايك: «لدينا القارب. استأجرت واحدًا الليلة الماضية.»

برودريب متعجبًا: «الشكر لك يا رب! ولكنك دائمًا تفكر في كل شيء، على الرغم من أنني لم أعرف سبب طلب القهوة.»

لما سكب ثورندايك القهوة التي أحضرتْها صاحبة المنزل لتوها في دورق التخلية، قال: «قد لا نحتاج إليها على الإطلاق، ولكن قد نحتاج إليها لسبب أو لآخر.»

وضع الدورق في حقيبة يد، ورأيت فيها حقيبة طوارئ صغيرة، ثم التفت إلى برودريب.

قال: «من الأفضل أن ننزل إلى الشاطئ الآن.»

لما ظهرنا من نهاية النفق، رأينا صديقَينا اللذين تقابلنا معهما الليلة الماضية وقد وضعَا خطًّا مزدوجًا من الألواح الخشبية عبر الشاطئ من القارب إلى حافة المد؛ والسبب أنه يصعب كثيرًا جرُّ قارب جالي بنط — مع الصابورة — على الحصباء. كانَا يضعان آخر لوح عند وصولنا إلى القارب، ولما أبصرانا، أتيَا إلينا مهرولين مع ستة من رجالهم.

أخذ القبطان يرمق السيد برودريب بنظرة يعتريها الشكُّ، كان شفير حافة القارب يعلو عن الشاطئ بمقدار أربع أقدام، قال: «اصعدوا على متن القارب أيها السادة، سنُبحر في غضون لحظات.»

صعدنا إلى القارب ثم رفعنا السيد برودريب بعدنا. كان الصاري الطويل مرفوعًا بالفعل — في مقابل معقد التجديف الأوسط بشكله الغريب لقارب جالي بنط — وكان الشراع مربوطًا في الحلقة المتحركة وخطاف حبل الشراع جاهزًا للرفع. اجتمعت مجموعة رجال القارب وأخذ كلُّ واحدٍ موقعه على شفير حافة القارب أو على أحد الثقوب. أعطى القبطان إشارة الانطلاق بالصوت «يو-هو!» انضمَّ زملاؤه بصيحة تفاعلية وقفزوا قفزة رجل واحد. تقدم القارب وأخذ يطوي الطريق وينزلق بسرعة على الألواح المدهونة بالشحم باتجاه حافة الأمواج. ثم ارتطمت مقدمة القارب بماء البحر؛ وقفز القبطان وزميله من فوق الرافدة، وامتد الشراع الطويل على الصاري وامتلأ بالهواء وأنزل القبطان الدفة إلى حلقة السحب وأمسك بذراع الدفة.

سأل: «هل تريد الذهاب إلى مكان على وجه التحديد؟»

ثورندايك: «نريد التوجه إلى الكهف الكبير بالقرب من سانت ديفيد هيد ونريد الوصول إلى هناك قبل ارتفاع المياه بوقت كافٍ.»

القبطان: «سنصل إلى هناك في الوقت المناسب يا سيدي مع هذه الرياح. لا تتعدى المسافة أكثر من ميل ولدينا ساعة إلا ربع حتى ترتفع المياه.»

أنزل الشراع الأساسي وأنزل الدفة ووجه القارب باتجاه موازٍ للساحل. طوى القارب المياه في هدوء ولكن بسرعة؛ وفي غضون ربع ساعة تقريبًا، طوينا الرءوس البحرية واحدًا تلو الأخرى إلى أن رأينا رأس سانت ديفيد البحري والشكل الأسود المنذر بالشؤم للكهف على مرأًى منا من على مقدمة القارب. وبعد فترة وجيزة، بُسط الشراع وتسلم الطاقم وأنا وثورندايك المجاديف وأخذنا نجدف باتجاه الشاطئ جاعلين الكهف نصبَ أعيننا.

