سَرَايا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)

السَّرِيَّةُ الْأُولَى

كانت إلى بني سعد بن بكر بفدك «قرية بينها وبين المدينة ست ليالٍ»، بلغ النبي أنهم يريدون أن يمدوا يهود خيبر على أن يجعلوا لهم تمرها، فلما اقترب الإمام والذين معه، وكانوا مئة رجل من هذه القرية، وجدوا رجلًا فسألوه عن بني سعد، فقال: لا علم لي بهم، فشددوا عليه، فأقر أنه عين لهم، ثم دل المسلمين عليهم، ولكنهم خافوهم فلم يظهروا للقائهم، وغنمت السرية خمس مئة بعير وألفي شاة.

يا بني سعد بن بكر مرحبًا
بادروا القوم فرادى وثبى
غشيتكم من يهود فتنة
كالحبيِّ الجون يُرخِي الهيدبا
إن في خيبر من سحر القنا
عدد التمر ومن بيض الظبى
هي للأبطال أزكى مطعمًا
يا بني سعد وأشهى مشربا
هل ترون اليوم إلا مِقنبا
من حماة الحق يتلو مقنبا
إنه يوم «عليٍّ» فاصبروا
أو فحيدوا عنه يومًا أشهبا
يا بني «سعد بن بكر» إنه
مارج الهيجاء يزجي اللهبا
احذورها واحموا أنفسكم
لا تكونوا في لظاها حطبا
دلَّه منكم عليكم رجل
خشي القتل وخاف العطبا
«عينكم» صيرها عينًا لكم
فاعجبوا للأمر كيف انقلبا
زحف الجيش فذبتم فرقًا
وارتمى البأس فطرتم هربا
ليس غير النهب ما يمنعه
منكم اليوم امرؤ أن ينهبا
«نكبة التمر» فلولا شؤمه
لم يذق آلامها من نكبا
أفما جربتم القوم الألى
خلقوا للشرِّ فيمن جرَّبا؟
هم وباء الأرض أو طاعونها
شرعوا السحت ودانوا بالربا
غضب الله عليهم فرضوا
ربِّ زدهم كل يوم غضبا
هالك من ظن ممن يعتدي
ويعادي الله أن لن يغلبا
وأضلُّ الناس في دنياه من
وضح الحق فولَّى وأبى

السِّرِيَّةُ الثَّانِيَةُ

كانت لهدم «الفلس» صنم طيء والإغارة عليها، بعث إليهم في خمسين ومئة رجل من الأنصار، فهدموا الصنم وأحرقوه واستاقوا الشاء والنعم والسبي، وكان في السبي أخت عدي بن حاتم الطائي واسمها سفانة، ومعناها الدرة، مر عليها النبي فقامت إليه وذكرت له أباها وما كان له من أعمال مشكورة، ثم سألته أن يمن عليها ففعل، وأسلمت فكساها ثم حملها وأعطاها مالًا، فذهبت إلى أخيها وأشارت عليه بالقدوم على النبي ليدخل في دين الله، فجاء وأسلم، وقد وجدوا في خزانة الصنم ثلاثة أسياف معروفة عند العرب؛ وهي الرسوب واليماني والخذم، وثلاث أدراع آلت إلى النبي .

