الفصل الثاني

إسلام الأولياء والطرق (١١٠٠–١٤٠٠)

(١) سياقات متغيِّرة

في القرون ما بين مُنتصَف القرن التاسع والقرن الثاني عشر، شهدنا ظهور الصوفيين باعتبارهم مجموعةً من مجموعات إسلامية كثيرة تعمل في العراق وتكتسب أتباعًا، وأيضًا إحساسًا واعيًا بالتقليد، وأسلوبًا تنظيميًّا مؤسَّسيًّا أكبر من خلال توسُّعهم شرقًا في إيران وآسيا الوسطى. وفي حين ركَّز الفصل السابق على المنطقتَين الأساسيتين للإنتاج الصوفي المبكِّر، المتمثلتَين في العراق وخراسان، فإنه بحلول القرن الثاني عشر أصبح للصوفيِّين وجودٌ كبير أيضًا في الغرب الإسلامي في إسبانيا وشمال أفريقيا، بالإضافة إلى بدايات توسُّعهم المؤثِّر على نحوٍ هائل في الهند. وبعد أن أسَّس الصوفيون نقاطَ الانطلاق المؤسسية خاصَّتهم عبر منطقة واسعة، شهدت الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن السادس عشر — التي سوف نتطرَّق إليها الآن — تحقيقَ الصوفيين صعودًا هائلًا لمكانةٍ تمثَّلت في أنهم كانوا من المغرب إلى البنغال محاورَ اجتماعية وفكرية، في مختلف المجتمعات التي اخترقوها عبر هذه المنطقة الشاسعة. وبحلول القرن السادس عشر، كان الصوفيون حُماةً للملوك وتابعين لهم في آنٍ واحد، وكانوا كذلك مهمين لحياة المجموعات المنتمية للطبقة الدنيا في المدن وفي الريف أيضًا، وقد عزَّزَ تلك المكانةَ الدورُ الذي لعبوه في تحويل جماعات البدو والمُزارعين إلى الإسلام عند توسيعهم للمناطق الحدودية.

لقد رأينا بالفعل كيف أن دراسة القرآن والحديث كانت المنهجَ المؤسِّس للصوفيين الأوائل، وكيف أنَّ الصوفيين مع مرور الوقت حرصوا على التوافق مع أعراف الإسلام السني الناشئة. وفي حين كان الاتجاه السائد هو البيئة الطبيعية للصوفية، كان المتمرِّدون أمثال الحلاج الذي حُكِم عليه بالإعدام هم الاستثناء وليسوا القاعدة. لكنْ إذا كان الصوفيون نادرًا ما يخالفون أعراف الفترة، فقد عجزوا عن أن يكونوا سلطات دينية مسيطرة في قرونهم الأولى، لكنهم تمكَّنوا من أن يُصبحوا كذلك في مناطق متعدِّدة في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن السادس عشر. جزئيًّا، كان هذا ثمرةَ المزج الفكري والمؤسسي الذي شهدنا بدايته في القرن الحادي عشر، عندما تكوَّن علم رسمي للصوفية إلى جانب المناهج الدراسية والمدارس التي ظهرت من خلال العقيدة الإسلامية الحنيفة التي دعمها الأتراك السلاجقة، وهي عملية تُجسِّدها تعاليم الغزالي (المتوفَّى عام ١١١١) وحياته المهنية.1 إن التوسُّع المستمر لنظام المدارس والخانقاوات ساعد بالتأكيد الصوفيين في القرون التي تلت القرن الثاني عشر، ليس فقط في الأراضي العديدة التي بسط عليها السلاجقةُ نفوذَهم بين الأناضول وخراسان، بل أيضًا كجزء من عملية «إحياء المذهب السني» المتعمَّدة في مصر وسوريا، بعد سقوط حكم الشيعة الإسماعيلية فيهما لصالح الحكم الأيوبي عام ١١٧١.2 وبينما ظل هذا الرابط بين الصوفيين والسلاطين والمؤسَّسات السنية عاملًا مُهمًّا، فإن التوسُّع غير المسبوق للنفوذ الصوفي في القرون التالية يعود أيضًا إلى حدٍّ كبير لحدوث تطورات جديدة. إن هذه التطورات — المتمثِّلة في التنويع وإنشاء المؤسَّسات، واكتساب القداسة، وإضفاء الطابع المحلي على تعاليم الصوفية — هي التي يركِّز عليها هذا الفصل من أجل أن نفهم السبب وراء هذا العددِ المتزايد من الأشخاص والأماكن، المنضمِّ تحت لواء الإسلام الصوفي، في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن السادس عشر. ونظرًا لأن المؤرخين رأوا في السابق أن هذه الفترة كانت فترةَ «انحطاط» صوفي، كان فيها التصوُّف الحقيقي قربانًا على مذابح الوِلاية، فمن المهم أن ندرك علاقةَ كلِّ عملية من هذه العمليات بما حدَث قبلها. لقد كانت مؤسسات الطرق الصوفية الأكثر رسميةً، ومُعتقدات الوِلاية الأكثر تعقيدًا التي ميَّزت هذه الفترة الثانية؛ تُعتبر في السابق أعراضَ انحدارٍ رُوحاني، إلا أننا عندما نرى علاقتها بالأفكار والمُمارسات التي كوَّنها الصوفيون قبل القرن الثاني عشر، سوف نستطيع أن نرى كيف نشأت التطورات الجديدة عن استخدام الصوفيِّين المتأخرين لمصادر تقليدهم، أثناء محاولتهم الجاهدة فهْمَ الظروف الاجتماعية الجديدة التي كانوا يعملون في ظلِّها والاستفادة منها.

قبل الالتفات إلى هذه التطوُّرات، من المهم التأكيد على مدى الاختلاف بين الظروف القديمة والظروف الجديدة؛ فلقد رأينا بالفعل كيف أنَّ الأتراك السلاجقة في منتصف القرن الحادي عشر اكتسحوا غربًا في سلسلةٍ من الغزوات امتدَّتْ من آسيا الوسطى حتى الأناضول. وكما هو الحال مع الكثير من الأُسَر الحاكمة التركية في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر؛ فقد دخل السلاجقة البدو في الأصل في تحالُف مع طبقة علماء المسلمين المستقرَّة، الذين عملوا موظفين في إدارة الدولة، فحموا وناصَروا في النهاية الأسسَ الشرعية والعلمية للحياة الإسلامية الحضرية. لم يَنطبق الأمر نفسه على المجموعة البدوية الرئيسية التالية التي توسَّعت غربًا؛ ففي عهد جنكيز خان وأبنائه، ما بين عشرينيات وستينيات القرن الثالث عشر، دمَّرت فعليًّا الجيوشُ المغولية الشامانية كثيرًا من مدن خراسان (بما فيها نيسابور)، وغزت بغداد في نهاية المطاف؛ حيث وضعوا نهايةً لنظام الخلافة الذي كان قد منح القيادةَ الرمزية على الأقل للمجتمع الإسلامي منذ وفاة النبي محمد. وقد تجاوَزَ الشعورُ بما خلَّفته غزواتُ المغول من رعبٍ ودمارٍ المناطقَ التي تعرَّضت لهذا التأثير مباشَرةً؛ ففي كلٍّ من الحدود الغربية والشرقية للتوسُّع المغولي، استحوَذَ الجنود العبيد المَعروفون باسم المماليك — الذين كانوا مكلَّفين بحماية سلاطينهم — على سوريا ومصر والهند. واستقبل الشرق والغرب على حدٍّ سواء تدفُّقاتٍ هائلةً من اللاجئين، كان من بينهم الكثير من عائلات العلماء والصوفيين.

وحتى في الوقت الذي دُمِّر فيه جزءٌ كبير من مهد الصوفية في العراق وخراسان، كانت توجد فُرَص جديدة. إن رغبة الحكام المماليك في إثبات شرعيتهم الدينية جعلتهم يرعون الكثيرَ من المساكن الصوفية الجديدة في المدن، أو يَمنحون الأراضي في الريف، في حين زاد تدفُّقُ اللاجئين من سرعة انتشار التعاليم الصوفية. وقد استغرق الحكام المغول الجدد للأراضي الإسلامية الوسطى قرابةَ قرن حتى يَدخلوا في الإسلام، وعندما اعتنَقوه وجدوا في الصوفيِّين حماةً وشيوخًا لهم. وإذا كانت قرونُ الاضطراب تلك قد أسفرَتْ عن مجتمعات مختلفة جدًّا عن تلك التي ظهرت فيها الصوفيةُ لأول مرة، فإنها أتاحت أيضًا فرصًا للصوفيين لربط أنفسهم بنطاقات من المؤيدين أكبر من أي وقتٍ مضى؛ فكسبوا قلوبَ وأموالَ الحكام البدويين «الخانات»، وأيضًا سكان الحضر والفلاحين الذين حكموهم؛ فقد وصَل الصوفيون من خلال تنويعِ مُعتقدهم، وإضفاءِ الطابع المحلي على تعاليمهم، وتكوينِ الطرق والطوائف، وتبجيلِ الأولياء؛ إلى نقطةٍ أصبح فيها الإسلام فعليًّا لا يُمكن فصله عن رموزهم وأفكارهم ومؤسَّساتهم.

(٢) تنويع المعتقَد الصوفي

النجاح يولِّد نجاحًا، وما حقَّقه الصوفيون بحلول القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر من مكانة راسخة، شجَّع عددًا أكبر من المسلمين على ترديد أفكارهم الدينية؛ باستخدام المصطلحات المُحتَرمة التي ابتكروها على مدار القرون السابقة. وقد أصبحت الصوفية الآن في حدِّ ذاتها تقليدًا له نَسَبٌ يعود إلى زمن النبي محمد، في حين عزَّزت علاقاتُ كثيرٍ من ممثِّليها البارزين بالطبقة الحاكمة تأثيرَهم في الوقت الحاضر ودورَهم في تشكيل مُستقبَل مُجتمعاتهم. إن المكانة الراسخة التي وصلوا إليها لا تَعني أن حركتهم استنفَدت طاقةَ استمراريتها، بل يُمكن أن نرى أن الاحترام الذي اكتَسبه الصوفيون في الفترة الأولى قد أتاح عمليةَ التنويع التي نراها في القرون ما بين القرن الثاني عشر والقرن الرابع عشر. وبالنسبة إلى الصوفيِّين، كانت هذه القرون ذات إنتاج نصيٍّ هائل، ليس فقط بسبب وجود عدد أكبر من الصوفيِّين، بل لأنهم كانوا يوسِّعون أيضًا نطاقَهم الأدبي خارجَ حدود الكتابة باللغة العربية. كانت مجموعة الأفكار المتنوعة التي استُعرِضت في هذه الفترة مذهلةً في حد ذاتها، فضلًا عن الردود والاستجابات، والتأمُّلات والتعليقات التي أثارها كلُّ عملٍ من هذه الأعمال البارزة. ولفَهْم ما كان جديدًا وسط هذا العدد الهائل من المؤلَّفات، سوف نُلقِي نظرةً على الطريقة التي تنوَّع من خلالها إرثُ القرون الأولى، من خلال فحص موضوعات أساسية مثل النور والوجود والوِلاية، بالإضافة إلى الشخصيات الأساسية التي ارتبطَت بها. لقد أصبحت هذه الموضوعات والمعتقَدات، والنصوص التي فُصِّلت فيها، موادَّ مهمَّة في الترسيخ الخطابي للتقليد الصوفي.

fig13
شكل ٢-١: تنويع المعتقد: مخطوطة من العصور الوسطى لكتاب «المشارع والمطارحات» ليحيى السهروردي (المتوفَّى عام ١١٩١) (تصوير: حسين ضيائي، بإذن من مكتبة جامعة لايدن).
كان «النور» أول هذه الموضوعات؛ وكما رأينا في الفصل الأول، كان النور بالفعل موضعَ نقاش بين الصوفيين أمثال التُّستَري والغزالي، أما في كتابات شهاب الدين السهروردي (المتوفَّى عام ١١٩١)، فقد خضعَت الأفكار السابقة للتنظيم والمراجعة، وقُدِّمت في صورةِ رؤيةٍ فلسفية متماسكة كان النور فيها أساسًا لعلم الوجود وعلم المعرفة؛ فكلُّ شيء في الكون موجودٌ على هيئة نور، وكلُّ عمل معرفي يُعدُّ تعبيرًا عن النور.3 ونظرًا لميلاد السهروردي في شمال إيران، فقد كان يرى نفسه وريثًا لتقاليد عديدة من «الحكمة»، وقدَّم نظامَه على أنه توضيحٌ لما كان معروفًا في السابق للإغريق الوثنيين والإيرانيين الزرادشتيين وأيضًا الصوفيين الأوائل.4 وعلى الرغم من أن احتمالية اعتباره هو نفسه صوفيًّا مسألةٌ محل شكٍّ، فإنه بالتأكيد قد قضى وقتًا كبيرًا بصحبة الصوفيين، واستفاد من أفكارهم السابقة، وأثَّر على أفكارهم اللاحقة.5 كان أعظم أعمال السهروردي هو «كتاب حكمة الإشراق»؛ في هذا الكتاب، وضع إطارَ ما أطلَقَ عليه حكمةَ «الإشراق» (في إشارةٍ إلى فكرة النور الأساسية)؛ حيث إنَّ الشرق هو المكان الذي تُشرِق منه الشمس على الأفق الداخلي والأفق الخارجي؛ حيث يُشرق نور المعرفة.6 يرى السهروردي أنَّ الكون وكل سكانه يتكوَّنون في الأساس من النور المُنبعِث من الله، الذي هو نفسه ليس إلا نورًا صافيًا ذاتيَّ الوجود. وأسفلَ الله يوجد الكون في صورةٍ هرمية مُكوَّنة من كائنات نورانية، نورُها (ومن ثَمَّ وجودُها) نابعٌ تمامًا من نور الله ومعتمد عليه. وكل كائن نوراني في هذه الهرمية السماوية يستمدُّ النورَ من فوق ويعكسه لأسفل؛ أيْ يستمدُّه من الله من خلال العوالم الملائكية إلى عالَم البشر، ثم يرسله لأسفل إلى مستويات الحيوانات والنباتات والجمادات، كما أن كل شيء في الكون يوجد كدرجة من النور المستمَد من الله، المنقول عبر هرمية الأنوار الكونية. ويرى السهرورديُّ أنَّ الهدف البشري — سواء أكان هدفَ أفلاطون في أثينا أم هدف الجنيد في بغداد — هو ارتقاءُ هذه الهرمية من خلال التواصل مع كل كائن من كائناتها النورانية واحدًا تلو الآخر. وهذه الكائنات النورانية هي ما يُطلِق عليها الأشخاصُ العاديون ملائكة، وأهمُّ مَلَك فيهم — بحسب رأي السهروردي — هو جبريل الذي نزل بالقرآن على النبي محمد، وهو «العقل الفعال» الذي ناقَشَه الفلاسفة. في هذا الصدد، نجد إعادةَ تشكيلٍ لنموذج الطريقة الصوفية المكوَّنة من أماكن على طريقِ رحلةٍ عبر مَراحل الوجود، التي هي نفسها عبارة عن أشكال من النورِ المُتزايدِ النقاء الموصوفِ في آية النور في القرآن، والتي كتب الغزالي فيها رسالةً قصيرة قبل ما يقلُّ عن قرن.
وضَع السهروردي بين العالَم المادي والعالَم الملائكي عالَمًا وسيطًا أطلَق عليه «عالَم المثال». كان هذا العالَم الذي يمتلك شكلًا ولا يَمتلك جوهرًا هو مكان التقاءِ البشر والكائنات الملائكية، وكان أيضًا المكانَ الذي يذهب إليه البشر عندما يُشاهِدون الرُّؤَى والأحلام. وكان لمكانِ الالتقاء الشفقي هذا بين الملائكة النورانية والأرواح الظِّلِّية للبشر أهميةٌ محورية في نظام السهروردي؛ ففي هذا المكان يمكن للبشر أن يبدءوا في جمع «العلم الحضوري» (أي: المعرفة الناتجة عن التجربة)، الذي اعتبره أعلى من «العلم الحصولي» (أي: المعرفة المُحصَّلة من الكتب والدروس)؛ لأنَّ المعرفة في الرُّؤَي لم تكن معلوماتٍ مكتسَبةً على نحوٍ سلبيٍّ، بل تجربة حدثت على نحوٍ نَشِط.7 وعلى نحوٍ يَجمع ما بين وصف التجارب الشخصية والقصص الرمزية لنظامه الفلسفي، وفي بعضٍ من الأمثلة المبكِّرة لكتابات نثرية مكتوبة بالفارسية، كتب السهروردي سلسلةً من «الرسائل الرؤيوية» وصف فيها اجتماعاته مع الكائنات الملائكية النورانية.8 وعلى الرغم من أن كتاباته المُذهلة قدَّمت إسهاماتٍ في مجالات متنوعة مثل المنطق وطب العيون، فإن أهم هذه الإسهامات هي إعلاؤه المعرفة المكتسَبة عن طريقة التجربة التصوفية على المعرفة الأقل شأنًا المُكتسَبة من الكتب، وهذا على الأرجح انحرافٌ جذري عن محاولة المنهج الصوفي السائد إخضاعَ التجربة الشخصية إلى سلطة التقليد، على النحو المبيَّن في القرآن والحديث وتفسيرهما النصي عن طريق الشريعة. ونظرًا لإعلانه هذه المَزاعم في حلب، إحدى القواعد الرئيسية للإحياء السُّنِّي، حيث كان كثيرٌ من الصوفيين سعداءَ بامتثاليتهم، فعلى الأرجح ليس بالأمر المفاجئ أنَّ السهروردي حُكِم عليه بالإعدام وهو في سنِّ الثامنة والثلاثين؛ فنموذجه الخاص بالمعرفة، ومن ثَمَّ السلطة، مثَّلَ تهديدًا لمركزية النصِّ القرآني المُوحَى به والعلماءِ والصوفيين التقليديين الذين كانوا مُفسريه.
على الرغم من ذلك، ومنذ وقت السهروردي نجد عددًا مُتزايدًا من الصوفيين يتجرَّءون على وصف تجاربهم الرؤيوية بتفاصيل واضحة وصادمة على الأرجح في زمنها.9 صحيحٌ أن بعض الصوفيين الأوائل قد وصفوا تجاربَهم التصوفية، كما رأينا في العراق في «كتاب المواقف» للنفَّري، وفي روايات أحلام زوجة الترمذي، إلا أن هذه الأوصاف كانت عادةً إما مُختصَرة (كما في حالة الترمذي) وإما مراوِغة للغاية (كما في حالة النفَّري)، أما الروايات النادرة الأكثر جرأةً (مثل روايات عُروج أبي اليزيد البسطامي إلى السماء)، فيَشوبُها الجدل. لكنْ بدايةً من القرن الثاني عشر، فإننا نجد أوصافًا لهذه التجارب ليست فقط أكثرَ وضوحًا، لكنها اكتسبت أيضًا مكانةً كافية بحيث تُستخدَم كدليل على كون صاحبها من أولياء الله. وقد وُصِفت روايات هذه الأحلام والرُّؤَى على نحوٍ صحيح بأنها «خطاب وِلاية» جديد، عزَّزَ عمليةَ تقديس الأولياء الأوسع نطاقًا التي سنَتناولها فيما يلي.10
على سبيل المثال: في كتاب «كشف الأسرار» الذي كتبه روزبهان البقلي (المتوفَّى عام ١٢٠٩) في جنوب إيران، يرى القرَّاء مجموعةً من الرُّؤى المُجسِّمة لله على نحوٍ مُذهل. في إحدى هذه الرُّؤى، يظهر الله أمام روزبهان في صورةِ تركيٍّ فاتحِ البشرة يَعزف على الناي نغماتٍ بكى روزبهان من حلاوتها.11 وفي رؤية أخرى، يقابل روزبهان النبيَّ محمدًا ويراه مرتديًا رداءً ذهبيًّا وعمامة ذهبية، يَجلس سكرانَ وسطَ بحرِ خمرٍ أحمر، يَغترف قدحًا تلو الآخر، وقد سقى روزبهان حتى جلَسا ثَمِلَين معًا.12 كُتِب الكثير من اليوميات التي تسرد مثل هذه الأحلام والرؤى، من بينها الأحلام المائة والتسعة، التي كُتِبت بعد قرنين على يدِ الصوفي الجزائري محمد الزواوي (المتوفَّى عام ١٤٧٧).13 الأمر المثير في أحلام الزواوي هو علاقتها بالعالَم المادي الذي تنقَّلَ خلاله؛ لأن الفترة الأشد تأثيرًا في هذه الأحلام حدثت أثناء رحلةٍ لمصر، وفي هذه الرحلة لعبت هذه الأحلامُ دورًا في إضفاءِ السموِّ على تجاربه الواعية في الأماكن التي زارها، والتأكيدِ على حقيقتها بطريقةٍ ما. وفي هذه الفترة كانت مصر تعجُّ بأضرحة الصوفيين، وكان الزواوي بعد زيارةِ تلك الأضرحة نهارًا، يعود ليلًا في أحلامه للتحاوُر مع سكَّانها من الأموات، الذين يؤكِّدون له مكانتَه العالية ويُعطونه حُللَ المكانة السماوية.

بهذه الطرق، شكَّلَ الوصف والتنظير المتزايدان للأحلام والرؤى وسيلةً لاكتساب المعرفة والسلطة، يُمكن على نحوٍ بديلٍ أن تُكمِّل أو تُعارِض المعرفةَ والسلطةَ المكتسبتَين من خلال التمكُّن من التراث النصي للتقليد. وهذا لا يَعني أن الصوفيين من خلال هذه الأحلام والرؤى رفضوا تأكيدَهم على التقليد، بل يعني أن هذه التجارب كوَّنت وسيلةً بديلة وأعلى في الغالب للوصول للتقليد، وبالطبع التفاعُل معه. وكما سيشهد عددٌ متزايد من الصوفيين في كتاباتهم، فقد كان من المُمكن لقاءُ أيِّ شيخ من شيوخ الصوفية السابقين، وحتى الأنبياء، عن طريق تلك الوسائل الرؤيوية. إنَّ ما نراه يحدث في هذا الصدد هو استخدامُ الحلمِ والرؤيةِ باعتبارهما تقنيةً ثقافية تُمكِّن الصوفيين من تجاوُزِ حدود الزمن ومعرفةِ الأمور الغامضة في النصِّ القرآني، من أجل أن يَطرحوا بوضوحٍ الأسئلةَ على رُسُل الله وجهًا لوجه. أما المشكلةُ المعرفية لهذه الأحلام — المتمثِّلة في أن الطبيعة الشخصية لهذه التجارب جعَلت مَزاعِمَ المعرفة التي قالوها بطبيعتها من الصعب التأكد منها — فتغلَّبوا عليها من خلال الاستناد إلى حديثٍ قال فيه النبي محمد: «مَن رآني فقد رآني حقًّا.» واعتُبِر معنى هذا الحديث أن الشيطان لا يستطيع أن يتمثَّل في صورة النبي؛ وهذا يعني أن مُشاهَدة النبي في أيِّ رؤيةٍ أو حلمٍ هي حقيقيةٌ بالضرورة، وباستخدام السلطة النصية لهذا الحديث، أصبحت هذه الأحلام والرؤى ذاتيةَ التأكيد. لقد رأينا زوجةَ الحكيم الترمذي تحلم بأن زوجَها أصبح من أولياء الله في وقتٍ مبكِّر في القرن التاسع، وفي الأدبيات الرؤيوية الأكثر عددًا التي تعود للقرن الثاني عشر فصاعدًا، قُدِّم قليلٌ مِن الصوفيين على أنهم مُفتقِرون إلى هذه البراهين الرؤيوية المُبيِّنة لمكانتهم العالية وحكمتهم الكبيرة.