لما رسا القارب على الشاطئ، قفزتُ أنا وثورندايك وبرودريب وأسرعنا عبر الرمال والحصى متجهين إلى الكهف المظلم والحفرة البغيضة في الجرف الأبيض. في البداية ولما غبنا عن ضوء الشمس الساطع، حسبنا أننا دخلنا في ظلام دامس، وتلمسنا طريقنا محاولين تفادي أكوام الأعشاب البحرية المتشابكة والزلقة المتناثرة على الأرض. تأقلمتْ أعينُنا على الضوء الخافت واستطعنا أن نمشيَ بطول الممرِّ الضيقِ الذي يُشبه النفق وذي السقف المسنن الأخضر اللزج الذي أوشك أن يتحول إلى اللون الأسود بمرور الزمن. أصبح السقف مرتفعًا لما وصلنا إلى النهاية، واستطعتُ أن أرى هناك أجسام الخفافيش الصغيرة المظلمة وهي معلقة في السقف ومتشبثة في الحائط، ورأيت خفاشًا أو خفاشَين يرفرفان من دون أن يُرَوا ومن دون إحداث صوت مثل الفراشات الكبيرة في تجويف القبو العلوي. ولم تكن الخفافيش هي مَن شغلت انتباهي. فعلى مسافة بعيدة وفي الطرف البعيد، استطعتُ أن أميز صورة رجل منبطح يرقد من دون حَراك فوق رقعة من الرمال الناعمة؛ مظهر مروع يوحي بأنه النهاية المأساوية المتوقعة لما جرى في ظلمة الكهف وبرودته القارسة وأشكال الأشباح من الخفافيش التي سبقت تلك الأحداث.

برودريب لاهثًا: «يا إلهي! لقد فات الأوان!» اندفع إلى المكان الخرب وانطلقتُ أنا وثورندايك في عقبه. بالطبع كان الرجل فرانك لوملي، وبنظرة إليه اعترانا شيءٌ من الأمل. وجدناه مستلقيًا بوضعية مريحة مغمض العين إلا أن النفس لم ينقطع، على الرغم من ضعفه وبطئه. رأينا زجاجة صغيرة بجانبه على الرمال وبجانبها سدادة من الفلين. رفعتُ الزجاجة وقرأت اللاصقة وكان المكتوب «اللودانيوم: سم» واسم تاجر الأدوية المحلي وعنوانه، ولكن الزجاجة كانت فارغة وليس بها سوى بضع قطرات، وتأكد المدوَّن على اللاصقة بالشكل الخارجي للزجاجة ورائحتها.

نظر ثورندايك إلى الزجاجة وهو يفحص أعين الرجل الغائب عن الوعي بمصباحٍ كهربائيٍّ صغير.

قال: «أصبحنا نعرف الأسوأ. هذه قنينة بسعة وحدتَي درام؛ وبالتالي فلو أخذ الجرعة فلن تُصبح الحالة ميئوسًا منها.»

فتح حقيبة اليد وهو يتحدث، وأخذ منها صندوقَ الطوارئ وأخرج منه محقنة للحقن تحت الجلد وزجاجة صغيرة من محلول الأتروبين. شمرتُ كُم لوملي لما مُلئت المحقنة بالمحلول ثم حقنه ثورندايك.

قلت: «أظن أنه تسمم بالأفيون.»

ثورندايك: «نعم، حدقة العين مثل رأس الدبوس، ولكن النبض ليس سيئًا للغاية. أعتقد أنه يمكننا نقله إلى القارب.»

بناءً على ذلك، رفعناه وسنده برودريب من قدميه؛ نقلناه من الكهف والأسى يملأ قلوبنا. كانت أمواج البحر تتلاطم مع الشاطئ من عند المدخل وتتخلل الأعشاب البحرية؛ وأصبحت مقدمة القارب داخل الكهف بعد ارتفاع المد. لما ظهرنا، كان الصيادان يُثبتان القارب في مكانه وأشارَا لنا بالتحية، وحملَا الرجل وقد ملأهما التعجبُ والذهول، ولكنهما لم يُلقيَا أية أسئلة، ولم يفعلَا شيئًا سوى أن أخذَا الرجل الفاقد للوعي منا ووضعاه برفق داخل الحاجز في مؤخرة القارب.

