الفصل الرابع

من الاستعمار إلى العولمة (١٨٠٠–٢٠٠٠)

(١) تمهيد

ليست الصوفية باستثناءٍ للقاعدة العامة التي تَقضي بضرورةِ وضْعِ تأثيرِ الاستعمار الأوروبي في الاعتبار عند فهْمِ أيِّ جانبٍ من جوانب التاريخ الإسلامي الحديث. ففي حين شهد النصف الثاني من القرن الثامن عشر وقوعَ أعداد كبيرة من المسلمين تحت السيطرة الأوروبية في شبه جزيرة القرم والبنغال في حالة الإمبراطورية الروسية، و«إمبراطورية الشركة» المُتمثِّلة في شركة الهند الشرقية البريطانية، فإنَّ القرن التاسع عشر شهد أكبرَ توسُّعٍ أوروبي في المناطق الإسلامية. ومن المُهمِّ إدراك نطاق هذه التطورات.1 فتَحْتَ أسماءٍ إدارية مختلفة، تضمَّنَ الاستعمارُ البريطاني الاستحواذَ التدريجي على ما يُعرَف اليومَ بالهند وباكستان وبنجلاديش، وماليزيا وسنغافورة، ونيجيريا والسودان والصومال، وزنجبار وكينيا، وأوغندا وجنوب أفريقيا، ومصر، ولفترةٍ أقصرَ فلسطين والأردن. وتحتَ أسماءٍ متنوِّعة مماثِلة، تضمَّنَ الاستعمارُ الفرنسي الاستحواذَ على الجزائر وتونس والمغرب، والسنغال وموريتانيا ومالي، وتشاد والنيجر، ولفترةٍ أقصرَ سوريا ولبنان. وتضمَّنَ الاستعمارُ الهولندي غزْوَ أَرْخَبيلِ الجزر الشاسع الذي يضم إندونيسيا حاليًّا. وتضمَّنَ الاستعمارُ الروسي غزْوَ شبهِ جزيرة القرم ومناطق الفولجا، والقوقاز (لا سيما الشيشان)، والتوسُّعَ الهائل في وسط آسيا فيما يشكِّل الآن جمهوريات كازاخستان، وتركمانستان، وأوزبكستان. علاوةً على ذلك، عاشت أعدادٌ أصغر من المسلمين تحت الحكم النمساوي المجَري في البلقان، وتحت الحكم الإسباني في شمال وغرب أفريقيا، بينما شهد التوسُّع الغربي لإمبراطورية تشينج في وسط آسيا حكمَ أسرةِ هان الصينية للمسلمين في المنطقة التي ظلَّت حتى يومنا الحاضر منطقةَ سنجان أويغور ذات الحكم الذاتي، التي يسيطر عليها الصينيون. وفي عشرينيات القرن العشرين، كانت أفغانستان وإيران والدولتان القوميتان الجديدتان المتمثِّلتان في تركيا والسعودية، هي المناطق الكبيرة الوحيدة التي نجَتْ من الحكم الاستعماري، وإنْ كانت القوة الأوروبية فيها أيضًا محسوسةً بقوة، وإنْ كان على نحوٍ غير مباشِر.

في الفصل الثالث رأينا كيف كانت الصوفية عند تكوين الدول الجديدة والأوسع نطاقًا في أوائل العصر الحديث كامنةً في عدة مستويات في الحياة الاجتماعية والسياسية. وهذا الإسلام الصوفي الذي لم يكن ظاهرةً «تصوُّفية» محدودةَ النِّطاق، أصبَحَ من الناحية المؤسَّسية والعقائدية أساسَ المجال الإمبراطوري والزراعي والتجاري والبيروقراطي بجانب الديني. ورأينا أيضًا كيف أنه بعدَ قرنين من الألفية الإسلامية الجديدة في عام ١٥٩١ انتشرَتْ حملةُ تصحيحٍ تُطالِب بالتجديد الديني، استُخدِمت فيها السُّنَّة النبوية والشريعة لمواجَهةِ عمليةِ التنويع التي حدثت في القرون السابقة. في بعض الحالات (كما في حالة الإمبراطورية العثمانية)، حدَثَ انتشارُ هذه الصوفية الأكثر التزامًا بالشريعة داخل إطار مؤسَّسات الدولة القائمة، بينما في حالات أخرى (مثل حالة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى)، أسهمت هذه الصوفية في تكوين دولٍ حدودية جديدة. ولم يُسفِر تدهورُ أو انهيارُ الكثير من تلك الدول، وحلولُ الإمبراطوريات الأوروبية المُمتدة عبر مناطق إقليمية متعدِّدة محلَّها؛ عن تقليل النفوذ الصوفي على نحوٍ فوري، بل على النقيض من ذلك، كانت التغيُّرات في السلطة مصحوبةً بإعادةِ توزيعِ الموارد، وتكوينِ تحالُفات جديدة؛ حيث سعَتِ القوى الجديدة، سواء الاستعمارية أو المحلية، إلى كسب الشرعية النابعة من التعاون مع وَرَثة النبي الصوفيِّين. وفي فترةٍ شهدت تغيُّراتٍ اجتماعيةً وسياسية سريعة، اكتسبَتِ استمراريةُ التقليد الذي يمثِّله الصوفيون رأسمالًا رمزيًّا أكبر قدرًا. وحتى عندما بدأ العلم الحديث يهدِّد مزاعمَ صحةِ أنماط المعرفة الإسلامية والمسيحية القديمة، كان يوجد الكثير من الصوفيين الذين رأوا فرصًا في التقنية العملية للعلوم الجديدة. وفي مثالَيْن من أبرز الأمثلة على ذلك، أدَّى ظهور الطباعة في العالَم الإسلامي منذ عشرينيات القرن التاسع عشر، والتوسُّع في السَّفَر منذ خمسينيات القرن التاسع عشر عن طريق السفن والقطارات التي تعمل بالمحرِّكات البخارية؛ إلى وصول الصوفيين إلى جماهير جديدة في أمريكا الشمالية وأوروبا، بالإضافة إلى مناطقهم القديمة.

على الرغم من ذلك، كانت توجد على المدى الطويل عدةُ نتائج للتغيُّرات الاجتماعية والسياسية الهائلة التي صاحَبَت الاستعمارَ التدريجي لمُعظم أجزاء العالَم الإسلامي. لقد كان الاستعمار مشروعًا خطابيًّا إلى جانبِ كونه مشروعًا مؤسسيًّا؛ ومن ثَمَّ تضمَّنَ مواجَهةً عنيفة مع أشكال المعرفة المحلية التي قابَلَها الأوروبيون. ولم تكن أشكال المعرفة الصوفية — بما في ذلك أُسُسها المعرفية القائمة على الرؤى والطقوس والوساطات — استثناءً في هذا الشأن. وفي هذا السياق الاستعماري صاغ الإنجليز لأول مرة المُقابلَ الإنجليزي لمصطلح «صوفية»، وذلك عندما زاد تفاعُل الأوروبيين مع المسلمين في أماكن مثل البنغال.2 في البداية كانت التعريفات والصفات التي أُعزِيَت لهذا المصطلح إيجابيةً؛ وذلك بين وَرَثة التنوير المتحمِّسين أمثال السير ويليام جونز (١٧٤٦–١٧٩٤)، ويوهان فولفجانج فون جوته (١٧٤٩–١٨٣٢)؛ حيث كان يُعتبَر الصوفيون واحديِّين مُتسامحين لديهم ذوق رفيع في الشعر والموسيقى والخمر.3 وحتى المسيحيُّون الإنجيليُّون أمثال المبجَّل هنري مارتن (١٧٨١–١٨١٢) — الذي يُعدُّ أولَ المبشِّرين في إيران — رأوا الصوفيين بطريقةٍ إيجابية؛ إذ اعتبروهم متنوِّرين على نحوٍ كافٍ، يجعل تحوُّلَهم إلى المسيحية ممكنًا. إلا أنه مع توسُّع الاستعمار مع مرور القرن التاسع عشر، أصبح من المُحتمَل وجود التفاعُلات الأوروبية مع الصوفيين في ساحة المعارك، مثلما من المحتمَل وجودها على صفحات الشعر الفارسي؛ ونتيجةً لذلك، اكتسب مصطلح «الصوفية» — وبصفة خاصة المصطلحات المُقترَضة الدالة على المُنتسِبين لها مثل «فقير»، و«درويش» و«مرابط» و«مريد»، التي دخلَتْ لغاتٍ مثل الإنجليزية والفرنسية والروسية — دلالاتٍ سلبيةً تمثَّلت في التعصُّب والاحتيال.4 وعلى الرغم من ذلك، حتى في أوج العصر الاستعماري لم تكن التوجُّهات الأوروبية تجاه الصوفية سلبيةً على نحوٍ موحَّد، وفي أواخر القرن التاسع عشر، أسفَرَت الاختلافاتُ بين مختلِف الأوروبيِّين حول الإسلام عن خلْقِ تعريفٍ للصوفية استمرَّ حتى يومنا الحاضر. والسببُ في ذلك يرجع إلى أنه بينما نظر السَّوَادُ الأعظم من ممثِّلي الاستعمارِ إلى المسلمين كمُتعصِّبين، استخدَمَ الجناحُ الأكثر ليبراليةً — المتمثِّل في مفكِّري أواخر العصر الفيكتوري والعصر الإدواردي — خطابَ التصوُّف الجديد الرائج لتصوير الصوفيين على أنهم المقابل الإسلامي لحكماء اليوجا والبوذية الأكثر مُسالَمةً. وبهذا الأسلوب، سلَّطَ هؤلاء الباحثون الاستعماريون المُتعاطِفون الاهتمامَ على الأمور محلَّ المقارَنة والعامة، بدلًا من التركيز على الأمور السياقية والخاصة. بالإضافة إلى ذلك، سعوا في ظل البيئة الجدلية المناهِضة للإسلام التي كانوا يَكتبون فيها إلى إثارةِ التعاطف مع المسلمين من خلال تهميش الأبعاد الإسلامية في الصوفية على نحوٍ يَنطوي على التناقض، وهذا التركيز على الجانب التصوفي والمُتسامِي في الصوفية تضمَّنَ أيضًا تهميشَ الطقوس والمؤسسات الصوفية التي بدتْ «مرتبطةً بالخرافات» أو «باباوية» على نحوٍ مُستهجَن في عين البروتستانت أو غيرهم من الأوروبيين المناهِضين للمؤسَّسات الدينية. وعلى نحوٍ يَنطوي على مفارَقة، كانت العوامل التي همَّشَها هؤلاء المدافعون عن الصوفية بنِيَّةٍ حسنةٍ لجعل الصوفية أكثر استحسانًا لدى الجمهور الأوروبي والأمريكي، هي نفسها بالضبط تلك التي أبرزها في الوقت نفسه المُصلِحون المسلمون المناهِضون للصوفية كأسبابٍ تدفع المسلمين أنفسَهم للتخلِّي عن التقليد الصوفي. والسببُ في ذلك هو أنه في بداية القرن العشرين وجَدَ كلٌّ من البُعْد المنتقد للصوفية والبُعْد المدافع عنها في التصور الاستعماري للصوفية صداه بين المصلحين المناهضين للصوفية من ناحيةٍ، وبين المجدِّدين الصوفيين المحدِّثين من ناحيةٍ أخرى.
إذا كانت الفرص التي جاءت مع التعاون الاستعماري والتقنيات الصناعية تُشير إلى ضرورة عدم اعتبارِ أن الصوفيين هم الخاسِرون الواضحون في عصر الاستعمار والحداثة، فإنهم بالتأكيد ليسوا الجماعة الإسلامية الوحيدة التي انتهَزت الفرصَ التي قدَّمتها الظروف الجديدة. فالنسق الذي بدأ كإصلاحٍ صوفيٍّ فقهيِّ التوجُّه في أوائل العصر الحديث نأى بنفسه تدريجيًّا مع مرور القرن التاسع عشر عن أصوله الصوفية تحت ضغوط الاستعمار، وأصبح حركةَ إصلاحٍ مناهِضةً بشدة للصوفية، قدَّمت الصوفيين على أنهم العقبة الأساسية في سبيلِ تجديدِ الإيمان وليسوا الوسيلةَ له.5 وتزايَدَ الهجومُ القديم على البِدَع في أواخر القرن التاسع عشر ليتحوَّل إلى مطالَبةٍ بإصلاح كامل للإيمان، وكان هذا إلى حدٍّ ما استجابةً لقراءةٍ دينية للتاريخ رأت أنَّ الاستعمار وانهيار القوة الإسلامية عقابٌ على الانحراف عن طريق الإسلام الحق. وفي كثير من الحالات السابقة كان قادةُ حركات الإصلاح هذه هم أنفسهم من الصوفيون، وكانت وسائلهم التنظيمية هي الطرق الصوفية، واعتمادًا على تطوُّرات القرن الثامن عشر من خلال مزايا السفر بوسائل النقل البخارية، أصبحَتْ بعض هذه الطرق الإصلاحية عالميةَ النطاق حقًّا؛ فربطَتْ أفريقيا وشبه الجزيرة العربية وجنوب شرق آسيا وأوروبا داخلَ إطارِ سيرةِ أفراد منفردين.6
ونظرًا لأن الأنماط الاستعمارية المتغيرة للتجارة العالمية خلقَت حالاتِ تدهورٍ مقابلةً في المناطق الخارجة عن السيطرة الاستعمارية، أو نظرًا لأنَّ ظروف الحكم الاستعماري عزَّزت التحرُّرَ من سطوة القادة الصوفيين المتمرِّسين؛ تمكَّنت الطرقُ الإصلاحية من الاستفادة من المُطالَبة الجديدة بالتغيير الديني، مع التعهد في الوقت نفسه بتقديم النسخة الأصلية من التقليد الصوفي.7 على الرغم من ذلك، وبالنظر في التجربة التاريخية المتمثِّلة في انهيار القوة الإسلامية، فإنه في أوائل القرن العشرين اتخذ المتحدِّثون الرسميون للحركات الإصلاحية الأخرى، والأكثر نجاحًا في نهاية المطاف، خطوةً كارثية تتمثَّل في ترك التقليد الصوفي بالكامل. ونظرًا للخلفية الصوفية لكل كبار مؤسسي حركات الإصلاح المناهِضة للصوفية، يُمكن الزعم بأن الطرق الإصلاحية التي ظهَرت في القرن التاسع عشر كانت بمنزلةِ حصانِ طروادة، الذي سمحَ بتفريغ الصوفية تدريجيًّا من الداخل؛ ففي فترةٍ شهدَتْ ظهورَ الحركات «الأصولية» في عدد من أديان العالم، زعمَتْ حركاتُ التجديد التي ظهرت في مناطقَ إسلاميةٍ مختلفة أنَّ العودةَ إلى أُسُس الإسلام المتمثِّلة في الكتاب والسُّنَّة تتطلَّب التخلُّصَ من كلِّ ما يقف بين المسلم المعاصر وبين القرآن والحديث. ونظرًا لأن الصوفية هي مجموع الطقوس والتأمُّلات والمؤسَّسات التي تكوَّنت أثناء هذه القرون المتخللة — أيْ أنها تقليد — فقد كانت الضحيةَ المطلوبةَ للعودة الإصلاحية المباشِرة هذه إلى الأصول.