كان هذا يَنطبق بصفة خاصة على المُنظِّر الصوفي الأكثر تأثيرًا في فترة العصور الوسطى، وربما في أي فترة أخرى، محي الدين بن عربي، المولود في الأندلس، والذي (تُوفِّي عام ١٢٤٠). وُلِد ابن عربي في مُرسية لأسرةٍ عربية من النخب تعمل في مجال القضاء، وقضى سنواتِ تكوينه بين الصوفيين في الأندلس ومنطقة شمال أفريقيا الملاصِقة لها ثقافيًّا، قبل الانتقال إلى منطقة شرق البحر المتوسط في أواخر ثلاثينياته.14 واستُقبِل هناك بجدلٍ بين العلماء وبحفاوةٍ بين الأمراء، ونظرًا لوصوله إلى سوريا بعد عقد من إعدام السُّهروردي، فقد كان أوفر حظًّا في صداقاته، وتُوفِّي في دمشق في سنٍّ كبيرة ناهَزَت الخامسة والسبعين. زعم ابن عربي — الشيخ الأعظم بين كل الصوفيِّين أصحاب الرؤى — أنه يَمتلك القدرةَ على استحضارِ أيِّ روح من أرواح الأموات أمامَه في أي لحظة، وزعم أنه تحدَّثَ بانتظامٍ إلى أرواح الأنبياء عيسى ومحمد وموسى. وفي صدًى واعٍ لنزول الوحي بالقرآن على محمد، زعم ابن عربي أنه قد أُوحِيَ إليه بكتابه الرائع «الفتوحات المكية» في أثناء طوافه بالكعبة في مكة المكرمة.15 ظهرت هذه الجرأة في كل أفكاره، وكما سنرى لاحقًا، فإن كتابته المطوَّلة عن نزول الوحي على محمدٍ، ظهر صداها عندما زعم أن الوِلايةَ أعلى مكانةً مِن النبوة، ولبَّتْ هذه النظرية جيدًا الحاجةَ إلى إعادةِ إنتاجِ سلطةٍ دينية في عصرٍ كان يُرَى فيه أنَّ النبوة انتهتْ للأبد.16 ومن جانبه، رأى ابن عربي نفسه «خاتم الأولياء» الذي تحقَّقَ في كيانه المُحيطي إبداعُ الله اللانهائي تحقُّقًا كاملًا.
بينما تمثَّلت أهمية السهروردي في التنظيم المنهجي لأفكار النور في الجيل السابق، فإن أكبر إسهامات ابن عربي هي فكرة «الوجود». فبسبب تأثيره، اندرج الاهتمامُ الصوفي السابق بالأخلاق العامة والتقوى النافلة والبحث عن معرفةٍ مُعيَّنة داخل رؤيةٍ أوسع للوجود الكوني، كان مِحور الاهتمام فيها التحقيقات اللانهائية للكائن المُبدع. لم يقدِّم ابن عربي بالضرورة مفاهيمَ جديدة، ومثل غيره من الصوفيين قبله وبعده، كتَب داخل الإطار الخطابي للتقليد الإسلامي، وكانت المواد الخام لأعماله هي القرآن والحديث والمصطلحات الخاصة التي وضعها أجيال الصوفيين الأوائل، وباستخدام هذه المصادر استكشف مضامين «الحديث القدسي» الذي قال الله فيه: «كنتُ كنزًا مخفيًّا فخلقت الخلق.» وباستخدام المصطلح القرآني «برزخ» — الذي أخذه ابن عربي على الأقل بمعنى «حائل» أو «حاجز» — كوَّنَ فكرةَ أن الوجود البشري كان في حدِّ ذاته هذا الحائل بين المادة والروح اللتَين كانتا المِحوَرين البعيدين للخلق.17
ومن ثَمَّ، كان الإنسان المكان القرآني المُسمَّى «مَجْمَع البحرين» الذي يُمكن أن تَجتمع فيه كل مستويات الوجود، وكل أشكال المعرفة، وكل التجارب المُمكنة، على نحوٍ لم يكن مُمكنًا حتى للملائكة (ولهذا السبب، أمر الله الملائكةَ بالسجود لآدم).18 وبينما لا يَمتلك كل البشر هذه الإمكانيات الرفيعة — التي تفرِّق العوام عن الأولياء والأنبياء — فإنَّ الأشخاص الذين يَمتلكون تلك الإمكانيات هم سببُ الخلق؛ لأنهم وفقًا لكلمات الحديث القدسي هم مَن اكتشفوا الكنزَ الإلهي من خلال إدراك كلِّ إمكانيات أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين. واعتمادًا على فكرة السهروردي المتمثِّلة في عالم المثال الذي يَلتقي فيه الصوفي مع عوالم الوجود الأخرى، تحدَّث ابن عربي على نحوٍ مطوَّل في الفكرة القائلة: إنه من خلال القدرة الخلَّاقة للخيال وصَل الله والبشرية كلٌّ منهما للآخر.19 ونظرًا لأنه قيل عنه إنه كان يملأ دفترًا في كل يوم من حياته الراشدة، وإن كتاب «الفتوحات المكية» وحده يقع فيما يَزيد عن ١٥ ألف صفحة، فإن حياته المهنية كانت تعبيرًا حقيقيًّا عن الإيمان بالقوة الخلَّاقة للخيال. وكانت فكرةُ «أن كل الوجود هو في نهاية المطاف وجودُ الله» في صميم فكره؛ تلك الفكرة التي تجمع معًا الاستقصاءات المتعلِّقة بالوجود الإلهي، التي رأى أنَّ التاريخ البشري بأكمله يشتمل عليها. أصبحت هذه الرؤية مُلخَّصة في مصطلح «وحدة الوجود»، على الرغم من أنَّ ابن عربي نفسه لم يستخدم هذا التعبير مطلقًا، وهذا المفهوم نوعٌ من الواحدية الكونية التي سيُلخِّصها كثيرٌ من الصوفيين الفارسيين لاحقًا في عبارة: «الكل هو الله!»
وعلى الرغم من أن هذه الأفكار قد تبدو غامضةً، فربما كان لها الكثير من الفوائد الاجتماعية الملموسة؛ على سبيل المثال: اعتُقِد أن فكرةَ وحدةِ الوجود آليةُ تَمكينٍ للتناغُم بين الأديان مع المجموعات المُختلفة التي صادَفَها المسلمون. وكثير من الشعراء (بمَن فيهم ابن عربي نفسه) قالوا إنه إذا كان الله موجودًا في كل مكان، فإنه يمكن أن يوجد في مكان عبادة الأصنام مثلما يوجد في المسجد.20 بطبيعة الحال، كان الخطر الواضح لفكرةِ أنَّ البشر مكوَّنون مما مُكوَّن منه الله هو هدمها للفَرْق بين الخالق والمخلوق، بالإضافة إلى هدم التهديد بالعقاب الإلهي الذي يقوم عليه النظام الأخلاقي. وفي حين كان ابن عربي في نظر أتباعه «الشيخ الأكبر»، كان في عيون منتقِديه «الشيخ الأكفر».21 على الرغم من ذلك، فقد انتشر فكر ابن عربي انتشارًا واسعًا على نحوٍ مذهل؛ من ناحيةٍ بسبب الزيادة التدريجية لتأثيره، ومِن ناحيةٍ أخرى بسبب جهود مجموعة من أتباعه المُجتهدين، الذين ضموا صدرَ الدين القونوي (المتوفَّى عام ١٢٧٤) في الأناضول، وفخر الدين العراقي (المتوفَّى عام ١٢٨٩) في الهند، ومحمود الشبستري (المتوفَّى عام ١٣٤٠) في إيران، ومحمد وفا (المتوفَّى عام ١٣٦٣) في مصر، وعبد الكريم الجيلي (المتوفَّى عام ١٤٠٨ أو ١٤٢٨) في العراق، ومحمد بن سليمان الجزولي (المتوفَّى عام ١٤٦٥) في المغرب.22 ومن ناحية الأفكار النظرية، إنْ لم يكن بالضرورة من ناحية التنظيم الاجتماعي ووسائل التواصُل، فإن الصوفية بعد القرن الرابع عشر كانت مَدينة على نحوٍ هائل لعمقِ تفكير وإنتاجية ابن عربي، ابن الأندلس.
حدثت هجرة ابن عربي إلى منطقة شرق البحر المتوسِّط على خلفيةِ سقوطِ مسقط رأسه مُرسية في يد مملكة قشتالة، ومِن المناسب القول بأن العقود الأخيرة من حياته قضاها بأمان في عاصمة صلاح الدين الأيوبي، قاهِر الصليبيين العظيم. وكانت الحياةُ المبكِّرة للعُظماء الآخَرين من مُنوَّعي الفكر الصوفي في هذه الفترة شاهِدةً على نحوٍ مشابه على تراجُع القوة الإسلامية؛ ففي مقابل هروب ابن عربي إلى الشرق، هرب جلال الدين الرومي (المتوفَّى عام ١٢٧٣) في صباه إلى الغرب، بسبب التقدُّم المغولي باتجاه خراسان، ليعيش في أمانِ قونية عاصمةِ السلاجقة في الأناضول. وإذا كان ابن عربي عادةً ما يُعتبَر أعظمَ مُنظِّري الصوفية، فإن الرومي يُعتبَر عادةً أعظم شعرائها.23 وبينما سنتطرَّق إلى الجوانب الأكثر أدبيةً في عمل الرومي، عندما نناقش لاحقًا موضوعَ إضفاء الطابع المحلي على الصوفية، فالمهمُّ هنا هو الطريقة التي من خلالها جعل الحبَّ محوريًّا في نسخته من الطريقة الصوفية. صحيحٌ أنَّ الرومي لم يكن على الإطلاق أولَ الصوفيين الذين طرحوا فكرةَ أهمية الحب بين البشر، بَيْد أننا لا نتعامل مع سياق ثقافي كانت تُعتبَر فيه الأصالة والابتكار من الفضائل. هذا لا يعني أن الناس كانوا غير قادرين على ابتكار أفكار جديدة، بل يَعني أنهم كمشاركين في تقليدٍ يتمتعون بالوعي الذاتي قدَّموا أنفسَهم في صورةِ مَن يَستخلِص الحقائقَ نفسها التي أدركها الأنبياء والشيوخ الصوفيون السابقون. هذا ما حدث في حالة تصوف الحب الذي قدَّمه الرومي الذي نشأ عن مناقشات قديمة عن الحب قدَّمها صوفيون؛ مثل أبي الحسن الديلمي (المتوفَّى في القرن العاشر)، وأبي الفتوح أحمد الغزالي (المتوفَّى عام ١١٢٦).24

يمكن تلخيص هذا التحول في الأفكار على أنه تحوُّل للحب من صفة مكتسَبة لا بد أن يكنَّها السالك إلى الله، إلى صفةٍ مُطلقة لله نفسه، التي مِن خلال الانهماك فيها يصل السالك إلى أبعد نقطة في الطريقة الصوفية. وعلى النقيض من السهروردي وابن عربي، لم يكن الرومي مُنظِّرًا، والسببُ في شهرته يعود إلى حدٍّ كبير إلى إنتاجه الشعري مقارَنةً بإنتاجه الفكري، على الرغم من أنه عندما استخدم أشكالَ الشِّعر السردي، كما سنرى لاحقًا، أصبح الشعر نفسه وسيلةً لنقل تعاليمه. وبينما لا يعدو الرومي عن كونه واحدًا من عدد من الصوفيين الذين طرحوا، بدايةً من القرن الثاني عشر، فكرةَ الحب باعتباره وسيلةً وغاية للطريقة الصوفية، فإنه من خلال تكوين خلفائه طائفةً صوفية أصبح الأكثرَ تأثيرًا بين متصوِّفي الحب هؤلاء. وحتى بعيدًا عن التأثير المباشِر لطائفته، فإن انتشار نَسْخ وإنشاد مخطوطات قصيدته السردية الرائعة — التي سيُطلَق عليها لاحقًا «القرآن الفارسي» — جعل كثيرًا من الصوفيين من الأناضول حتى الهند وآسيا الوسطى يَعتبرون طريقةَ الرومي في الحب الطريقةَ الأسمى (وإنْ كانت الأكثرَ غرابةً) من بين الطرق العديدة للوصول إلى الله.

ومع تنويع الصوفيين لأفكارهم في القرون التالية للقرن الثاني عشر، استمروا على نحوٍ واعٍ في الاعتماد على التقليد القديم الذي اعتبروا أنفسهم وَرَثةً له. كان الصوفيون دءوبين للغاية في محاوَلات السَّيْر على الطريقة التي وضعَتْها الأجيال السابقة التي عرَفوها من خلال سلاسلهم وسِيَرهم، لدرجةِ أن صوفيِّي فترةِ العصور الوسطى كانوا غالبًا ما يَدرُسون معاجمَ خاصةً تَسرد المصطلحات الفنية المقدَّسة.25 وكما سنرى لاحقًا، فحتى عندما بدءوا الكتابة بلُغات أخرى غير العربية — لغة القرآن ولغة الصوفيين الأوائل في العراق — استخدموا المصطلحات العربية هذه بصفتها كلماتٍ مُقترَضة في اللغات التي تتنوع في نهاية الأمر من الفارسية والتركية إلى اللغة الوُلوفية واللغة الملايوية. مرةً أخرى، فإن هذا التوجُّه التقليديَّ لم يمنع حدوثَ تطورات جديدة، ولا يَظهر ذلك على نحوٍ أكثر وضوحًا إلا في جماعات «القلندريين» (وكلمة «قلندر» تعني «الخارج عن الأعراف»)، التي تكوَّنت تقريبًا منذ القرن الثالث عشر على صورة مجموعات من الصعاليك الصوفيِّين المتجولين.26 وسواء من خلال التجوُّل عرايا، أو تعاطي المخدِّرات والخمر علنًا، أو تعذيب الأجساد بالمسامير والجنازير، رفض القلندريون عمدًا كلَّ الأعراف الاجتماعية بطريقةٍ كانت مُناقِضة تمامًا للتيار الصوفي السائد الملتزِم. وعلى الرغم من زعمهم أن الطريقة الصوفية الحقيقية تَكمن في التخلِّي عن كل شيءٍ، بدايةً من الممتلكات والاحترام وحتى العائلة والقانون، فقد استخدموا أيضًا مصطلحَي الفقر وإذلال الذات، اللذين قد أصبحا في ذلك الوقت من المُصطَلحات الصوفية التقليدية، كي يَزعموا أنهم الصوفيون الوحيدون الذين يُنفِّذون الأفكارَ النظرية عمليًّا. إذا كانت المَجازات والمصطلحات نفسها تُتوارَث، فمن الممكن أن تتغيَّر على نحوٍ كبير السُّبلَ التي تُستخدَم بها؛ فالتقليد عبارة عن مصدر مَرِن. وأوضحُ مثالٍ على ذلك هو تغيُّر الطريقة الصوفية نفسها، التي أصبحت منذ القرن الثاني عشر تشير إلى تكوينات اجتماعية لم تكن موجودةً في السابق. في الفصل الأول، شهدنا بالفعل حدوثَ تطوُّرات مؤسَّسية معيَّنة في خراسان ستجعل التقليدَ مصدرًا أكثر استقرارًا وقابليةً لإعادة الإنتاج. إلا أنه ما بين القرن الثاني عشر والقرن الرابع عشر ستَكتمِل هذه العملية من خلال الدمج المَفاهيمي والتنظيمي للطريقة في مجموعةٍ من «الطرق أو الطوائف» الصوفية. وإلى هذه المؤسسات الجديدة لا بد أن نَلتفت الآن.

(٣) إضفاء الطابع المؤسسي على الطريقة الصوفية

رأينا في الفصل الأول كيف قدَّم الصوفيون الأوائل منهجَهم في صورةِ «طريقة»، وكيف اكتسبت تلك الطريقة على مدار القرن الحادي عشر سَمْتًا رسميًّا على نحوٍ أكبر مِن خلال وضع قواعد لها، وكيف اكتسبت طابعًا مؤسسيًّا على نحو أكبر من خلال تأسيس الخانقاوات. سوف نَلتفت هنا إلى العملية التي من خلالها ترسَّخت وتوسَّعت هذه التطورات، لا سيما التطورات التنظيمية والمَفاهيمية ذات الصلة، التي واجَهَ قادةُ الصوفيين من خلالها العقباتِ الأساسيةَ المتمثِّلة في إعادة الإنتاج عبر الزمان والمكان، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بقدرٍ من الاتساق؛ من خلال تكوينِ آلياتٍ لتوحيد المُمارَسة والمعتقَد.27 رأينا بالفعل كيف أن تكوينَ إحساسٍ بوجود «تقليد» قد شجَّعَ الصوفيِّين على أن يَنظروا إلى طريقتهم باعتبارها شيئًا موروثًا عن شيوخهم، الذين عاشوا في أزمنة سابقة وفي أماكن أخرى. إلا أن إدراكَ وجودِ تقليدٍ ليس مثل وجود آليةٍ فعليةٍ له؛ فمِن الممكن أن يَعتقد المرءُ أنه ينقل تعاليمَ القُدماء دون أن يَنقلها في واقع الأمر. ما نشهد ظهورَه بين منتصف القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر هو آلياتُ التقليد الأكثر رسميةً.

هذا لا يَعني القول إن تلك الآليات لم تكن موجودةً تمامًا بين الصوفيين الأوائل، الذين كانوا غالبًا مُهتمين جدًّا بوسائل نقل المعرفة التي طوَّرها حَفَظة القرآن وجامِعو الحديث. إلا أن وسائل نقل المعرفة تلك لم تكن آلياتِ تقليدٍ صوفيةً مميَّزة؛ فبينما كانت السُّبُل الرسمية للتعليم والانتساب والتنظيم، التي شهدنا ظهورها حول نيسابور، مميَّزةً إلى حدٍّ كبير (على الرغم من أنها لم تكن كذلك على نحوٍ كامل)، فقد كانت على الرغم من ذلك وسائلَ محدَّدة نسبيًّا مختصة بشيوخٍ مُعيَّنين في أماكن معينة؛ فهي لم تكن قد تطوَّرت بعدُ لمستوى آليات التقليد القادرة على إعادة إنتاج الطريقة الموحدة والخاصة بأحد الصوفيِّين عبر الزمان والمكان. ومن أجل فعل ذلك سيَحتاج الصوفيون إلى تكوين شبكةِ توزيعٍ جغرافي أكثر رسميةً، ونظامِ توارُث عابرٍ للأجيال، بالإضافة إلى آلياتِ «وَسْم» مميَّزة على نحوٍ أكبر قادرةٍ على تمييز تقليدِ كلِّ شيخ عن تقليد الشيوخ الأخرى. وكان تكوين هذه الآليات هو السبب وراء ما يراه المؤرِّخون عادةً تكوينًا ﻟ «الطرق» أو «الطوائف» الصوفية، ذلك التكوين الذي كان إدراكه صعبًا بسبب استخدام الصوفيِّين أنفسِهم مصطلحَ «الطريقة» للإشارة إلى كلٍّ من الطريقة الصوفية المُصاغة على نحوٍ غير مُحكَم في القرون الأولى، وإلى الطرق الصوفية المنظَّمة التي تعود للفترات اللاحقة.

ونظرًا لأن المؤرخين قد اختلفوا حول وقت ظهور تلك «الطرق» ذات الطابع الرسمي (وربما حول ظهورها من الأساس)، فمن المفيد الانتباه إلى أننا نتناول في الأساس تكوينَ آلياتِ إعادةِ إنتاجِ التقليد، ووفقًا لأغراضنا على الأقل، فإن تلك الآليات الثقافية هي التي نشير إليها عند الحديث عن الطرق الصوفية؛ إذ على الرغم من أن بعض جوانب هذه الآليات كانت تنظيمية ومؤسَّسية على النحو الذي يوحي به عادةً مصطلحُ الطريقة الصوفية، فإنها حازت على التمكين، وخضعت لتأثير عمليات التقليد غير المَلموسة والأكثر تأثيرًا في نهاية المطاف على أنها آليةٌ مفاهيمية ورمزية؛ ومن ثَمَّ، يجب ألَّا نتوقَّع أن تكون الطرق الصوفية في تلك الفترة مؤلَّفةً من منظَّمات مُعقَّدة ذات أعضاء رسميِّين وهرميات إدارية فعالة. وبينما كانت تلك الطرُق بكل تأكيد أفضلَ تنظيمًا في بعض المناطق عن غيرها، فإن هذه الأنواع من التنظيمات الصوفية الأكثر تعقيدًا كانت تنتمي في الغالب للإمبراطوريات البيروقراطية في فترة أوائل العصر الحديث، التي سأتناولها في الفصل الثالث. إن غياب هذا التعقيد لا يعني أننا لا نستطيع الحديث عن طرق صوفية على الإطلاق في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر، ولا يعني عدم حدوث تطورات تنظيمية في هذه السنوات؛ بل يعني أن السبب في تماسُك أعضاء تلك الطرق عبر الأجيال والمسافات الفاصلة بينهم كان روابطَ ارتباطٍ مفاهيمية بقدر ما كانت مادية. وفي فترة العصور الوسطى، عملت تلك الطرق بالأساس كمجتمعات تنظيمية على المستوى المحلي، أو على مستوى المنطقة التي كان للسلطة القانونية أو لسلطة الاتصال المباشِر فيها فرصةُ نجاحٍ واقعية. وعندما احتاجوا إلى تقليل المسافات الكبيرة الفاصلة، سواء زمنيًّا أو مكانيًّا، اضطروا إلى العمل إلى حدٍّ كبير كمجتمعات مفاهيمية كانت فيها التبعية قائمةً على روابط الذاكرة والخيال على نحوٍ يفوق الروابط البيروقراطية والاتصال المباشِر.