قال القبطان متعجبًا: «لماذا، هذا السيد لوملي!»

أعطى ثورندايك بعضَ عبارات التفسير قائلًا: «نعم، وإني آملُ أن تُبقوا هذه المسألة في طي الكتمان.»

وافق الرجلان من قلبَيهما، ولما دُفع القارب وأُنزل الشراع، سأل القبطان: «هل نعود إلى حيث كنا مباشرة يا سيدي؟»

ثورندايك: «نعم، ولكننا لن نرسوَ على الشاطئ. قف قبالة النفق.»

نتيجة للحركة، بدأت وطأة الخدر للمريض تخف. اتخذ ثورندايك إجراءات محددة لإفاقته، وظل يهزُّه برفق ولم ينفكَّ عن تغيير وضعيته. والآن، أخذ لوملي نفسًا عميقًا متنهدًا، وفتح عينيه للحظة. ثم أجلسه ثورندايك، وأخرج إبريق التخلية وجعله يبتلع ملعقة صغيرة من القهوة. استمر هذا الإجراء لمدة تزيد على الساعة وظل القارب يرتفع وينزل مع الموج قبالة مكان الإرساء على مسافة نصف ميل من الشاطئ. ظل المريض يغطُّ في سبات عميق، وما كان منا إلا أن نجعله يفيق ونعطيه رشفة من القهوة.

بعد فترة، استعاد وعيه حتى إنه استطاع الجلوس — ولكنه كان يترنح من جانب إلى آخر مع ميل القارب — ويُجيب بصوت متكاسل عن الأسئلة المطروحة عليه بصوت عالٍ في أذنه. بعد ربع ساعة، ومع استمرار تحسُّن حالته، أمر ثورندايك القبطان أن يتحرك بالقارب إلى مكان الإرساء.

قال: «أعتقد أنه يمكنه المشي الآن، والحركة ستُعيد إليه الوعي بالكامل.»

رسا القارب على الشاطئ وساعدنا لوملي على النزول من القارب؛ وعلى الرغم من أنه كان يترنح في البداية وكأنه سيسقط، إلا أنه بعد بضع خطوات تمكَّن من المشي بثقة أكبر، وكنتُ أنا وثورندايك نسنده من الجانبين. المجهود الذي بُذل للمرور من النفق المنحدر زاد في إنعاشه؛ وبعد لحظات وصلنا إلى بوابة برلينج كورت — بعد نصف ميل عبر الحقول — ومن ثَم أصبح قادرًا على الوقوف بمفرده.

حتى لما وصل إلى المنزل، لم تكن الراحة مكتوبةً له؛ فقد كانت نبرتُه جادة وهو يطلب منا ألَّا نزعجَه. أصرَّ ثورندايك في البداية على تناول وجبة خفيفة، ثم بدأ يطرح عليه أسئلة بشأن الأحداث في الليلة السابقة.

قال: «أظن يا لوملي أنك رأيتَ شبح رأس جلين، هل أنا محق؟»

«نعم، بعدما أوصلني السيد برودريب إلى مخدعي، نهضتُ وذهبت إلى مقصورة جيلبرت. أحسستُ أن شيئًا يسحبني إلى هناك. وبمجرد أن فتحتُ الباب، رأيت رأسًا معلقًا في الهواء على مسافة ثلاث أقدام مني. ثم عرفتُ أن جلين كان يناديني، ثم … أنت تعرف الباقي.»

ثورندايك: «أعرف، ولكني أريدك أن تأتيَ معي الآن إلى مقصورة جيلبرت وتريني بالضبط المكان الذي وقفتَ فيه والمكان الذي تدلَّى منه الرأس.»