وجد هذا الرفضُ للتقليد مؤيدين كُثُر، خاصةً بين الطبقة الوسطى من الحضريين والمتعلِّمين الذين مقتوا ما اعتبروه أبَّهةً وامتيازاتٍ وفتورًا وكسلًا من جانب الصوفيين الذين عاشوا معتمدين على الشحاذة في الشوارع أو على المعاشات في عزبهم. وفي أوائل القرن العشرين، كانت تحوُّلات الحداثة تخلق سكانًا مسلمين جددًا، إما معزولين عن المؤسسات الصوفية القديمة المتمثِّلة في الأضرحة والطرق، وإما غير مرتبطين بها. وعن طريق المدارس الحديثة والأفكار العلمية، كانت تَنتشر أيضًا بين المسلمين المؤسساتُ وأنواعُ المعرفة الجديدة التي تجاهَلَتِ الصوفيين أو تحدَّت الأُسُس المعرفية لتعاليمهم، وكان هذا راجعًا جزئيًّا إلى تأثير الاستعمار. وبالنسبة إلى كثير من المسلمين الذين نشئوا في هذه الظروف الجديدة مَثَّل الصوفيون نوعًا من الإسلام غير مناسب، إنْ لم يكن زائفًا. ومع ظهور الحركات القومية المناهِضة للاستعمار عزَّز قرْبُ كثيرٍ من الصوفيين البارزين من القوى الاستعمارية أو من النخب غير المؤتمنة في المناطق الإسلامية القليلة المستقلَّة؛ الأبعادَ المناهِضة للصوفية، المُميِّزة لهذا النوع من التديُّن المتحرِّر من الوهم.

على الرغم من ذلك، لم يكن هذا المسار المألوف بعض الشيء للحداثة المناهِضة للتصوُّف سوى جزءٍ من القصة، وعلى الرغم من التوقُّعات العلمانية لمُنظِّري الحداثة في مُنتصف القرن العشرين، فإنَّ الصوفية لم تختفِ في النصف الثاني من القرن في أعقاب نهاية الاستعمار؛ فعن طريق الحوار الجدلي للصوفيِّين مع مُنتقِديهم الإصلاحيِّين والحداثيين ظهرت أيضًا حركةٌ مناهِضة للإصلاح، حاوَلَتْ إصلاحَ أو تحديثَ الصوفية بدورها. وفي حالات كثيرة، اختار المُنتسبون لهذه الحركات المناهِضة للإصلاح عدمَ وصفِ أنفسهم بالصوفيين المنتمين للطرق الصوفية، بل وصفوا أنفسهم — كما هو الحال مع الحركة البريلوية البالغة النجاح في الهند وباكستان — بالمسلمين المُلتزمين المنتمين إلى «أهل السُّنَّة والجماعة»، الذين تعلَّموا في المدارس بدلًا من المساكن الصوفية المميزة.8 ومن ثَمَّ عند تتبُّع الوَرَثة المعاصرين للتقليد الصوفي الذي يعود لقرون طويلة، يجب أن نضع في اعتبارنا أن كثيرًا من هؤلاء الوَرَثة اختاروا عدمَ وصْف أنفسهم ﺑ «الصوفيين». ومع تحوُّل العصر الاستعماري إلى عصرِ عولمة ما بعد استعماري، لم تَبْقَ فقط المؤسساتُ الصوفية القديمة التي قاوَمَتْ عواصفَ القرنين الماضيين من خلال التحالُفات الذكية والاستثمارات المُربِحة، بل ظهرت أيضًا في كاليفورنيا وكذلك في القاهرة أشكالٌ جديدة من الصوفية راقَتْ للاحتياجات والأذواق الحديثة، وكان من السمات الجذَّابة الضرورية لهذه الصوفية الجديدة تقديمُها في صورةٍ جديدة كممارَسة «تصوُّفية» صرفة، متمثِّلة في مجموعةِ أساليبَ يحقِّق الفردُ من خلالها التواصُلَ الشخصي مع الله، دون المُشتِّتات المتمثِّلة في الطقوس والمعتقدات؛ ومن ثَمَّ فإن هذه الصوفية المعزولة عن السياسة وعن جذورها الأصلية، والتي أصبحت تصوُّفًا صرفًا من خلال قَطْع علاقاتها بطوائف تبجيل الأولياء القائمة على الخرافة والدول الراعية «الفاسدة»، كانت نفسها نتيجةً لعملية تاريخية متمثِّلة في الاستمرارية التراكمية للتقليد، التي طالها الرفض في النهاية هي وتأثير الأيديولوجيات الحديثة مِن قِبَل النقد الاستعماري والإصلاح الإسلامي. وكما سنرى في الصفحات المقبلة، فإنه فيما يتعلق برفض الصوفية وإعادة اختراعها، كان ظهور كلٍّ منهما في القرنين التاسع عشر والعشرين ردًّا على التجربة التاريخية في الفترة المُعاصرة والسابقة له.

(٢) من المقاومة إلى التوافُق: الصوفية تحت حكم الاستعمار، منذ حوالي عام ١٨٠٠ إلى عام ١٩٥٠

نظرًا لأنَّ تأثير الاستعمار على الصوفية يُمكن تتبُّعه فعليًّا من خلال تفاعلات الإمبراطوريات الاستعمارية مع المؤسسات الصوفية والصوفيين، فإن الصفحات المُقبِلة ستركِّز كثيرًا على هذه التفاعلات المَلموسة إلى حدٍّ كبير قبل الالتفات إلى توجُّهات كلٍّ من الأوروبيين والمسلمين الذين استولوا على الصوفية أو رفضوها، أو أعادوا اختراعها بطرق مختلفة في عصر ما بعد الاستعمار. في العموم، يمكن رؤية تاريخ التفاعلات الاستعمارية مع الصوفيين على أنه نسق ثنائي الاتجاه، يقوم على الثورات على الاستعمار والتحالفات المؤيدة له، وهذا النسق يمكن رؤيته في حالات كثيرة كتطوُّر تدريجي لثورات فاشلة سمحَت بتحالُفات قائمة على التفاوُض.9 لذلك، في أوقاتٍ مختلفة لم تقمع الإمبراطوريات الأوروبية الصوفيين فقط، بل ناصرَتْهم أيضًا في بعض الأحيان. وكما هو الحال مع التفاعلات السابقة التي تتبَّعناها بين الصوفيين والإمبراطوريات الإسلامية السابقة للاستعمار، فمِن أجل فهم نوعَي السياسات التي انتهجهما الاستعمار يجب أن نُدرك الاختلافات الداخلية بين الصوفيِّين أنفسهم، نظرًا لاختلافِ ردودِ أفعالِ الصوفيين باختلافِ أنواعهم تجاه الوجود الاستعماري، واختلافِ مُعامَلة الحكَّام الاستعماريِّين لهم في المقابل. في العموم، بدَأ سياسةَ التمرُّد والمقاومة صوفيون هامشيون نسبيًّا، كانوا يقودون أتباعًا قليلين أو يَحظَوْن بسُلْطة قليلة موروثة قبلَ قيادة التمرُّدات التي قاموا بها. واستمرارًا لنهج القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، مال أيضًا هؤلاء الصوفيون المتمرِّدون للانتماء إلى الاتجاه الشرعي الذي كان في الغالب مهمًّا للمسلمين وللطبقة الاستعمارية الحاكمة على حدٍّ سواء. وعلى النقيض من ذلك، كانت سياسةُ التحالُف والتوافُق يَنتهجها صوفيون راسخون يَمتلكون بالفعل السُّلْطةَ والمكانةَ في مجتمعاتهم المضيفة، بالإضافة إلى الأراضي الممنوحة لهم من قِبَل القُوى ما قبل الاستعمارية. وفي بعض الأحيان، يُمكن ملاحظةُ عمليةِ تحوُّلٍ بين هذين الطرفين؛ نظرًا لأنَّ وَرَثة الصوفيِّين — الذين اكتسبوا الأتباعَ والمكانةَ من خلال قيادة التمرُّدات التي كانت غير مُمكنةِ الاستمرار في نهاية المطاف — كوَّنوا تحالُفات مع القوى الاستعمارية نفسها التي هزمَتْ آباءَهم أو أجدادهم.