ونظرًا للمدى المحدود للجوانب التنظيمية لآليات إعادة إنتاج وتوحيد التقليد، تلك التي أطلقنا عليها طرقًا، دَعُونا نتطرَّق إليها أولًا.28 شهدنا بالفعل تكوينَ رؤية رسمية جديدة للطريقة الصوفية في خراسان في أواخر القرن العاشر وفي القرن الحادي عشر، والتي منها انتشر كثير من سماتها غربًا بسبب إدارة السلاطين السلاجقة والسلاطين الأيوبيين من ناحيةٍ، وبسبب حركة الأفراد الصوفيين من ناحيةٍ أخرى. في واقع الأمر، في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر، كانت المساكن والأضرحة — التي جمَعت منها الطرقُ الصوفية أتباعَها في المدن والقرى — وسيلةً مؤسَّسية لنشر المذهب السُّني؛ إذ منَحت الديمومةَ للسياسات الدينية للحكَّام السلاجقة والأيوبيين والمماليك، الذين سعوا من الأناضول حتى مصر لتثبيت فتوحاتهم في أراضي المسيحيين البيزنطيين والشيعة الفاطميين، من خلال رعاية مؤسَّسات دائمة وسُنِّية على نحوٍ واضح، كان من بينها المساكن الصوفية.29 ما بدأ في خراسان باعتباره تحالفًا مؤقتًا بين السلاجقة البدو الحديثي العهد في السلطة، وبين طبقة صاعدة من علماء الصوفية؛ أصبح تحالفًا دائمًا ومتكرِّرًا بين الدين والدولة، سيصل في النهاية إلى منطقةٍ تمتدُّ من شواطئ البحر المتوسط حتى غابات البنغال. وحتى مع انهيار الكيانات السياسية الواسعة النطاق مع ظهور السلطنات الإقليمية والاضطرابات المتكرِّرة الناجمة عن غزوات البدو، كوَّنَ النسيجُ المفاهيمي والتنظيمي للطرق الصوفية شبكةً مميَّزة، ستَسمح للرحَّالة أمثال ابن بطوطة الشمال أفريقي (المتوفَّى عام ١٣٦٨) بالعثور على رفقاءَ يُشبهونهم في التفكير، ومساكنَ مُرحبة في بيئاتٍ مختلفة على نحوٍ مُذهِل بين المغرب والهند.30 ومن خلال الأدلة المعمارية المحدودة الباقية، يُمكننا أن نعلم أنه بحلول القرن الثاني عشر كانت بعض هذه المساكن تُشيَّد بالفعل على طراز فخم، كما نرى في التزيين الجَصي الرائع الذي بَقي على المسكن المَهيب المسمَّى رباط علي بن كرماخ (المتوفَّى تقريبًا عام ١١٨٠)، والموجود بالقرب من مدينة مُلتان في دولة باكستان حاليًّا.31

كانت عناصرُ هذه الصوفية القائمة على الطرُق الأكثر رسميةً متعدِّدة، ولم يكن يُعاد بالضرورة إنتاجُها كلُّها معًا. كانت أهم تلك العناصر هي «العُقدة» (أيْ رابطة الولاء) بين الشيخ والمريد التي تُعقَد عن طريق القَسَم، وهي علاقة اكتسبت صفةً رسمية في بعض الحالات، من خلال وجود ميثاق «قواعد» يتعيَّن على المريد طاعتها. وقد ارتبطَت سُلطة الشيخ وقواعد المريد بإنشاءِ مجمَّعات سكنية معينة، أصبحت مع انتشارها في مناطق مختلفة تُعرَف بأسماء متعددة هي «الخانقاوات»، و«الرباطات»، و«الزوايا»، و«التكايا». وبدأ يظهَر بين مُريدي الشيوخ أو ساكني المساكن الصوفية في السابق إحساسٌ بالهُوِية الجمعية، دعمَتْه قواعد الرفقة الاجتماعية أو «الصُّحبة» وطَقس الانضمام «البيعة». وحاز كلُّ تطور من هذه التطورات بدوره على الإجازة من خلال ارتباطه بالتقليد، ذلك التقليد الذي كان فيه الماضي المتذكَّرُ من خلال النصوص المكتوبة والروايات المُتناقَلة دعامةً للحاضر. ما نرى حدوثه هنا من خلال تأسيس الطرق في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، كان إلى حدٍّ ما ترسيخًا وتوسيعًا ﻟ «نموذج نيسابور» للطريقة الصوفية، الذي رأيناه في الفصل الأول. وبوجه أكثر خصوصيةً، فإننا نشهد عملية «وسم» لنُسَخ متميِّزة من هذه الطريقة الأكثر رسوخًا، وإعادة إنتاجها من خلال «كيانات» تحمل أسماء مؤسِّسيها المزعومين، وتوزيعها على «العملاء المناصِرين».

انطوَتْ عملية «الوسم» أو التمييز التخصيصي للطرُق المميَّزة على مكوِّنات عديدة؛ فأصبحت القواعد أكثرَ تفصيلًا وتعقيدًا، ممَّا أدى إلى تكوين نوع جديد من الكتُب، وهو «كُتب آداب المريدين»، الذي لم يَقتصر الهدف منه على ضمان التربية الصحيحة للملتحقين بالطرق، بل عمد أيضًا من خلال تقديمه في صورة دليل تربوي إلى توحيد هذه التربية.32 وتكوَّنت ممارسات الطرق المختلفة عن طريقة اختيار وسائل معينة للذِّكر (بعضها جهري، والبعض الآخر سرِّي)، وأساليب محددة للمراقبة، وطقوس محددة للانضمام إليها. ووُضِعت آليات جديدة لتمييز الهُوِية الجماعية للأعضاء من خلال تعديل المظهر الخارجي، سواء من خلال ارتداءِ رداء ملوَّن يُعرف باسم «الخِرقة»، أو حلقِ الرأس، أو ارتداءِ أقراط، أو حمل أشياء مميزة. وهكذا، فإن غياب الوسائل غير الشخصية والرسمية للتنظيم الجماعي عوَّضته مظاهرُ التعريف الشخصي وغير الرسمي، التي كان يقوم بها أعضاءُ طريقة معينة. وفي مظاهر تعريف ذاتي مشابهة، أدرج المريدون أنفسَهم في سلاسل البدء التي امتدت من شيوخهم وحتى الأجيال الموصوفة في كُتب الطبقات؛ ومن ثَمَّ إلى النبي محمد نفسه. أما الحدود مع الطرق الصوفية الأخرى فلم يحدِّدها المظهر الخارجي فحسب، بل حدَّدتها أيضًا التوجُّهات المختلفة تجاه المال أو الموسيقى أو حتى تعاطي المخدِّرات. وارتبطت الممتلكات المكتسَبة من خلال الرعاية بطرُق صوفية معينة، كوَّنت أماكن إقامة أو اجتماع لمريديها، وأصبحت في المدن الكبرى تشمَل مساكن خاصة بالصوفيات.33 وبدأ الشيوخ في تعيين «خلفاء» (أيْ نواب) لهم لزيادة نشر طريقتهم الخاصة. ومع رأس المال الرمزي المتمثِّل في السلطة، ورأس المال المادي المتمثِّل في الممتلكات، بدأت أنظمة التوارُث في الظهور أيضًا، وفيها نافَسَ حقُّ الميلاد الانتسابَ كوسيلةٍ مناسبة للإرث.
منحَت هذه التطوُّراتُ الصوفيين آلياتِ التناسُخ الأفقي والرأسي التي سمحت لهم بالتوسُّع في مناطق جغرافية جديدة، وسمحتْ أيضًا بالاستمرار بعد وفاةِ شيوخٍ معيَّنين. أما تكوينُ شبكات من النواب فقد مكَّن الطرقَ الصوفية من الانتشار في مناطق جديدة، في حين سمح التعرُّفُ على وَرَثتها بالاستمرارية من جيلٍ إلى آخَر. ومن الناحية النظرية — لكن ليس دائمًا من الناحية العملية — حقَّقَ أسلوبُ التعلُّم القائم على العلاقة بين الشيخ والمريد وقراءة ما يُعرَف بكتب آداب المُريدين، قدرًا من التوحيد في المُعتقَدات التي كان يعتنقها أعضاء الطريقة الواحدة، وكذلك المُمارَسات التي كانوا يُمارسونها؛ وذلك عبر المسافة الفاصلة بين الأجيال والمناطق الجغرافية. مرةً أخرى، إن ما نَشهده في هذا الصدد هو التطور المُستمر لتقليدٍ يتَّسم بالوعي الذاتي، كان فيه اتباعُ الماضي والجماعة معيارًا أكثر أهميةً من الابتكار والفردية. وحتى عند السعي وراء التجربة التصوفية، كان السعْيُ لها وفهْمُها يتمَّان داخلَ إطارِ ما فهم الصوفيون أنه يُمثِّل الممارسات والأطُر المفاهيمية الراسخة منذ زمن طويل. لم يحقِّق أيٌّ من هذه التطورات تأثيرًا فوريًّا، ونظرًا لكونها نشأت في أزمنة مختلفة بين طرُق مختلفة، فلا يُمكن تحديد تاريخ محدد لظهور أيٍّ منها. ونظرًا لكون الطرق الصوفية آلياتٍ للتقليد في الأساس، فقد تطوَّرت بالضرورة عبر الزمان؛ ومن ثَمَّ كان كلٌّ من ترسيخها وتوسُّعها عمليةً متعدِّدةَ الأجيال بطبيعتها، اعتمدت فيها الأجيال المختلفة بعضها على بعضٍ في لعب أدوار مميَّزة لكنها ضرورية، كمؤسِّسين ومحافظين ووَرَثة وموزِّعين. وسيكون من السهل اعتبار الرجال الذين سُمِّيَت كبرى الطرق الصوفية على أسمائهم المؤسِّسين الحقيقيِّين لتلك الطرق؛ ومن ثَمَّ تأريخ ظهورها وفقًا لحياتهم الفعلية، وهؤلاء الرجال هم: أبو نجيب السُّهروَرْدي (المتوفَّى عام ١١٦٨)، وعبد القادر الجيلاني (المتوفَّى عام ١١٦٦)، وأحمد بن الرفاعي (المتوفَّى عام ١١٨٢)، وأحمد يسوي (المتوفَّى نحو عام ١١٦٦)، ونجم الدين الكُبرى (المتوفَّى عام ١٢٢١)، ومُعين الدين الجشتي (المتوفَّى عام ١٢٣٦)، وأبو الحسن الشاذلي (المتوفَّى عام ١٢٥٨)، وجلال الدين الرومي (المتوفَّى عام ١٢٧٣)، وبهاء الدين نقشبند (المتوفَّى عام ١٣٨٩). وفي حالة بعض هؤلاء الرجال، نَمتلك أدلةً على وجود أنواع جديدة من الأنشطة التنظيمية، لكنَّنا في العموم نرى رجالًا حقَّقوا من خلال الكتابة أو الوعظ شهرةً وتبعيةً في حياتهم ورثهما مُريدوهم، وفي أغلب الأحيان عائلاتهم، وحافظوا عليهما بعد وفاتهم.34 فهم ليسوا مجرَّد مؤسِّسين لطرقٍ دام بعد ذلك وجودها المستمر عبر الزمان، بل من الأفضل رؤية هؤلاء «المؤسِّسين» باعتبارهم رجالًا جمعوا المصادر — سواء الرعاة والمُمتلكات أو التعاليم والجاذبية — التي يُمكن توارُثها واستخدامها من قِبَل خلفائهم لتأسيس الطرُق التي سُمِّيت على أسمائهم؛ ولذلك أصبحوا مؤسِّسين فقط عبر الزمن عندما حدَث الربط بينهم وبين ما تكوَّن مِن إرثهم، وما بقي بعد وفاتهم على يد الأجيال اللاحقة التي رأى أفرادُها أنهم أتباعُ طريقةِ «الشيخ المؤسِّس».35
على سبيل المثال: دَعُونا نُلقِي نظرةً على إحدى أهم الطرق التي ظهرت في القرن الثاني عشر من التربة الخصبة في بغداد. هذه الطريقة هي الطريقة السُّهروردية، التي سُمِّيت على اسم أبي نجيب السهروردي (المتوفَّى عام ١١٦٨)، الذي يُعَد أحد الصوفيين المهمين العديدين، الذين نشئوا في بلدة سهرورد الإيرانية. الأمر المدهش على نحوٍ مباشِر في هذا الشيخ هو شبهه بالشيخ الغزالي الذي رأيناه في الفصل الأول يستفيد من رعاية السلاجقة للمدارس؛ ليُروِّج علنًا لنموذج ملتزم من الصوفية مكَث بأريحية في إطار الأعراف الفكرية والمؤسَّسية لزمنه.36 وعلى الرغم من أن الحياة العامة لأبي نجيب كانت أكثر تقلُّبًا من حياة الغزالي، فقد شغل منصبًا مهمًّا كان يُدرِّس فيه الفقهَ في المدرسة النظامية الكبيرة في بغداد، وبعد أن فقد منصبَه بسبب خلاف سياسي استمرَّ في تدريس دراسات الفقه والحديث في مدرسةٍ أسَّسها هو بالقرب من المسكن الصوفي خاصته في المدينة. كان أبو نجيب شخصية عامة مشهورة في زمنه (فقد كان واعظًا مشهورًا ورفيقًا للخلفاء أيضًا)، وبالإضافة إلى كتاباته عن الحديث، فقد اشتُهِر بسبب نسخته من نوعية كتب آداب المريدين الصوفية التي شهدنا تكوُّنها في الفصل الأول؛ ففي كتابه الذي حمل عنوان «كتاب آداب المريدين»، أظهرَتْ مقدمتُه لحياة الصوفيين اهتمامًا قليلًا بالصوفية كمعتقدٍ ما ورائي وتجربةٍ تصوُّفية، وركَّزت بدلًا من ذلك على السلوك الخارجي أو الآداب المفترض أن يتَّبعها المريدون.37 وبالنسبة إليه، كان جمع حلقةٍ من المريدين في الأساس وسيلةً للتربية على أعراف السلوك الإسلامي التقليدية، وهذا لا يشير إلى تاريخ التصوف قدر ما يشير إلى تاريخ الأخلاق. وبينما سيعتبر المريدون المتأخِّرون أبا نجيب مؤسِّسَ الطريقة السهروردية، فإنَّ تلك الطريقة كانت حقًّا إلى حد كبير مشروعَ وَرَثتِه (لا سيما ابن أخيه أبو حفص عمر السهروردي المتوفَّى عام ١٢٣٤)، الذين استطاعوا الاستفادة من المصادر التي ترَكها لهم أبو نجيب في صورةِ حلقةٍ من المؤيدين المؤثِّرين، وكتابٍ للآداب، وسمعةٍ ذائعةِ الصيت بالتقوى. ونظرًا لوراثة عمر السُّهروردي لجزءٍ من الشهرة العامة من عمِّه، فقد دخل مثله الأوساطَ السياسية، وأصبح كاتمَ أسرارٍ مقرَّبًا جدًّا من الخليفة العباسي الناصر (الذي حكم من عام ١١٨٠ إلى عام ١٢٢٥)، ورسولَه السياسي الرسمي، واستعان به في تنفيذ مشروعه الخاصة بتربية شباب بغداد الجامح في تنظيمات «فُتوَّة» كانت تُشبه كثيرًا في طابعها الطرق الصوفية الناشئة نفسها.38 عندما وجد عمر نفسه محاطًا بحلقة كبيرة من الأتباع، ومدعومًا بالمعجَبين في البلاط الملَكي، كتَب مثل عمه كتابًا عن آداب المُريدين، كانت فيه الواجباتُ والمُعتقَدات الواجبة على المُريدين مذكورةً بقدرٍ أكبر بكثير من التفصيل، مُقارَنةً بما كان عليه الحال في الآداب القديمة التي وضَعها أبو سعيد والأنصاري منذ قرن ونصْف مضيا في خراسان.39 وكان عمر، وليس عمه أبا نجيب، هو مَن وضع الأُسس التنظيمية والمفاهيمية للطريقة السهروردية؛ من خلال تأسيس شبكة من المساكن، والدفاع عن الصوفيين بصفتِهم الوَرَثة الشرعيين الوحيدين للنبي محمد.40 بالرغم من ذلك، كان التأسيس في بدايته فحسب، واحتاج إلى الجيل التالي من الأتباع، لا سيما نجيب الدين برغش (المتوفَّى عام ١٢٧٩)، وبهاء الدين زكريا (المتوفَّى عام ١٢٦٢)؛ لنشر الطريقة شرقًا إلى إيران وشمال الهند.41 وسيَلعب كل جيل من الأجيال المتعاقبة دورًا في ترسيخ المَصادِر الرمزية والمادية للطريقة والمساهمة فيها، فيكبرون جاذبية مؤسِّسها، ويَحشُدون الرعاة من أجل تأسيس مساكن جديدة.
عندما أدَّى استيلاء المغول على بغداد عام ١٢٥٨ إلى إنهاء نظام الخلافة الإسلامية بعد ستة قرون مِن ترسيخه، كانت شبكة المريدين المُنتسبِين لطريقة السهروردي تَنتشر بالفعل انتشارًا واسعًا، وعلى الرغم مِن أن عُمَر السهروردي لم يُشِر بنفسه إلى خلفائه بلقب «خليفة»، فإنه في طريقته وغيرها من الطرُق المشابهة، وفي غضون بضعة أجيال، سوف يُطلِق نوَّاب وَرَثته على أنفسهم هذا اللقب بالتأكيد.42 وعلى الرغم من أنه لم يَعُد يوجد خليفة واحد في بغداد، فقد أصبح يوجد الآن الكثير مِن هؤلاء الخلفاء في عدد متزايد من المدن، من المغرب إلى الهند، وانتسابُ هؤلاء إلى «سلسلة» طرُقهم قدَّمَهم في صورةِ ناقلين جذَّابين يَرتبطون مباشَرةً بالنبي محمد، وقد كانت سلطتهم تظهَر من خلال ارتداء أردية مميَّزة.43 وعلى الرغم من أن سياق «المؤسِّس» كان مكوِّنًا مهمًّا لأي طريقة، فإن سياقات أجيال الوَرَثة القليلة الأولى، التي أعادت إنتاجَ تراثِ المؤسِّس وشكَّلَتْه بفاعلية، كانت من ثَمَّ أكثر أهميةً، في إشارةٍ إلى السبيل الذي من خلاله ظهرت الطرق المُنتشرة في عدة مناطق، والممتدة لعدة أجيال مثل الطريقة السهروردية نتيجةً للتفاعل التنظيمي والمفاهيمي بين أزمنةٍ وأمكنةٍ مختلفة؛ على سبيل المثال: عند تأسيس أحدِ مريدي عمر السهروردي، الذي يُدعَى بهاء الدين زكريا، الطريقةَ التي يَنتمي إليها في مدينة ملتان البعيدة، الواقعة في شمال الهند، جلب معه مكانةَ بغداد، التي كانت أكثر قوةً، على الرغم من بُعْد المسافة الجغرافية الشاسعة. ومن خلال أدوات طريقته، جلَب معه أيضًا آليات الالتحاق والتربية مِن أجل إعادةِ إنتاجِ بركةِ وسلوكِ أشهر الأولياء في سلسلة الطريقة.
إن النظر للطرق الصوفية باعتبارها نتاجَ عملِ فردٍ عبقري، وليس نتاجَ عملية جماعية، لا يُقلِّل منها، بل هو إشارة إلى الطبيعة الجماعية للاستثمارات العاطفية والعمَليَّة التي سمحت للطرُق بالعمل بكفاءة شديدة في نشر الصوفية في مناطق جديدة. والسبب في ذلك يَرجع إلى أنَّ عمليات الالتحاق والطقوس والتعاليم — التي يدخل من خلالها أيُّ مريد جديد إلى طريقة ويتماهى معها — كانت بطبيعتها قابلةً للنقل وإعادة الإنتاج، ممَّا سمح لخلفاء الطرق بالانتقال إلى مناطق جديدة، وتأسيس ما يُمكن أن نسميه «فروعًا» جديدة للطرُق. في بعض الحالات، عندما كانت توجد أنماطُ اتصالٍ مُنتظمة امتلكَت تلك الشبكات قدرًا من التماسُك التنظيمي الملموس، خاصةً عبر طرُق التجارة والحجِّ، أو داخل المناطق الجغرافية أو السياسية المحدَّدة بدقة. إلا أنَّه في معظم الحالات كان مؤسِّسو ووَرَثة تلك الفروع هم شيوخ أنفسهم، وكانت الطريقة بالنسبة إليهم مصدرًا لإعادة إنتاج أنفسِهم أكثر ممَّا كانت تَسلسُلَ قيادةٍ تنظيمية يَخضعون لها. مرة أخرى، يلزم أن نتذكَّر أنه في هذه الفترة قدَّمت الطرق آليةً ثقافيةً مفاهيمية بالقدر نفسه الذي قدَّمت به هيكلًا تنظيميًّا ملموسًا. ومن خلال وسائل مشابهة خاصة بتوافُق الأجيال المتعدِّدة، ظهرت الطريقة القادرية المُسمَّاة نسبةً إلى واعظ عام صوفي يُدعَى «عبد القادر الجيلاني» (المتوفَّى عام ١١٦٦)، والذي كان من بغداد، التي كانت متخيَّلة قدرَ ما كانت حقيقية، وانتشَرت بعد قرن من نهاية الخلافة إلى سوريا ومصر واليمن، ثم انتشَرت في القرون اللاحقة في الهند وجنوب شرق آسيا وأفريقيا.44
نظرًا لأن «السلسلة» التي كان يَنتسب إليها المريد الجديد عند التحاقِه بالطريقة كان يُعتقَد أنها تُكوِّن قناةً ما ورائية تنقل بركة النبي محمد، سواء في أدغال الهند أو في سهوب تركستان؛ فقد قدَّمت الطرق وسيلةً للمُريدين كي يَعتبروا أنفسهم — على نحوٍ ذي مغزًى — مُرتبطين بتعاليم وبركة نبيٍّ عاش منذ قرون بين أشخاص غرباء أقاموا على بُعْد آلاف من الأميال. وحتى في المناطق القريبة من المدن المقدَّسة في شبه الجزيرة العربية مثل مصر وسوريا، جعلت الأمية الجماعية تحصيلَ المعرفة الدينية منشودًا من خلال الأشخاص وليس من الكتب، وقدَّمت الطرُق الآلياتِ التي من خلالها يستطيع الناس أن يُقرِّروا أي المسلمين همُ الوَرَثة الشرعيين للنبي محمد. وإذا كانت النظرية القائلة بظهور الطرُق الصوفية ردًّا على إنهاء المغول للخلافة عام ١٢٥٨ تُولي أهميةً كبيرة لما كان بالفعل مؤسَّسةَ خِلافة غير فعَّالة منذ زمن، وبالنسبة إلى معظم المسلمين بعيدة للغاية، فإنه في ظلِّ غياب مؤسسة تُضاهي الكنيسة في المسيحية منحَت الطرُق الصوفية المسلمين العاديين المنضمِّين لها كلًّا من الإطار المفاهيمي والإطار المؤسَّسي، اللذَين من خلالهما ربطوا أنفسهم بمجتمع المؤمنين المُعاصر، وبتقليد الأسلاف المباركين الماضي.45 ومن خلال تجسيد جاذبية وتعاليم النبي محمد في الوجود المادي لشيخ حيٍّ يُمكن للمرء التحدُّث معه ومصافَحة يده عند التعهُّد بالالتحاق بطريقةٍ ما، ومِن خلال توفير أضرحة للزيارة كانت أقرب كثيرًا من مكة، تمكَّنَ مُمثِّلو الطرُق الصوفية المحليون من إلغاء المسافة الزمنية والمكانية والثقافية التي فصلَت مُسلمي فترة القرون الوسطى عن زمن النبي محمد وموطنه البعيدَين. إن ما كانت تنقُله الطرق في نهاية المطاف هو الإسلام نفسه، وهي عملية تُصبح أكثر وضوحًا عندما نضع في اعتبارنا أنَّ أولى مُتطلباتها كانت في الغالب هي الالتزام بالمُعتقَدات والمُمارسات الرسمية للإيمان.
fig14
شكل ٢-٢: بناء الطرق الصوفية: صورة تعبُّدية لعبد القادر الجيلاني (المتوفَّى عام ١١٦٦) (الصورة من مجموعة صور المؤلف).
من العناصر المذهلة في عملية نقل التقليد هذه الأسلوبُ الذي من خلاله نشرت الطرقُ المُعتقَداتِ والممارسات التي نشَأت في الأصل في «مراكز الإنتاج» الصوفية المُبكِّرة في العراق وخراسان، وأعادت إنتاجها في أماكن بعيدة مثل الهند وأفريقيا وتركستان وأرخبيل الملايو. لم تكن هذه العملية سريعةً على الإطلاق (إنها في الواقع مُستمرة حتى يومنا الحاضر)، ولم تكن كذلك عملية موحَّدة. ولكي نأخذ فكرةً عن طريقة عملها، دعونا نُلقِي نظرةً على مثالِ انتشارِ الطريقة الجشتية في الهند. تكوَّنت هذه الطريقة المُسمَّاة على اسم بلدة جشت الخراسانية (الموجودة في أفغانستان حاليًّا)، التي نشأت فيها على نحوٍ فعَّال مِن التراث الذي تركه مُعين الدين الجشتي (المتوفَّى عام ١٢٣٦)، الذي هاجر في أعقاب غزوات الغوريِّين في تسعينيات القرن الثاني عشر إلى أجمير في منطقة راجستان الواقعة غرب الهند.46 وفي غضون قرن بعد وفاة مُعين الدين نشَرَ وَرَثتُه في الأجيال القليلة التالية طريقتَه على نطاقٍ جغرافي هائل، مُتَّبِعين توسُّعَ سلاطين دلهي ليكونوا فروعًا من طريقتِهم في أماكن بعيدة؛ مثل: راجستان والبنجاب ودلهي والبنغال وهضبة الدكن.47 هذا النسَق من التوسُّع الحدودي جعل الجشتيِّين يتمركَزون ليس فقط في المناطق التجارية والإدارية في المدن الهندية، ولكن أيضًا — بعد حصولهم على مِنَح على هيئة أراضي زراعية — في البيئة الزراعية المُتزايدة في الغابات التي أُزِيلت.48 وكان تأثير الجشتيِّين في هذه البيئات المتنوعة متنوِّعًا بالتبعية؛ فبين غير المسلمين من السكان القبليِّين وساكني الغابات في المناطق الزراعية، أثار تقديم الجشتيِّين للمؤسَّسات الإسلامية — كجزء من حزمة جمَعت بين الزراعة في الأراضي المملوكة لهم والتجارة في موالد شيوخهم — عمليةَ تحوُّل إلى الإسلام؛ من خلال التكيُّف الثقافي التدريجي للمزارِعين مع الأعراف الإسلامية في المأكَل والملبَس والقانون والتسمية وكذلك العبادة.49 وعلى النقيض مِن ذلك، في أوساط النخب من التجَّار والإداريين المسلمين في المدن، قدَّمَ لهم الجشتيون الإرشاد الأخلاقي باعتبارهم علماء في القرآن والحديث، علاوة على ذلك، وكما سنرى في القسم القادم، فقد شجعوا الشعراء والبيروقراطيين في سلطنة دلهي على كتابة تعاليمهم وتحويل المفاهيم الإسلامية إلى مصطلحات مفهومة محليًّا.50 وقد خلَّدت أضرحة الشيوخ الجشتيين الراحِلين، التي كانت تستمدُّ استمراريتها من الخانقاوات الخاصة بها، وجودَهم المادي عبر الزمن، وجعلتهم قبلة للزيارة. وبوضع تلك الأضرحة لأساس أشكال تعبُّدية جديدة من الإسلام، فإنها جعلت الصوفيين في بعض النواحي أكثر أهميةً في موتهم عنهم في حياتهم. ومع مرور الأجيال تكوَّنت هذه المُمارسات التعبُّدية، ليس فقط حول أضرحة الصوفيين الجشتيِّين، بل أيضًا حول أضرحة الكثير من الطرق الأخرى في الهند. وأسفَرَ ذلك عن تكوين نسخةٍ محلية مميَّزة من الإسلام كانت مَدينةً في وجودها إلى الطرق التي منحَت الصوفيين — من خلال الحفاظ على الأضرحة، وإقامة الموالد، وتخليد سِيَر الأولياء — وجودًا دائمًا في المشهد الاجتماعي، حتى بعد موتهم. ولقد أثَّرت الطريقة الجشتية في البيئة الهندية وتأثَّرت بها أيضًا، وقدَّمت طريقتها باعتبارها نوعًا مميزًا من الصوفية جعلتْه السماتُ التي تميِّزه مختلفًا عن الطرق الأخرى التي دخلت الهند. وفي هذا الإطار، استخدموا الموسيقى، وكَرِهوا تكوين علاقات مع السلطة، وأظهَروا انفتاحًا في التعامُل مع الهندوس، ممَّا جعل طريقتهم جذَّابة لبعض المسلمين في الهند وغير جذَّابة للبعض الآخَر.51 وعلى الرغم من أن الطريقة الجشتية في القرن الثاني عشر كانت تتكوَّن ممَّا لا يزيد عن تجمُّع من الرجال في قرية جشت الجبلية نفسها، فمن خلال تناسُخها بين أجيال خلفائها المهاجرين تمكَّنت في منتصف القرن الخامس عشر من إنشاء مراكز لها تقريبًا في كل المدن والبلدات الصغيرة الموجودة في شبه القارة الهندية.
تبدو صورتنا عن الطريقة الصوفية مختلفة كثيرًا إذا التفتْنا إلى حالة الطريقة الخواجكانية النقشبندية في آسيا الوسطى.52 وبينما ظهَرت الطريقة الجشتية في الهند في فترة توسُّع الحكم الإسلامي، فإنَّ شيوخ الخواجكانية (الذين سيُدمَج تقليدهم لاحقًا في الطريقة النقشبندية الأكثر شهرةً) ظهروا على النقيض من ذلك بعد وفاة الشخص «المؤسِّس» للطريقة؛ عبد الخالق الغجدواني (المتوفَّى عام ١٢٢٠)، في القرن الذي شهد حكم المغول الوثنيِّين لآسيا الصغرى في الفترة ما بين عشرينيات القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر. وفي حين كان الجشتيون يؤسِّسون مساكنَ رسميةً بارزة اجتماعيًّا مدعومة من النخب المسلمة في البلدات الهندية؛ فإنه نظرًا لعمل الأعضاء الأوائل في الطريقة الخواجكانية في منطقةٍ يحكمها غيرُ مسلمين، فقد كانوا يضمُّون على الأرجح «الفقراء المهذَّبين»، الذين تربَّوا على مقت أصحاب الثروات والمناصب العليا واتِّباع ممارسة «الخَلوة في الظاهر»؛ أيِ اعتزال الناس إلى حدٍّ كبير.53 سعت الخواجكانية إلى زيادة أتباعها من خلال النقد الشديد للجماعات الصوفية الأخرى؛ فقدَّمت مُنافسيها في صورة المنحلِّين أخلاقيًّا، وقالت إنَّ امتلاك الخانقاوات يُعدُّ دليلًا على الاهتمام بالأمور المادية.54 وبطبيعة الحال، يجب أن ندرك أن ادعاءات الخواجكانية النقشبندية على منافسيها كانت استخدامات استراتيجية خطابية وليست أوصافًا حقيقية موضوعية، وقد بذَل المؤرِّخون محاولاتٍ مُضنية لوضع تسلسل للأحداث من المصادر المُشكَّك فيها على نحوٍ مُتبادَل، الخاصة بهذه الفترة. على الرغم من ذلك، يبدو في العموم أنه مع تحسُّن الظروف بعد تحوُّل المغول إلى الإسلام، ووسط ازدهار وانهيار سلسلة مُضطربة من الدول الإسلامية القبلية، ظهرت طريقة أكثر تنظيمًا وتفاعلًا اجتماعيًّا استحوذت تدريجيًّا على أتباع الخواجكانية ومكانتها، واحتوتها بطريقة مُماثلة لتلك التي احتوى بها الصوفيون في السابق الكرَّاميِّين في خراسان.55 وتحت قيادة «المؤسِّس الثاني» للطريقة بهاء الدين نقشبند (المتوفَّى عام ١٣٨٩)، وبصفةٍ خاصة تحت قيادة وَرَثته في الأجيال القليلة التالية، غيَّرت الطريقة الخواجكانية النقشبندية الجديدة هذه موقفَها العقائدي جذريًّا، وأصبحَت تسعى حثيثًا إلى تكوين علاقاتٍ مع القادة السياسيين، وتشجِّع على اكتساب الثروة، وأصبحتْ ترى هذا الأمر علامةً على فضل الله على أوليائه.56 ومن خلال مجموعات علاقات مع حكام آسيا الوسطى الضعفاء، الذين كانت تقاليدهم وشرعيتهم في ذلك الوقت أقلَّ عمقًا من تقاليد وشرعية شيوخ الطريقة الخواجكانية النقشبندية الموجودة منذ أمد طويل؛ وصَل فرع الطريقة الذي يقوده عُبيد الله أحرار (المتوفَّى عام ١٤٩٠) إلى مكانة هائلة؛ حيث أصبح أكبر مالك للأراضي في آسيا الوسطى. وفي إجراءٍ عملي لصناعة التقليد خضَع ضريح «المؤسس الثاني» بهاء الدين نقشبند للتجديد في هذه الأثناء.57 وفي الوقت نفسه، حافظَت الطريقة على «أسلوبها» المميَّز؛ إذ اعتمدت على نحوٍ كبير على الشريعة، وانتقدت الاستخدامَ الديني للموسيقى، وروَّجت الأشكالَ الخاصة بها من الذِّكْر السرِّي.