تردَّد لوملي كثيرًا وحاول تأجيل توضيح الأماكن، ولكن لم يستمع ثورندايك إلى أي رفض، ونهض لوملي في نهاية الأمر متوجسًا وقاد معذِّبه إلى السلم ثم تبعتُه أنا وبرودريب.

ذهبنا أولًا إلى غرفة نوم لوملي ومنها إلى الردهة التي تفتح فيها بعض غرف النوم الأخرى. كان الضوء في الردهة خافتًا؛ إذ لم نجد سوى نافذة واحدة مفتوحة، وعندما أسدل ثورندايك الستارةَ السميكة عليها، كاد المكان يُظلِم تمامًا، أصبح المكان مظلمًا تقريبًا. في نهاية الردهة، يوجد باب «المقصورة» الصغير والضيق، وكان يعلوه رفٌّ عليه لمبة غاز. أنار ثورندايك لمبة الغاز وفتح الباب ورأينا الغرفة في ظلام دامس، كانت النافذة الوحيدة في الغرفة مغلقة والستائر قد بُسطت عليها. أشعل ثورندايك عودَ كبريت وأضاء مصباح الغاز ونظرنا في الغرفة الصغيرة والفضول يعتري عقولنا.

كانت أشبه بشقة صغيرة تعجُّ بالأشياء الغريبة؛ فالأثاث العتيق ومحتويات الغرفة أعطياها لمسة من الطراز القديم. احتوت الغرفة على شماعة قديمة ومزواة ربعية ومنظار معلق على الحائط، وساعة كبيرة بزجاج منتفخ ومنقوش عليها «توماس تومبيون، لونديني فيسيت»، وموضوعة على وسادة مخملية صغيرة في وسط تسريحة صغيرة مصنوعة من خشب الماهوجني وذات لون أسود، وزوج من كراسي كرومويليان أمام الجدار. نظر ثورندايك إلى التسريحة والفضول يعتريه؛ إذ كانت مرفوعةً على كتل خشبية، وشرح لوملي قائلًا: «كانت هذه تسريحة جيلبرت. صُنعت له بالخارج.»

ثورندايك: «صحيح، إذن، كان جيلبرت رجلًا مسايرًا للموضة. لم يكن الأثاث المصنوع من خشب الماهوجني منتشرًا قبل ١٧٢٠. لنُلقِ نظرة على المحتويات داخل الغرفة.»

رفع الساعة ووضعها على كرسي ورفع غطاء التسريحة مما كشف عن حوض غسيل صغير وإبريق صغير وقصير وبعض تجهيزات الحمامات. كان غطاءُ التسريحة مرفوعًا بدعامة نحاسية وكان عليه مرآة كبيرة للتزين محاطة بإطار بارز.

قلت: «إني أتساءل عن سبب رفع الطاولة على تلك الكتل.»

ثورندايك: «من الواضح أن السبب هو جعل المرآة بمستوى الرؤية للشخص الواقف أمامها.»

الإجابة ألهمت برودريب بفكرة. قال: «أظن أن الصورة التي رأيتَها في المِرآة لم تكن صورتك يا فرانك.»

لوملي: «كيف ذلك؟ رأيتُ الرأس مقلوبًا كما أنه كان على مقربة مني.»

لما ابتعد برودريب عن التسريحة وأخذ ساعة ملاح قديمة، قال: «هذا صحيح، هذه ساعة قديمة وغريبة.»

لوملي: «نعم، ولكنها صُنعت بطريقة جميلة. دعْني أُرِكَ مكوناتها الداخلية.»

فكَّ الإطار الخارجي وفتح الإطار الداخلي، وأرى برودريب وأراني الصنعة المتقنة للمكونات الداخلية، ولكن ظل ثورندايك ينظر إلى التركيبات الداخلية للتسريحة. وفجأة قال صديقي: «اخرجوا أنتم الثلاثة وأغلقوا الباب. أريد أن أُجريَ تجربة.»