(٢-١) الإمبراطورية البريطانية

مع زحف الإمبراطورية البريطانية على المناطق الإسلامية في شمال الهند في بداية القرن التاسع عشر، كانت أبرز حركات «المقاومة» التي واجهَتْهم على نحوٍ مباشِر هي حركة الجهاد بقيادة سيد أحمد بريلوي (١٧٨٦–١٨٣١)، وعلى الرغم من أن بريلوي يُعتبَر أحيانًا مناهِضًا للصوفية، أو «وهابيًّا»، فقد تلقَّى تعليمًا صوفيًّا على يد الصوفي النقشبندي شاه عبد العزيز الدهلوي (المتوفَّى عام ١٨٢٣)، ابن شاه ولي الله الدهلوي (المتوفَّى عام ١٧٦٣)، الذي رأيناه في الفصل الثالث يدعم مكانةَ الشريعة في الحياة الصوفية.10 الأمر المهم في بريلوي هو تبنِّيه مصادرَ التقليد الصوفي من أجل تأسيسِ حركةٍ جديدة سمَّاها «الطريقة المحمَّدية» (في محاكاةٍ للاستخدامات السابقة للاسم المذكور)، وعلى الرغم من أن بريلوي انتسب إلى العديد من الطرق الصوفية التي كانت موجودة من قبلُ (مثل الجشتية والنقشبندية)، فيبدو أن هدفه من تأسيس الطريقة المحمدية كان إنشاء مؤسسة جامعة قادرة على جذب الأتباع من أيٍّ من الطرق الموجودة، عن طريقِ زعمِ أنها «الطريقة» النبوية الأصلية. وعلى الرغم من إعلانِ بريلوي انفصالَه عن الطرق القائمة، والاتهاماتِ الشَّرِسة بالابتداع التي وجَّهها هو وأتباعه إلى منافسيهم الصوفيين، فإنَّ الطريقة المحمدية تبنَّتِ الكثيرَ من الأساليب التنظيمية والمعتقَدات الصوفية، فكان أعضاؤها يَنتسبون لها عن طريق البيعة الصوفية المعروفة، ويُدرَجون في السلسلة الروحانية. وإذا كانت تلك المؤسسة تقدِّم الشريعة على أنها أساس التقوى الإسلامية، فقد ظلَّت تُعلِّم أنماطَ الذِّكْر الصوفية.11 ومن الناحية التنظيمية، كانت هذه الطريقة تحاكي هيكلَ الطرق الموجودة سابقًا؛ من حيث إنها كانت تُدار من قِبَل الولي المحوري صاحب الشخصية الجذَّابة سيد أحمد بريلوي، وخلفائه المعيَّنين المعروفين. ونظرًا لفرض السيطرة البريطانية على دلهي عام ١٨٠٣، وأسفار بريلوي وأتباعه البارزين إلى كبرى المدن الاستعمارية مثل كلكتا وبومباي، أدرَكَ أتباعُ الطريقة المحمدية تمامَ الإدراك غلبةَ السُّلْطة «المسيحية» الجديدة على الأراضي المغولية القديمة، وفي منتصف مسيرة بريلوي، أصبحت خسارةُ السُّلْطة الإسلامية هذه تحتلُّ مكانةً مِحوَريةً في فكره. وعندما عاد بريلوي من الحج في مكة في أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر، مُشبعًا بحماسٍ جديدٍ لقمعِ «البدع» التي تسلَّلت إلى الإيمان، تعهَّد بتأسيس دولة إسلامية جديدة قائمة على الالتزام بالشريعة. وأثناء وجوده في مكة، كان اثنان من أتباعه قد سافَرا بالفعل إلى كلكتا لاستخدام التقنية الاستعمارية التي كانت تتطوَّر هناك من أجل الطباعة باللغات الإسلامية، وفي عام ١٨٢٣ نشَرَا كتابَ «الصراط المستقيم» الذي ضمَّ تعاليمَ بريلوي.12 ولما كانت الطباعة تمثِّل تحوُّلًا في وسائل نقل المعرفة الصوفية من الأنماط القديمة المتمثِّلة في التلقين والتداول المحكوم للمخطوطات، فإن طباعة هذا الكتاب تُشير إلى التفاعُل المعقَّد بين الصوفيين المناهِضين للاستعمار، والفُرَص الجديدة التي أتاحها الحكمُ الاستعماري للجماعات الدينية. ونظرًا لأنَّ معظم الكتاب كان مخصَّصًا لمهاجمة البِدَع الآثِمة للصوفيين الأكثر شهرةً من مُنافِسي بريلوي، فقد كانت توجد مفارَقةٌ معينة في الاستخدام الاستراتيجي للتقنية الجديدة التي اعتبرها علماء مسلمون آخَرون بدعةً في حدِّ ذاتها. وعلى الرغم من سعادة بريلوي باقتباسِ تقنيةِ الطباعة هذه، فإن الموقف الذي اتخذه تجاه التوسُّع البريطاني (وظهور مملكة رانجيت سينج السيخية في البنجاب)، كان موقفَ مواجَهةٍ وليس موقفَ مواءَمة. وعلى غرار دول «الجهاد» الأخرى التي سنَشهد فيما يلي تكوُّنها في الوقت نفسه على حدود الحكم الفرنسي والحكم الروسي، فإن بريلوي في منتصف عشرينيات القرن التاسع عشر وطَّدَ أقدامَه على حدود سلطة الدولة الاستعمارية في الأطراف الشمالية الغربية من شبه القارة الهندية، ومن هناك شنَّ حربًا على المملكة السيخية، وكان هدفه النهائي الوصول إلى الأراضي البريطانية التي كانت تضمُّ حينَها دلهي العاصمة القديمة للمغول. مُنِيَ هذا الجهاد بالفشل، وفي عام ١٨٣١ استُشهِد بريلوي في معركة ضد قوات رانجيت سينج. وعلى الرغم من ذلك، اعتقَدَ أتباعه أنه لم يَمُتْ بل انسحب إلى أحد الكهوف التي سيعاوِد الظهورَ منها سريعًا في صورة «المهدي المنتظَر»، الذي يدلُّ على نهاية العالم. ونجد أن تحوُّلات بريلوي في حياته وفي مماته من صوفي نقشبندي إلى مؤسِّس الطريقة المحمدية ومحارِب مجاهد، وإلى مَهْديٍّ منتظرٍ في نهاية المطاف، تُظهِر الاتجاهاتِ الجديدةَ التي يمكن أن يتوجَّه إليها التقليدُ الصوفي على أطرافِ التوسُّع الاستعماري.
وعلى مدار العقود التالية، وجَدت رُوح مقاوَمة حكم «الكفار» للمسلمين — التي أوجَدَها بريلوي — العديدَ من المنافذ الأخرى لها (وإنْ كانت هامشيةً على نحوٍ متزايد) في الهند، وعلى الرغم من أن الانتفاضة الهندية الكبرى عام ١٨٥٧ ضمَّت نطاقًا من المشاركين الهندوس والمسلمين، أصحاب الأهداف المختلفة للغاية، فقد كان من بينهم أيضًا مشاركون صوفيون. وفي حين أن المعلومات المتعلِّقة بحجم اشتراك الصوفيين في هذه الانتفاضة فُقِدت في خضمِّ الحرب والدعاية، فإن أبرز الصوفيين المؤكَّد أنهم شاركوا في القتال في هذه الانتفاضة كان الشيخ الجشتي الحاج إمداد الله (المتوفَّى عام ١٨٩٩)، الذي لجأ إلى مكة بعدَ فشلِ الانتفاضة على غرار عددٍ من المتمرِّدين الآخرين، وفي المنفى كتَبَ رسائلَ بالفارسية عن التأمُّل الصوفي مثل «ضياء القلوب». وفي إشارةٍ إلى تحوُّل المقاومة إلى الداخل نحو المساحة الشخصية المتمثِّلة في الجسد المسلم، كتب إمداد الله قصائدَ بالأردية تمدح «الجهاد الداخلي» ضدَّ جسدِ وروحِ المرء.13 وفي الهند نفسها، نجد أن الكثير من الصوفيين البارزين المُرتبطين بشاه ولي الله والحاج إمداد الله والنقشبنديين الدهلويين، الذين رأيناهم يؤسِّسون الطريقةَ المحمدية في الفصل الثالث، تبنَّوا استراتيجيةَ التجنُّب بدلًا من التعاون. لحق بعضهم بالحاج إمداد الله في مكة، أو انتقلوا إلى الولايات الأميرية الهندية الإسلامية الحكم؛ مثل ولاية حيدر أباد، وكوَّنَ البعضُ الآخَر نظرياتٍ تفصل الشريعةَ (ومِن ثَمَّ، حياة المسلم في العموم) عن كلِّ ما يتعلَّق بالدولة الاستعمارية، وذهب البعض إلى حدٍّ بعيد تمثَّلَ في منع أتباعهم من ارتداء القبعات والأحذية ذات العنق الطويلة البريطانية الطراز.14 وفي حالة شبكة المدارس الديوبندية في جنوب آسيا، التي تطوَّرت تدريجيًّا عن المدرسة التي أسَّسها أتباعُ المُصلِح الصوفي المناهِض للاستعمار الحاج إمداد الله عام ١٨٦٧، حُذِفت الأصول والانتماءات الصوفية لمؤسِّسي المدارس تدريجيًّا من تاريخها؛ كنَوعٍ من الهجوم على جوانب الاحتفالات الشعبية والجوانب القائمة على الأضرحة من التقليد الصوفي، والذي قد تطوَّر تدريجيًّا ليصبح هجومًا على الصوفية ككل.15 وإذا كان التجنُّب أكثر جدوى من التمرُّد في بلدات السهول، ففي الأطراف الجبلية لشبه القارة الهندية، تمكَّنَ الشيخ الصوفي عبد الغفور (المتوفَّى عام ١٨٧٧) من مُقاومة التوسُّع البريطاني لمدة أربعين سنة تقريبًا في الأراضي التي تمكَّنَ من تحويلها إلى إقطاعيةٍ صوفيةٍ خاصة به في سوات. وفي وقت متأخِّر في ثلاثينيات القرن العشرين، قاد الصوفي الجذَّاب «فقير إيبي» تمرُّدًا ضد قبائل وزيرستان على حدود الهند البريطانية مع أفغانستان،16 أما في المنطقة الهندية الوسطى المُسيطَر عليها أكثر من قِبَل الاستعمار البريطاني، فلم توجد أي مقاوَمة صوفية بارزة مُعتمِدة على العنف بعد عام ١٨٥٨، وبدلًا من ذلك سار الصوفيون الهنود على خُطَى الحاج إمداد الله في مكة، فأحكموا سيطرتَهم على النطاق الخاص المتمثِّل في أجساد مريديهم وعقولهم.17
إذا كانت المقاوَمة المباشِرة أو غير المباشِرة أحدَ جوانب الصورة في الهند، فإن التعاون كان الجانب الآخَر؛ ففي منطقةٍ متعددةِ الأديان كانت فيها العائلات الصوفية المتوارثة، التي ترعى أضرحةَ أسلافها الأولياء، تتلقَّى بسعادة الرعايةَ من الحكَّام الهندوس والسيخ، فإنه قبل ظهور الوعي القومي الهندي الجديد منذ بداية القرن العشرين لم يكن يوجد شيء استثنائي في استعدادِ تلك العائلات لتلقِّي الرعايةِ المباشِرة أو الحماية المباشِرة لمصالحها من البريطانيين المسيحيين.18 ونظرًا لأن كل الدول الاستعمارية بحثَتْ عن وسطاءَ محليِّين مُتمتِّعين بالنفوذ ليكونوا وسيلةً لبسط سلطتها على الشعوب، بَدَتْ عائلاتُ الأضرحة الصوفية المتوارثة في شمال الهند بصفة خاصة مرشَّحًا مثاليًّا، وعن طريق ممارسة البيعة المميزة للصوفية، حصلَتْ تلك العائلات الصوفية المتوارثة على ولاء آلاف الأشخاص؛ نظرًا لأن عائلات بأكملها جعلت تلك البيعة جزءًا من نسيج ممارسة الأسلاف. وفي حالات كثيرة، عزَّزَ روابطَ الولاء تلك أن العديد من الشيوخ الصوفيين كانوا أيضًا يتحكَّمون في أقواتِ كثيرٍ من أتباعهم؛ حيث كان هؤلاء الأتباع موظَّفين في ممتلكاتهم الزراعية؛ ففي أواخر القرن التاسع عشر، كان ضريح بابا فريد كنج شكر الشيخ الجشتي، الذي يعود لفترة القرون الوسطى في باكباتان في البنجاب، يُسيطر على ما لا يقل عن ٤٣ ألف فدان من الأراضي في منطقة واحدة فقط؛19 ومن ثَمَّ، فإنَّ حاجة هؤلاء الصوفيين المُلِحَّة إلى الحفاظ على الأراضي المملوكة لهم، عن طريق استمرار اعتراف الدولة بشرعيتهم، جعلتهم يحتاجون إلى البريطانيين قدرَ احتياج البريطانيين لهم. ثبت أن هذه الشراكة ممتازةٌ لكلا الطرفين (وإنْ لم تكن كذلك بالضرورة للفلاحين الموجودين في الخلفية). ومع مرور الوقت، وصل الأمر بهذا التحالف إلى تعيين الصوفيين المتوارِثين في المجالس الإقليمية الاستعمارية، وتعليم وَرَثة الصوفيين في أرفع المعاهد وكليات الحقوق الاستعمارية، ودخولهم إلى السياسة الحزبية الحديثة عندما التحَقَ كثيرٌ من العائلات الصوفية بالحزب الاتحادي الداعم للحكم البريطاني.20
وعلى غرار الدول الإسلامية السابقة، في هذه التحالُفات فضَّلت الإمبراطورية البريطانية في الهند نوعًا معيَّنًا من الصوفيين، وكانت توجد مواصَفات معينة لأنواع الصوفيين الذين ستُشجِّعهم الإمبراطورية من أجل الوصولِ إلى العوامِّ المزارعين في البنجاب، أو الحفاظِ على الروح المعنوية للجندي المسلم في جيش الاستعمار، وهذه المواصفات هي أن يكونوا متَّسِمين بالصحو، بالإضافة إلى إمكانيةِ توقُّعِ تصرُّفاتهم، وكذلك اعتمادهم على المعرفة المأخوذة عن الكتب الصوفية.21 وإذا كانت الصوفية المرتكِزة على الأضرحة تمثِّل تدهورًا متدنيًا من عصرٍ ذهبي مثالي للتصوف الحقيقي بالنسبة إلى كثير من المعلِّقين الاستعماريين (وبالنسبة إلى المُصلِحين المسلمين الذين حذَوْا حذْوَهم)، فإن حقيقةَ الأمر تمثَّلت في أن الأضرحة والأراضي المملوكة كانت الأُسسَ المؤسسية الأساسية اللازمة لنقل التقليد الصوفي؛22 فقد كانت الأضرحة — والمكتبات والمساكن والمدارس التي كانت مُلحَقةً بها عادةً — هي الترسيخ الفعلي للتقليد في البيئة الحضرية السكنية. إلا أنَّ التقليد كان يتَّسِم بالهشاشة؛ ومن ثَمَّ، فعندما نُزِعت ملكيةُ بعض الأضرحة الهندية أو دُمِّرت — سواء من خلال أحداث العنف عام ١٨٥٧، أو التدهور التدريجي في قيمة الأوقاف — اختفَتْ معها قرونٌ من المعرفة الصوفية المحلية التي نقلَتْها عبر الأجيال. وعندما كتب أحد أصدقاء الشاعر الذي يكتب بالأردية ميرزا غالب (المتوفَّى عام ١٨٦٩) خطابًا يطلب منه الكتبَ الصوفية التي كتَبها شاه كليم الله، أجابه غالب قائلًا: إنه لا يجد مَن يطالِبه بإرسال كتابات هذا الولي؛ نظرًا لنَهْب ضريحه أثناء حصارِ دلهي عام ١٨٥٨، وهروب ساكِنِيه في ظلِّ هذه الفوضى.23 وكما كان يعلم غالب جيدًا، فإن تقاليد الصوفيِّين كانت تُحفَظ وتُنقَل من خلال الأحياء، ومن أجل فعل ذلك كان يحتاج هؤلاء الأشخاص إلى تأمين مؤسَّساتهم؛ ولذلك، فيما بين العنف الذي صاحَبَ إعادة الاستيلاء على دلهي عام ١٨٥٨، وإبرام التحالفات مع الصوفيين ملَّاك الأراضي في الريف، أطاح الاستعمارُ بعناصر مختلفة من التقليد الصوفي في الهند تارةً، وعزَّزها تارةً أخرى.
