غَزْوَةُ مُؤْتَة

كانت في جمادى الأولى سنة ثمان، ومؤتة موضع معروف عند الكرك بالشام، وسببها أن النبي بعث الحارث بن عمير الأزدى إلى هرقل ملك الروم بالشام بكتاب منه، فلما بلغ مؤتة تعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني من عمال قيصر ثم ربطه وقتله، فسير النبي لمقاتلة ملك الروم ثلاثة آلاف رجل من أصحابه بقيادة زيد بن حارثة، وعقد له لواء أبيض دفعه إليه، وأوصاهم أن يأتوا مؤتة فيدعوا من بها إلى الإسلام، فإن أبوا قاتلوهم.

فلما أتوا معان بلغهم أن هرقل في مئة ألف من قومه، ومثلهم من العرب المتنصرة، ومعهم من الخيل والسلاح ما ليس مع المسلمين، ولقيتهم الجموع فاقتتلوا، وهزم الروم والذين معهم من العرب هزيمة منكرة بعد مقتلة كبيرة على يد خالد بن الوليد (رضي الله عنه)، وقد لقبه النبي بسيف الله من يومئذ.

ودِّعْ ذويك وسر في شأنك الجلل
لله يا ابن عُمَير أنت من رجل
سر بالكتاب رسولًا حسبه شرفًا
أن راح يحمله من أشرف الرسل
يا حامل الجبل المرقوم دونكه
من ذا سواك رعاك الله للجبل؟
إلى هرقلَ تأنَّى دون سدته
صيد الملوك وتلقاه على مهل
ترتدُّ عن تاجه الأبصار خاشعة
فما تلاحظه إلا على وجل
إليه يا ابن عمير لست واجده
إلا امرأً هملًا في معشر همل
لأنت أعظم منه في جلالته
وما جلالة غاوي الرأي مختبل؟
لا يعرف الدين إلا فتنة وهوى
أعمى المقاصد والآفاق والسبل
هذا كتاب رسول الله ينذره
فاذهب إليه وخذه غير محتفل

•••

مهلًا شرحبيل لا حيِّيت من رجل
إن همَّ بالشرِّ لم يحفل ولم يُبْلِ
بادي الشراسة عادٍ ما يلائمه
في موضع الذم إلا أسوأ المثل
هاجته من نزوات الجهل ثائرة
لم تُبق من كلَب يهتاج أو ثول
فطاح بابن عمير باسلًا بطلًا
يفلُّ في الروع بأس الباسل البطل
يا للربيط يسل السيف مهجته
في غير معترك حام ومقتتل
كذلك الغدر لا ظلم بمجتنب
في الغادرين ولا لؤم بمعتزَل
ما كان ذنب امرئ في الله مرتحل
يرجوه في كل محتلٍّ ومرتحل؟

•••

سر يا ابن حارثة بالجيش تقدمه
هذا لواؤك فابعثه على عجل
أُدع الألى اتخذوا العمياء وارتكسوا
فيها إلى أرشد الأديان والملل
فإن أبَوا فسيوف الله تأخذهم
من كل متَّقد الحدين مشتعل
أمْرُ النبي فسر يا زيد ممتثلًا
والجند جندك ما تأمره يمتثل
فإن أصبت فمن سمَّى على قدر
وليس للنفس إلا غاية الأجل
إتْبعْ وصاياه فيما لا يحل لكم
ولا يليق بكم من سيئ العمل
دعوا الصوامع واستبقوا النساء ولا
تؤذوا صغيرًا ولا تودوا بمكتهل
لا تقطعوا شجرًا لا تهدموا جدرًا
لا تقربوا ما استطعتم موطن الزلل