كانت الجشتية والنقشبندية الخواجكانية طريقتَين صوفيتين مختلفتين؛ وقد تبَّنتا نتيجةً لذلك مناهجَ مختلفة جدًّا في التعامل مع المسائل الأساسية المتمثِّلة في الثروة والتنظيم والممارسة والمُعتقَد. فتجنَّبت الأولى الحكَّام، وسعت إلى الله من خلال الموسيقى، وتقبَّلت الهندوس؛ في حين كوَّنت الأخرى علاقاتٍ مع الحكام، وأدانَتِ الموسيقى، وحثَّت بانتظام على الجهاد ضد الكفار. وفي الوقت نفسه، فقد اشتركَت هاتان الطريقتان في النسيج التنظيمي والمفاهيمي الأساسي، المتمثِّل في وجودِ سلسلةٍ ذات جاذبية كبيرة مُنحدرة من النبي محمد. في كلتا الحالتين، كانت تُستخدم تلك السلسلة لتكوين رابطة من «المريدين المتَّبعين لشيخ»؛ من خلال طقوس الالتحاق، والبيعة للممثِّل الحي للنبي محمد، والأولياء الذين تدفَّقت بركتهم عبر مئات السنوات وآلاف الأميال من خلال السلاسل الخاصة بهم لتصل إلى مريديهم، سواء في الهند أو في آسيا الوسطى.

فيما بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر، اخترقَت الطرُق الصوفية مجتمعات بعيدة؛ مثل إسبانيا وموريتانيا في الغرب، والبنغال وتركستان في الشرق، مع تركُّزها الشديد في المناطق الوسطى التجارية الثرية في مصر وسوريا.58 وفي المناطق الكثيرة التي ازدهَرت فيها تلك الطرق، قادتها الظروف المحلية إلى تبنِّي طرق وأساليب متنوعة؛ مثل طرُق وأساليب الخواجكانية النقشبندية والجشتية. إلا أنَّ كل طريقة تشاركت في السمات الأساسية نفسها التي وصفناها، المتمثِّلة في آليات التناسخ والتوحيد التي مكَّنتها من الاستمرار والتوسع، مع الحفاظ على الاتساق ذي المعنى الذي تعتزُّ به باعتبارها تقليدًا خاصًّا بها. وعلى الرغم من الاختلاف الشديد لتاريخ كل طريقة، فمِن المُمكن القول إنه في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والخامس عشر أدَّت عملية تكوين الطرُق المتعدِّدة الأجيال إلى نسق عام من التنظيم الأكبر والأكثر مركزيةً بحلول القرن الخامس عشر، يفوق ما كان موجودًا في القرون الأربعة السابقة عليه. في الفصل التالي، سوف نعاود الالتفات إلى الطرق الصوفية؛ لنرى كيف استجابت للتطور المتمثِّل في المجتمعات الأكثر تنظيمًا ومركزية في ظلِّ إمبراطوريات فترة أوائل العصر الحديث التي غَزَتْ معظم العالَم الإسلامي بعد القرن السادس عشر. أما الآن، فلا بد أن نَلتفت إلى ثاني أكبر عملية ميَّزت فترة العصور الوسطى بعد تنظيم الطرق، وهي عملية تبجيل الشيوخ الصوفيين باعتبارهم أولياء.

(٤) تقديس الأولياء

كان شائعًا في السابق أن يُناقش المؤرِّخون تطوُّر الفكر الصوفي، والطرق والمساكن الصوفية التي نَما من خلالها، دون الإشارة إلى تحوُّل الصوفيين البارزين إلى أولياء. في الواقع، كانت هذه العملية تُعتبر في وقتٍ ما عمليةً منفصلة تمامًا تنتمي لفترة تدهوُر لاحقة، تحوَّل فيها «التصوف» إلى «دجل».59 لكن نتيجةً لأبحاث جديدة أُجريت على مدار العقود القليلة المنصرمة، فإنه مِن الواضح أن القول بالتدهور لا يُناسب الحقائق كما تظهر حاليًّا. فكما رأينا في الفصل الأول، ومن حيث النسيج العقائدي للفكر الصوفي، كانت فكرة كَون صوفيِّين بعينهم «أولياء» لله — وهي علاقة مُقدَّرة سلفًا على الأرجح، وتمنح بالتأكيد معرفة وقدرات خاصة — مثارَ جدل منذ الفترة المبكِّرة، وفي بعض الأحيان كان يَحتدم الجدل القائل بوجود خطر كبير بالفعل في اكتساب هذه المَكانة في هذه الفترة المُبكِّرة.60 وقد كتبتْ شخصية مثل الجنيد البغدادي الذي يتَّسم بالصحو والمُحافظة عن نظرية الوِلاية، وسيكون من الأفضل ملاحظة أنَّ الجنيد، من بين كل الصوفيين الأوائل، كان الشخصية الأكثر دمجًا في سلاسل الأسلاف التي تكوَّنت لاحقًا على يد الطرق.61 أما من ناحية النسيج المؤسَّسي للطرق، فقد كانت فكرة الولي محوريةً للطرُق باعتبارها كيانات مفاهيمية ومادية؛ من خلال تبجيل الشيوخ السابقين لسلاسلها، وتشْييد الأضرحة في وسط المساكن الصوفية.
على الرغم من أن نظرية الوِلاية كانت موجودةً منذ زمن بعيد، فما أضحى جديدًا بحلول القرن الثاني عشر هو عملية تقديس متعدِّدة الطبقات لم تتضمَّن فحسب نموذجًا نظريًّا للولاية، بل تضمَّنت أيضًا مجموعة أدوات أكثر اكتمالًا تمثَّلت في بناء الأضرحة، وكتابة السِّيَر الذاتية، وزيارة أضرحتهم. فما كانت في السابق فكرة بين أوساط المثقَّفين تحوَّلت إلى أماكن وقصص وأفعال بين أوساط العوام؛ وهذه العملية هي ما نُطلق عليها «التقديس».62 ونظرًا لوجود الكثير من مؤسَّسات القدِّيسين المسيحيين في الغرب الإسلامي، واعتبار المسلمين لها أماكن للزيارة منذ فترة مبكِّرة، فمن المُمكن أن يكون لهذه الممارسات التقديسية وجودٌ في الإسلام منذ فترة مبكِّرة جدًّا.63 وأوضحت الأبحاث الجديدة التي تناولت التاريخ المبكِّر للإسلام أن تبجيل الأضرحة وآثار الموتى والأشخاص الصالحين له تاريخ طويل لدى المسلمين أكثر مما كان مُتخيَّلًا في السابق.64 إلا أنه حتى في حالة وجود تلك الممارسات القديمة، التي من خلالها أَولى المسلمون تبجيلًا للأضرحة وذكرى القدِّيسين المسيحيين ومؤسِّسي المجتمع الإسلامي، فما يُهمُّنا — فيما يخص أهدافنا — هو الطريقة التي أصبحت مِن خلالها هذه الممارسات بدايةً من القرن الثاني عشر مُتعلِّقةً على نحوٍ متزايد بالصوفيين. وعند محاوَلة فهم كيفية حدوث ذلك، نجد أنفسنا مرة أخرى في مواجَهة دور الطرق الصوفية كآلياتٍ للتناسخ؛ فنظرًا لكونها سلاسل نسَب ومؤسَّسات لجمع المال، فقد كانت قادرة على إعادة إنتاج شيوخ جدُد في كل جيل، وإمدادهم بساحات عامة يُدفنون فيها عند وفاتهم. كان يوجد بطبيعة الحال مجموعات عديدة من المقوِّمات في هذه العملية، وتضمَّنت إحدى هذه المجموعات المقوماتِ المفاهيميةَ التي من خلالها كان ينتسب أحد الصوفيين إلى «سلسلة» روحانية، ويُعتبَر أحد أولياء الله؛ وكانت مرتبة الوِلاية تتحقَّق إما مِن خلال الإنجازات الشخصية (الوعظ، والصلاة، والكتابة) وإما ببساطة بالوراثة من خلال الانتساب لأُسر تضمُّ قادة الطرق. وضمَّت مجموعةُ مقومات أخرى نشْرَ شائعات متعلِّقة بالمُعجزات التي كانت كثيرًا ما تمنح الدعم الرسمي، من خلال كتابة السِّيَر التي كان يُنقَل سَردها إلى الوسط الشفهي من خلال عمل المرشدين المحترفين، الذين كانوا يَصطحبون الزائرين لزيارة عددٍ مُتزايد من الأضرحة.65 هناك مجموعة مقوِّمات ثالثة تضمَّنت تكوين طقوس تمكَّن من خلالها الزائرون من الحصول على «البركة» التي يُعطيها الولي، تلك الطقوس التي قد تأخذ — اعتمادًا على مدى دمج ضريح معيَّن في شبكاتِ زيارةٍ أوسع نطاقًا — طابعًا محليًّا أو عبر إقليمي. وتضمَّنت مجموعة مقوِّمات أخيرة الآلياتِ الماليةَ التي من خلالها جُمِع المال لتأسيس الأضرحة التي كانت مركزَ نشاطِ التبجيل، والتي بحلول القرن الخامس عشر بدأت تنافِس الأضرحة المشيَّدة للمسئولين السياسيين والحكَّام.
نظرًا لامتلاك الطرُق الصوفية قدرًا وافرًا من المقومات الضرورية المتمثِّلة في الجاذبية وإحياء الذكرى ورأس المال؛ فقد كانت مؤسَّسات بالغة الفاعلية في صناعة الأولياء؛ فبعدَ الدليل المفصَّل المبكِّر الذي عرضناه على تجمُّع تلك المقومات لدى أشخاص مثل أبي سعيد في خراسان القرن الحادي عشر، نجد أنه بعد توسُّع الطرق، على مدار بضع مئات من السنين التالية، أُعِيد إنتاج النمط نفسه ليَصل إلى مرحلةٍ أدَّى فيها تقديسُ الأولياء إلى تخصيص ضواحٍ بأكملها لدفنهم فيها — مثل القرافة في مصر، وشاه زنده في آسيا الوسطى، وخلد أباد في جنوب الهند — حيث تنافَسَ الأثرياء على بناء أضرحتهم بالقرب من أضرحة الأولياء.66 وعلى الرغم من أنه في إسلام العصور الوسطى لم يكن كل وليٍّ نال التبجيل صوفيًّا، مثلما لم يكن كل صوفي وليًّا، فقد أصبحت أفكارُ ومؤسسات الصوفية متداخلةً على نحوٍ معقد مع الممارسات المتعلِّقة بالأولياء التي أصبحت تلعب دورًا محوريًّا في إسلام المؤمن العادي. وكما هو الحال مع تكوين الطرق الصوفية، فقد كانت عملية التبجيل هذه مشروعًا متعدِّدَ الأجيال بطبيعة الحال، فاكتسبت الأضرحة المكانةَ ورأس المال على نحوٍ مُتزايد مع مرور القرون.67 وعلى الرغم من فشل الكثير من عمليات تبجيل الأضرحة الأخرى أيضًا، فإن المعنى الأكثر عموميةً لهذه العملية المتعددة الأجيال هو أن الأضرحة القديمة كانت تميل لأن تكون أكثرَ شهرةً وثراءً من الأضرحة الأحدث. بعبارة أخرى: إن كثيرًا من الأضرحة التي ظهرت في فترة العصور الوسطى التي نتناولها سيطَر على الأضرحة الأحدث في مناطق نفوذها، منذ تلك الفترة وحتى يومنا الحاضر.68
وعلى الرغم مِن أن الهيكل التنظيمي والمفاهيميَّ للطرق لعبَ دورًا محوريًّا في انتشار تبجيل الأولياء الصوفيِّين، فإنهما لم يكونا عامِلَي التمكين الأساسيين الوحيدَين؛ فقد حظي عاملان آخَران بأهمية حيوية؛ وهما زيادةُ تفصيل المُعتقد الذي كوَّن أيديولوجية قوية تقوم على الهرمية البشرية المُحدَّدة إلهيًّا، وتكوينُ التحالُفات السياسية التي منَحت كبارَ الصوفيين المالَ من خلال علاقات الرعاية. أشهر المتحدِّثين عن هذا الإعلاء لشأن أولياء الله كان الصوفي الأندلسي الكبير ابن عربي (المتوفَّى عام ١٢٤٠)، الذي نُشِرت كتاباته المطولة ونشَر مريدوه المتنوِّعون أفكاره عبر شبه الجزيرة العربية، وسوريا، والأناضول، وإيران، والهند، وجنوب شرق آسيا. وفيما يتعلَّق بأهدافنا الحالية، فإن أهمية ابن عربي تَكمن في ترويج أفكارٍ تقول إنَّ الوِلاية في نهاية المطاف أهمُّ من النبوة، وإن الكون يقوم على هرمية من الأولياء، وإنه يدين بسبب وجوده ووجوده المستمر إلى وجود «قطب» يُسمى «الإنسان الكامل».69 لم يكن ابن عربي على الإطلاق الشخص الوحيد الذي روَّج مثل هذه الأفكار، وعلى مدار القرن التالي رُوِّجت أفكاره عن الوِلاية والإنسان الكامل، وفُصِّلت على يد الكثير من الصوفيين الآخَرين، لا سيما محمد وفا (المتوفَّى عام ١٣٦٣) في مصر، وعبد الكريم الجيلي (المتوفَّى عام ١٤٠٨ أو ١٤٢٨) في العراق. وسرعان ما أصبح في كل بقعة في العالم الإسلامي مَن ادَّعى أنه القطب الكوني الحي الذي يحفظ الكون، وبعضهم حظي باعتراف الناس بأنهم كذلك، بينما لم يحظَ بهذا البعض الآخر. أما الذين عُدُّوا أقطابًا في حياتهم من قِبَل جهاتٍ متمتِّعة بالنفوذ، فقد صارت أضرحتُهم في أغلب الأحيان مزاراتٍ بعد وفاتهم.
إلى جانب عملية زيادة تفصيل المُعتقد هذه، كانت توجد وتيرة مُتزايدة من التحالفات بين الصوفيِّين وأعضاء النخبة الحاكمة، وهم الأشخاص الذين يَمتلكون الموارد المالية اللازمة لتوصيل أحد مُدَّعي الولاية إلى المكانة والشهرة العريضة اللتين يتطلبهما التقديس. من نواحٍ كثيرة، كان هذا الأمر استمراريةً لمُمارسة رعاية الصوفيين العلماء عن طريق المدارس، ورعاية الصوفيِّين أصحاب الجاذبية عن طريق الخانقاوات التي انتهجها السلاجقة. وعندما دخل المَغول الإسلام أخيرًا في ثلاثينيات القرن الرابع عشر، أدركوا أيضًا الفوائد المحتمَلة لتلك الرعاية.70 وفي القرنَين الرابع عشر والخامس عشر شُيِّد في المناطق الشرقية من العالم الإسلامي، في إيران وآسيا الوسطى تحت حكم المغول وخلفائهم القبليِّين، بعضٌ من أكبر الأضرحة الصوفية المزينة بالزخارف وأكثرها إثارةً للدهشة على الإطلاق، والتي كانت في بعض الأحيان مؤسسات الإقامة الوحيدة التي تتَعامل معها الجماعات البدوية.71 ويعدُّ مجمع أضرحة الشيخ محمد بن بكران (المتوفَّى عام ١٣٠٣، والمعروف أيضًا باسم بيربكران) — الذي اكتمل تشييدُه نحو عام ١٣١٢، ويقَع على بُعد عشرين ميلًا تقريبًا من مدينة أصفهان الإيرانية — واحدًا من أجمل المباني الباقية التي شُيِّدت في إطار رعاية المغول للصوفيين.72 عندما أصبحَت تلك العلاقات مع الجماعات الحاكمة أكثر شيوعًا، وأصبحَت مزاعم الصوفية بالعلو الكوني أكثر مبالَغةً، بدأت أضرحة الأولياء الصوفيين تَقتبس طراز المقابر الملَكية، بل في بعض الحالات بدأ الحكَّام يتركون مقابرَ أسلافهم كي يُدفَنوا بالقرب من الأولياء.73 وبعد أن كان الصوفيون جماعةً من جماعات مسلمة كثيرة تَزعم القيادة الدينية قبل القرن الحادي عشر، أصبحوا فيما بين القرن الثاني عشر والخامس عشر المتحدِّثين باسم الله على الأرض، وفي الوقت نفسه بطانة الملوك.
fig15
شكل ٢-٣: من البداوة إلى الإسلام: ضريح برعاية مغولية للشيخ محمد بن بكران (المتوفَّى عام ١٣٠٣) (تصوير: نايل جرين).