وحتى في الأماكن التي لم يُساعِد فيها الاستعمارُ الصوفيين أو يُعِيقهم على نحوِ مباشِر، أوجدَتْ مجموعةٌ كبيرة من الظروف الاجتماعية التي تسبَّبَ فيها الحكمُ الاستعماري فرصًا جديدة كبيرة للصوفيين. كان انتشار الطباعة من الأمثلة التي ذكرناها سابقًا، وقد ساعَدَ كثيرًا في التغلُّب على توقُّفِ بعض أشكال التواصُل الشخصي ونَسْخ المخطوطات التي كانت تتمُّ فيما سبق في مؤسسات الأضرحة، وكانت من خلالها تَنقُل التعاليم الصوفية في عصر ما قبل الاستعمار. ونظرًا لأنَّ الناشرين الهنود وجدوا أنهم يَستطيعون جَنْي المال من طباعة الأعمال الصوفية الكلاسيكية، فقد أصبحت نُسَخ شعر الرومي أو السِّيَر الذاتية للأولياء التي كتَبها الجامي تُباع بسعر زهيد، مقارَنةً بتكلفة المخطوطات اليدوية التي كانت تُكتَب سابقًا. وبسبب هذا القدر الهائل من الأرباح، أصبح رجال الأعمال من كلِّ الخلفيات مُستعِدِّين للاستثمار في هذا المجال، وكان أهم مَن طبَعَ الأعمالَ الصوفية في الهند في القرن التاسع عشر (وربما في العالَم الإسلامي كله) هو الناشر الهندوسي نوال كيشور (١٨٣٦–١٨٩٥)، الذي كانت تُصدَّر أعماله أيضًا إلى أماكن بعيدة مثل إيران وأفريقيا وآسيا الوسطى.24 ومع مرور الوقت، خلق الصوفيون في الهند (وفي كل مكان في النهاية) أنواعًا أدبية جديدة مطبوعة لنشر أفكارهم إلى جماهير المجال العام الجديدة، التي تقرأ الأعمال المطبوعة، وكانت «المجلة» الصوفية أحدَ هذه الأنواع الجديدة، والتي من أمثلتها المجلة المكتوبة بالأردية «أنوار القدس» التي نُشِرت فيما بين عامَيْ ١٩٢٥ و١٩٢٧ على يد محمد ذوقي شاه (المتوفَّى عام ١٩٥١)، رائدِ الأعمال الصوفي الجشتي.25 عزَّزتْ منافذُ المناقَشة الجديدة الرخيصة هذه انتشارَ الأفكار والمُمارَسات الجديدة؛ فلم يُتوارَث فحسب تقليدُ الشيوخ القدماء، بل أُعِيد أيضًا تفسيره وأُضِيفَ إليه، فوجدَتْ ممارَساتٌ هامشية في السابق مثل ممارَسة «تصور الشيخ»، القائمة على تأمُّلِ صورةِ شيخ المرء، رواجًا غير مسبوق بسببِ انتشارِ الصور الفوتوغرافية للشيوخ الصوفيين.26 بالإضافة إلى ذلك، استُخدِمت محاوَلاتُ المُبشِّرين المسيحيين لتحويل المسلمين الهنود إلى المسيحية لصالح الصوفيين؛ حيث إنَّ آلة الأرغن المحمولة ذات المفاتيح التي استخدمها المبشِّرون في غناء تراتيلهم، استَخدمها الصوفيون في غناء أغاني «القوالي» الصوفية؛ مما أدَّى إلى بثِّ حياةٍ جديدة في «محافل السماع» التي شهدنا ظهورَها في خراسان منذ ألف سنة. وفي عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وصلت موسيقى القوالي الصوفية إلى عدد أكبر من الجماهير، من خلال تسجيل الأسطوانات واستخدامها في السينما الغنائية الهندية الناشئة.27 وبسبب السمات الجذَّابة للموسيقى ورغبة الغرب في التعرُّف على «الشرق التصوُّفي»، التي كانت نتيجةً فرعيةً لتكوين الإمبراطورية، نجد في حالةِ عنايت خان (١٨٨٢–١٩٢٧) موسيقيًّا صوفيًّا هنديًّا يستخدم طرقَ السَّفَر الصناعية الجديدة للإبحار من بومباي إلى لندن ثم إلى نيويورك، وفي نيويورك أصبح من أوائل مَن حمَلوا المُعتقَدات الصوفية إلى الجمهور الأمريكي.28
وتُعدُّ مدينة بومباي الصناعية الكبرى نموذجًا للفرص التي نالها الصوفيون؛ بسبب التغيير الذي أحدَثَه الاستعمار، فقد تزامنَتْ هجرةُ عددٍ هائل من القوى العاملة الريفية المسلمة للعمل في مصانع وترسانات بومباي، مع وصولِ شيوخ صوفيِّين إليها من كل أنحاء المحيط الهندي، وتوفُّرِ السفرِ عبر وسائل النقل البخارية والطباعةِ باللغات المحلية لنشْر رسالتهم.29 ومكَّنت البِنْيةُ التحتية الصناعية لبومباي الشيوخَ الصوفيين الإيرانيين، وكذلك العرب والهنود، من الإنتاج الواسع النطاق لملخَّصات تعاليمهم، والإعلانات الخاصة بقدراتهم الإعجازية، وذلك باللغات المحلية؛ فكان ذلك عاملَ جذبٍ لتبعية العمالِ مُتقاضِي الأجور في بومباي نفسها، وكذلك جماهير مسلمة أكبر عددًا كان سبيلُ الوصول إليها هو شبكات الاتصال الخاصة بمدينة بومباي في أماكن بعيدة؛ مثل جنوب أفريقيا وإيران. وسواء من بومباي أو من غيرها من موانئ الاستعمار البريطاني كما في حالة سنغافورة، نجد أنَّ الصوفيين استغلوا هذه التقنيات الصناعية، ومن خلالها حصلوا على ولاءِ أتباعٍ جدُد (وتنافَسوا على نحوٍ مُتزايد على كسبه). وفي عصرٍ بلغَتْ فيه هجرةُ العمالة مبلغًا هائلًا، كان تأسيسُ فروعٍ لأضرحة الأسلاف الصوفيِّين أو طباعة قصص مُعجزاتهم الباعثة على الطمأنينة، يقدِّم السلوى التي تُهوِّن معاناةَ العمل الشاق التي كان يتكبَّدها هؤلاء الأتباع الجُدُد، الذين كان من بينهم مُزارعون وعمالُ مناجِم هنود هاجروا بعيدًا عن وطنهم. ونرى أمثلةَ ذلك في تأسيسِ ضريحٍ في بينانج في ماليزيا في أوائل القرن العشرين لشاه عبد الحميد، الصوفي الشهير ولي المسلمين التاميليين، وتأسيسِ ضريحٍ لصوفي صاحب (المتوفَّى عام ١٩١١) في ديربان، ذلك المبشِّر الصوفي المبعوث إلى العمال الهنود العاملين بعقودٍ طويلةِ الأجل في ناتال.30 وعلى هذا النحو، خلق انتشارُ الرأسمالية تحت الإدارة الاستعمارية مُتطلَّباتٍ وفرصًا جديدة للصوفيين؛ لأنَّ التغيُّرات السريعة في حياة الأشخاص العاديين زادَتْ من تعطُّشهم لاستقرار التقليد، والروابط التي يَمنحها للتراث الذي بَدَا وكأنه يُفلت من بين أيديهم مع بُعْد المسافات.
وإذا انتقلنا إلى المُستعمَرات البريطانية في أفريقيا، فسنجد أنماطَ مُقاوَمة وتعاون مشابهة، خلقتْ بدورها فرصًا للشيوخ الصوفيين الجدد؛ فعلى سبيل المثال: في الصومال، أدَّى تمرُّد محمد بن عبد الله حسن (١٨٥٦ / ١٨٦٤؟–١٩٢٠) إلى تأسيسِ «دولة دراويش» قصيرة الأجل، استُخدِمت فيها — على غرار دول الجهاد في المناطق الأفريقية الأخرى في فترةِ ما قبل الاستعمار — مؤسَّساتُ وسلطةُ الطريقةِ الصوفية في تكوينِ نظامِ دولةٍ هرمي ومركزي حول الشيخ الصوفي، تقوم إدارته على تفسير هذا الشيخ للشريعة.31 ولم يكن النفوذ البريطاني هو فقط ما عارَضَه محمد بن عبد الله حسن؛ فنظرًا لأنه أثناء حجِّه إلى مكة انتسب إلى الطريقة الصالحية الجديدة، التي أسَّسها الصوفي السوداني المنفي محمد بن صالح (المتوفَّى عام ١٩١٧ أو ١٩١٩)، فقد كان معارِضًا أيضًا للمؤسسة الصوفية القادرية التي كانت قائمةً من قبلُ، وكان يرى أن أعضاءَ هذه الطريقة مُتهاوِنين في التمسُّك بالشريعة، ويبالِغون في قبولِ تأمُّلِ الأولياء الأموات.32 ونظرًا لأنَّ أويس محمد البراوي (١٨٤٧–١٩٠٩)، الذي كان الهدفَ الأساسي في الطريقة القادرية لانتقادات محمد بن عبد الله حسن، كان يجمع أتباعَه لقيادة المُقاوَمة ضد الاستعمار الألماني في تنجانيقا (تنزانيا حاليًّا)، فربما يبدو هذا العداء المدمِّر ذا نتائج عكسية، إلا أنه كان جزءًا من الصراعات العِرْقية المحلية والمُنافِسة على الأتباع، التي شكَّلتْ خلفيةَ النضال ضد الأوروبيين.33 وعلى الرغم من ذلك، لم تكن جاذبيةُ محمد بن عبد الله حسن كافيةً في النهاية للصمود في وجهِ هجومٍ استعماري جديد نُقِلت فيه أسلحةٌ طُوِّرت أثناء الحرب العالمية الأولى — تمثَّلت في البنادق الآلية من طراز فيكرز، وقاذفات القنابل من طراز هافيلاند دي إتش ٩ — إلى الساحة الترابية الموجود بها هذا «المُلا المجنون»، وعلى الرغم من هزيمته، فإن الشِّعر الذي ألَّفَه باللغة الصومالية جعَلَ ذِكْراه وإلهامه يَلعبان دورًا قياديًّا في تكوين القومية الصومالية.34 وعلى نسقٍ سنراه واضحًا فيما يلي في سياقاتٍ استعمارية أخرى، فإن التوتُّرات السياسية التي سبَّبَها الاستعمارُ قدَّمت فرصًا للشيوخ الصوفيِّين الجدد، هؤلاء الساعين إلى تحدِّي الطبقة الدينية المسيطرة؛ فعلى سبيل المثال: أفرَزَ أيضًا التغيُّرُ الاجتماعي السريع الذي شهدَتْه الموانئ العالمية إلى حدٍّ كبيرٍ على الساحل الصومالي، وكذلك انتشار طرق التجارة في الداخل؛ جماهيرَ جديدةً للشيوخ الصوفيين الطموحين، الذين قدَّموا «حلولًا إيمانية» لحالاتِ الانهيار الاجتماعي التي صاحبَتْ دخولَ الأفارقة إلى مُعترَك الرأسمالية العالمية.35
في شمالِ وغربِ أفريقيا نجَحَ التوافُقُ بين البريطانيين والصوفيِّين أصحاب النفوذ في تجنُّبِ حدوثِ تمرُّدٍ، من خلال انتهاجِ مسعى المصالح المُشترَكة على نحوٍ مُحاكٍ لما رأيناه في الهند؛ ففي مصر وحتى قبل وصول البريطانيين، أسَّسَ الحاكمُ المصري محمد علي، في وقتٍ مبكِّر يعود لعام ١٨١٢، هرميةً رسميةً مدعومة من الدولة من الصوفيين البارزين،36 وفي فترةِ شبهِ استعمارِ مصر من قِبَل البريطانيين عام ١٨٨٢، نجد أن عبد الباقي البكري الرئيس الرسمي لهرمية الطرق الصوفية المصرية، الذي كان مُعتادًا بالفعل على العمل مع القوى الحاكمة بدلًا من مناهَضتها، أقام مأدبةً كبيرة على شرف الجنرال السير جارنت ولسلي، قائد القوات البريطانية.37 وعام ١٩٠٣ على مكانة أعضاء الهرمية الصوفية وامتيازاتهم، وأسفَرَتْ هذه الامتيازات الناتجة عن هذه المكانة الراسخة عن أنواعٍ جديدة من التفاعلات بين النُّخَب الصوفية ونظرائهم الاستعماريين، وعلى غرارِ ما حدَث في الهند، أدَّتْ هذه التفاعلات إلى ظهورِ وسائل جديدة للتعبير عن التقليد الصوفي. وفي حالةِ قوت القلوب (١٨٩٩–١٩٦٨)، وهو اسم الشهرة لوريثة العائلة الدمرداشية الصوفية المصرية، أدَّتْ هذه التفاعلات إلى تأليفها عددًا من الروايات الفرنسية من منفاها في أحد الفنادق الفاخرة في روما، وفي رواياتٍ مثل «ليلة القدر» (في إشارةٍ إلى ليلةِ القدر المذكورة في القرآن)، احتفَتْ قوت القلوب بالموالد الصوفية الشعبية بصفتها جوهرَ الثقافة القومية المصرية النابض بالحنين.38 وعلى الرغم من كل حنينها، فإن ارتباطاتها بالمؤسسة الصوفية القديمة تسبَّبت في نَفْيها على يد رفاقها من القوميِّين المصريين، الذين اعتبروها مثالًا راقيًا ولكنْ فاسدًا على التدهور الصوفي الهائل.
fig24
شكل ٤-١: الدراويش والإمبرياليون: المعركة بين المهدي السوداني والبريطانيين، عام ١٨٨٥ (الوقفة الأخيرة للجنرال جوردون، صورة من كتاب كاسيل «تاريخ إنجلترا المصور لكاسيل» (نقش) (صورة بلون البني الداكن)، المدرسة الإنجليزية (القرن العشرين)/مجموعة الصور الخاصة/مجموعة ستابليتون/مكتبة بريدجمان للفنون).
وفي السودان المُجاوِر، أصبح كثيرٌ من الصوفيين من أتباع الحركة المهدية الألفية، التي أسَّست في الفترة ما بين عامَيْ ١٨٨١ و١٨٩٨ دولةً جديدة هرمية اعتمدَتْ على بركةِ مؤسِّسها والشريعة. وهكذا نجد في هذا المثال الأفريقي على عمليةِ دمْجِ الاستعمار للمُتمرِّدين الصوفيين تدريجيًّا؛ أنَّ الهزيمة والاستسلام جعَلا وَرَثة الحركة المهدية في الجيل التالي يَتفاوضون على قدرٍ أكبر من النفوذ في المرحلة السياسية النهائية الخاصة بإنهاء الاستعمار والحكم المستقلِّ في السودان.39 على النقيض من ذلك، في غرب أفريقيا، عندما غزا البريطانيون خلافة سوكوتو عام ١٩٠٣ في نيجيريا حاليًّا، نجد أن الصوفيين أتباعَ الطريقة التيجانية ساعَدوا بالفعل البريطانيين في المعركة قبل أن يتقلَّدوا المناصبَ في الإدارة الاستعمارية من خلال نظام الحكم غير المباشِر.40 وبينما رأينا في الجانب الشرقي من الصحراء الكبرى محمد بن عبد الله حسن يَعتمد على معتقَد الجهاد في التحريض على التمرُّد في الصومال، اعتمَدَ الصوفي التيجاني سيدو نورو تال في نيجيريا في الغرب على معتقَد «المصلحة» البديل، ليقول إن التمرد على الغازي البالغ القوة لا يصبُّ في مصلحة المسلمين؛ ومن ثَمَّ، يُعدُّ اعتراضًا على إرادة الله.41 في هذا الصدد، لا نرى فحسب أن الصوفيين كانوا قادرين على حماية مصلحة مجتمعاتهم الأوسع نطاقًا، وليس فقط مصالحهم الشخصية، بل نرى أيضًا أن الإسلام يقدِّم مجموعة كبيرة بالقدر الكافي من المعتقَدات التي استخدمَتْها المرجعياتُ الصوفية في الدفاع عن التعاون مع الاستعمار أو مُقاوَمته. وفي حين كانت توجد عملياتٌ مشترَكة في ردودِ الأفعال الصوفية تجاه الاستعمار، فإنه لم يوجد موقفٌ عقائدي صوفي واحد في مسألة الاختيار ما بين مقاوَمة الحكم الاستعماري وقبوله.