أطعناه نحن الثلاثة وأغلقنا الباب، وانتظرنا في الردهة مترقبين. خرج ثورندايك بعد دقيقتين وقبل أن يُغلق الباب لاحظتُ أن الظلمة خيمت على الغرفة الصغيرة. مشى باتجاهنا في الردهة ثم توقف وقال:

«الآن، أريدك يا لوملي أن تدخل إلى المقصورة وتُخبرني ماذا رأيت.»

بدا التردد قليلًا على وجه لوملي بشأن دخول الغرفة بمفرده، ولكنه في النهاية مشى باتجاه المقصورة وفتح الباب. أطلق صرخةَ رعب من فوره وأغلق الباب وجرى نحونا وهو مرتعد الفرائص ومضطرب وعيناه مفتوحتان عن آخرهما.

قال متعجبًا: «إن الرأس موجودٌ الآن. رأيتُه رأْيَ العين.»

ثورندايك: «جميل جدًّا، اذهب أنت الآن يا برودريب وانظر.»

لم يُبدِ السيد برودريب الرغبة في ذلك. كان الذعر باديًا عليه وتقدم إلى الباب وفتحه وهو يرتجف. ثم أصدر صيحة مدوية وأغلق الباب بعنف وعاد مهرولًا، وتوقف الدم في عروقه مما أدى إلى تغيُّر لون بشرته.

قال وهو يصيح: «مرعب! مرعب! ما هذا العمل الشيطاني يا ثورندايك؟»

ومضَ اشتباهٌ مفاجئ في عقلي. تقدمت ولففت مقبض الباب وفتحته. وعندئذٍ لم أتفاجأ بالفزع الذي أصاب برودريب. على مسافة ياردة من وجهي، رأيتُ الرأس المقلوب كالشمس في وضح النهار وهو يتدلى في وسط تلك الغرفة اللعينة. بالطبع كنتُ متهيئًا لهذا المنظر؛ ومن ثَم تعرفتُ على ماهية الرأس من نظرة واحدة؛ بحيث تعرفتُ على ملامح وجهي التي تغيرت إلى منظرٍ غريب ومروع بسبب الوضعية المقلوبة، ولكن بالرغم من أنني تعرفت عليها، فقد كان الشكل مروعًا وغريبًا.

ثورندايك: «الآن، لندخل ونحل اللغز. قف على عتبة الباب يا جيرفيس حتى أوضح الأمر.»

أخرج ورقةً بيضاء من جيبه ولما بسطها، أدخل صديقَينا إلى الغرفة.

أمسك الورقة مفرودة بمستوى العين، وقال: «أولًا: ترى على هذه الورقة صورةً لرأس الدكتور جيرفيس وهو مقلوب.»

برودريب: «إذن، توجد صورة وكأنها مصباح سحري.»

ثورندايك متفقًا معه: «بالضبط، وبالطبيعة نفسها تمامًا. لنرَ الآن كيف ظهرت الصورة.»

أشعل عودَ كبريت وأضاء مصباح الغاز؛ ومن ثَم تحوَّلتْ أعينُنا جميعًا إلى التسريحة المفتوحة.

برودريب: «ولكننا لا نرى الصورة التي رأيناها لتوِّنا.»

ثورندايك: «كلَّا، يمكن عكسُ الإطار عن طريق مفصلة انزلاق وأنا لففتها. في الجانب الأول، يوجد زجاج المرآة المسطح العادي الذي رأيتَه من قبل؛ وعلى الجانب الآخر توجد مرآة حلاقة مقعرة. تلاحظ أنه إذا وقفتَ بالقرب من المرآة، فسترى وجهك بالوضعية الطبيعية وبصورة مكبرة؛ أما إذا رجعت إلى الباب، فسترى رأسك مقلوبًا وبحجمٍ أصغر.»

لوملي معترضًا: «ولكني رأيتُ الرأس مجسمًا ويبدو لي حقيقيًّا في الغرفة.»