لا داعيَ لرؤية هذا التطور من منظور الندم أو التدهور؛ فتحوُّل الصوفيين إلى أولياء يبدو منطقيًّا جدًّا عندما ينظر إليه المؤرِّخ — إن لم يكن بالضرورة عالِم الدين — في ضوء السياق الاجتماعي الذي حدث فيه. ويُصبح هذا الأمر أكثر وضوحًا عندما ننظر إلى أنواع المُعتقَدات والأفعال والعواطف التي جعلها تقديس الصوفيين مُمكنة، ليس فقط بالنسبة إلى النخب الحاكمة، بل أيضًا إلى الأشخاص العاديين في وقتهم. دعونا نتطرَّق لعواقب هذه الوِلاية بالترتيب، أولًا من خلال رؤية كيف تأثَّرت حياة النخب ثم حياة العوام بعلاقتهم مع الصوفيين كأولياء. كما رأينا في السابق، فمنذ عهد السلاجقة فصاعدًا، دخل الصوفيون في علاقاتِ رعايةٍ مع حكَّام زمانهم، اكتسبوا من خلالها الموارد المادية اللازمة لتشييد مؤسَّسات مادية يعيشون فيها ويتربون. إلا أنه من المُهمِّ فَهْم جانبَي تلك العلاقات، وكي نرى ما حصل عليه السلاطين والنخب الأخرى في مقابل رعايتهم للصوفيين، يجب أن نلتفت إلى النوع الخاص من الموارد الذي اعتُقِد أن كبار الصوفيين يمتلكونه في حياتهم ومماتهم. ونظرًا لأن دَور الصوفيين لم يقتصر على كونهم أدوات لإعطاء الشرعية الدينية للحكام من خلال العمل العام في مدارسهم أو قبول الهدايا في خانقاواتهم، فقد كان على القدر نفسه من الأهمية المُعتقَدُ المتمثِّل في أن الصوفيين البارزين بصفتهم أولياء الله يَمتلكون قوةً غامضة فعَّالة على نحوٍ هائل تُسمَّى «البركة»، والتي يَستطيعون توجيهها لأيِّ اتجاه يختارونه من خلال قدرتهم على صنْع الكرامات.