(٢-٢) الإمبراطورية الفرنسية

واجهَتِ الإمبريالية الفرنسية في شمال وغرب أفريقيا نطاقًا مشابهًا من المواقف الصوفية؛42 ففي عام ١٨٣٠ قُوبِل غَزْو فرنسا للجزائر بحركةِ مُقاوَمةٍ قوية بقيادة الصوفي المنتمي للطريقة القادرية عبد القادر الجزائري (١٨٠٨ -١٨٨٣)،43 وعلى غرار كثيرٍ من قادة المقاوَمة الصوفية الآخرين، بدأ عبد القادر حياته المهنية كشخصيةٍ هامشيةٍ بدلًا مِن أن ينشأ في أسرة صوفية ذات نفوذ، ولم يكتسب الشهرةَ إلا أثناء العقد الذي قضاه في تحدِّي الفرنسيين. إنَّ عبد القادر في استخدامه هياكلَ الطريقة الصوفية في تأسيسِ إدارةٍ قائمة على الشريعة في الأراضي النائية الصحراوية، الواقعة تحت السيطرة الفرنسية، عكَسَ أنماطًا أوسعَ نطاقًا للصوفيِّين الذين أسَّسوا دولًا في بيئات الحدود القِبلية، التي لم تنجَح الإمبراطوريات الإسلامية في أوائل العصر الحديث في استيعابها، وبعد استسلام عبد القادر في النهاية في عام ١٨٤٧، قضى خمس سنوات مسجونًا في فرنسا، وخلال هذا الوقت تراسَلَ مع باحثين فرنسيين بارزين، ومن خلالهم عرف الكثير عن أوجُه التقدُّم العلمي في أوروبا، وبعدما أقسَمَ على عدم التمرُّد مرةً أخرى أُطلِق سراحه عام ١٨٥٢ وأُعطِي معاشًا كبيرًا، وسمحتْ له السلطات العثمانية بالاستقرار في دمشق؛ حيث سيكون أقلَّ إثارةً للمتاعب بدلًا من الإقامة في العاصمة إسطنبول التي تتوفَّر بها وسائلُ الاتصال على نحوٍ أفضل. وفي دمشق خصَّصَ العقودَ المتبقية من حياته لتأليف عمله «كتاب المواقف»، الذي سعى فيه إلى إحياءِ تعاليمِ مُنظِّرِ الصوفية الكبير المُنتمي لفترة العصور الوسطى ابن عربي، وتقديمِها لزمنٍ كانت فيه حتى المعرفة المُستلهَمة من الله تحتاج إلى أدلَّة مادية لتأكيد صحتها.44 وعندما مات عبد القادر عام ١٨٨٣ دُفِن بجوار ابن عربي في الضريح الذي شيَّده الإمبراطور العثماني سليم الأول قبل ثلاثة قرون، وكان أتباعه في الجيل التالي — الذين أضافوا إلى تعاليمه وعكسوها في النهاية — من ضمن مؤسِّسي الحداثة الإسلامية الجديدة، الذين نبذوا في النهاية التقليدَ الذي حاوَلَ عبد القادر أن يجعله مُستساغًا بالنسبة إلى العصر الحديث.45 وعلى الرغم من هزيمة عبد القادر ونفيه، فإنه لم يكن على الإطلاق آخِر صوفي من شمال أفريقيا يُناهِض الاستعمارَ الفرنسي في المنطقة؛ ففي المغرب المجاوِر الذي تفادى الحكمَ الفرنسي حتى عام ١٩١٢ بدأ الصوفي محمد الكتاني (١٨٧٣–١٩٠٩)، في منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر، برنامجًا دعائيًّا للمقاوَمة المعنوية والمادية للتدخُّل الفرنسي،46 وعندما رأى الكتاني أن السلطان عبد الحفيظ بن الحسن أصبح بسبب الديون والتحالفات أكثرَ اعتمادًا على الفرنسيين على نحوٍ أدَّى إلى معاهَدة فاس في عام ١٩١٢، التي قَبِل بمُقتضاها الحكمَ الفرنسي للمغرب؛ أصبح الكتاني صوتًا بارزًا للمعارَضة الدينية والسياسية لكلٍّ من الفرنسيين وتابِعيهم من العائلة المالكة المغربية، ووسَّع الكتاني أتباعَه من خلال طباعةِ سبعة وعشرين عملًا من أعماله، حتى إنه أسَّس صحيفة بعنوان «الطاعون»، وبهذه الطريقة حوَّلَ تقنيةَ الطباعة — التي لم تُقدَّم إلى المغرب من خلال أوروبا إلا في منتصف ستينيات القرن التاسع عشر — إلى أداة فعَّالة لترويجِ معارَضة الاستعمار،47 وإلى حدٍّ ما، كانت تلك استراتيجيةَ تعبئةٍ عالية الكفاءة؛ حيث شجَّعت أعدادًا كبيرة من المغاربة على الاستعداد للجهاد، إلا أنَّ حركةَ المقاوَمة تلك التي تقودها الصوفية انهارت في النهاية بعد إعدامِ الكتاني بأوامر ملكية عام ١٩٠٩، واختيارِ خليفته في قيادة الطريقة الكتانية المتعاوِن مع الحكَّام الفرنسيين الجُدُد.48
إذا كان عبد القادر والكتاني مثَّلا الجبهة المقاومة للفرنسيين؛ فقد اختارت شخصياتٌ صوفية أخرى مثل خليفة الكتاني جنْيَ ثمارِ التعاون مع الاستعمار الفرنسي. ومن خلال النجاح في التعاون مع الفرنسيين دون الظهور بمظهر الخاضع للفرنسيين، نجح في تونس سيدي محمد بن أبي القاسم (١٨٢٣–١٨٩٧) في تأسيس مُجمعِ زاويةٍ كبير عند ملتقى طرقِ التجارة العابرة للصحراء الكبرى على أطراف الحكم الفرنسي، وضمَّ المجمعُ مدرسةً ودارَ إيواء كبيرين لأتباعه، الذين كان الكثير منهم يعملون في الأراضي الزراعية المروية جيدًا، التابعة للزاوية في مقابل تنويرهم الروحاني.49 ونظرًا لانتساب سيدي محمد بن أبي القاسم للطريقة الرحمانية الجديدة نسبيًّا، فإنه لم يكن مجرد أحد الصوفيين الآخرين الذين ارتفعَت مكانتُهم في الحَراك السياسي؛ فقد مَثَّل أيضًا اتجاهات جديدة في نقل التقليد الصوفي، فبدلًا من نقل التراث الصوفي من خلال الطباعة أو كتابة الروايات، تمثَّلَ الاتجاهُ الجديد هنا في الزعامة النسائية؛ فعندما سمحَ سيدي محمد بن أبي القاسم لابنته لالة زينب (تقريبًا ١٨٥٠-١٩٠٤) بخلافته كرئيسةٍ للزاوية، اتخذ خطوةً عملية، إنْ لم تكن كبيرة، في تحدِّي أنماط الزعامة الأبوية الصوفية القديمة. ومن خلال نقل هذا التوارُث النسائي من الحدود إلى مركز الثقافة الاستعمارية الفرنسية، نقلَتْ لالة زينب بدورها تعاليمَ صوفيةً معيَّنة إلى الفنانة الرحَّالة السويسرية إيزابيل إيبرهارت (١٨٧٧–١٩٠٤)، التي مثَّلت القصصُ القصيرة التي كتبتْها بالفرنسية النظيرَ الأوروبي لروايات قوت القلوب الدمرداشية.50
لم تكن لالة زينب وإيزابيل إيبرهارت على الإطلاق المثالَ الوحيد في الإمبراطورية الفرنسية على نقْل المعتقَدات الصوفية إلى المتعاطِفين الأوروبيين مع الصوفية أو المتحوِّلين منهم إليها؛ ذلك أن الحداثة الرأسمالية أنتجَت مُتحمِّسين جُدُدًا للرسالة الصوفية في العواصم العالمية في أوروبا وفي الموانئ الصناعية المطلَّة على المحيط الهندي، ومثلما تحوَّلت وسيلةُ نقلِ الرسالة الصوفية إلى الكتب المطبوعة القابلة للشراء في الهند، لعبَتْ صناعةُ النشر في أوروبا أيضًا دورًا مهمًّا في هذه العملية من خلال مكتباتٍ مثل «مكتبة الروائع»، التي كان يُدِيرها في باريس السويدي إيفان آجيلي (١٨٦٩–١٩١٧)، الذي تحوَّلَ إلى الصوفية، وأصبح اسمه الشيخ عبد الهادي عقيلي؛ فقد تجمَّعَ حول مكتبة آجيلي في أوائل القرن العشرين مجموعة رومانسية من السالكين الأوروبيين، الذين وجدوا تعاليمَ الصوفيين متشابِهةً مع تعاليم الفيدانتا الهندوسية والتاو تي تشينج. ومن خلال تأمُّلاتهم الكونية والمشوشة في بعض الأحيان، ظهر هناك نوعٌ من الصوفية يتَّسم بأنه هجين و«منسلِخ عن الإسلام» في بعض الحالات، نقَلَ التقليدَ القديم إلى جمهورٍ غربي جديد.51 في بعض الحالات، كان يوجد نوع من النقل المباشِر للتقليد إلى الأوروبيين، كما في حالة اللقاءات التي تمت بين إيبرهارت ولالة زينب، وبين مروِّج الصوفية السويسري فريتجوف شوان (١٩٠٧ -١٩٩٨) والصوفي الجزائري أحمد العلاوي (١٨٦٩ -١٩٣٤). وفي حالاتٍ أخرى أشهرها حالة الكاتب الفرنسي التابع للمدرسة «التقليدية» رينيه جينو (عبد الواحد يحيى ١٨٨٦–١٩٥١)، كان التفاعُل المباشِر مع الصوفيين غير الأوروبيين قليلًا جدًّا، ومثَّلت الكتبُ المطبوعة مصادرَ فكرِه الصوفي الأساسية. في جزءٍ لاحِق من هذا الفصل سنُناقش مساراتِ هذه «الصوفية الغربية» في فترةِ ما بعد الاستعمار، أما النقطة الأساسية هنا فهي كيف أسفَرَ دمْجُ المجتمعات الإسلامية والمسيحية، في ظلِّ الاستعمار الفرنسي في الأراضي التي سيطَرَ عليها في شمال أفريقيا، عن زيادة الوعي بالصوفيين في أوروبا، من خلالِ إتاحةِ فرص جديدة تمثَّلت في السَّفَر والتفاعُل. وإذا كان يوجد قدرٌ كبير من الرومانسية (وحتى «الاستشراق») في توجُّهات السالكين الأوروبيين، فقد كان يوجد أيضًا قدرٌ كبير من الصدق، وفي بعض الحالات التعاطُف السياسي المناهِض للاستعمار؛ فالرسامُ السويدي آجيلي لم يعتنق الإسلامَ اعتناقًا كاملًا فحسب، بل أيضًا عندما انتقل إلى القاهرة التي كانت واقعةً تحت الاستعمار البريطاني في أوائل القرن العشرين، انضمَّ إلى اللاسلطوي الإيطالي إنريكو إنساباتو، وأحد القوميين المصريين الموالين للثائر الجزائري عبد القادر الجزائري يُسمَّى عبد الرحمن عليش، وأسَّسوا مجلةً ثنائيةَ اللغة تصدر باللغتين العربية والإيطالية سمَّوها «النادي»، وعلى صفحاتها الممنوعة، امتزجَتْ تعاليمُ ابن عربي مع النظرية اللاسلطوية والسياسات المناهِضة للبريطانيين.52
وفي غرب أفريقيا الذي كان تحت الاستعمار الفرنسي، كان أحمدو بامبا مباكي (١٨٥٣-١٩٢٧) في السنغال المثالَ الأكثر إثارةً على هذا التفاعل بين المقاوَمة والتوافق؛53 فنظرًا لأنَّ مباكي وُلِد في أسرة صوفية تَنتمي للطريقة القادرية في منطقةٍ رأينا في الفصل الثالث كيف أسَّسَ فيها الصوفيون سلسلةً من دول الجهاد، في العقود نفسها التي كان الفرنسيون يوسِّعون فيها سيطرتَهم على الداخل السنغالي؛ فقد اكتسَبَ ولاءَ مجموعة من الزعماء القبليِّين والأكابر المحليِّين. وفي أعقاب الثورة الجزائرية ونظام جمع المعلومات السرية المشبوه الذي اتَّبَعه الحكم الفرنسي، تعوَّدَ المسئولون الاستعماريون على رؤية القادةِ «المرابطين»، قادةِ الطرق الصوفية الوراثية في الغالب، في صورةِ أعداء لدودين للحكم الفرنسي؛ ونتيجةً لذلك، نُفِي مباكي في تسعينيات القرن التاسع عشر إلى موريتانيا، وفي العقد الأول من القرن العشرين إلى الجابون،54 وزادت مكانته إثرَ ذلك. وفي القصيدة البالغ عدد أبياتها ١٣٤٤، المعروفة باسم «جزاء الشكور» المكتوبة في أوائل القرن العشرين باللغة الولوفية على يد «موسى كا» أحد أتباع مباكي، نجد قصصَ المعجزات القديمة — التي رأيناها تتكوَّن في السابق من خلال النوع الأدبي العربي المعروف باسم «مناقب الأولياء» — تُستخدم في سياق أفريقي استعماري جديد للحديث عن مباكي.55 ومثلما انتشرت في الهند البريطانية شائعاتٌ عن هروب الصوفيين على نحوٍ إعجازي من أماكن احتجازهم الاستعمارية، فقد تحوَّلت أخبارُ سجن مباكي إلى قصصٍ، مثل قصةِ إثارته غضبَ الحرَّاس عندما قفَزَ من أعلى ظهرِ السفينة التي كان محتجَزًا فيها ليؤدِّي الصلاةَ على سجادةٍ كانت تَطفو على الأمواج، أو قصةِ احتسائه الشاي بعفويةٍ أثناء وجوده في الفرن المُشتعِل الذي ألقاه فيه الفرنسيون الأشرار.56 إلا أنَّ قصة مباكي لم تكن فقط قصة عن المقاوَمة المنطوية على معجزات، بل كانت أيضًا قصةً تَنطوي على توافُق براجماتي استفاد فيه هو وسُجَّانه من مزايا التعاون مع الحكام الفرنسيين؛ فبعدَ أنْ عاد مباكي من منفاه عام ١٩١٢، قاد أتباعَه في الطريقة المريدية من أجل تأسيسِ مركزٍ ديني في الداخل السنغالي في مدينة توبا، وهي مدينة جديدة اكتسبَتِ الثراءَ من خلالِ زراعةِ الفول السوداني وتصديره عبر السِّكَك الحديدية التي ربطت المزارع باقتصادِ الاستعمار الفرنسي.57 لم تكن هذه استراتيجيةً بسيطة للإثراء الذاتي، بل مشروعًا يضع المُثل الصوفية في صورة عملية، وتضمَّنت هذه العملية حتمًا بعضَ التسوية، وتمثَّلت النتيجةُ العامة في تقديمِ مباكي بديلًا جذَّابًا ﻟ «مهمة التمدين» الفرنسية؛ ففي الوقت الذي سمح فيه الفرنسيون للزعماء المحليِّين، الذين تحكَّموا من خلالهم في الريف، بالاستمرار في الاحتفاظ بالعبيد، قدَّمَ المجتمعُ الريفي الذي أسَّسه مباكي في مدينة توبا ملاذًا للعبيد الهاربين؛ وبهذه الطريقة قدَّمَ بديلًا دينيًّا جديدًا وعمليًّا لنماذج الحكم المحلي والاستعماري.58
fig25
شكل ٤-٢: متمرِّد وولي: صورة فوتوغرافية تعود لعهد الاستعمار الفرنسي لأحمدو بامبا السنغالي.