«هكذا كان، ولا يزال، ولكن تأثير الصورة الواقعية يتلاشى مع حقيقة أنه يمكنك رؤية إطار المرآة وهو يحيط بالصورة؛ ولذلك يبدو الرأس وكأنه بداخل المرآة، ولكن في الظلام، لا يمكنك أن ترى سوى الصورة. لم تكن المِرآة مرئية.»

فكَّر برودريب في هذا الشرح. قال: «أظن أنني لا أفهم شيئًا الآن.»

أخرج ثورندايك قلمَ رصاص من جيبه وبدأ في رسم شكل على الورقة التي لا يزال ممسكًا بها.

figure
شبح برلينج كورت.

شرح قائلًا: «الشكل الذي تراه في زجاج المرآة العادي هو ما يسمَّى ﺑ «الصورة الافتراضية». تبدو وكأنها خلف المرآة، ولكنها ليست خلفها بالطبع. إنها خدعة بصرية، ولكن تُقلب الصورة الحقيقية التي تكون أمام المرآة المقعرة مثل الصورة التي ترى في العين السحرية أو عدسة الكاميرا. هذا الشكل سيوضح المسألة. هنا، يقف لوملي عند باب الغرفة المفتوح. ترى صورته جيدًا بفضل مصباح الغاز أعلى الباب (الذي لا يُدخل أيَّ ضوء إلى الغرفة على الرغم من وجوده)، وينعكس بالمرآة بصورة واضحة؛ ومن ثَم ترى فيها الصورة المقلوبة الساطعة. وبما أن الغرفة مظلمة والمرآة غير مرئية، فهو لا يرى سوى الصورة التي تُشبه مجسمًا حقيقيًّا متدليًا في الهواء، وهو كذلك في الحقيقة.»

سأل لوملي: «ولكن لماذا لا أرى سوى الرأس؟»

«لأن الرأس يشغل المرآة بالكامل. وإذا كانت المرآةُ كبيرة الحجم، كنت سترى صورة الجسم بالكامل.»

فكَّر لوملي لدقيقة. بعد فترة قال: «يبدو أن هذا الأمر سبق الترتيب له.»

ثورندايك: «بالطبع سبق الترتيب له، بل سبق الترتيب بدهاء بالغ. لنذهبِ الآن ونرَ إن كان سبق الترتيب لشيء آخر أم لا. أين هي غرفة السيد برايس؟»

لوملي: «له ثلاث غرف تفتح على تلك الردهة.» وقادنا إلى باب في نهاية الردهة، وحاول ثورندايك فتحه ولكنه كان مقفلًا.

قال: «إنها علبة تحتوي على أدوات تسليك الغليون.» وأخرج من جيبه أداة مخصصة لهذا الغرض، ولكنها توحي وكأنها أداة لفتح الأقفال من دون مفاتيح. على أية حال، بعد محاولة أو اثنتين — إذ شاهدهما السيد برودريب والامتنان بادٍ في ابتسامته — رجع المزلاج وفُتح الباب.

دخلنا وبدا أنها غرفة نوم وجال فيها ثورندايك بعينيه سريعًا ثم سأل: «فيمَ تُستخدم الغرفتان الأخريان؟»

لوملي: «أظن أنه يستخدمهما لإصلاح الأشياء فيهما، ولكن لا أعرف ما الذي يفعله فيهما بالفعل. الغرف الثلاث متصلة ببعضها.»

تقدمنا إلى الباب الموصل بين الغرفتين ولما وجدناه مقفلًا، تقدمنا إلى الغرفة التالية. وفي تلك الغرفة وعلى طاولة كبيرة بالقرب من النافذة، وجدنا ركامًا من مختلف الأدوات والأجهزة المبعثرة.

سأل برودريب: «ما هذا الشيء الملحق به براغي خشبية؟»

ثورندايك: «مكبس خياطة يستخدَم في تجليد الكتب. كما توجد صناديق من أدوات وضع اللمسات النهائية. لنطلع عليها.»