إذًا كانت العلاقة بين الوليِّ والسلطان علاقةَ أخذٍ وعطاء، لكنها مُبادَلة لمَوارد غير متشابِهة مُتمثِّلة في الأموال والأراضي في مقابل المعجزات والبركة. وبدايةً من القرن الثاني عشر فصاعدًا، بدأنا نسمع في كل أرجاء العالم الإسلامي تقريبًا عن الكثير والكثير من القصص، التي نرى فيها استخدام الأولياء الصوفيين بركتَهم كوسيلةٍ للتدخُّل فيما يُمكن اعتباره من الناحية العلمانية أمورًا سياسية؛ فقد شفوا الملوك وأعضاء حاشيتهم من أمراض خطيرة، وكانوا يُقرِّرون نتائجَ المعارك الحاسمة، وكانوا يَعِدون وَرَثة الحكام الذين ليس لديهم أبناء بتولِّي الحكم، وكانوا يتسبَّبون في انهيار أو ازدهار المدن، وكانوا يَجلبون الوباء أو الرخاء إلى الإقطاعيات الخاضعة للضرائب. وكما هو متوقَّع، فإنَّ أغنى مصادرنا عن هذه القصص هي سِيَر الأولياء التي كتبها أتباعهم (وفي كثير من الأحيان ذريتهم)، لكنْ لا يُمكن القول إن هؤلاء الوَرَثة الذين نشروا القصصَ كانوا — ولو بقدر قليل — «متعهدين» (بلفظ بيتر براون الذي استخدمه لوصف تبجيل القديسين في المسيحية) لأعمال أقاربهم وشيوخهم. ولقد رأينا بالفعل هذا التطورَ في سِيَر الأولياء التي كتبتْها عائلة أبي إسحاق الكازروني (المتوفَّى عام ١٠٣٥)، وقد كانت قصصًا ناجحة على نحو كان كافيًا لجذب الحكام المحليين. نتيجةً لذلك، سمَّى شرف الدين محمود شاه حاكمُ جنوب إيران — الذي كان من بَني إينجو (المتوفَّى عام ١٣٣٦) — ابنَه الأصغر أبا إسحاق على اسم الولي أبي إسحاق الكازروني، وفي عام ١٣٣٤ دفع الحكام الإينجويون لبناء مدرسةٍ بجوار قبر الكازروني.74 ولم يكن هذا التعامل مع الملوك مثارَ خجلٍ؛ فقد سجَّلتْ بكل فخرٍ عائلةُ أبي سعيد بن أبي الخير (المتوفَّى عام ١٠٤٩) في خراسان الكثيرَ من القصص التي تَروي التدخُّلات الخارقة لجدِّهم الولي في شئون الدولة.75 والأكثر إثارةً ربما هو أن هذه القصص لم تَنتشر عن طريق سِيَر الأولياء التي كتبتْها أُسَرهم، بل انتشرت عن طريق كتب التاريخ التي أُلِّفت برعاية القصر الملكي وليس المَسكن الصوفي. وليس المقصود هنا الإشارة إلى وجود حدٍّ فاصل بين حاشية الملوك والصوفيِّين؛ لأن الصورة الأكثر ثراءً التي يكوِّنها الباحثون عن التفاعل الاجتماعي في عواصم فترة القرون الوسطى، المتمثِّلة في شيراز وهراة وقونية ودلهي، تُشير إلى أنه لم تكن توجد جبهة قوية من المشتغلين بالصوفية طوال الوقت، بل كانت توجد كيانات أكبر من الأتباع الذين كانوا يَتنقَّلون ما بين البلاط الملكي والخانقاه.76 عندما نشر هذا العدد المُتزايد من الأتباع المؤثِّرين تلك القصص المبالَغ فيها؛ بسبب القيل والقال والتوقُّعات، زادت مكانةُ الصوفيين والإيمان بقدراتهم؛ فإذا كان معروفًا عن أحد الأولياء قدرته على إلحاق الهزيمة بجيوش كاملة نيابةً عن السلطان، فإنَّ المسلم العادي المنتمي لطبقة اجتماعية أقلُّ من المُمكن أن يكون واثقًا، على نحوٍ معقول، بأنَّ هذا الولي لديه القدرة على شفاء ابنته المريضة. وعلى الرغم من أن أدلَّتنا مُعتمِدة في الأساس على نصوص الكُتاب المنتمين لمَجموعات صغيرة نسبيًّا من النخب الدينية أو السياسية، فإن محتويات تلك النصوص استُمدَّت أيضًا من نطاق أوسع من القصص الشفهية، وأضافت إليها كي تصل إلى عدد أكبر من الناس.77
fig16
شكل ٢-٤: تسلسل التقليد: «سلسلة» شيوخ إحدى الطرق الصوفية (تصوير: نايل جرين).
إن نتائج هذا الاعتقاد بأن الصوفيين أولياء يصنعون المُعجزات لم تقتصر على إنتاج القصص؛ فعلى غرار عمر السهروردي في بغداد، وفي الكيانات القبلية الانقسامية في أقصى الشرق، فإنَّ انتساب العائلات الصوفية للأولياء جعلهم رجالًا مباركين مُحصَّنين مناسبين تمامًا للعمل كدبلوماسيين ووسطاء.78 أما في الأماكن الأخرى، كما هو الحال مع الأسرة النعمتلاهية الإيرانية المهاجرة في عاصمة السلاطين البهمنيين في جنوب الهند (الذين حكموا فيما بين عامَيْ ١٣٤٧ و١٥٢٧)، نجد أن الصوفيين كانوا يختارون الملوكَ رمزيًّا في طقوس التنصيب الملكية. وكان السلاطين البهمنيون مرتبطين في الموت كما في الحياة بالأولياء التابعين لهم؛ إذ كانوا يُدفَنون في أضرحة كبيرة متجاوِرة في ضواحي العاصمة بيدار.79 وفي تلك السياقات، يمكن اعتبار قصص المعجزات مفيدةً قدرَ إفادة نصوص المديح؛ فهي بمنزلة مواثيق سردية توضِّح شتى أنواع العلاقات بين الصوفيين وحلفائهم من الحكام وحاشيتهم؛ فهي تفسِّر، على سبيل المثال، لماذا تُزوِّج سلالةٌ حاكمة معينة بناتِها لأبناء ولي معين، ولماذا تُبجِّل قبيلةٌ معينة ضريحًا معينًا دائمًا. قدَّم كثيرٌ من قصص المعجزات أجوبةً لهذه الأسئلة، مانحًا المصداقيةَ والإجازة لتحالُفات معينة استمرت عبر فترة طويلة بين الأولياء ومناصريهم، بحيث يمكن أن يَرِث التحالُفَ بين أميرٍ معين وصوفيٍّ معين وَرَثةُ الطرفين، حتى في حالة انتقالهم إلى مناطق جديدة؛ فبين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر قَدِمت الروابطُ التي تكوَّنت في آسيا الوسطى بين القبائل التركية القوية وأولياء الطريقة اليسوية إلى الأناضول، مع اتجاه أسلاف كلٍّ من الأولياء ورجال القبائل نحو الغرب، إلا أن هذا التفسير لهذه الهجرة المزدوجة أصبح مؤخرًا محلَّ شكٍّ.80 وفي القرن الخامس عشر تكوَّنت الروابط نفسها بين أولياء الطريقة النقشبندية والحكَّام التيموريين في آسيا الوسطى، وكما سنرى في الفصل التالي فقد تكرَّرت هذه الروابط عبر المكان والزمان عندما غزا فرع من السلالة التيمورية (المعروف عادةً باسم المغول) الهندَ عام ١٥٢٦، ودَعَوا الأولياءَ الذين حَمَوا أسلافَهم كي ينضمُّوا إليهم في أراضيهم الجديدة.81
عزَّزت قصصُ المعجزات، من خلال ارتباطها بهذه المجتمَعات الأكبر حجمًا، الآلياتِ الأوسعَ نطاقًا، التي من خلالها تمكَّنت الصوفية من تخليد نفسها عبر الزمن؛ نظرًا لأن تلك القصص الخاصة بالأولياء السابقين لا تحقِّق أهدافَها في ظلِّ غياب وَرَثة أحياء لقوة الأولياء عبر أجيال المستقبل، أو عدم وجود موقع زيارة دائم يمكن من خلاله الحصول على هذه القوة، أو جماعة أو أسرة باقية مرتبطة منتسبة لهؤلاء الأولياء. كل هؤلاء الوَرَثة كانوا مهتمِّين بضمان تذكُّر وتوارُث تلك القصص. إلا أنه على الرغم من المزايا المحتملة للروابط بين الصوفيِّين والسلاطين، فقد كانت تلك الروابط أيضًا مدمِّرة في بعض الأحيان؛ إذ إن القرب الشديد من إحدى الأُسَر الحاكمة جعل أسرةَ الولي على نحوٍ حتميٍّ محلَّ شك في عيون الأسرة الحاكمة التي تحلُّ محلها. وتعامَلَ الصوفيون على اختلافهم بطرُق مختلفة مع تلك المعضلة المتمثِّلة في الحاجةِ الحتمية إلى الرعاية المادية، والمَخاطرِ الكامنة في الارتباط الشديد بإحدى الأُسَر الحاكمة. وكما رأينا في حالة الطريقة الجشتية والطريقة النقشبندية؛ فإنه في بعض الحالات اتَّخذت الطرق المختلفة أساليبَ مميَّزة للتعامل مع المشكلة. أما بالنسبة إلى الطرق التي تأسَّست على كراهية صحبة الملوك، فقد كان وجودهم المؤسَّسي يقتضي الحاجةَ إلى ميزانية تشغيلية أساسية على الأقل.82 ومن ثَمَّ فإن الجشتيين — الذين كانوا يتجنَّبون صحبة الملوك نظريًّا في شمال الهند في فترة العصور الوسطى — وجدوا أنفسهم يضعون إرشاداتٍ أخلاقية معقَّدة أمَّلوا من خلالها (سدًى على الأرجح) أن يتجنَّبوا انتهاك مبادئهم؛ فازدروا كسب القوت لصالح نظامٍ من العطايا، أو ما يُسمَّى «الفتوح» التي يُمكن قبولها حتى من الملوك، شريطةَ عدم طلبها، وشريطةَ توجيهها إلى الأنشطة الجماعية للخانقاه.83 مع ذلك، وعلى الرغم من اهتمام الجشتيين الكبير بتجنُّب ذكر الملوك في كتاباتهم العامة، فإننا نعرف من سجلاتهم الخاصة أنهم لم يتجنَّبوا على الإطلاق تلقي العطايا الملكية التي سمحت لمؤسساتهم بالعمل.84
على الرغم من ذلك، لم يكن الملوك المصدرَ الوحيد للدعم الماديِّ لتوسيع المؤسَّسات الصوفية في هذه الفترة؛ إذ توجد أدلَّة كافية على زيادة ثراء بعض الخانقاوات على الأقل من خلال رعاية التجار لها، وإنْ كانت هذه العملية ما زالت غير مفهومة على نحوٍ كبير. ففي حالة ضريح أبي إسحاق الكازروني الذي يقع على أحد أهم طرق التجارة في إيران في فترة العصور الوسطى، نعلم أن التجار القادِمين من مناطق بعيدة مثل الهند والصين، أقاموا في الخانقاه أثناء مرورهم في المنطقة. ووفقًا لابن بطوطة الرحالة ابن شمال أفريقيا، في منتصف القرن الرابع عشر كانت قواعد المسكن الصوفي تُلزِم هؤلاء التجار بالبقاء لمدة ثلاثة أيام على الأقل، وفي هذه الأثناء، كانوا يُطعَمون يَخنة تُسمَّى «كيشكيك» مصنوعة من اللحم والقمح ونكهات دهن الضأن الغنية. وعندما مُنِح التجار نوعًا مِن الضمان الماورائي للمرور الآمِن لبضاعتهم، تعهَّدوا بتقديم مبالغ مالية للوليِّ، والتي كانوا يُرسلونها عند عودتهم لموطنهم بأمانٍ إلى كازرون مع التاجر التالي المسافر إلى هناك.85 وفي المناطق الأكثر جفافًا حول مدينة يزد التجارية المركزية الإيرانية بعد ذلك بقرْن، كان معروفًا بالمثل عن خانقاوات الطريقة النعمتلاهية استضافتها للتجار من بلاد بعيدة، مثل شبه الجزيرة العربية وآسيا الوسطى. وتعويضًا عن حقيقة أن الولي المؤسِّس للطريقة كان مدفونًا في مدينة ماهان البعيدة وليس في إحدى الخانقاوات الموجودة في سهل يزد، فقد حاوَلَ النعمتلاهيون جذبَ هؤلاء التجار من خلال تأسيسِ حدائق مُرِيحة في الخانقاوات للاحتماء من شمس الصحراء، وشيَّدوا أيضًا ضريحًا آخَر للوليِّ نفسه، الذي كان يَمنحهم بركاتٍ بالوكالة.86 وعلى الرغم من أن تلك الأساليب المستخدَمة في جذب التجار كانت مُنتشرةً على الأرجح، فإنه يبدو أن المصادر المكتوبة تحدَّثت أكثر عن رعاية الحكام مقارَنةً برعاية التجار. مرة أخرى، يجب عدم الحكم على المسألة حكمًا أخلاقيًّا؛ فلا توجد مؤسَّسة دينية يُمكنها الاستمرار طويلًا دون مصدر منتظم للدعم المالي، وفي الفترة التي نتناولها كانت الثروة مُركَّزة في فئات قليلة في المجتمع. بالطبع، كان يوجد صوفيون تجنَّبوا أيَّ اتصالٍ مع جماعات النخب، وكانت قبورُهم في الأساس ملجأً للفقراء من الحضر والريف، إلا أنَّ هؤلاء الصوفيين المحدودين كانوا يفتقرون القدرةَ على القراءة والكتابة اللازمةَ لكتابة النصوص، وكذلك المال اللازم لتشْييد الأضرحة؛ ومن ثَمَّ كان من النادر أن يَظهر هؤلاء الأولياء المُناصِرون للفقراء في صفحات التاريخ، إلا إذا جذَب أحدُهم مجموعةً جديدة من الأتباع. وحتى عند معرفتنا بأفراد من الصوفيين في هذه الفترة سطَّروا أنفسهم في التاريخ من خلال جهودهم الأدبية — سواء شهاب الدين السهروردي (المتوفَّى عام ١١٩١)، أو ابن عربي (المتوفَّى عام ١٢٤٠)، أو علاء الدولة السمناني (المتوفَّى عام ١٣٣٦) — فإن هذا كان في الغالب نتيجةً لقَبولهم رعاية وحماية الحكام.87 وحتى إن لم تكن هذه المُساعدة منشودةً أو مقبولة، فقد كان من النادر أن يتجرَّأ أحد الصوفيين على تحدِّي حكَّام زمانه على نحوٍ علني. ومِن الحالات النادرة في هذا الشأن عين القضاة (المتوفَّى عام ١١٣١) من بلدة همدان بغرب إيران، الذي كتب من محبسه — إثرَ اتهامه بالهرطقة — كتابَ «شكوى الغريب»، ودافَعَ فيه عن تعاليمه.88 ولو كان تحدِّي الحكام إحدى طرق تخليد الذكرى، فإن قليلًا من الصوفيين قد اختاروا سلوك هذا الطريق.
إذا كان التمرُّد أكثر ندرةً من التحالف مع الطبقات الحاكمة، فقد كان يوجد مجال كبير لطريق وسط وهو المنافسة.89 فعلى الرغم من عدم وضوح الأصول الدقيقة لممارسة المنافسة، فإنه بدايةً من القرن الخامس عشر في المنطقة التي تمتدُّ ما بين الأناضول والهند، نجد الكثير والكثير من الأولياء يُوصَفون بمصطلحات تخصُّ الملوك؛ فقد أُطلِق عليهم «شاهات» (أيْ أباطرة)، وأُطلق على أضرحتهم «دارجا» (أي البلاط الملكي)، واعتُبِرت عمائمهم «تيجانًا»، وهذه أوصاف من المحتمَل أن تكون قد نشأت بين أتباع «شاه» نعمة الله ولي (المتوفَّى عام ١٤٣١) في شرق إيران. ومع اكتساب مجتمعات الأضرحة الكبرى في فترة العصور الوسطى مزيدًا من المكانة، مع مرور الأجيال، أصبحَت سلالات الأولياء في كثير من المناطق طبقةً «صاحبةَ نفوذ» أكثر ديمومةً وأطول عمرًا من سلالات الملوك الأقصر أجلًا. وفي الفصل القادم، سوف نرى كيف أنه بعد القرن السادس عشر ظهر هذا الصراعُ على المكانة في عدة اتجاهات مختلفة، بدءًا من إطاحة الصوفيين بالسلاطين حتى يتقلَّدوا الحكم، وحتى أنواعٍ جديدة من الدول في أوائل العصر الحديث الساعية إلى سَيطرةٍ أكثر صرامةً للصوفيين على أراضيهم. أما في فترة العصور الوسطى التي نتناولها الآن، فقد كانت الصورة الكلية تُمثِّل صعودًا كبيرًا للصوفيين، باعتبارهم أولياء يَكتسبون من خلاله النفوذَ والثروة في بعض الحالات على نحوٍ جعَلَ وصْفَ أتباعهم لهم بالشاهات ليس مبالَغة من باب التقوى على الإطلاق.
وراء نظرية ومصطلحات الولاية المعروفتَين عبر المناطق الشاسعة، يبدو من المحتمل وجود اختلافات جوهرية في طريقة تصرف الأولياء وذرياتهم ومؤسساتهم في الشرق التركي الفارسي وفي الغرب التركي العربي، خاصةً مع بلوغ الأولياء أوجَ تأثيرهم الاجتماعي والاقتصادي في مناطق الشرق التركي الفارسي، إلا أنه حتى الآن لم يُؤلَّف عمل مقارن حقيقي بين عملية تقديس الأولياء في الشرق والغرب الإسلاميين. وإلى حدٍّ ما على الأقل، يُعزَى جزء من تفسير هذا الاختلاف إلى التأثير الأكبر على مجتمعات الشرق الإسلامي من قِبَل الجماعات القبلية والبدوية التي كانت تُولي أهميةً بالغة للأولياء الصوفيين. وظهَر ذلك على نحوٍ بالغ الوضوح في تحوُّل قبائل بأكملها إلى الإسلام نتيجةَ تحالُف شيخِ القبيلة مع أحد الصوفيِّين. في هذا الصدد، لا بد أن نضَع في اعتبارنا أنه باستثناءِ شمالِ أفريقيا فقد كان العالَم الإسلامي من الأناضول إلى الهند في معظم فترة العصور الوسطى تَحكمه الجماعات القبَلية التركية والمغولية. وفي كثير من الحالات، يكون ما نتناوله في حديثنا عن العلاقات بين الولي والقبيلة قصصًا عن الولي قدرَ ما هي أفعال قام بها، وهي روايات سردية من النوع الذي رأيناه بالفعل يؤثر على نحو هائل على التوجُّهات الشعبية تجاه أضرحة وعائلات الأولياء. أما ما يحظى بأهمية خاصة هنا، فهو روايات التحول إلى الإسلام، التي عن طريقها كوَّن نطاق كامل من الجماعات القبَلية عبر آسيا الوسطى وإيران والهند هُوِيَّتَهم العِرْقية، على أساسِ قصصِ تحوُّل أسلافهم المؤسِّسين إلى الإسلام على يد أحد الصوفيين.90 وحتى في البيئات الزراعية في مناطق مثل مصر، كان القُرويون الذين عاشوا حول أضرحة الأولياء الصوفيين يَعتبرون هؤلاء الأولياء أسلافًا مؤسِّسين لقُراهم.91
وبالانتقال من قصص الأولياء إلى أعمالهم، فإن الأدلة الموجودة تُشير إلى أن هذه التفاعلات بين الأولياء والقبليِّين كانت بعيدة كل البعد عن «الروحانية» الصرفة، وفي أحيان كثيرة، كانت تتضمن تفاعلات مادية متمثِّلة في الزواج والجنس والتوالُد، فنجد أن كثيرًا من الجماعات القبلية تسرد أصولها العِرْقية على أساس اعتمادها على ذريةِ أحدِ أكابر القبيلة وابنةِ أحدِ الأولياء الصوفيين، أو وليٍّ صوفي وابنةِ أحد أكابر القبيلة، هذا على الرغم من أن هذه العملية ليست مفهومة على نحوٍ كامل، ليس فقط لأن القبائل لا تُنتج وثائقَ مكتوبة إلا بعد استقرارها وتعرُّضها لتأثيرات حضرية، ورعايتها لآخَرين كي يكتبوا تاريخها نيابةً عنها؛ لذلك، يَعتبر الفرع التيموري من قبيلة جهار أيماق — الموجودة في غرب أفغانستان حاليًّا — أنفسَهم من سليلِ زواجِ سيد أمير كُلال النقشبندي (المتوفَّى عام ١٣٧٠ تقريبًا) وابنةِ الغازي القبَلي العظيم تيمور (المتوفَّى عام ١٤٠٥)، ويدعم هذا التقليد في هذا الصدد ظهوره في السيرة الفارسية المكتوبة في فترة العصور الوسطى «مقامات أمير كُلال».92 وبين قبائل المغول التابعة للقبيلة الذهبية فيما يُعرَف حاليًّا بجنوب روسيا وكازاخستان، كان يوجد على نحو مُماثل صوفيٌّ مغمور ينتمي للقرن الرابع عشر يُعرَف باسم بابا توكلاس، والذي اعتُبِر السببَ في دخول القبيلة الذهبية في الإسلام، بل اعتُبِر أيضًا مؤسِّسها.93 إن ما نتناوله في أيٍّ من الحالتين السابقتين ليس تصوُّفَ ماورائياتِ معقَّدةٍ مجردًا، بل صوفية زواج وتناسُل وبناء مجتمعات، تنتقل فيه «البركة» وحماية الجد الولي من خلال الوسائل المادية، وكذلك عن طريق الميلاد والقرابة. بهذه السُّبُل، حصل الصوفيون على التقديس من خلال دمجهم في أساطير التكوين العِرْقي وهياكل الحياة القبلية، وأصبحوا أولياء من خلال إحياء ذكرى وتبجيل القبليين الذين اعتبروا أنفسهم مُنحدِرين مِن نَسْلهم. ويجب ألَّا نتخيَّل بالضرورة أن هؤلاء الصوفيين كانوا تلك الشخصيات المهتمة بالعلم التي رأيناها في مدارس الغرب الإسلامي، بل إننا في كثيرٍ من الحالات نتعامل في هذا الصدد مع شخصيات ذات جاذبية أكثر جموحًا، من المحتمل أكثر رؤيتُها تَرتدي جلودَ وقرونَ الحيوانات بدلًا من عباءة وعمامة العلماء. وقد قيل كثيرًا إنَّ هؤلاء الصوفيين كانوا أقرب إلى شامانية السهوب التقليدية من إسلام المدن، وإن «إسلامهم الشاماني» ساعَدَ في جعل التحوُّل إلى الإسلام مستساغًا لدى أتباعهم القبليين.94 إلا أنه على الرغم من أن هذه النظرية تتمتَّع بالقبول بكل تأكيد، فإن الفحص الدقيق لأنواع الصوفيين المرتبطين بالقبائل أظهَرَ أن كثيرًا منهم كانوا في واقع الأمر مُنتسبين رسميين لطرق صوفية، مما يشير إلى أن إسلامهم كان أكبر من التنكُّر الظاهري في مظهر الشامانات.95
لم تكن كل سماتِ عمليةِ التقديس محصورةً داخل النطاق التركي المغولي فحسب؛ فقد رُبِط انتشارُ الإسلام في عالَم الملايو في القرنين الرابع عشر والخامس عشر بتحوُّل حكَّام الملايو المحليين إلى الإسلام، على يد الصوفيين البحارة القادمين من شبه الجزيرة العربية والعراق. بالرغم من ذلك، يُقال إن الروايات متأخِّرة كثيرًا عن الأحداث؛ ولذلك فإنه من المحتمَل مرةً أخرى أننا نتعامل مع الأولياء كفاعلين على الجانب السردي وليس الفعلي.96 وحتى بين الكيانات السياسية الأكثر استقرارًا في الغرب الإسلامي، نجد أن فكرةَ انتقالِ البركة عن طريق القرابة تجد طريقَها في النهاية إلى الهيكل الاجتماعي لمُلَّاك الأراضي الزراعية على طول حافة الصحراء الكبرى؛ لأنه بالنسبة إليهم أدَّت الأنساب المباركة هذه إلى تعزيزِ الحاجز العِرْقي بين العرب ملَّاك الأرض وبين العبيد الأفارقة.97 وإذا كانت جاذبية الأولياء تُعتبَر في أغلب الأحيان موردًا غير ملموس ورمزيًّا، فإنه من خلال ربط البركة بالقرابة في كثير من هذه البيئات من آسيا الوسطى إلى أفريقيا، أصبحت البركة من الأصول المادية القابلة لإعادة الإنتاج.
وإذا ابتعدنا عن النخب ونظرنا إلى العوام، فسنجد أن الأثر الأكبر لتبجيل الصوفيين تمثَّل في وضعه أُسسَ إسلامٍ تعبُّديٍّ وفَّرَ فيها تبجيلُ الأولياء — الذي عُدَّ أكثرَ سهولةً من تبجيلِ إلهٍ بعيد — وسيلةً للتعبير الديني الشعبي. وكما هو الحال مع المَظاهر الأخرى للثقافة الشعبية في فترة العصور الوسطى، فإنَّ مصادرَنا مقتصِرةٌ إلى حد كبير على الملاحظات المدوَّنة عن الممارسات الشعبية التي كتَبها المتعلمون، سواء المُنتقدون المُزدرون للعوام، مثل عالِم الفقه الصوفي ابن تيمية (المتوفَّى عام ١٣٢٨)، أو كُتاب السِّيَر الصوفية المهتمون بخصائص السكان المحليين.98 على الرغم من ذلك، فإن حقيقة أن وجود الأولياء كان جزءًا من دينِ الشعب قدرَ ما كان جزءًا من دين النخبة؛ تعني أننا يَجب ألَّا نتخيَّل وجودَ أيِّ تناقُض صارخ بين إسلام «العوام» وإسلام «النخب»، كان فيه تبجيلُ الأولياء مقتصرًا فقط على العوام.99 فإن ما رأيناه عن تكوُّن المعتقدات والمؤسسات المتعلِّقة بالأولياء بين العلماء والسلاطين يُشير إلى أن تبجيل الأولياء ظهَر في قمة الهرم الاجتماعي، وانتقل إلى ما دون ذلك. على الرغم من ذلك، فإن آليات إعادة الإنتاج الخاصة بالطرق الصوفية أدَّت إلى الانتشار التدريجي لشبكة هائلة من الأضرحة المُشيَّدة لتبجيل الممثِّلين المحليين لمختلف الطرق الصوفية. وسمح تشييد هذه الأضرحة بالتواصُل مع الله من خلال التفاعل مع أماكن مادية، وليس فقط من خلال النص القرآني أو حتى الأشخاص المقدَّسين أو الأماكن المقدَّسة؛ فلقد خلق إسلامًا حلوليًّا وملموسًا في بيئاته المحلية. وإن تبجيل الأولياء الصوفيين قد سمحَ باستخدام مجموعةٍ كاملة من الأشياء المادية باعتبارها وسائل وأدوات للإسلام، بدايةً من أجزاءٍ من كسوة ضريح، والتراب المكنوس من المقابر، إلى التذكارات المَجلوبة من زيارات الأضرحة؛ مثل ماء الورد، أو الزهور، أو حتى ريش الطاووس الذي كان يُعتقَد أنه يَحمل البركةَ من خلال احتكاكه بالضريح. ومن خلال هذا التوسيع لنطاقِ طرق التعبير عن الإسلام والتفاعل معه، زادت مُشارَكة الجماعات الاجتماعية الأقل اطِّلاعًا نسبيًّا على القرآن الكريم، لا سيما النساء.
لم تكن النساء وحدهنَّ اللاتي تَعرَّفن على الإسلام بهذه السبل، فعلى الرغم من أنه لطالما سادت حالة من الجدل حول ما إذا كان الإسلام دينًا حضريًّا في الأساس، فإن ممارسةَ مَنْح الأراضي الزراعية للصوفيِّين من المغرب وحتى فلسطين وآسيا الوسطى والهند، في فترة العصور الوسطى، جعلت أول تواصُل لكثيرٍ من الريفيين مع المؤسسات الإسلامية يَحدث من خلال القنوات الصوفية؛100 ففي الريف وليس دائمًا في المدن، كان الإسلام فعليًّا هو الصوفية، وكانت الصوفية بدورها إسلامًا يتمُّ التواصلُ فيه مع الله من خلال وساطة الأولياء المحليِّين المُمثلين لله. وفي هذه السياقات، اتخذ تبجيلُ الأولياء أشكالًا محلية مميزة من خلال دمج المفاهيم الإسلامية العامة مع المصطلحات اللغوية والطقوس المحلية إلى حدٍّ كبير. وعلى الرغم من أن التعبير عن هذا التبجيل للأولياء كان يتمُّ بالتأكيد من خلال اللغات المحلية، فلم يَبْقَ من هذا الأدب الشعبي إلا القليل، أو لم يَبْقَ منه شيء مطلقًا قبل القرن الخامس عشر. إلا أنه من خلال ما نعرفه يبدو أن الأولياء كانوا مصورين بطرُق مناسبة بدقة للأعراف السائدة لمُناصريهم؛ ففي جنوب الهند — على سبيل المثال — نجد المحليِّين يُعبِّرون عن تبجيلهم للأولياء من خلال التهويدات المحلية الريفية، وأغاني العمل المبهجة الخاصة بطحن القمح.101
في حالات أخرى، أدَّى القرب الشديد بين المسلمين والمسيحيين والهندوس إلى تطوير أشكال «توفيقية» للطقوس والكلام، مكَّنت غير المسلمين من المشاركة في تبجيل الأولياء دون الدخول رسميًّا في الإسلام.102 فعندما انتقلت الأناضول من حكم البيزنطيِّين إلى حكم السلاجقة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، كانت المساكنُ الصوفية ساحاتٍ للتأمُّل لكلٍّ من المجتمعات المسيحية الأقدم والبدو التركمان الوافدين حديثًا.103 وفي الأماكن المرتبطة بمناطق أخرى عن طريق طرق التجارة المكتظَّة، نجد عادةً أن التعبير عن هذه التوفيقية والمحلية يحدث دون إغفالِ ارتباطاتِ الأولياء بممارسات الإسلام الأوسع نطاقًا. أما في المناطق الأكثر بُعدًا أو غير المتصلة بغيرها على نحوٍ جيد، فكان شائعًا أن نجد مستويات هائلة من الاختلاف عن الأعراف الإسلامية السائدة، ومع انتشار الصوفيين في هذه المناطق الريفية فقَدوا في بعض الأحيان هم أو أتباعهم التزامَهم الصوفي السابق بالشريعة والقرآن والحديث. وفي بعض الحالات، كما في حالة تبجيل الشيخ عَديِّ بن مُسافر من قِبَل اليزيديين في جبال كردستان، فإن إضفاء الطابع المحلي المنفصل عن الإسلام جعل تبجيلَ أضرحة الصوفيين يُعزِّز تدريجيًّا تكوينَ أديان جديدة مستقلة.104

على الرغم من ذلك، في أغلب الأحيان كانت نتيجةُ تحوُّل الصوفيين إلى أولياء، الذين أصبح وجودهم دائمًا في مجتمعاتهم المضيفة من خلال بناء الأضرحة، أن أصبحوا يمثِّلون وسيلةً لعدد لا يُحصَى من الأشخاص العاديين للتعبير عن تبجيلهم لله وطلب خدمات من أوليائه. في النهاية، كان التبجيلُ وطلبُ الخدمات وجهَيْن لعملة واحدة؛ فمن خلال توفير الصوفيين كأولياء سبيلًا لصنع المعجزات، حقَّقوا أهدافًا عملية للغاية. وبينما توسَّلَ الأمراء إليهم من أجل الانتصار في المعارك، توسَّلَ الفلاحون من أجل عودةِ المياه إلى الآبار. ومع اكتساب معتقَدِ الوِلاية القديم زخمًا مؤسسيًّا، بدايةً من القرن الحادي عشر فصاعدًا، أدَّت نتائجه العملية إلى نَيل الصوفيين استحسانًا واسعَ النطاق على كلِّ مستويات الطبقات الاجتماعية. وعلى الرغم من أن مكانة الأولياء الصوفيين سوف تتغيَّر بالتأكيد في القرون التالية (بصفة خاصة في فترة العصر الحديث التي سنتناولها في الفصل الرابع)، فمن المُهمِّ أن ندرك أن تبجيل الأولياء الصوفيين ما زال يشكِّل أساسَ الحياة الدينية لملايين كثيرة من المسلمين حتى يومنا الحاضر.

(٥) إضفاء الطابع المحلي على التعاليم الصوفية

تناولنا في هذا الفصل حتى الآن عمليتين تمكَّنَ من خلالهما الصوفيون في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والخامس عشر من رفع مكانتهم وزيادة أتباعهم على نحوٍ هائل؛ من خلال التأسيس المفاهيمي والتنظيمي للطرق، وتحوُّلهم لأشخاص محل تبجيل بصفتهم أولياء. وانعكاسًا للنطاق الجغرافي والاجتماعي الشاسع الذي كان يعمل فيه الصوفيون في ذلك الوقت، شهدت فترةُ العصور الوسطى أيضًا تطورًا مهمًّا ثالثًا تمثَّلَ في تزايُدِ إضفاء الطابع المحلي على الأفكار الصوفية، فاصطبَغتْ بلغات المناطق الكثيرة التي كان الصوفيون قد دخلوها في تلك الفترة. وبلا استِثناء تقريبًا، كتب كلُّ المُنظِّرين الصوفيين المؤسِّسين — الذين تحدَّثنا عنهم في الفصل الأول، سواء أكانوا في العراق أم في خراسان — أعمالًا باللغة العربية. وحتى إذا نحَّينا جانبًا قيودَ الأمية، فإننا يجب أن نتذكَّر أن التحدُّث باللغة العربية كان مقتصرًا على المناطق الموجودة جنوب العراق، وحتى في هذه المناطق تنافَست العربية خارج المدن مع لغات أخرى تراوحت ما بين الكُردية والتركية والأمازيجية. وبالاتجاه إلى أقصى الشرق، كانت اللغة العربية لغةَ المتعلمين فحسب، وكانت الغالبية العظمى من المسلمين تتحدَّث لغات كانت مختلفة في بنيتها عن العربية قدر اختلاف الإنجليزية عنها، على الرغم من اقتراضها لقدرٍ كبير من مصطلحاتها من اللغة العربية وحروفها من الأبجدية العربية (عندما بدأت في النهاية تُستخدَم في الكتابة). ومن الواضح أنه من أجل أن تتطوَّر الصوفية لتصبح شيئًا أكبر من مجرد إسلام النخبة، كان لزامًا أن تُحرِز تقدمًا في عوالم اللغات المحلية التي كان يعيش ويفكِّر فيها الغالبية العظمى من المسلمين شرقَ العراق، خاصةً في جنوب وجنوب شرق آسيا. وعبر عملية الترجمة هذه للتعاليم الصوفية إلى نطاقٍ من اللغات التي تتحدَّثها مجتمعاتُ المسلمين الجُدُد، انتقلت مجموعة من المصطلحات الدينية، إما باللغة العربية الأصلية وإما بتعديلٍ في اللغة العربية يتَّفق مع علم الأصوات الخاص باللغة المحلية؛ ومن ثَمَّ تكوَّنت «مصطلحات إسلامية معيارية عبر إقليمية في مجتمعات المسلمين في جنوب وجنوب شرق آسيا.»105 وبالإضافة إلى المصطلحات القرآنية الأساسية الخاصة بالصلاة والألوهية، فقد تكوَّنت المصطلحات المعيارية هذه إلى حدٍّ كبير من كلمات مأخوذة من المعجم الصوفي العربي الذي شهدنا تكوُّنه في الفصل الأول.106 ونظرًا لأن الصوفيين كانوا محوريِّين في تكوين المجتمعات الإسلامية الجديدة في مناطق مختلفة في هذه الفترة، فقد زُعِم مؤخَّرًا أنه يجب اعتبار هذه الأعمال المتعلِّقة بالترجمة المحلية جزءًا لا يتجزَّأ من عمليةِ التحوُّل إلى الإسلام الموازيةِ لها؛ لأنه «من خلال الترجمة، تدريجيًّا، أنشأتْ وتبنَّتْ وراكمتِ المجتمعاتُ الجديدة المواردَ الثقافية، التي جعلت الحديث عن الماضي الإسلامي والوجود الإسلامي المُعاش ممكنًا.»107
fig17
شكل ٢-٥: تعبيرات باللغات المحلية: مخطوطة صوفية باللغة الملايوية (صفحة نصية واحدة غير مرقَّمة لإحدى المخطوطات، من مجموعة مخطوطات اللغة الملايوية ١٠٦ (مجموعة ماكسويل، الجمعية الآسيوية الملكية). صفحة أولى غير مرقمة من المخطوطة منشورة بإذن الجمعية الآسيوية الملكية).