(٢-٣) الإمبراطورية الروسية

يمكن أن نرى أنماطًا مشابهة في تاريخ الصوفيين في الإمبراطورية الروسية؛ ففي الفترة نفسها التي كان يواجه فيها الفرنسيون في الجزائر تمرُّدَ عبد القادر الجزائري، شهد التوسُّع الروسي في القوقاز في عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر مقاوَمةً شَرِسة من الأتباع النقشبنديين للإمام غازي محمد الغيمراوي (تقريبًا ١٧٩٥–١٨٣٢)، والإمام شامل الداغستاني (١٧٩٧–١٨٧١). ومثل عبد القادر الجزائري في شمال أفريقيا، فإن قائدَيِ المقاوَمة القوقازية لم يكونا من أبناء المؤسَّسة الصوفية الدينية ذات النفوذ في وطنهم الجبَلي، وبعد أن جذبا الأتباع عن طريق نجاحِهم السابق في منْع تقدُّم الروس والتحكُّمِ في إحباطات وطاقات شباب الوديان، تمكَّنا من تأسيسِ دولةِ جهادٍ قصيرةِ الأجل ازدهرت في الفترة ما بين عامَيْ ١٨٢٨ و١٨٥٩ على أطراف الإمبراطورية الروسية. وباستخدام النظام الهرمي الخاص بالطريقة الصوفية أسَّسَ الإمامُ شامل نظامَ إدارةٍ ناجحًا، يقوم على تفويض السلطة المعروف لستة عشر نائبًا خُصِّصت لهم السيطرة على المناطق الأربع التي قسِّمت إليها الدولة الجبلية الصوفية.59 لم يكن مشروعُ الإمامِ غازي محمد الغيمراوي والإمامِ شامل الداغستاني نوعًا من المقاوَمة البسيطة من جانبِ ثقافةٍ محلية جامِدة، بل كان مشروعًا مبتكَرًا سعى إلى فرض سلطة الشريعة على القوانين المحلية العرفية؛ مما أدَّى إلى ظهور عدد كبير من المعارضين له بين المسلمين المحليِّين وبين الروس أيضًا.60 قابَلَ الحكَّام العثمانيون والإيرانيون المبعوثين الذين أرسَلَهم الإمامُ شامل إلى كافة الأنحاء من معقله الجبلي بالرفض؛ حيث نظروا إليه نظرةَ الريبة، ولم يَحْظَ على قدرٍ من الدعم من بين كل القوى الإسلامية الراسخة إلا من الحاكم المصري محمد علي (الذي حكم من عام ١٨٠٥ إلى عام ١٨٤٨)، الذي كان مثلَه يُناضل من أجل منْعِ تقدُّم الأوروبيين.61
وعلى الرغم من أنه في منتصف القرن التاسع عشر بدأت السياسة الروسية في دمج المؤسَّسات الدينية الإسلامية في النسيج البيروقراطي ﻟ «دولتها الطائفية» قدر الإمكان، فإنَّ الهزيمة التي ألحقَتْها روسيا في النهاية وبشقِّ الأنفُس بالإمام شامل خلَّفت إرثًا من عدم الثقة في الطرُق الصوفية لدى السلطات الروسية.62 إلا أنه في كثير من الحالات، كانت محاوَلاتُ روسيا — الرامية إلى تشجيعِ المحافظة الدينية كجزءٍ من دور الدولة الطائفية في جعل الرعايا أكثر نظامًا وقابليةً للسيطرة — تصبُّ في مصلحة الصوفيين الساعين إلى توسيع نطاق الالتزام بالشريعة.63 وعلى نحوٍ مشابِه لما رأيناه في الأقاليم الزراعية في الهند البريطانية وإن كان مميزًا عنه، فإن كثيرًا من الأئمة المحليِّين المعيَّنين من قِبَل الروس كانوا صوفيين (أو من أتباع الصوفيين) أيَّدوا كلًّا من الالتزامِ الشديد بالشريعة والدولةِ الروسية بصفتها المسئولة عن تطبيقها؛ ومن ثَمَّ حقَّقوا اتحادًا بين أجندة الصوفيين وأجندة الإمبرياليين المتباينتين.64
وعلى غرار الهند البريطانية مرةً أخرى، كان أحدُ أهمِّ إسهاماتِ الحكم الروسي في الحياة الفكرية الصوفية والإسلامية في العموم هو تقديم الطباعة؛ ففي وقت مبكر يعود لعام ١٧٩٧ أُسِّست مطبعةٌ لنشر الكتب الإسلامية في قازان؛ العاصمة الإدارية لمنطقة الفولجا والأورال.65 وتحتَ قيادةِ مسئولِ الطباعة أبي الغازي بوراس أوغلي المُعيَّن من قِبَل الروس، شهد عام ١٨٠٢ على الأرجح أولَ حالةِ نشرٍ لعمل صوفي على يدِ ناشرٍ مسلم، تمثَّلت في نشر القصيدة السردية المكتوبة باللغة الجغتائية التركية «ثبات العزيزين»، التي كُتِبت في الأصل قبلَ قرنٍ على يد صوفي الله يار (المتوفَّى عام ١٧١٢)، أحد أتباع الطريقة النقشبندية في آسيا الوسطى.66 وفي القرن التاسع عشر، وحتى بعيدًا عن الطباعة، شهد حكم الروس لمنطقة الفولجا والأورال تجدُّدَ نسْخِ وتأليفِ السِّيَر التاريخية الإقليمية على يد المسلمين التتار والباشكير. وفي تلك الأعمال التي تناولت الأرضَ وسكانَها مثل كتاب «تاريخ البلغار»، الذي ألَّفه تاج الدين يالتشيجول أوغلي (١٧٦٨-١٨٣٨) في عام ١٨٠٥، استُخدِمت قصصُ الأضرحة الصوفية القديمة لربطِ سكانِ منطقة الفولجا والأورال بالأرض التي سكنوها، من خلال قصصِ الأولياء القدماء الذين اعتنقوا الإسلام، المدفونين في مدينة بلغار التي تضم أضرحتهم، والتي سُمِّي السكان على اسمها.67 وفي فترةٍ شهدت فيها الخاناتُ الإسلامية السابقة في الإمبراطورية الروسية تدفُّقَ المستوطنين الألمان والروس، وكان فيها المسيحيون الأرثوذوكس الروس يَكتبون سِيَرًا تاريخية مقدَّسة مشابِهة استخدمَتْ أضرحةً مسيحية مهجورة كدليلٍ مزعوم على قِدَم ملكيةِ المسيحية الأرثوذوكسية للمقاطَعات الإسلامية الجنوبية في الإمبراطورية؛ استخدَمتْ قصصُ الأضرحة المؤلَّفة في القرن التاسع عشر هذه تراثَ المنطقة الصوفي المعماري والسردي لتأكيدِ ملكيةِ المسلمين للأرض في مواجَهة المستوطنين المسيحيين الجدد.68 وفي هذا الصدد، كان يوجد أيضًا نوعٌ من المقاوَمة الصوفية. واعتمادًا على مَزاعِم ملكيةِ الأرض القائمة على هذه النصوص، اتخذ الصوفيون في أواخر القرن التاسع عشر موقفًا قوميًّا أكثر بالمعنى الحديث؛ حيث احتفى شِعْر المفكر النقشبندي محمد علي الشقوري (١٨٢٦–١٨٨٩) بوطنيةِ «بلغار الفولجا» الجديدة، ومن منطلقِ عدم الرغبة في إغضاب النظام الروسي الحاكم المتخوِّف، فإن الشاعر بالرغم من ذلك ربَطَ الوطنيةَ بحكمِ القياصرة السِّلمي.69
وفي حين أحكَمَ الروسُ قبضتَهم على منطقةِ الفولجا والأورال ومنطقةِ القوقاز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإنهم غزوا أيضًا مدنَ وسهوبَ آسيا الوسطى التي رأيناها سابقًا معاقلَ للطريقة النقشبندية العريقة في أوائل العصر الحديث. وفي هذه الأماكن، أسفرَتْ سياساتُ الغزو عن زعْمِ مجموعةٍ من الصوفيين المحليين أنهم الأسلافُ الحقيقيون لأحمد يسوي (المتوفَّى عام ١١٦٦ تقريبًا)؛ ومن ثَمَّ، فإن لهم حصةً في الأراضي الشاسعة المحيطة بضريحه.70 وعلى الرغم من أن الأراضي التابعة لأضرحة المنطقة ظلَّتْ مَصُونةً في العقود الأولى من الحكم الروسي، فإن الثروة المحبوسة في هذه الأوقاف التي تعود لفترة العصور الوسطى جعلَتِ الحكَّامَ الجُدُد يشرعون في التحقيق في الأمر، الذين كانوا حريصين على إخلاء الأراضي للمستوطنين الروس والألمان الذين رأوا أنهم مهمُّون لتحقيقِ أقصى استفادةٍ اقتصادية من المنطقة.71 وعندما تحوَّلت الإمبراطورية الروسية إلى الاتحاد السوفييتي بعد عام ١٩١٧، انتُزِعت أخيرًا هذه الأراضي الشاسعة من مالِكِيها الصوفيين، وبالإضافة إلى القمعِ السوفييتي الرسمي للطرق الصوفية، وحظْرِ الأدب الصوفي «الإقطاعي»، فإن خسارة موارد الدعم المادي تلك تسبَّبت في توقُّف تام لنقل التقليد الصوفي في آسيا الوسطى.72 ومع تحوُّلِ أضرحةِ الأولياء النقشبنديين الكبيرة إلى متاحفَ ذات دعايةٍ مناهِضة للدِّين، انفصَلَ المسلمون في الاتحاد السوفييتي عن تراثهم الصوفي بدرجةٍ أكبر بكثيرٍ من إخوانهم في الإمبراطوريات الأوروبية الأخرى.

(٣) تراجُع المؤسسة الصوفية: ما وراء نطاق الاستعمار، من عام ١٨٠٠ تقريبًا إلى عام ١٩٥٠