إلى طيء يا ابن عم النبي
إلى معشر يعبدون الصنم
إلى الفلس في جندك الغالبين
فلن يلبث الشرك أن يصطلم
أضل العقول وأعمى القلوب
وأشقى النفوس وهدَّ الهمم
أرى طيئًا خذلت ربها
فما من ملاذ ولا معتصم
فيا لك ربًّا يذوق الهوان
فيغضي عليه ولا ينتقم
مضى عزُّه وانطوى مجده
فزال الجلال وبار العظم
وأصبح تذروه هوج الرياح
فتلك تفاريقه ما تلم
وهاتيك أسلابه أُطلقت
وكانت حبائس منذ القدم
سيوف بقين طوال العصور
ودائع للوارثين الأمم
مللن لدى الفلس عهد الظلام
فأصبحن ميراث ماحي الظلم
أضاء الرسوب به واليماني
وأشرق في راحتيه الخذم
وما نظرت أعين الدارعين
كأدراعه الغاليات القيم
رجعْتَ بها يا ابن عم النبي
وبالشاء مجلوبة والنعم
وبالسبي مغتنمًا ما رأى
حماة المحارم إذ يغتنم
ومرَّ النبيُّ بسفَّانة
فقامت إليه تبثُّ الألم
وقالت نشدتك فامنن عليَّ
فما حق مثليَ أن يُهْتَضَمْ
أنا ابنة من كان في قومه
عقيد السخاء حليف الكرم
وما بك في حاتم ريبة
بلى إنه لَلجواد العلم
يفك العناة ويعطي العفاة
ويكسو العراة ويحمي الحرم
ويُفشي السلام ويرعى الذمام
ويقري الضيوف ويشفي القرم
فقال لها صفة المؤمنين
فلو أنه كان فيهم رُحِم
كريم يحب حسان الخلال
ويكره من حبها أن يُذم
مننت عليك فإن تفرحي
فغيرك أولى بحزن وهم
فقالت شهدت مع الشاهدين
فذلك دين الهدى لا جرم
رأيت السبيل فآثرته
وفارقت دين العمى والصمم
كساها وأركبها واستهل
عليها بغمر من المال جم
فراحت بخير وراح الثناء
يجوب السهول ويطوي الأكم
وجاءت أخاها فقالت عديُّ
أرى الحق أخلق أن يُلتزم
وإني استقمت على واضح
من الأمر يا ابن أبي فاستقم
دع الشرك واذهب إلى يثرب
فثَمَّ هُدَى الله باري النسم
هناك هناك جلاء العمى
ورِيُّ الصدى وشفاء السقم
هناك النبي العظيم الجلال
هناك الرسول الكريم الشيم
هناك النجاة لهلكى النفوس
فطوبى لمن رامها فاعتزم

السَّرِيَّةُ الثَّالِثَةُ

كانت إلى بلاد مذحج — أبو قبيلة من اليمن — وهي من بلاد اليمن، بعث إليها في ثلاث مئة فارس، عقد النبي له لواء وعممه بيده، فلما بلغها فرق أصحابه فأتوا بنهب وغنائم وأطفال ونساء ونعم وشاء وغير ذلك، ثم لقيهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا المسلمين بالنبل والحجارة، فصف أصحابه، ودفع لواءه إلى مسعود بن سنان، ثم حمل عليهم فقتل منهم عشرين رجلًا فانهزموا وتفرقوا، فكف عنهم، ثم دعاهم إلى الإسلام فأسرع إلى إجابته ومتابعته نفر من رؤسائهم، وقالوا: هذه صدقاتنا فخذ منها حق الله (تعالى) ونحن على من وراءنا من قومنا، فعاد فوافى النبي بمكة في حجة الوداع.

بني مذحج ما ثَمَّ من مُتردِّد
هو الدين أو حدُّ الحسام المهنَّد
ألا فانظروا سيف الإمام وبأسه
تروا عجبًا من مشهد ليس بالدَّد
بليتم بمعقود اللواء على يد
يشدُّ عيلها مالك الملك باليد
بني مذحج ما ظنكم بمدجَّج
تعممه للحرب كف محمد؟
غزاكم بمن لا تعرف الحرب غيرهم
إذا انتسب الأبطال في كل مشهد
أصابوا من الأسلاب والسبي ما ابتغوا
وأنتم بمنأى بين صرعة وهجَّد
فلما لقوكم قال صاحب أمرهم
هو الحق من يؤثره يرشد ويهتد
فإن تُسلموا فالله بيني وبينكم
وإن تُعرضوا فالسيف عضب المجرد
صددتم صدود الجاهلين وردكم
عن الحق رأي طائش لم يُسدَّد
جرى النبل يهوي واستطارت حجارة
تتابع شتى بين مَثنًى ومَوحد
رميتم بها جندَ النبيِّ وإنما
رميتم بأحلام عوازب شُرَّد
مضى السيف يجزيكم على الشرِّ مثله
فلا دمكم بَسْلٌ ولا هو معتدِ
فوليتم الأدبارَ وارتدَّ جمعكم
شرازم شتى كالشعاع المُبدَّد
وآمن منكم معشر عاد جَدُّهم
سعيدًا ومن يرغبْ إلى الله يسعد
وجاءوا فقالوا هذه صدقاتنا
فخذها بإحسان وإن شئت فازدد
ندين بأنَّ البرَّ لا شيء مثله
ونبذل حقَّ الله غير منكد
وأنَّا لكم عون على ما وراءنا
نناجز منهم كل غاوٍ ومُفسد
وندعو إلى الإسلام ننشر نوره
ونورد منه قومنا خير مورد
لك الشكر فارجع يا عليُّ مظفَّرًا
وبشِّرْ رسول الله يشكر ويحمد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