على الرغم من ذلك، لم تكن عمليةُ إضفاء الطابع المحليِّ هذه هي إنجاز الصوفيين وحدهم؛ فإذا كان يبدو في بعض المناطق أن الصوفيِّين كانوا روَّادَ الكتابة باللغات المحلية، فإنهم في مناطق أخرى كانوا يُقلِّدون أساليبَ الحكَّام في تبنِّي اللغات المحلية. في المجمل، يُمكننا لهذا السبب الإشارة إلى ثلاثة أنماط عامة من هذه العملية، وهي: نمطُ الحكَّام الذي ظهر من خلال رعاية السلالات الحاكمة للإنتاجات الأدبية الراقية، ونمطٌ أكاديمي اعتمَدَ على ترجمة الصوفيين للأعمال التي تتناول المعتقَد والآداب للأتباع المحليِّين، ونمطٌ فولكلوري ظهر من خلال اقتباسِ أجناسٍ أدبية فولكلورية منخفضة المستوى. في القرون السابقة على القرن السادس عشر، اعتمد النمطُ الأول على اللغة الفارسية (وعلى اللغة الهندية في إحدى الفترات القصيرة)، واعتمد النمط الثاني على اللغة الأردية الدكنية وربما لغة الملايو، واعتمد النمط الثالث على عدة لغات أخرى تواصَلَ بها بعضُ الصوفيين على الأقل مع أتباعهم، لكن الأدلة الوحيدة المتبقية على هذا النمط مكتوبةٌ بأشكالٍ معينة مِن اللغة التركية والأردية الدكنية مرةً أخرى، وربما لغة الملايو. وجعلت تلك العلاقة بين اللغةِ والسلطةِ والنصِّ اللغةَ الفارسيةَ الأكثرَ استخدامًا إلى حدٍّ كبير في النصوص المكتوبة؛ لذلك فهناك المئات من الكتب الصوفية المكتوبة بالفارسية، التي تعود إلى ما قبل القرن السادس عشر، في حين أننا لا نجد نصوصًا مكتوبة باللغات المحلية الأخرى إلا مجموعة من أشعار المناسبات.

كان الاستخدام الأدبي لِلُّغة الفارسية التي كانت في ذلك الوقت لغةً محلية غير مكتوبة موجودًا بالفعل قبل القرن الثاني عشر؛ إذ بدأ في وقت مبكر في القرن التاسع أو العاشر في الدول الإسلامية المحلية التي ظهرت مع تفتُّت الإمبراطورية العباسية في خراسان؛108 ففي عام ١٠١٠ كان الشاعر أبو القاسم الفردوسي (المتوفَّى عام ١٠٢٠) قد أكمل ملحمته «الشاهنامة» (أيْ «كتاب الملوك»)، الذي روى فيها الأعمال البطولية لحكَّام إيران القدماء، مستخدِمًا نَظْمًا مزدوجًا فارسيًّا سهل الحفظ. وعلى الرغم من أن الشعر الفارسي تكوَّن أولًا، فسرعان ما تبعه النثر، فقد كان الصوفيون في إيران وخراسان يَستخدمون الفارسيةَ بالفعل في زمن الفردوسي. في الفصل الأول ذكرنا بالفعل أول كتاب نثري بالفارسية، وهو «كشف المحجوب» الذي كتبه الهجويري في العاصمة التركية الجديدة في شمال الهند في لاهور. وبعد إدراك مُلاءمة هذه اللغة المحلية الرائدة، اختار المزيد والمزيد من الصوفيين على مدار القرون اللاحقة الكتابةَ بها، مقترِضين كلًّا من الأنواع الأدبية واللغة المتخصِّصة لأسلافهم الصوفيين الذين كتبوا باللغة العربية، لغة القرآن والعلوم الدينية الأخرى الأعلى مكانةً. وبينما أدَّى تكوينُ الأدب النثري الفارسي إلى اتساع النطاق الاجتماعي للأفكار الصوفية، وقدَّم وسيلةً أيسر استطاع من خلالها الصوفيون في شرق العالَم الإسلامي نشْرَ أفكارهم، فمِن أجل شرح النجاح المُتزايد للصوفيِّين في فترة العصور الوسطى، يجب أن نَلتفت إلى وسيلةِ الشِّعر الذي كان أكثر رواجًا وأكثر تذكُّرًا. فعلى الرغم من أن الصوفيِّين كانوا بالتأكيد يؤلفون القصائد بالفارسية في زمن الفردوسي، فإننا لدينا أدلةٌ قليلة نسبيًّا، باستثناء الرباعيات المنسوبة إلى شخصيات مثل بابا طاهر (المتوفَّى نحو عام ١٠٢٠) الذي كان من همدان غرب إيران، وأبي سعيد بن أبي الخير (المتوفَّى عام ١٠٤٩)، الذي كان من ميهنة والذي رأيناه في السابق ينظِّم حفلاتٍ موسيقيةً مسائية في الخانقاه خاصته في خراسان.109 وكانت هذه القصائد تُشبه ما يُمكن أن نعتبره اليومَ شعرًا غنائيًّا؛ حيث كان مقصودًا أن تُغنَّى بصحبة الموسيقى، وقد شكَّلت أساسَ ممارسة السماع الصوفية التي رأينا بالفعل أنها كانت مثارَ جدل. وتُصبح الطبيعةُ المثيرة للجدل للسَّماع أكثرَ وضوحًا عندما ننظر إلى الموضوعات والأفكار التي تناولها الكثير من هذه الرباعيات؛ مثل: السُّكر، والوَجْد، والارتحال، والجنون، وبصفة خاصة، الجمال الجسدي للغِلمان والسُّقاة.
على الرغم من أنه لاحقًا أصبح من المعتاد أن يقول المعلِّقون الصوفيون إن المعاني «الحقيقية» للشعر الفارسي المبكِّر هذا كانت معانيَ باطنيةً وروحانية — فالسُّكر كان معناه الانشغال بالله لا بالخمر، والشباب الجميل كان مَجازًا للكمال الإلهي، وهكذا — فإنه لا يبدو من الوجيه إلى حد كبير الشكُّ في أن كثيرًا من جمهور هذه الأغاني في فترة العصور الوسطى (إنْ لم يكن معظمهم) كانوا يَستمتِعون بها بمعناها الظاهر؛ إذ كانت تمثِّل احتفاءً بالخمر والجنس والغناء. وعند مقارَنة موضوعات المُتَع الدنيوية التي ميَّزت الأجيال الأولى من الشعر الفارسي، بالموضوعات الباطنية التي سيطَرت لاحقًا على كل أنواع الشعر الفارسي، باستثناء شعر المديح؛ ذهَب أحد الباحثين بعيدًا إلى حدِّ الحديث عن «استعمار صوفيٍّ للأدب الفارسي».110 فمن الناحية الاجتماعية، كان هذا الشعر يُستخدَم في تبرير سلوكِ الشعراء الصوفيِّين الغريبِ الأطوار في بعض الأحيان؛ من خلال مُوارَاة أفعالهم في لباسِ بلاغةِ الماورائية الباعثة على الغموض والمُحترَمة على الرغم من ذلك.111 الأمر الأهم هو أن القوة الجمالية وكذلك الاجتماعية لهذه القصائد تَرجع إلى السبل المتعددة التي يمكن بها فهم معانيها؛ إذ إن الغموضَ والتوريةَ اللذين اتَّسَم بهما الأداءُ الحماسي لهذا الشعر المُغنَّى قد مَنَحا الصوفيِّين وسيلةً فعَّالة للوصول إلى المجتمع والدعاية لنفسها. في هذا الصدد، يجب أن نضع في اعتبارنا أنه في المجتمعات ما قبل الصناعية التي كانت الموسيقى فيها عروضًا مباشِرةً بالضرورة، كانت فرصة سماع الموسيقى متعةً نادرة بالنسبة إلى معظم الناس؛ ومن ثَمَّ، فإن تزايُد ميلِ الخانقاوات إلى رعاية الحفلات الموسيقية، أو ما يُطلَق عليه «محافل السماع»، شكَّلَ عاملَ جذبٍ مهمًّا لمُجتمعاتها المحيطة.
بطبيعة الحال، فإنَّ الهوَس بالآداب الرسمية الذي رأينا أنه سمةٌ مميزة للغاية للصوفيين، كان معناه وضع قواعد رسمية للاستماع اللائق للموسيقي (التي كانت تتضمَّن غالبًا منع النساء من الحضور)، بالرغم من أنه يبدو معقولًا استنتاجُ أن بعض التجمُّعات كانت أقلَّ رسميةً عن غيرها. وفي إيران وخراسان في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر، اقتبَسَ الصوفيون من البلاطات الملكية النوعَ الأدبي المعروف باسم «الغزل»، الذي كانت العلاقة فيه بين المسلم والله مقدَّمة في شكلِ علاقةٍ بين المحبِّ والمحبوب، مما سمح للشعراء بتخيُّل الله في صورة مادية واضحة؛ مثل غلامٍ أشقر، أو امرأةٍ لعوب ذات قبَّعة مائلة، أو فتًى أمرَد مخنَّث. وباقتباس الشِّعر الرومانسي الذي كان رائجًا في البلاط الملَكي، قدَّم الصوفي نفسَه في مظهر جديد مُشابه؛ فقدَّم نفسَه في صورة المحب أو الأبلَه أو المجنون الذي يتأرجَح ما بين التمنِّي والعذاب بسبب حضور الحبيب تارةً وغيابه تارةً أخرى. وتزايَد تقديم الصوفي في صورة القلندر، وهي شخصية مشبوهة وخارجة على القانون سنتحدَّث عنها بتفصيل أكبر لاحقًا.112 ونظرًا لبذاءة الصور المجازية الموجودة في أجود أمثلة الغزَليات «الصوفية» هذه في أعمال شعراء؛ مثل: السنائي الغزنوي (المتوفَّى عام ١١٣١)، وسعدي الشيرازي (المتوفَّى عام ١٢٩٢)، وحافظ الشيرازي (المتوفَّى عام ١٣٩٠)، فإنَّ مِن الصعب تحديد ما إذا كان الغرض من أشعارهم هو التفسير الباطني أم مجرَّد إمتاع الأمراء الشباب. في حالات أخرى، مثل تلك الأشعار الغنائية التي كتَبها صوفيون خالصون؛ مثل: فخر الدين العراقي (المتوفَّى عام ١٢٨٩)، وجلال الدين الرومي (المتوفَّى عام ١٢٧٣)، يوجد قدرٌ أقل من الغموض حول نوايا الشاعر. إلا أننا في نهاية المطاف نجد أن مسألةَ نية المؤلف أقلُّ أهميةً من حقيقةِ أن الصوفيِّين استخدموا لأغراضهم الخاصة النوعَ الأدبي والتصوير الشعري المميَّزَين لشعراء البلاط الملكي. مرةً أخرى، نرى كيف تمكَّنَ الصوفيون من دمج الناس وكتاباتهم في تقليدهم الخاص، ومنحوا بهذه الطريقة لأعمال الآخرين معانيَ مُتوافِقةً مع معتقداتهم الصوفية. ومثلما صنع الصوفيون القدماء معانيَ تصوُّفية من القرآن، فقد وجدوا لاحقًا تأكيدًا مشابهًا في أغاني الحب المثيرة في فارس في فترة العصور الوسطى.
منذ عصر الرومي في القرن الثالث عشر، أصبحت الاحتمالات الغامضة التي يُثيرها الشعر الغنائي الفارسي راسخةً باعتبارها الوسط المفضَّل للتعبير عن الأفكار الجريئة. وفي حالة الرومي، تضمَّنت هذه الأفكار الجريئة بصفة أساسية إعلانَ أن جلال الله يُشرِق من وجه صديقه الحميم، شمس الدين التبريزي. إلا أنه على الرغم من لَوعة وإثارة غزليات الرومي التي يقدِّم فيها طريقةَ الصوفية على أنها طريقُ حيرة ونشوة الحب، فإنه في قصيدته السردية الضخمة والمطوَّلة المُسمَّاة «مثنوي» (أي: النَّظم المزدوج المُقفَّى) قدَّمَ أكبرَ إسهام في نشر الأفكار الصوفية. وعلى الرغم من أنَّ أنواع النَّظْم الأقصر المتمثِّلة في الرباعيات والشعر الغنائي كانت مناسِبةً للأجواء الغنائية التي كانت تهدف إلى استحضار «التواجد»، الذي يؤدِّي إلى حالة النشوة المرتبطة بالوصول لله، فإن هذا النَّظم القصير كان وسيلةً ضعيفة لعرض المعتقد الصوفي؛ ولهذا السبب، استخدم الصوفيون القصيدةَ السردية الفارسية. ومثل بقية أنواع الشعر الفارسي، ظهر الشعر السردي في قصور حكَّام خراسان، وفيما يتعلَّق بتطوُّر السرد الديني — وبصفة خاصة الصوفي — فقد كانت الشخصية المحورية هي أيضًا السنائي في بلاط السلاطين الأتراك في غزنة (أفغانستان حاليًّا) في أوائل القرن الثاني عشر.113 وعلى الرغم من أنه من الأفضل اعتبار السنائي شاعر بلاط عن اعتباره من المتصوفين — إذ تراوحَت قصائده ما بين الاحتفاء بالخمر إلى تقديم المَواعظ حول السلوك الجيد؛ نظرًا لأنها كانت تُغنَّى وفقًا للحالة المزاجية لأسياده — فإن قصائده المطوَّلة وضعَتْ أسسَ استخدامِ الشعر كوسيلة تعليمية؛ ففي أعمالٍ مثل «حديقة الحقيقة وشريعة الطريقة» و«سير العباد إلى المَعاد»، حوَّل السنائي القوافي إلى خرائطَ رمزيةٍ للكَون تَكشف رحلةَ الروح عبر العوالم الكونية المتعدِّدة.114
في أغلب الأحيان، أدَّى ثراء المفاهيم والمصطلحات الصوفية المتخصِّصة في قصائد السنائي إلى اعتبارها «موسوعة» المعتقَد الصوفي، إلا أنه نظرًا لكون السنائي فنانًا ماهرًا ومبدعًا، فقد كان متنوِّعًا أكثر مما كان منهجيًّا. وعلى الرغم من أن الصوفيين أخذوا قصائدَه ومَنحوها تفسيرات باطنية، فإن مصادره كانت أكثر تنوُّعًا؛ إذ كانت تعكس مزيجًا من الفلاسفة والعلماء والمتصوِّفين الذين تردَّدوا على البلاط الغزنوي. وبعد قرن، وفي خراسان أيضًا، منح فريد الدين العطار (المتوفَّى عام ١٢٢٠ تقريبًا) مزيدًا من الاتساق العقائدي للقصيدة السردية التعليمية الفارسية التي كتب منها العديدَ من النماذج المهمة.115 وكان «منطق الطير» أبرز هذه القصائد، وفيها ضُرِبت أنواعٌ مختلفة من الطيور مثلًا لأنواع البشر، وكان بحثُها عن «سلطان الطير» عبر الوديان السبعة التي حملت أسماء مثل «العشق» و«الحيرة» يرمز إلى المقامات الموجودة على طريق الوصول إلى الله. وربما في أشهَر التوريات في الأدب الفارسي كلِّه على الإطلاق، يُدرك الثلاثون طائرًا (سي مُرج بالفارسية) التي تَصل إلى وجهتها النهائية أنها نفسها كانت مُتطابقة مع الكائن الأسطوري الجرفين الذي سمَّاه «سيمرج» الذي كان مَلِكها؛ أيْ إنه عندما يُدمِّر الصوفي نفسَه الدنيا من خلال اتِّباع الطريقة، فإنه لا يبقى في نهاية الرحلة إلا الله.
من منظور قياس الانتشار الناجح للصوفيين، الذي كان سمةً محورية للغاية في إسلامِ فترةِ العصور الوسطى، من المُهم أن ندرك أنه في ظل السياقات الثقافية في عصرِ ما قبل التصنيع مثَّلت تلك القصائد نوعًا من أنواع الترفيه؛ فهذه القصائد التي كان يَحفظها الشعراء المُحترفون شكَّلت ساعات من الترفيه التي يُمكن بسهولة نقْلُها وإعادة إنتاجها للجمهور الذي سيَكتسب فِكرها بالإضافة إلى التسلية. وإذا نظرنا إلى جلال الدين الرومي من منظور زمنه، فسنجد أن هذا الأمر يَنطبق عليه بصفة خاصة، فهو أعظم شعراء السرد الصوفيين، الذي اعتمد في عمله «مثنوي» بأريحية كبيرة على التراث والحِكَم والفكاهة الشعبية؛ بحيث بلغ به الأمر أن ارتكَزت إحدى قصصه الرمزية على افتتان جارية بقضيب حمار.116 وكما في حالة القصائد الغنائية المعدَّة لأن تكون مصحوبة بالموسيقى، فمن خلال النِّكات والقصص التي نسَجها الصوفيون في شعرهم تمكَّنوا من ربط رسالتهم بوسائل رحَّب بها العوام وغير المتعلمين في قراهم. ومقارَنةً بالكتيبات العقائدية، وحتى بالرسائل المتهوِّرة وإن كانت معقَّدة، فقد كانت تلك القصائد تلقى قدرًا أكبر من الاستحسان والفهم الفوريين. وإذا كان الأدب النثريُّ العربي الذي رأينا الصوفيين يَكتبونه منذ أوائل أيامهم في بغداد قد ساعَدهم في الحفاظ على مكانتهم في الطبقة الدينية المُسيطِرة، فإن استخدامهم لأنواع الترفيه المحلية هذه مكَّنهم من الوصول إلى جمهور عام أكثر. وإذا كان تقديس الأولياء قد أكسبهم تبعيةً هائلة قائمة على القوة والاحترام، فإن إضفاء الطابع المحليِّ على تعالميهم ضمِنَ أن تكون هذه العلاقة أيضًا علاقةً تملؤها العاطفة ويُغذِّيها على الأقل قدرٌ من الفهم.
إن الحياة الفعلية لشُعراء مثل العطار والرومي تؤدي بنا إلى سمة أخرى مهمة من سمات انتشار الفارسية، مع خروج اللاجئين الهاربين من خراسان في أعقاب الغزو المغولي.117 لم يكن العطار محظوظًا للغاية؛ ففي وقتٍ ما قُرْب عام ١٢٢٠ اختفى الشاعر في مجزَرة عظيمة لا يُعرَف فيها أسماء الضحايا، مثله مثل آلاف غيره من رفاقه القُرويين في نيسابور. أما الرومي الصغير الذي قضى طفولته في بلدة فخش ثم بلدة بلخ في خراسان، فقد كان أوفر حظًّا، وكان والده العالِم يتمتَّع بعلاقات مكَّنته من الحصول على منصب في عاصمة الأتراك السلاجقة الجديدة في أرض الروم أو الأناضول، التي منها اكتسب الرومي اسمه. وعندما ذبح المغول المُنظِّر الصوفي صاحب رؤى النور و«مؤسِّس» الطريقة الكُبروية نجم الدين الكبرى، هرَب بعض أتباعه إلى الأناضول أيضًا، وفي مدينة قيصري لخَّص تلميذه نجم الدين الرازي (المتوفَّى عام ١٢٥٦) تعاليم شيخِه في رسالة نثرية باللغة الفارسية، حملت عنوان «مرصاد العباد من المبدأ إلى المعاد».118 أما بقية أتباع نجم الدين الكبرى، فهربوا إلى الهند، ونشروا التعاليم والطريقة التي تَحمل اسمه لجمهورٍ كان مُتحمِّسًا لحكمة خراسان، التي أصبحت مشهورةً في ذلك الوقت.119 وهكذا، لم يضع المغول نهايةً للصوفيين ولا لولعهم الجديد باللغة الفارسية. وكما رأينا، فعندما بدأ المغول اعتناقَ الإسلام منذ نهاية القرن الثالث عشر، أصبحوا أيضًا مُناصِرين مُثابِرين للصوفيين، مثل البدو السلاجقة السابقين الذين كانوا من قبلهم. إلا أنه في الفترة ما بين ظهور المغول في آفاق خراسان في عشرينيات القرن الثالث عشر، وتكيُّفهم مع الإسلام بعد دخول القائد المغولي محمود غازان خان في الإسلام عام ١٢٩٥، أثاروا أزمةَ لاجئين عزَّزت الشتات الخراساني الذي أدَّت عاداته وثقافته إلى تكوين صِيَغ إبداعية للغاية في أوطانهم الجديدة المتعدِّدة. وهرب آلاف من الأشخاص سواء إلى الغرب حيث الأناضول، أو إلى الجنوب حيث الهند، فارِّين من خراسان التي نمَّت تقاليد الصوفية المميزة، وكانت رائدة الاستخدام الأدبي للغة الفارسية أيضًا.
على الرغم من أنَّ الفارسية كانت موجودة بالفعل في شمال الهند، فإن الدور الذي لعبتْه دلهي بوصفها «قبة الإسلام» الحارسة التي تَحمي هؤلاء اللاجئين، جعلها تُكوِّن أدبًا نثريًّا فارسيًّا ثريًّا يُشبه كثيرًا أدب خراسان. مرة أخرى، ليس من الحكمة اعتبار ذلك الأمر افتقارًا للإبداع؛ فبقدر ما كان الإبداع مفهومًا معروفًا لدى الناس، فقد كان مكروهًا وكانوا يُفضِّلون عليه التقليد، وإلى حدٍّ كبير اعتبر صوفيُّو الهند أتباع الطريقة الجشتية والطريقة الكبروية أنفسَهم وَرَثةَ تقليدي خراسان اللذَين تأسَّست فيهما هاتان الطريقتان المميزتان. على الرغم من ذلك، فقد دفع الهنودُ وَرَثةُ هذا الخروج الخراساني بالأنواع الأدبية التي ورثوها إلى اتجاهات جديدة، ونخصُّ بالذكر منها توسيع نطاق الممارسة القديمة المتمثِّلة في اقتباسِ أقوال الشيوخ، لتُصبح نوعًا أدبيًّا جديدًا تمامًا يقوم على «تدوين الحوارات»، وعُرِف هذا النوع باسم «الملفوظات». ومنذ عصر الصوفي الجشتي نظام الدين أولياء الذي أقام في دلهي (المتوفَّى عام ١٣٢٥) فصاعدًا، أصبحت الملفوظات تقنيةً ورقية لإعادة إنتاج الكلمات الحية الدقيقة للشيخ المُلهَم بعد وفاته بزمن طويل. ومع انتشار صوفيِّي سَلطنة دلهي في جنوب وشرق الهند وأيضًا شمالها، أصبحوا أيضًا مروِّجين حكماء للُّغة الفارسية، ومُنتجين متحمِّسين لأعمالٍ مكتوبة بها. وعن طريق إلهام شعراء بلاط مثل أمير خسرو (المتوفَّى عام ١٣٢٥)، نجح الصوفيون في تطويع الصيحات الأدبية في بلاط دلهي وفقًا لأهدافهم، بطريقةٍ ماثلَت ما حدث في السابق في البلاطات الملكية في خراسان قبل غزو المغول.120 وبهذه الوسيلة، وضعوا أساسَ مجموعة ثرية من الأعمال الأدبية تنوَّعت ما بين سِيَر الأولياء والرسائل المتخصِّصة ومجموعات الخطابات المعروفة باسم «المكتوبات»، والتي أعادت إنتاجَ أنواع التعبير الصوفي الفارسي التي تشكَّلت في السابق في إيران وآسيا الوسطى في البيئة الجديدة.121
على الرغم من أنه من الناحية الأدبية كانت الفترة السابقة على القرن الثاني عشر تَنتمي في الأساس إلى اللغة العربية، وأن الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن السادس عشر تنتمي في الأساس إلى العربية والفارسية، فإنه في مواقف معينة استُخدِمت في الكتابة والتأليف لغاتٌ أخرى. فإن كانت الفارسية قد استُخدِمت كلغة محلية في أجزاء كبيرة من آسيا الوسطى وإيران، وكانت مفهومةً على نحوٍ كبير بين أوساط المتعلمين أو المهاجرين في الأناضول والهند، فإنها في المنطقتين الأخيرتَين لم تكن لغةً محليةً على الإطلاق. ومثلما استغرقَت الفارسية عدة قرون لتُثبِت أهليتَها كلغةٍ أدبية خارجة من ظلِّ اللغة العربية، استغرقت الأشكال المختلفة من اللغتين التركية والهندية/الأردية وقتًا للخروج من ظلِّ الفارسية. وعلى الرغم من أن المرحلة الثانية هذه من عمليةِ إضفاءِ الطابع المحلي على الفكر الصوفي كانت قيد التنفيذ بالتأكيد منذ فترة العصور الوسطى، فإنها لم تكتمل إلا متأخرًا في القرن السابع عشر. وحتى إذا لم يُدوَّن استخدام الصوفيين لِلُّغات الهندية والتركية إلا نادرًا في هذه الفترة المبكرة، فإنه يوجد لدينا دليلٌ كافٍ يسمح لنا برؤية أن أسلوب الصوفيِّين في نشر أفكارهم بلغات العوام قد بدأ بالفعل في التوسُّع من الفارسية إلى الهندية والتركية وحتى الملايوية. وبطبيعة الحال، احتاجت الفارسية إلى رعاية الحكام كي تُستخدَم في الكتابة، وفي النهاية سيكون السلاطين والدول — لا الصوفيون والفلاحون — هم المسئولون عن استخدام اللغتَين التركية والهندية في الكتابة. على الرغم من ذلك، فإننا نمتلك أمثلةً كافية على استخدام الصوفيِّين لهاتَين اللغتَين المحليتَين الأقل مكانةً، ليشيروا إلى استعدادهم لتبنِّي أي لغة ضرورية للوصول إلى نطاق أكبر من الجمهور، وإنْ كانت عادةً هذه الأمثلةُ متمثِّلةً فقط في الأجزاء المضافة المقحَمة في النصوص الفارسية. في أغلب الأحيان كان يَنطوي الأمر على تسوية لغوية، وتمثَّلت تلك التسوية في أننا نجد الصوفيِّين، في كثيرٍ من الحالات، يُدخِلون في هذه اللغات الأخرى المصطلحاتِ العربيةَ الدالَّة على مفاهيمهم التي شهدنا تكوُّنها كمصطلحات متخصِّصة للصوفيين في بغداد. كانت هذه التسوية انعكاسًا لعلاقةِ تبادُل النفوذ على صعيد الازدواجية اللغوية بين اللغة العربية واللغات المحلية الأخرى — بدايةً من الفارسية، ووصولًا إلى الهندية والتركية والملايوية وغيرها في نهاية المطاف — التي حملت مصطلحاتِ مؤسِّسي التقليد الصوفي، التي أصبحت تحظى بالتقدير في ذلك الوقت.122 على الرغم من ذلك، لم يقتصر استعدادُ كثيرٍ من الصوفيين على استخدام اللغات المحلية فحسب، بل كانوا مستعدِّين أيضًا لاستخدام المصطلحات والقصص المألوفة لجماهير تلك اللغات؛ ففي الهند يرتبط أقدم الأدلة على ذلك بشيخ الطريقة الجشتية فريد الدين كَنج شَكَر (المتوفَّى عام ١٢٦٥)، الذي انتقلت أشعاره المكتوبة بشكل قديم من اللغة البنجابية شفهيًّا عبر الأجيال، قبل أن تجد لنفسها في نهاية المطاف موطنًا غير مُتجانس معها تمثَّلَ في الكتاب المقدَّس لدى السيخ، المعروف باسم «أدي جرانت»123 في الجيل التالي، بَدَا شاعر البلاط المنتمي للطريقة الجشتية أمير خسرو (المتوفَّى عام ١٣٢٥) يكتب أغاني صوفية تعبُّدية بلغة هندية مبكِّرة، إلا أن هذه الأشعار ظلَّت غير مكتوبة لقرون أيضًا.124 وبين الجشتيِّين أيضًا ظهر أول عمل نثري عن الصوفية مكتوب بالهندية/الأردية، وكان هذه المرةَ في جنوب الهند، وحمل اسم «معراج العاشقين»، وكتبه محمد الحسيني «كيسو دراز» (أيْ طويل الشَّعر) الذي هاجَرَ من شمال الهند إلى جنوبها. وألَّف الحسيني الكتابَ في عاصمة السلاطين البهمنيين، الذين بَنَوْا له بعد وفاته عام ١٤٢٢ ضريحًا ضخمًا من الحجر.125 ولعب البلاط الملَكي دورًا أكثر مباشَرةً في أول قصيدة سردية صوفية أو «مثنوية» مكتوبة باللغة الهندية قبل القرن السادس عشر؛ لأنَّ مؤلِّفها كان شاعرًا من شعراء الحاشية الملَكية يَحظى برعايةِ حاكمٍ إقليمي في شرق الهند. وفي محاكاة لاستخدام الرُّومي للحكايات الشعبية المحلية في الأناضول، في منطقة أوده اقتبس المريد الجشتي وشاعر البلاط المُلا داود واحدةً من أكثر القصص الغرامية شعبيةً في المنطقة، وكذلك لهجة المنطقة، ليَكتب عام ١٣٧٩ عمله «تشاندايانا».126 في ذلك الوقت، لم تقتصر نافذة الاطلاع على المسعى الصوفيِّ على قصص الطيور الرمزية التي ألَّفها العطار بالفارسية، بل امتدَّت لتشمل حكايات غراميات ومُغامرات حظيَت باستحسان القادة المحاربين ساكني القصور، وفهمَها أيضًا العوام في الريف؛ حيث من المُمكن افتراض أنَّ هذه القصائد انتشرت حاملةً معها عبق البلاط الملكي. وعلى الرغم من أنه لم يَبْقَ مثنويات هندية أخرى من هذه الفترة، فقد شهد القرن السادس عشر والقرن السابع عشر كتابةَ الكثير من قصائد المثنويات الغرامية الصوفية باللغة الهندية.127 ونظرًا لانغماس الصوفيين في المناظر الطبيعية الهندية وأبطال الهند والخيال الهندي الجامح، فقد بلَغوا بحلول القرن الخامس عشر مبلغًا استثنائيًّا في إضفاء الطابع المحلي على تعاليمهم، ورأى كثير من الصوفيِّين أن هذه العملية تُعدُّ خلطًا للإسلام بالوثنية. ولكن في ظل القَدْر الكبير من التكيُّف الذي أظهرَتْه الطريقة الجشتية مع بيئتها الثقافية، أبدى أمثال أمير خسرو والملا داود استعدادَهم لخوضِ غمارِ هذه المُخاطرة.
كان استخدامُ اللغة التركية ثالثَ أكبر توجُّه فيما يتعلَّق باستخدام اللغات المحلية الذي نجده في هذه الفترة. ونظرًا للقوة السياسية التي تمتَّعت بها الجماعات التركية على تنوُّعها، فإنه من المفاجئ مبدئيًّا أنهم لم يرعَوا إلا قدرًا قليلًا من الأعمال الأدبية المكتوبة بالأشكال المختلفة للغتهم. إلا أن العلاقات التي تكوَّنت بين المحاربين الترك وطبقة المتعلِّمين — الأقدم منهم — صاحبة النفوذ، جعلت الترك يَختارون في الغالب دعْمَ استخدام اللغتين العربية والفارسية الأرقى مكانةً. ويُعدُّ ابن الرومي نفسه، الذي أقام في قونية عاصمة السلاجقة في الأناضول، المثالَ الأبرز في هذا الشأن، وبالرغم من ذلك فإنه توجد بعض الأدلة على استخدام الصوفيِّين اللغةَ التركية في فترة العصور الوسطى، حتى إنْ كانت هذه الأشعار لم تُدوَّن لعدة قرون. وأهم هذه الأمثلة الرباعيات، المعروفة باسم «حكمت» (أيِ الحكمة) المنسوبة إلى الصوفي أحمد يسوي — الذي كان يقطن آسيا الوسطى (المتوفَّى عام ١١٦٦ تقريبًا) — والتي ناصرت حياةَ الزاهد واحتفت بمعجزات الأولياء. وإذا كان كثير من مجموعة أشعار اليسوي المزعومة يعود على الأرجح إلى فترةٍ لاحقة ومنسوبة زورًا لهذا الوليِّ، فإنه يبدو على الرغم من ذلك أنَّ الهدف الجمعي لهذه الأشعار كان نَشْر الإسلام (لكن بنسخته الصوفية) بين الأتراك البدو ساكني السهوب، الذين كانوا آنذاك لم يَعتنقوا الإسلام بعدُ، ودَعَم القصائدَ في هذه العملية ارتباطُها بالضريح العظيم المُشيَّد حول قبر أحمد يسوي في كازاخستان الحالية.128 وبعد قرن ونصف قرن عندما ثبَّت الأتراك أقدامهم في الأناضول، ساهَمَ شِعْر يونس إمره (المتوفَّى عام ١٣٢١ تقريبًا) في نشر صوفيةٍ تقوم على الإنسانية والحب، عن طريق أنواع الشِّعر الشفهي المُعقَّدة غالبًا، التي قدَّمها هو إلى التركية الأناضولية.129 ومن الأمثلة المهمَّة الأخرى عاشق باشا (المتوفَّى عام ١٣٣٣) صاحب الكتاب البارز «غريب نامه» (أيْ كتاب الغريب)، المكوَّن من نحو ١٢ ألفَ بيتٍ شعري مكتوب بالتركية، والذي ساهَمَ في نقل المعتقَد الصوفي المُعقَّد إلى النطاق المحلي.130 وعلى الرغم من أن يونس بَدَا درويشًا متجوِّلًا أكثر منه شيخًا مقيمًا ذا مكانة رسمية مرموقة، فقد كانت اللغة التركية تُستخدَم أيضًا من حينٍ لآخَر من قِبَل رعاة الأضرحة الأثرياء؛ تلك الأضرحة التي كانت تُشيَّد في الأناضول كجزء من رعاية السلاجقة والعثمانيين الأوائل للمؤسسات الإسلامية. وكان المثال الأهم في هذا الشأن هو سلطان وَلد (المتوفَّى عام ١٣١٢) ابن جلال الدين الرومي ومروِّج أعماله، والذي ضمَّت إنتاجاته المدوَّنة العديدَ من القصائد المكتوبة بالتركية، وعددًا أقلَّ من الأشعار المكتوبة باليونانية، التي ما زال يُنشِدها معظمُ المسيحيين في المنطقة.131 وعلى الرغم من أن عدد القصائد التركية التي كتبها سلطان يتضاءل أمام أشعاره المكتوبة بالفارسية، التي تُناهز أربعين ألف بيتٍ شعريٍّ، فإن وجود هذه القصائد التركية يُعدُّ دليلًا على أن الصوفيين في فترة العصور الوسطى سعوا حثيثًا إلى الوصول إلى الجماهير التي لا تُتقِن اللغةَ العربية أو الفارسية. وكانت هذه الاستراتيجية ناجحةً؛ لأنه من خلال التحوُّل إلى أنماط التعبير المحلية — لا سيما أنواع الشعر والغناء الشفهية والمعتمِدة على الأداء — تمكَّنَ الصوفيون من الوصول إلى قطاعٍ أكبر من الجمهور يفوق ما كان من الممكن أن يصلوا إليه دون استخدام هذه الطريقة؛ فاكتسبوا أتباعًا ليس فقط من سكان المدن ومِن المتعلمين، وإنما أيضًا من الأميين البدو والفلاحين الذين تعرَّفوا على الإسلام أولًا من خلال كلمات الصوفيين.