على الرغم من التأثير الهائل للاستعمار على كلٍّ من الصوفيين ومنافِسيهم أثناءَ القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، فإننا يجب أن نحذر المبالغة في المدى العالَمي للقوة الاستعمارية؛ ففي جبال بامير الشاهقة البعيدة، التي توجد على أطراف الحكم الروسي، عاش الشاعر الصوفي مبارك الوخاني (تقريبًا ١٨٤٠–١٩٠٣) في عزلة، لدرجةِ أنه اخترع عودًا ضخمًا يشبه آلة الرباب مكوَّنًا من تسعة عشر وترًا ليُصاحِبه في غناء قصائده، واضطر إلى صنعِ آلةٍ لتصنيع الورق كي يَكتُب قصائدَه عليه. لقد كان الاستعمار الروسي بعيدًا كل البُعْد عن تفكيره، وتظهر معاناتُه في أبياتٍ مثل: «أحاسيسي وأفكاري متعلِّقتان بالورق.»73 وعلى الرغم من أن أعضاء الطرق الصوفية الذين عقدوا تحالُفات مع الحكَّام الاستعماريِّين كانوا بالتأكيد تحت مراقَبة سلطات الاستعمار، فإن هذا لم يمنع الصوفيين في نهاية المطاف من الاستفادة من شبكات السَّفَر الجديدة، التي اعتمد عليها أيضًا الحكمُ والتجارةُ الأوروبيَّان؛ فافتتاحُ طرُقٍ عبر إقليمية مكَّنَ المسلمين في المناطق البعيدة من التواصُل حول العالَم بعضهم مع بعض بمزيدٍ من السهولة والانتظام.74
في بعض الحالات، ساعدت البِنْيةُ التحتية الجديدة هذه، المتمثِّلة في طرق السَّفَر، في تأسيس طرقٍ صوفية جديدة نَشِطة، ونَشْرها سريعًا من المناطق الإسلامية التي كانت نائيةً في السابق. وفي حالة الطريقة الرشيدية الأحمدية، نجد أن الشيخ السوداني إبراهيم الرشيد (١٨١٣–١٨٧٤) جدَّد التقليد الذي ورثه عن شيوخه، من خلال طريقةٍ جديدة سرعان ما انتشرت في شبه الجزيرة العربية وسوريا ومصر والسودان وليبيا وغرب أفريقيا ودول الملايو وبورنيو وسنغافورة، وفي نهاية المطاف تايلاند وكامبوديا.75 وإلى حدٍّ ما كان هذا الانتشار الهائل ناجمًا عن توفُّر آلات الطباعة، التي من خلالها أصبح من الممكن طباعة كتبِ الطرق الجديدة بأعداد كبيرة لتوزيعها على نطاق عالَمي. وفي الغالب كانت توجد تلك المطابع في مراكز النقْل الرئيسية، مثل إسطنبول أو بومباي أو سنغافورة، وكانت الكتب تُوزَّع في مقاصد الحج العالَمية مثل مكة.76 تُظهِر تلك التحرُّكات عبر المناطق الواقعة تحت الاستعمار أن الصوفية قدَّمت أشكالًا من الإلهام والتنظيم قويةً على نحوٍ كافٍ لمقاوَمة الضغوط الاستعمارية، ولعل الأهمَّ من هذا الانتشار لطرق جديدة عبر المناطق الواقعة تحت الاستعمار أن أجزاءً من العالَم الإسلامي ظلَّتْ بمنأًى عن الاستعمار الأوروبي. فمِن المُهمِّ أن نقارن ما رأيناه من التجربة الاستعمارية بمصائر الصوفيين في تلك المناطق غير الخاضعة للاستعمار؛ ذلك لأنه بالنظر إلى تاريخ الصوفيين في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في الإمبراطورية العثمانية وإيران وأفغانستان، نجد أنه توجد عدة أنماط عامة تُشبه سياساتِ الدول الاستعمارية من أوجه معيَّنة. وهذا بدوره يُشير إلى ضرورةِ وضعِ السيناريوهات الاستعمارية التي تناولناها في إطار الأنماط التاريخية الأطول أجلًا، المُتعلِّقة بالتفاعُل بين الصوفيين أصحابِ النفوذ القوي والقُوى الدولية، سواء أكانت قوًى «استعمارية» أم قوًى «محلية».
من بين أهم المناطق الإسلامية التي لم تطُلْها يد الاستعمار إلا بعد الحرب العالمية الأولى، ظلَّت الإمبراطورية العثمانية، التي بدأت أراضيها في التضاؤل وإنْ ظلَّت مساحتها شاسعةً بالرغم من ذلك، تمثِّل ساحةً مهمة للصوفيين، وكانت أيضًا من المناطق التي تشابَهَت فيها تفاعلاتُ الصوفيين مع الدولة وتفاعلاتُهم في المناطق الواقعة تحت سيطرة الاستعمار. كان الحدَثُ الصوفي الأهم في أوائل القرن التاسع عشر هو الإلغاء الرسمي للطريقة الصوفية البكتاشية عام ١٨٢٦، بالإضافة إلى فرقة الإنكشارية العسكرية، التي لطالَما كانت قاعدةَ الدعم الأساسية لها على مدارِ ما يزيد عن ثلاثة قرون،77 وجاء في صيغة «الفرمان» الذي أعلنت فيه الإمبراطوريةُ العثمانية الإلغاءَ المشترك ما يلي: «الأولى عدو للدولة، والأخرى عدو للدين.»78 ونظرًا لأن طقوس البكتاشية لطالَما ضمَّت ممارساتٍ مشبوهة مثل شرب الخمر، فإن قرار الإلغاء يمكن أن يُعتبَر — إلى حدٍّ ما — جزءًا من التوجُّه الطويل الأمد، الذي يهدف إلى ترويج أشكال الصوفية الأكثر التزامًا بالشريعة، ويؤكِّد وجهةَ النظر تلك تزامُنُ سقوطِ البكتاشية مع الظهور السريع للفرع المُلتزم بالشريعة الجديد من الطريقة النقشبندية المجدِّدية، التي أسَّسها الصوفي الكردي الرحَّالة الشيخ خالد النقشبندي (المتوفَّى عام ١٨٢٧) في أوساط النخبة العثمانية.79 وكانت العوامل السياسية المتعلقة بتغيُّر المكانة هذا، ما بين البكتاشية والنقشبندية المُجدِّدية، متعلِّقةً بحملات الغزو الاستعماري التي رأينا أنها أدَّتْ إلى زيادةِ مكانةِ الطرق الصوفية الملتزِمة بالشريعة في شمال الهند والجزائر والقوقاز في العقد نفسه؛ ذلك أن ما أدَّى مباشَرةً إلى قمع البكتاشية كان اندلاعَ الثورة اليونانية عام ١٨٢١، ومجموعةَ الهزائم التالية التي لحقَتْ بالجيوش العثمانية، التي انتهَتْ باستقلال اليونان بعد ذلك بعقد. ونظرًا لأن أجزاءً من اليونان كانت تحت السيطرة العثمانية لما يزيد عن أربعة قرون، فقد أثارت الخسارةُ المفاجِئة للأجزاء الغربية من الإمبراطورية العثمانية غضبًا عارمًا، ليس فقط على الجيوش، بل على التردِّي الأخلاقي الذي اعتقد الكثيرون أنه أضعَفَ الإمبراطوريةَ من الداخل. وبسبب طقوسِ البكتاشيين المُرِيبة، وثرائِهم المؤسَّسي، وعلاقاتِهم بصفوة جنود الإمبراطورية العثمانية، فقد كانوا أهدافًا واضحة للسخط الشعبي، ولسخط البلاط الإمبراطوري أيضًا، وبالإضافة إلى ذلك، منَحَ القضاءُ على البكتاشية الفرصةَ للدولة للاستيلاء على الأملاك الوقفية العديدة التي جمعَتْها الطريقةُ على مدار قرون.80 وفي محاكاةٍ عثمانية لردودِ الأفعال تجاه التوسُّع الأوروبي في المناطق الإسلامية الأخرى، شهدت العقودُ التالية ظهورَ صوفيِّين أدانوا علنًا التدني الأخلاقي للبكتاشية، كان أبرزَهم أعضاءُ طريقةِ النقشبندية المُجدِّدية التي أسَّسها الشيخ خالد النقشبندي. وحتى سبعينيات القرن التاسع عشر، ظل وَرَثة الشيخ خالد النقشبندي يتقلَّدون منصبَ «شيخ الإسلام» الذي يُعدُّ أعلى منصب ديني في البيروقراطية الإمبراطورية، بالإضافة إلى تقلُّد مناصب الوعَّاظ في أكبر مساجد إسطنبول.81
في خمسينيات القرن التاسع عشر ساعدت أزمةٌ عثمانية أخرى — حربُ القرم في هذه المرة — في ظهورِ جماعةٍ إصلاحية أخرى لم تجد حتى أن الصوفيين الملتزمين بالشريعة يُقدِّمون حلًّا كافيًا لها في مواجَهة الانتصارات الأوروبية التي أتاحها العلم.82 إلا أن الازدهار الوجيز لمصلِحِي تلك «التنظيمات»، الذي حدث ما بين عام ١٨٣٩ وعام ١٨٧٦، لا يدلُّ على الإطلاق على انتهاءِ النفوذ الصوفي في الأراضي العثمانية؛ إذ إن الهزيمة التي ألحَقَها الروس بالعثمانيين في الفترة ما بين عامَيْ ١٨٧٧ و١٨٧٨ سحبَتِ البساط من تحت أقدام مُصلِحي التنظيمات أيضًا، مما أدَّى إلى الحكْم الرجعي للسلطان عبد الحميد الثاني (١٨٧٦–١٩٠٩). وبعد الإصلاحات الدستورية في العقود السابقة، دفعَتْ حاجةُ السلطان عبد الحميد الثاني إلى الشرعية، أثناءَ محاوَلةِ احتكارِ السلطة في يدَيْه بصفته السلطانَ، إلى طلب المساعدة من الصوفيين، وكان أبو الهدى الصيادي (١٨٥٠–١٩١٠) شيخُ الطريقة الرفاعية رئيسَ مَراسِم سياسةِ إضفاءِ الشرعية هذه، من خلال رعاية المؤسسات الإسلامية الصوفية القديمة. وقد أشرَفَ الصيادي على عمليةِ حشدٍ بالغةِ الكفاءة للصوفيِّين من خلال «سياسة الدمج»، وفيها تمكَّنَ السلطان عبد الحميد الثاني من الاعتماد على التطورات الدينية المركزية التي انتهجَتْها الإمبراطورية العثمانية في السابق، والتي تناولناها في الفصل الثالث.83 وبالإشراف على ما يمكن أن نطلق عليه «مجلسًا استشاريًّا» — الذي كان مؤلَّفًا من ثلاثة شيوخٍ صوفيين آخَرين، تربطهم علاقاتٌ بشمال أفريقيا وجنوب الهند — نظَّم الصيادي مشروعًا دعائيًّا عابرًا للقوميات، قُدِّم فيه السلطانُ عبد الحميد الثاني في صورةِ خليفةِ كلِّ مسلمي العالَم، أو قائدهم.84
وكان يوسف النبهاني (١٨٥٠–١٩٣٢) الصوفي الفلسطيني التابع للطريقة القادرية من الشخصيات البارزة الأخرى في هذا التجديد للتحالُف القديم بين الصوفيين والحكَّام؛ حيث تدرَّجَ سريعًا في مناصب الخدمة القضائية العثمانية في ثمانينيات القرن التاسع عشر، بعدَ أنْ قضى عامين في القضاء في إسطنبول.85 ومن منصبه في بيروت كتب أعمالًا دعائية تحتفي بإنجازاتِ السلطان وتُدافِع عن أهدافه الاستبدادية، وتهاجِم في الوقت نفسه المناهِضين للصوفية ومُناصِري الحداثة، واصفًا إياهم بمِعْوَل أوروبا الذي سوف يُضعِف الأُسسَ الإسلامية للمجتمع العثماني. وفي سلسلةٍ من الأعمال الجدلية، هاجَمَ قادةَ الفكر في حركة الإصلاح السلفية الناشئة المناهِضة للصوفية، ووصَف جمالَ الدين الأفغاني بأنه «مُرتَد»، ومحمد عبده بأنه «شيطان»، ومحمد رشيد رضا بأنه «شرير»،86 إلا أن النبهاني لم يكن ألعوبةً بيدِ سلطانٍ حكْمُه غير مستقر، ومن خلال مطبوعاته الكثيرة صاغ استجابةً محافظةً لكنْ مُتماسِكة للتغيُّرات الاجتماعية والدينية التي صاحبَتْ تقلُّصَ الإمبراطورية العثمانية. وفي حين كان يرى الإصلاحيون أمثالُ عبده أن الاستجابةَ المناسبة لهذه الظروف هي ترْكُ التقليد الصوفي، من خلال «الاجتهاد» وتقديم تفسيرٍ جديد كامل للنصوص المقدسة التي تمثِّل أُسُس الإسلام؛ كان يرى النبهاني أن «إعادة فتح أبواب التفسير» في هذه الأوقات العصيبة يُعدُّ أخطرَ من أي وقتٍ مضى.
ولم يكن النبهاني فقط هو الذي تبنَّى هذا الموقف؛ ففي العديد من المدن الإقليمية في كل أنحاء مُلكِ عبد الحميد الثاني كانت توجد كتلةٌ محافظةٌ أكبرُ من الصوفيين العثمانيين المتأخِّرين، المدعومين بالتعيينات الحكومية أو بالمعاشات المالية، والذين لم يكن التقليد بالنسبة إليهم مجردَ أمرٍ واقع يُدافِعون عنه بكلِّ غالٍ ونفيس، بل كان مجموعةَ مواردَ عقائديةٍ ومؤسَّسيةٍ يُمكن أن تواجِه تحديات العصر الحديث وكذلك تعاليم الحداثيين. لكن لم يَحُلْ هذا التوجُّهُ المحافظ دونَ حدوثِ تطورات جديدة؛ فمنذ ثمانينيات القرن التاسع عشر في دمشق، كان أتباع الثائر الجزائري السابق المنفي عبد القادر الجزائري مضطلعين بإحياء الاهتمامات الأدبية والتاريخية التي ستُسفِر في النهاية عن «النهضة» العربية.87 أما على صعيد الحركة السلفية التي ظهرت في سوريا ومصر العثمانيتين، في بداية القرن العشرين تقريبًا، فكان ثمة رجالٌ — مثل محمد عبده (١٨٤٩–١٩٠٥) الذي كان من طنطا، وأتباع عبد القادر الجزائري في دمشق — أداروا ظهورَهم لنشأتهم الصوفية عندما نضجوا، مفضِّلين إسلامًا عقلانيًّا رفضوا فيه الطقوسَ والمعجزات الصوفية؛ لأنها غير متوافِقة مع عالَم المعرفة العلمية الحديث، الذي يجب أن يكون فيه الدين قائمًا على تفسيراتٍ عقلانيةٍ للنص، وليس على قبولِ تقليدٍ محرَّف.88 وكان التحوُّل السريع من الإسلام الصوفي إلى الإسلام السلفي في مناطق كثيرة من العالَم (لا سيما الشرق الأوسط)، من أكبر التغيُّرات الاجتماعية والدينية في التاريخ الإسلامي الحديث.
وبقدومِ الجيل الثاني من السلفيِّين، أصبحت الشخصيات السلفية البارزة أمثال محمد رشيد رضا (١٨٦٥–١٩٣٥) منذ أوائل القرن العشرين أكثر ضراوةً في إدانةِ الفساد وفرطِ التمجيد في الذات والفسْقِ لدى الصوفيِّين العثمانيين، وفي واحدةٍ من أكثر المقالات المنشورة تأثيرًا، وصَف رضا الشهوانيةَ المنحَطَّة في أحد العروض الصوفية، فقال عنهم: «غلمان مُرْدٌ حِسَان … يَلْبسون ملابسَ ناصعةَ البياض كملابس العرائس، ويرقصون بها على نغمات الناي المثيرة للمشاعر.»89 ومن المراكز الرئيسية للسلفيين في الشرق الأوسط، نشروا نقْدَهم المناهِض للصوفيين في كل الأنحاء، من خلال أسفارِ تلاميذهم وإصدارِ صحفٍ مثل صحيفة «المنار».90 وبسبب أن تلك الحِقبة قد تميَّزت بالصراع الشديد، فعندما كانت الغلَبة للإصلاحيين من خلال ثورة تركيا الفتاة عام ١٩٠٨، اعتبروا الصوفيين أكثر من أي وقت مضى أعداءً للتقدُّم يَخدمون مصالحهم فحسب، ومدمِّرين لتعاليم النبي الصحيحة؛ لذا في عام ١٩٠٩ طُرِد النبهاني من منصبه القضائي. على الرغم من ذلك، فإن القومي التركي المتحمِّس بشدة للحداثة ضياء جوك ألب (١٨٧٦–١٩٢٤) استطاع أن يرى أن الأبعاد الفكرية وكذلك الاجتماعية للصوفية تمثِّل أصولًا قيِّمة، زاعمًا أن تعاليم ابن عربي (المتوفَّى عام ١٢٤٠) سبقَتْ فلسفةَ بيركلي وكانط ونيتشه،91 وبحلول عام ١٩١٨ كان كل شيخ صوفي في إسطنبول قد تلقَّى نموذجًا مطبوعًا يُطالِبه بذِكْر مؤهلاته، وتاريخه الوظيفي، وعدد الأتباع والبيعات.92 وعندما سقطت الإمبراطورية العثمانية رسميًّا عام ١٩٢٢، كنتيجة للقتال في الصف الخاسر في الحرب العالمية الأولى، أخذ مؤسِّس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك (١٨٨١–١٩٣٨) في النهايةِ الخطوةَ الجذرية التي تمثَّلت في حظْرِ الطرق الصوفية عام ١٩٢٥ حظرًا كاملًا.93 وعلى الرغم من أن كثيرًا من الصوفيين قبلوا نظام الحكم الجديد، فقد تحدَّى غيرهم أتاتورك وجمهوريتَه العلمانية الجديدة، من خلال رفْضِ تقلُّدِ الوظائف الحكومية وممارَسةِ طقوسهم سرًّا في منازلهم. وكان أحد هؤلاء الصوفيين الشيخ سعيد البالوي، الذي قاد تمرُّدَ قبائل الزازا الكردية قبل أن يُلقَى القبض عليه ويُعدَم عام ١٩٢٥ إثرَ ذلك.94 لكنْ بالرغم من الدفاع القوي عن علمانية الجمهورية التركية، فإن اختفاء الصوفية من الحياة العامة في ذروة العصر الجمهوري لم يُسفِر على الإطلاق عن انتهاءِ التأثير الصوفي في الحياة التركية.
بالعودة إلى إيران، رأينا في الفصل الثالث كيف أدَّى ظهورُ طبقةِ رجالِ الدين الشيعة في الإمبراطورية الصفوية إلى قمع الصوفيين في إيران في نهاية المطاف، وبالرغم من ذلك، شهدت السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر عودةَ وَرَثةِ الطريقة النعمتلاهية من الهند إلى إيران، وكانت تلك الطريقة قد انتشرت في السابق من إيران في القرن السادس عشر إلى السلطنة البهمنية في جنوب الهند،95 ومن خلال الشيوخ الرحَّالة أمثال نور علي شاه (المتوفَّى عام ١٧٩٧) وأتباعهم في الجيل التالي، أشرَفَ هؤلاء الصوفيون المهاجرون على حدوثِ إحياءٍ صوفي كبير في إيران، ولفعْلِ ذلك، اقترحوا عقيدةً جذَّابة تَرتكِز على تجاربِ النشوة القائمة على مشاعرَ رفيعةٍ مثل «الحب»، و«العشق»، و«الود»، و«الهوى»، يُمكن استحضارها بغناء قصائد الحب الفارسية القديمة التي كتبها الرومي وبابا طاهر بمصاحَبة الموسيقى.96 وبلغَتْ جاذبيةُ الصوفيين مبلغًا كبيرًا، لدرجةِ أنهم في ثلاثينيات القرن التاسع عشر اكتسبوا أتباعًا من المجتمع اليهودي في مدينة مشهد، وهناك استخدم الحاخامات اليهود الأفكارَ الصوفية في تفسيراتهم للتوراة، ومن خلال رؤى أبي القاسم القشيري (المتوفَّى عام ١٠٧٤) ابتدعوا روابطَ مُتخيَّلةً مع التقليد الصوفي الخاص بفترة العصور الوسطى في منطقة خراسان المجاورة.97
على الرغم من أن الإحيائيِّين الصوفيين في إيران قُوبِلوا بمعارَضةٍ شديدة من المؤسسة الدينية الشيعية، مما أدَّى إلى إعدام العديد من «المبشِّرين» بالطريقة النعمتلاهية، فقد وجد الصوفيون دعمًا كافيًا من التجار الأثرياء؛ بحيث انتشروا سريعًا عبر المدن التجارية داخل إيران. وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، وجد الصوفيون الدعمَ أيضًا من البلاط الملكي الإيراني، وبصفةٍ خاصة من خلالِ تقلُّدِ الصوفي المنتمي إلى الطريقة النعمتلاهية حاج ميرزا أقاسي (١٧٨٣–١٨٤٨) منصبَ الصدر الأعظم في عهد الحاكم القاجاري محمد شاه (الذي حكم من عام ١٨٣٤ إلى عام ١٨٤٨)، وتحت رعاية أقاسي حدَثَ ترميمٌ وتوسيعٌ للأضرحة المُتداعِية المُقامة لكبار الصوفيين في إيران في فترة العصور الوسطى — أمثال أبي يَزيد البسطامي وشاه نعمة الله ولي — بالإضافة إلى منح الصوفيين معاشات أو تمليكهم للأراضي.98 ومن خلال عقد هذه التحالفات الاستراتيجية مع السلالة القاجارية الجديدة، المُنحدِرة من القبائل التركمانية السابقة، التي لم تكن مختلفة تمامًا عن القوى الاستعمارية في فقدان الشرعية، استعاد أبناءُ الطريقة النعمتلاهية للصوفيين حصةً في المجتمع الإيراني لم يتحصَّلوا عليها منذ مائتَيْ سنة. ومع مرور القرن، تمسَّكَ الصوفيون بهذه المكانة المستعادة من خلال الحفاظ على علاقاتهم بالتجار الإيرانيين، وبصفةٍ خاصة مجتمع التجار الإيرانيين الثري، الذي ظهر في بومباي المستعمَرة.99 وعلى غرار القرون السابقة، فقد استغلَّ الصوفيون الشبكاتِ العالميةَ الدولية لتجاوُزِ سيطرةِ القوى الوطنية.
ومن ثَمَّ أسفرَتِ التغيُّرات في المناطق الاستعمارية عن نتائجَ غيرِ مباشِرةٍ تصبُّ في صالح الصوفيين الموجودين في مناطق خارج السيطرة الاستعمارية، وكانت تلك النتائج في بعض الحالات تصبُّ في صالحِ جماعاتٍ صوفية معينة؛ فبعدَ أن نشأ الصوفي الإيراني البارز صافي علي شاه (المتوفَّى عام ١٨٩٩) التابع للطريقة النعمتلاهية في أصفهان، أطلق حياته المهنية من خلال فترة إقامته في بومباي، التي اكتسب منها دعْمَ التجار الإيرانيين في الشتات هناك، وكذلك طبَعَ فيها قصيدتَه الواقعة في كتابٍ بعنوان «زبدة الأسرار»، التي رسَّختْ سمعتَه لدى عودته إلى الوطن.100 وفي عصر الطباعة الجديد مثَّلت أشعارُ صافي علي شاه استيلاءً على التقليد الصوفي القديم وامتدادًا له، من خلال المحاكاة المتعمَّدة لأسلوبِ أشعارِ العظيم جلال الدين الرومي التي تعود لفترة العصور الوسطى.101 إلا أنه بعدَ شهورٍ من وفاة صافي علي شاه عام ١٨٩٩، تحوَّلَتْ طريقته إلى منظمةٍ تميل إلى الحداثة على نحوٍ متعمَّد، تُعرَف باسم «أنجمان أخوت» (أيْ جمعية الأخوة)، مزجت التقليدَ الصوفي بالتصوف المأخوذ من الماسونية.102 ومن خلال حفلات العشاء الخيري التي كانت تقيمها تلك الجمعية، ومن خلال وسائل الحداثة الأخرى مثل المجلات والأكاديميات الفلسفية، نجد أن الصوفيين الإيرانيين في أوائل القرن العشرين ربطوا أنفسَهم في عصر الحداثة بطموحاتِ نُخبةٍ قومية جديدة. وعن طريق توجيهِ إرثهم المتمثِّل في الكتابة بالفارسية وفقًا للأيديولوجية الجديدة المتمثِّلة في القومية الإيرانية، وعن طريق تعديل الدور الصوفي القديم المُتمثِّل في الوعظ الأخلاقي لمُواجَهةِ مخاوفِ العصر الحديث المُتعلِّقة بتعاطي المخدرات وحقوق المرأة؛ ظلَّ الشيوخ الصوفيون في إيران حتى الثورة الإسلامية عام ١٩٧٩ يجدون الرعايةَ لدى أعلى المستويات في الدولة، بما في ذلك الإمبراطورة فرح ديبا.103
fig26
شكل ٤-٣: أولياء الموانئ البحرية الاستعمارية: ضريح أحمد بن علي في نقطةِ التقاءِ البواخر، عدن (الصورة من مجموعة صور المؤلف).
وفي الوقت نفسه، في جنوب آسيا وآسيا الوسطى، أدَّى بقاءُ الولايات الأميرية والدول «الحاجزة» على أطراف الهند البريطانية إلى استمرار التحالُفات القديمة بين الحكام المسلمين والمؤسسة الصوفية في القرن العشرين أيضًا، ونجد أنه في حيدر أباد (وهي ولاية أميرية هندية في حجم فرنسا تقريبًا) أدَّى وجودُ طبقةٍ مسلمة حاكمة إلى استمرارِ تقديمٍ الرعاية للأنشطة الصوفية، خاصةً أثناء حكم نظامِ محبوب علي خان (الذي حكم من عام ١٨٦٩ إلى عام ١٩١١)، الذي أدَّى كرمُه إلى استضافةِ حيدر أباد لصوفيين من أماكن بعيدة عن سواحل الهند. وفي ظل الحماية من التغيير الذي أحدَثَه الاستعمار في النظام الاجتماعي، أكمَلَ الصوفيون في حيدر أباد تقليدَهم الأدبي القديم من خلال كتابة كتب طبقات مثل «مشكاة النبوة» المكتوب بالعربية، للمؤلِّف غلام علي قادري (المتوفَّى عام ١٨٤٢)، الذي ربط الصوفيين الأحياء في حيدر أباد بالأولياء القدماء في خراسان وبغداد من خلال سلاسل الانتساب.104 وعندما تسلَّلت حركاتُ الإصلاح المناهِضة للصوفية السائدة في الهند البريطانية عبر الحدود إلى حيدر أباد، استطاع صوفيو حيدر أباد كما في حالةِ معين الله شاه (المتوفَّى عام ١٩٢٦)، بمساعَدةِ أصحابِ المصانع المحليين، تكييفَ أنفسهم مع مفهوم الإصلاح الجديد وتمرير تعاليمهم، حتى بعد اندماج حيدر أباد عام ١٩٤٨ في الهند المستقلة.105
fig27
شكل ٤-٤: ولاءات أفغانية: مسكن وضريح صوفي في كابُل (تصوير: نايل جرين).
في أفغانستان الواقعة شمال غربي الهند البريطانية، كان الحكَّام الأفغان المناصِرون للحداثة يجاهدون في أوائل القرن العشرين لتأكيد سلطتهم الهشَّة على القبائل الجامحة ورجال الدِّين المعارِضين، ممَّا دفعهم إلى عقد اتفاقٍ مُشابه مع الصوفيين البارزين.106 وفي منطقةٍ كان فيها الولاء القبَليُّ للأسلاف من الأولياء الصوفيين أقوى من الولاء لملكٍ بعيد يقيم في كابُل، وجد حكَّامُ أفغانستان المركزيون في أوائل القرن العشرين أنه من الحكمة استخدامُ الصوفيين كجُسورٍ للوصول إلى رعاياهم المُمانِعين.107 وفي عام ١٩١٩، تضمَّن هذا السعي الملكيُّ إلى السلطة أيضًا إعلانَ الجهاد على الإمبراطورية البريطانية، التي كانت في أعقاب الحرب العالمية الأولى أضعفَ من أن تَرُدَّ ردًّا كاملًا. وعندما أعلَنَ الملكُ أمان الله (الذي حكم من عام ١٩١٩ إلى عام ١٩٢٩) رسميًّا هذا الجهادَ غيرَ المحتمل بعدَ صراعٍ عائلي على السلطة أعقَبَ اغتيالَ أبيه الحاكم، حرصَ على وقوف الشيخ النقشبندي الجليل شاه أغا (المتوفَّى عام ١٩٢٥) إلى جانبه قبل أن يَبعث هذا الشيخَ وأخاه شير أغا بصحبةِ قواته إلى المعركة،108 ومقابل ما قدَّمه الأخوان من دعمٍ، حصَلا على أراضٍ كبيرة في ضواحي كابُل، وألقابٍ شَرَفية مثل «شمس المشايخ»، وعندما أُطِيح بالملك أمان الله في انقلابٍ، عيَّنَ خلفُه نادر شاه (الذي حكم من عام ١٩٢٩ إلى عام ١٩٣٣) شير أغا رئيسًا للَّجنة القومية لعلماء الدين الجديدة، وأرسَلَ أخاه الصوفيَّ الثالثَ جول أغا سفيرًا لمصر.109 وعلى الرغم من أن النفوذ الصوفي كان لا يزال كبيرًا في ثلاثينيات القرن العشرين، فقد شهدت العقود التالية تراجُعَ النفوذ الصوفي في أفغانستان؛ فكما هو الحال في مناطق أخرى، فضَّلَ آخِر الملوك الأفغان زاهر شاه (الذي حكم من عام ١٩٣٣ إلى عام ١٩٧٣) الحداثةَ العلمانية على التحالُف مع الأولياء الأحياء، وفي الوقت نفسه بدأ المُفكِّرون في الطبقة الوسطى الأفغانية الصغيرة يتأثَّرون بالأفكار الشيوعية القادمة من آسيا الوسطى السوفييتية المُجاورة؛ ومن ثَمَّ اعتبروا الصوفيين عُملاء للملوك، وبالرغم من ذلك كانت الصوفية لا تزال راسخةً على نحوٍ كافٍ في النظام الاجتماعي الأوسع نطاقًا، لدرجةٍ جعلت تحجيمَ النفوذ الصوفي أجندةً للمُصلِحين الأفغان الدينيين والعلمانيين على السواء،110 إلا أنَّ الريف الجبَليَّ الأفغاني ظلَّ محتفظًا بكثيرٍ من سمات الأشكال الإقليمية المحلية من التقليد الصوفي التي كانت اختفَت في ذلك الوقت، في ظلِّ ضغوطِ التحديث أو الإصلاح التي أعادَتْ تشكيلَ البلدان الإسلامية الأخرى في القرن العشرين.111 وفي مدينة تاشقرغان (المعروفة أيضًا باسم خُلم) الواقعة في شمال أفغانستان، بقيَتْ أشكالٌ محلية من التقليد الصوفي توارثَتْها الأجيال عبر كتيبات باللغتين الفارسية والأوزبكية، ربطت النجَّارين والدبَّاغين وغيرهم من الحِرَفيِّين بطقوسِ وسلالاتِ أولياء معينين، وربطت صُنَّاع الحلوى ببابا فريد كنج شكر، ابن مدينة ملتان.112