رفع الصناديق واحدًا تلو الآخر وتفحص أطراف الأدوات؛ طوابع نحاسية لطبع الزخارف على أغلفة الكتب. رفع اثنتين من تلك الطوابع وكانت عبارة عن ورقة وزهرة. ثم أخرج من جيب معطفه الكتاب الصغيرة ووضعه على الطاولة والتقط من على الأرض قصاصة جلد صغيرة. وضع هذه القصاصة أيضًا على الطاولة وطبع الشكلين مما ترك أثرًا واضحًا للورقة والزهرة. وفي النهاية وضع قصاصة الجلد على الكتاب؛ ومن ثَم بات واضحًا أن الورقة والزهرة نُسَخٌ مطابقة للأوراق والزهور التي تشكِّل الزخارف على جلد الكتاب.

لوملي: «هذا لافت للانتباه، يبدو أن الأشكال متشابهة تمامًا.»

ثورندايك: «إنها متطابقة، وأنا أؤكد أن طريقة الكتابة على ذلك الكتاب طُبعت بتلك الأدوات، وأن الورق حيك على تلك الطابعة.»

لوملي نافيًا: «ولكن الكتاب عمره مئات السنين.»

هزَّ ثورندايك رأسه قائلًا: «الجلد قديم، ولكن الكتاب جديد. اختبرنا الورق ووجدناه حديث الصنع، ولكن لنعرف الآن ما الذي يوجد في هذا الدولاب الصغير. وجدنا فيه بعض زجاجات.»

مرَّر عينيه على الرفوف المزدحمة بالزجاجات والجرار الممتلئة بالورنيش والطلاء المحضر بزلال البيض والزيت والإسمنت والمواد الأخرى.

أنزل زجاجة صغيرة بها مسحوقٌ بلون غامق، وقال: «ها هو مسحوق الأنيلين البني. وربما هذا ما أنتج الكتابة القديمة الباهتة، ولكن هذا مضيء أكثر، وهذا له أكثر من مدلول.» أخذ زجاجة بفتحة عريضة مكتوب عليها «طلاء راديوم لعقارب الساعات وأشكال الحروف المضيئة.»

برودريب متعجبًا: «ها! اكتشاف مضيء، كما قلت.»

أخذ ثورندايك يجول بعينيه في الغرفة باهتمام شديد وقال: «وبذلك يبدو أن الكتاب كلَّه صيغ هنا. هلا ألقينا نظرة على الغرفة الثالثة؟»

مررنا من الباب الموصل ووجدنا أنفسنا في شقة صغيرة لا يوجد بها أثاث وتتناثر فيها جذوع وحقائب وعدة أنواع من الأخشاب. لما وقفنا ننظر من حولنا، أخذ ثورندايك يشمُّ الهواء وهو متشكك.

قال وهو ينظر من حوله متسائلًا: «يبدو أن هناك رائحة فئران. هل تلاحظ الرائحة يا جيرفيس؟»

لقد لاحظتها؛ وطرأت فكرة في عقلي بأن أبدأ التجوال في الغرفة خلسة بحثًا عن مصدر الرائحة؛ وقعت عيناي فجأة على صندوق صغير نوعًا ما، وفي الجزء العلوي من الصندوق عدد من الثقوب المحفورة بالمثقاب. رفعتُ الغطاء ونظرت فيه. وجدت الصندوق من الداخل مغطًّى بالقذارة وفي القاع فأر ميت.

وقفنا جميعنا بضع ثوانٍ ننظر إلى جثة الفأر والصمت يسكن المكان. ثم أغلق ثورندايك الصندوق وأخذه تحت إبطه.