•••

هذا هرقل يسوق الجيش مرتكمًا
كالعارض الجون يرمي الأرض بالوهل
يزجي الكتائب من روم ومن عرب
في المرهفات المواضي والقنا الذبل
والصافنات تهادى لا عداد لها
من كل منذلق في الكرِّ منجفل
إن الذين أداروا الرأي وانتظروا
لم يبرح النصر مولاهم ولم يزل
الغالبون وإن قلوا وظن بهم
ما يكره الله أهلُ الزور والخطل
لم يلبث القوم حتى قال قائلهم
فيم الحوار؟ وهل في الأمر من جدل
إنا خرجنا نريد الله فاستبقوا
من كل منتهب للخير مهتبل
لو زالت الأرض أو حالت جوانبها
بمن عليها من الأقوام لم نحُل
هما سبيلان إما النصر ندركه
أو جنَّة الخلد فيها أطيب النزل
لسنا نقاتل بالآلاف نحشدها
ألفًا لألف من الأبطال مكتمل
إنَّا نقاتل بالدين الذي ضمنت
أعلامه النصر في أيَّامنا الأول
لولا مقالة عبد الله ما انكشفت
تلك الغواشي ولولا الله لم يقل

•••

تقلَّدوا العزم للهيجاء وادَّرعوا
من صادق البأس ما يغني عن الحيل
وأقبلوا لو تميل الشمُّ من فزع
لم يضطرب جمعهم خوفًا ولم يمل
يا مؤتة احتملي الأهوال صابرة
هيهات ذلك شيء غير محتمل
جنُّ الكريهة يستشري الصيال بهم
في موطن لو رأته الجنُّ لم تصُل
ما زال قائدهم يُلقي بمهجته
يرمي المنية في أنيابها العصُل
يغشى موارد من أهوالها لججًا
تلك الموارد ليس الغَمْر كالوشل
ما مَن يخوض الوغى تطغى زواخرها
كمن يجانبها خوفًا من البلل
يا زيد أدَّيت حق الله فامض على
نهج الألى انتقلوا من قبل وانتقِل
آبوا إلى خير دار ما لنازلها
من أوبة تبعث الأشجان أو قفَل
يسلو أخو العقل عن دار الهموم بها
ويحتوي منزل الأدواء والعلل
جاهدت في الله ترضيه وتنصره
لم تلق من سأم يومًا ولا ملل
هذا الذي نبَّأ الله الرسولَ به
فاغنم ثوابك والقَ الصحب في جذل
وأنت يا جعفر المأمول مشهده
خذ اللواء وجاوز غاية الأمل
هذا جوادك ما حالت سجيَّته
ولا ارتضى بوفاء الحرِّ من بدل
عقرْته وركبت الأرض تمنعه
مواطن السوء من ضنٍّ ومن بُخل
أكرمته وحرمت القوم نجدته
فصُنت نفسك عن لوم وعن عذل
دلفت تمشي على الأشلاء مقتحمًا
والقوم منجدل في إثر منجدل
فقدت يمناك فانصات اللواء على
يسراك ما فيه من أمتٍ ولا خلل
حتى هوت فجعلت الصدر موضعه
كأنه منه بِضع غير منفصل
يضمُّه ضمَّ صادي النفس يولعه
بمن أطال صداه لذَّةُ القُبَل
يغا قائد الجيش ضجَّ الناس من ألم
وأنت عن دمك المسفوك في شغل
تقضي الذمام وتمضي غير مكترث
كأنما الأمر لم يفدح ولم يهُل
لقيت حتفك في شعواء عاصفة
حرَّى الجوانج ظمأى البيض والأسل
أعطيتها منك نفسًا غير واهنة
أعطتك سَورة مجد غير منتحل
لك المناقب لم تُقْدر غرائبها
ملء المشاهد لم تعهد ولم تُخَل
من يؤثرِ الحق يبذل فيه مهجته
ومن يكن همُّه أقصى المدى يصل
لا شيء يُعجِز آمال النفوس إذا
خلت من الضعف واستعصت على الكسل
إنهض بعبئك عبد الله مضطلعًا
بكل ما تحمل الأطواد من ثقل
هذا مجالك فاركض غير متئد
وإن رأيت المنايا جوَّلًا فجل
كم جئت بالعربيِّ السمح مرتجلًا
واليوم يوم منايا الروم فارتجل
للعبقرية فيه مظهر أنق
يا حسنه مظهرًا لو كان يقدر لي
قنعتُ بالشعر أغزو المشركين به
فلم أصب فيه آمالي ولم أنل
لَقطرة من دمي في الله أبذلها
أبقى وأنفع لي من هذه الطول
تقَلَّد القوم ملء الدهر من شرف
وليس لي من غواليها سوى العطل
إن شاء ربي حباني من ذخائرها
أغلى الحلى وكساني أشرف الحلل
الحمد لله أجرى النور من قلمي
هدى لقومي وعافاني من الخبل
أوتيت ما جاوز الآمال من أدب
عالي الجلال مصونٍ غير مبتذل