ملخص

في الوقت الذي تزايَدَ فيه استخدام الصوفيين لِلُّغات المحلية الأكثر سهولةً لاستعراض التفاصيل الأدق لأفكارهم، استمر الصوفيون المتعلمون في كل المناطق في استخدام اللغة العربية. وبعد فترة مُبكرة سيطرت عليها الرسائل القصيرة والكُتيِّبات الأكثر طولًا، ندخل بعد القرن الثاني عشر فترةً توسَّع فيها الإنتاج الأدبي الصوفي المكتوب بالعربية من حيث الطول والأنواع الأدبية؛ ففي اللغة العربية واللغة الفارسية المساعدة لها، أسفَرَ التوسُّع في اللغات المحلية غير المكتوبة عن غزارةٍ أدبيةٍ هائلة تمثَّلت، على سبيل المثال لا الحصر، في السِّيَر، وأدلةِ زيارة المقامات، والمكتوبات، والمَلفوظات، والقصائد الملحمية، واليوميات الخاصة بالأحلام. وعلى صعيد الأنواع الأدبية والصعوبة، وكذلك الطابع العام والموضوع، فإنه فيما بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر أصبحت المصطلحات والمفاهيم الأساسية، التي تكوَّنت في أولى فترات تطوُّر الصوفية، أكثرَ تنوُّعًا على نحوٍ كبير، بحيث صارت تلبِّي احتياجات نطاقٍ أكبر بكثير من المسلمين عبر المناطق والطبقات الاجتماعية المُختلفة وتَعكس عوالمَهم. إلا أنَّ الصوفيين عند التوسُّع من الاستخدام المبكِّر للعربية إلى استخدام الفارسية واللغات الأكثر محليَّةً غيَّروا أيضًا، على نحوٍ فعَّال، متطلبات الالتحاق بطرُقهم، من المعرفة الدقيقة بالقرآن وطرُق الذِّكر والخَلوة الخاصة إلى منهجٍ أكثر سهولةً بكثير، تطوَّرَ من غناء الأغاني المحلية التي كتَبها يونس إمره، ووصَل إلى التفكير في تفسيراتٍ للقصص الرمزية التي كتَبها العطار. وعلى غرار شائعات المُعجزات التي انتشرت بين زوَّار أضرحة الأولياء الصوفيين، فمع مرور الوقت تمكَّنت الأنواع الشِّعرية هذه المنقولة شفهيًّا من اختراق خيال العوامِّ، وتشكيله على نحوٍ لم يَستطعه القرآن. ونظرًا لأنه مع مرور الوقت أصبحَت العربية لغة القرآن أكثر بُعدًا عن لغات الإسلام الكثيرة المتحدَّث بها، فقد ساهمَت الأغاني وأضرحة الصوفيين في رأب المسافة المُتزايدة بين المؤمن وزمن نزول الوحي على النبي محمد. وبالنسبة إلى أعداد المسلمين المتزايدة في مناطقهم البعيدة، فقد كان ما يَعرفونه عن الإسلام هو ما نُقِل لهم عبر ألسِنَة الصوفيِّين في مجتمعاتهم ومقابرهم.

ومن ثَمَّ، كان تبجيل الأولياء — الذي مِن خلاله تميَّز الصوفيون في العمارة والطقوس والسرد — الجسرَ الأساسي بين الصوفية كطريقةٍ باطنية تَنتمي لحركة محدودة حتمًا، مُكوَّنة من متطلِّعين روحانيين ملتزمين، وبين الصوفية كمنهجٍ متجدِّد يَفِي بالاحتياجات الدينية لمُناصِرين عددهم هائل. ولما كان الأولياء الصوفيون «المقدَّسون» ذوي مكانة عالية ومن المُمكن التواصل معهم عبر أضرحتهم التي يَسهل الوصول إليها، فمن الممكن أن يكونوا وسطاء بين القوة البشرية المحدودة النطاق وبين قوة الله غير المحدودة. وهذا الترتيب الذي أعيد إنتاجه في أبنِيَة الأضرحة من المغرب حتى تركستان كان مفيدًا للفلاحين قَدْر ما كان مفيدًا للسلاطين؛ حيث أسهَمَ كلٌّ منهما في نفقات الأضرحة، مما وضع الصوفيِّين في أنماط المبادَلة التي ربطتهم بجماعات المناصرين لهم، عن طريق شبكة جمائل مُتبادلة. ونظرًا لبعد هذه التطورات عن نموذج الصوفية كمسعًى تصوُّفي شخصي للاتحاد مع الله؛ فقد اعتُبِرَت في وقتٍ ما إيذانًا بنهاية الصوفية «الحقيقية» في فترة العصور الوسطى. إلا أنَّ هذا التفسير يُعدُّ إغفالًا للفكرة الأساسية للولاية والاستراتيجيات الاجتماعية التي من خلالها تمكَّنَ الصوفيُّون من البقاء وإعادة إنتاج تقليدهم عبر الزمن؛ فالأضرحة لم تكن مؤسَّسات منفصلة عن غُرف التربية ومساكن الإيواء وأماكن الخَلْوة التي كان يحدث فيها «التصوف»، بل كانت عُنصرًا في مُجَمَّعات أكبر يشترك فيها الزوَّار اليوميُّون والصوفيون الدائمو الإقامة. ومن المنطقي أن نعتقد أن هذه الأضرحة المقدَّسة الموجودة في تلك المُجمَّعات مثَّلت الواجِهة العامة الجامعة للزوار للمُجتمعات الأوسع نطاقًا، التي اعتمد عليها الصوفيون في الحصول على الدعم المادي.

كما رأينا، فإنَّ تقديس الصوفيِّين لم يأتِ من فراغٍ بل استنَدَ إلى أُسُس عقائدية في النظرية التي نُوقِشت في كتابات الصوفيين المبكرة، التي تقول إن لله أولياء. وفيما بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر، استُخدِمت هذه الأفكار القديمة، بصفتها مصادر للتقليد، من أجل تفسيرِ طريقةٍ اجتماعية دينية قائمة على «حكومة خفية» هرمية محدَّدة، مكوَّنة من الواجدين الأولياء. ومن المنطقيِّ اعتقادُ أن تطوُّر تبجيل الأولياء نتيجةٌ منطقية للاستثمار المادي المُتزايد في هذه الأيديولوجية، الذي حدَث مع اكتساب الصوفيين أتباعًا كثيرين مِن النخب بدايةً من القرن الثاني عشر فصاعدًا، من خلال تحالُفهم مع الحكَّام البدويِّين المستقرِّين في الشرق، ومُناصري حركة الإحياء السُّنِّية من الحكام في الغرب. وهذا التقديس لم يَحدث في حالةِ فراغٍ مؤسسي، بل رافَقَ الخدماتِ العامةَ للصوفيِّين كأولياء خدماتٌ أخرى أكثر خصوصيةً للطرُق الجديدة التي حدَث فيها التقديس كجزءٍ من النتيجة المباشِرة للبناء المؤسَّسي، الذي من خلاله نال مؤسِّسو الطرقِ التقديسَ عن طريق تبجيل أعضاء الطرُق لهم. وعملت آليات التقديس والتقليد على نحوٍ مُتوافِق؛ حيث تطلَّبت المكانة المرموقة للمعرفة والبركة المتوارَثتَيْن عبر سلاسل شيوخ الطرق أن تُعتبَر كلُّ شخصية في السلسلة من الأولياء، وإلا فستُصبح سلسلةُ الأولياء غيرَ كاملة، وتُصبح المعرفة والبركة المنقولة عبرها غير ذات قيمة؛ ومن ثَمَّ، فإن منطق التقليد — واستخدامه للأساس المفاهيمي للطرق — أصبح في حدِّ ذاته دافعًا لإنتاج الأولياء.

مثَّلت الطرُق الصوفية — باعتبارها مؤسسات تنظيمية ومفاهيمية مرتبطة بمُجمَّعات الأضرحة الذائعة الصيت والمُدِرَّة للمال — وسيلةً لربط أفكار ومُمارسات الصوفيين بالجماعات الفعلية التي يُمكن زيادة توسيع عضويتها من خلال طقوس الالتحاق البسيطة التي تتمُّ على يد شيخ. وعلى الرغم من أنه سيكون مِن الخلط الزمني اعتبارُ أنَّ هذه الطرق تُشبه المؤسسات الحديثة ذات الهرميات المتكاملة، التي تتمتَّع بوسائل اتصالٍ فعَّالة بين مراكزها الجغرافية العديدة، فإن هذه الطرق في عملها كشبَكات مفاهيمية (وإنْ لم تكن تنظيمية دائمًا)، تمكَّنت من تكوين مؤسسات مُتماثِلة (وإنْ لم تكن مترابِطة بالضرورة) في البيئات الكثيرة المختلفة التي عاش فيها مسلمو فترة القرون الوسطى. ومن خلال إعادةِ إنتاج هذه المؤسسات المتماثلة عبر مسافاتٍ تُقدَّر بآلاف الأميال، خلقت هذه الطرقُ آلياتِ تفاعُلٍ وترابُط ومُزامَلة بين المسلمين، الذين كان سيَتزايد تفرُّقهم بسبب الخلاف السياسي والاختلاف العِرْقي لولا هذه الطرق. ومن خلال صنع هؤلاء الأولياء والطرُق ووَصْفهم بالمصطلحات العربية نفسها في مناطق بعيدة، مثل خليج البنغال وساحل شمال أفريقيا المطل على المحيط الأطلنطي، جعَل الصوفيون الإسلامَ ملموسًا في بيئاتهم المحلية ومتَّسقًا عبر العالَم الأوسع نطاقًا. وبهذه الطريقة، جعلت هذه التطوُّراتُ الصوفيةَ جزءًا لا يتجزَّأ من الإسلام نفسه، بالنسبة إلى ملايين عديدة من مسلِمِي فترة القرون الوسطى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