قال: «أظن أن هذا الصندوق يكمل القضية. متى يعود برايس؟»

لوملي: «من المتوقع أن يصل إلى المنزل في حوالي الساعة السابعة.» ثم أضاف بكلمات يكسوها الاضطراب: «لا أفهم شيئًا من هذا كلِّه. ما الذي يعنيه ذلك؟»

ثورندايك: «المسألة غاية في البساطة. لديك كتابٌ قديم ومزيف يتضمن قصة من الواضح أنها مصطنعة وتحتوي على أحداث خارقة للطبيعة؛ ولديك أيضًا سلسلة من الأجهزة والترتيبات من أجل إنتاج خُدَع يبدو أنها تكرر تلك الأحداث. زُرع الكتاب في مكان معين بحيث يمكن الوصول إليه وقراءته، وبدأت الخدع بعدما عُرف أن الكتاب قُرئ بالفعل. إنها مؤامرة.»

تساءل لوملي: «ولكن لماذا؟ ما الهدف من ذلك؟»

برودريب: «عزيزي فرانك، لا تنسَ أن برايس هو القريب التالي وأنه الوريث للتركة بعد موتك.»

اغرورقت عينَا لوملي. يبدو أن الحزن والاشمئزاز قهره. غمغم بصوت أجش: «لا أصدق، هذه الدناءة لا تُصدَّق.»

وصل برايس وزوجته في حوالي الساعة السابعة، أُعدت وجبة لهما ولما انتهيا من الطعام، أُرسلت الخادمة كي تطلب من السيد برايس أن يتحدث مع السيد برودريب في غرفة المكتب. انتظرناه جميعنا في الغرفة، وحضر لوملي بناءً على رغبته؛ وتُرك الكتاب الصغير على الطاولة، وقصاصة الجلد وأداتَا اللمسات الأخيرة ووعاء طلاء الراديوم والصندوق الذي يحتوي على الفأر الميت. دخل برايس لتوه ومعه زوجته؛ ولما رأيا الأشياء على الطاولة، تخشَّبا في مكانهما. وضع السيد برودريب كرسيين لهما ولما جلسَا، بدأ بصوت خشن وشديد اللهجة:

«أرسلتُ لك يا سيد برايس كي أعطيَك بعض المعلومات. هذان السيدان — الدكتور ثورندايك والدكتور جيرفيس — من أكبر محامِي قضايا الجنائيات وقد فوضتُهما لإجراء تحريات وأن يقدمَا مشورتهما بشأن هذه المسألة. كشفتِ التحريات التي أجرياها عن وجود مخطوطة مزيفة وفأر ميت ووعاء به طلاء وامض ومرآة مقعرة. لا أريد الخوض في المزيد من التفاصيل عن تلك الاكتشافات. نيَّتي أن أقاضيَك أنت وزوجتك على مؤامرة دفْع السيد فرانك لوملي على ارتكاب الانتحار، ولكن بناءً على طلب السيد لوملي، وافقتُ على تأخير الإجراءات لمدة ثمانٍ وأربعين ساعة. وفي تلك المدة، ستتاح لكما حرية التصرف حسبما تريانه.»

عمَّ صمتٌ يتخلله التوتر بضع ثوانٍ. جلس المتآمران والضيق قابض على صدرَيهما وأعينهما لم تُرفع عن الأرض، وأجهشت زوجةُ برايس ببكاء شبه هستيري. ثم نهضَا ومن دون أن ينظر برايس إلى أيٍّ منا، قال بصوت منخفض: «حسن جدًّا. أعتقد أنه من الأفضل أن نبوح بكل شيء.»

لما ذهبَا، قال برودريب معلقًا: «وهذا أفضل شيء على الإطلاق؛ لأنني أشك في إمكانية إيصال هذه الخدعة للمحكمة.»

على الجدار في غرفة الجلوس بالمعبد، يوجد مفتاحان معلقان حتى يومنا هذا. مفتاح للبوابة الخلفية لبرلينج كورت، والآخر لجناح الغرف التي كان يشغلها السيد لويس برايس؛ وهما معلقان في ذلك المكان بناءً على رغبة فرانك لويس، باعتبار ذلك رمزًا بأن برلينج كورت منزلٌ ريفي يمكننا الدخول إليه في جميع الأوقات والفصول باعتبارنا مستأجرين بمقتضى حق غير قابل للتصرف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