•••

يا شاعر الصدق ما خاب الرجاء ولا
مثل العطاء الذي أدركت والنفَل
خذ عند ربك دار الخلد تسكنها
قدسية الجوِّ والأرواح والظلل
آثرته واصطفيت الحق تكلؤه
مما يحاول أهل الغيِّ والضَّلَل
ليس العرانين كالأذناب منزلة
ولا الغطارفة الأمجاد كالسفل

•••

يا عقبة اصدع بها بيضاء ناصعة
تنفي الوساوس أو تشفي من الغُلَل
القتل أجدر بالأحرار يأخذهم
مستبسلين وينهاهم عن الفشل
ويا ابن أرقم نعم المرء أنت إذا
تنوزع الأمر عند الحادث الجلل
قالوا لك الأمر فاخترت الكفيَّ له
وأنت صاحبه المرجوُّ للعُضَل
لكنها نفس حرٍّ ذي محافظة
صافي السريرة بالإيمان مشتمل
صنت اللواء وآثرت الأحق به
إيثار أغلبَ لا واهٍ ولا وكل
أبى عليه حياءٌ زاده عظمًا
ما مثله من حياء كان أو خجل
قلت اضطلع خالد بالأمر فاستعرت
منه حمية لا آبٍ ولا زحل
وراح يُبدع من كيد الوغى نمطًا
طاشت مرائيه بالألباب والمقل
رمى العدى حول شتى مكائده
جمُّ الأحابيل يعيي كل محتبل
ظنوا الجنود تنحت عن مواقفها
لغيرها من عمى بالقوم أو حَوَل
جيش من الرعب يمشي في جوانحهم
لم تعتصم مهجة منه ولم تئل
من خلفه الجيش يمشي ابن الوليد به
في مسبل من مثار النقع منسدل
ضاقوا بمفترس في الهول منغمس
لنفسه في غمار الموت مبتسل
أذاقهم من ذعاف الموت ما كرهوا
ما كفَّ عن علَل منه ولا نهل
ما للمسيئين إلا كل معتزم
في الروع يحسن ضرب الهام والطُّلل
رمت بهم هبوات البأس فانكشفوا
يندسُّ هاربهم في كل مدَّخل
بئس الجنود أضلَّتهم عمايتهم
فما لهم بجنود الله من قِبل
ظنوا الأمور لغير الله يملكها
إذا جرت بين معوجٍّ ومعتدل
وحاربوا الحق من جهل ومن سفهٍ
والحق فوق منال المعشر العثل
ما ينقم الناس من دين يراد به
فك العقول من الأغلال والعُقُل
فليصبر القوم إن الله مظهره
على الممالك والأديان والنحل
لدولةُ الله أبقى في خليقته
فلا يغرَّنك ما استعظمت من دول
أدعوك يا رب للإسلام مبتهلًا
وأنت تسمع دعوى كل مبتهل
نام المحامون عنه فهو مضطهد
يشكو الأذى في شعوب خُضَّع ذلل
صرح من العزِّ والسلطان ما برحت
تهوي صياصيه حتَّى عاد كالطلل

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