(٤) التوسُّع والرفض: الصوفيون فيما بعد الاستعمار وفي ظل العولمة، تقريبًا من عام ١٩٥٠ إلى عام ٢٠٠٠

(٤-١) الصوفيون في العالم الإسلامي «القديم»

من نواحٍ كثيرة، شهد القرن التاسع عشر بلوغَ الصوفيين ذروةَ التوسُّع الاجتماعي في تاريخهم؛ حيث استعانوا بتقنيات السفر والطباعة الحديثة، وحافَظوا على مكانتهم المؤثِّرة، من خلال تحالُفاتهم الماكرة التي عقدوها مع الأطراف الحاكمة في البيئات الاستعمارية وغير الاستعمارية. وشهدت العقود الافتتاحية من القرن العشرين اكتسابَ الإصلاحيِّين المناهِضين للصوفية والحداثيِّين المسلمين نفوذًا مُتزايدًا، وكان ذلك من ناحيةٍ ردَّ فعلٍ تجاه رغدِ العيش الذي تميَّزت به الطبقة الصوفية وإذعانِها للاستعمار، ومن ناحيةٍ أخرى ردَّ فعلٍ على المتطلَّبات الدينية التي ظهرتْ من جرَّاء التعرُّض لأفكارٍ علمية جديدة. لقد شاهدنا في الأقسام السابقة كيف أن الصوفية في أوائل القرن العشرين كانت تُقمَع للمرة الأولى في مناطقَ معينةٍ لصالح تكوين الدول القومية. وكما رأينا بالفعل، في مناطق آسيا الوسطى التابعة للاتحاد السوفييتي، وكذلك في تركيا الجمهورية، كانت الصوفية تتعرَّض للقمع باسم الحداثة الاشتراكية أو القومية. وفي مناطق أخرى، خاصةً في الشرق الأوسط العربي، اشتدَّتْ هجماتُ الحداثيِّين الأيديولوجية على الصوفيِّين، مُعتبِرين إيَّاهم فاسِدين أو عملاء أو دجَّالين، أما من الناحية المؤسَّسية فقد شهدَتْ سياساتُ القومية في العديد من الدول العربية في فترة ما بعد الاستعمار توسُّعَ عمليةٍ طويلة الأجل، تمثَّلت في تقنين الدولة أوضاعَ الطرق الصوفية.113 وفي شبه الجزيرة العربية فسَّرَ النظام السعودي الجديد تعاليمَ ابن عبد الوهاب، المُصلِح الذي ظهر في القرن الثامن عشر، على أنها تُدِين الصوفية إدانةً كاملة، واتخذَ هذه التعاليم كأيديولوجية للدولة الجديدة. وسبَق أنْ رأينا كيف أن مصطلح «الصوفية» نفسه ابتكَرَه الباحثون الأوروبيون في الفترة الاستعمارية، وكيف اكتسَبَ في نقاشاتهم معانيَ كانت في كثير من الأحيان مُتعارِضةً مع فهم الصوفيين لتقليدهم، وعندما بدأ المسلمون في بيئاتِ أواخر الفترة الاستعمارية مثل الهند ومصر يَعرفون ما كتبه الباحثون الأوروبيون عن الصوفيين، أُصِيب الذين أخذوا فهْمَ الأوروبيين بجدِّيَّة بصدمةٍ من مُبالَغات الصوفيين، في حين غضب الذين نظروا بعين الرِّيبة إلى الخِبرة الأوروبية من إساءةِ تفسيرِ رُوح التعليم الصوفي؛ ولذلك نجد في الهند في نهاية الفترة الاستعمارية أنَّ الشاعر الإصلاحي السير محمد إقبال (١٨٧٧–١٩٣٨)، عندما كتَبَ مجموعةً من الأشعار الفارسية والأردية مُلهِمةً بكل المقاييس، استوعب انتقادَ الباحثين الاستعماريين عندما وصفوا الصوفيين المعاصِرين بأنهم دجَّالون كُسالى، وفي الوقت نفسه قَبِل مديحَهم للصوفيين في فترة العصور الوسطى، الذي وصَفَهم بأنهم آخِرُ «المتصوِّفين» المسلمين الحقيقيين.114 ستُصبح أفكارُ محمد إقبال شديدةَ التأثير على التوجُّهات نحوَ الصوفية في دولة باكستان، فيما بعد الاستعمار، التي ساعَدَ في إنشائها. وبالمثل، في مصر في أواخر فترة الاستعمار وما بعد الاستعمار تأثَّرَ الباحثون العرب باعتقادِ الباحثين الأوروبيين القائل إنَّ الصوفية نشأتْ بين «مؤثِّرات» خارجية مسيحية وهندوسية، وأنها على أي حالٍ تجلٍّ إسلاميٌّ لفئة «التصوف» العالَمية؛ ممَّا دفَعَهم إلى «إعادة أَسْلمة» الصوفية كوسيلةٍ لاستعادة السيطرة على تراثهم الديني.115

كما هو الحال مع المحاولات الكثيرة الأخرى التي جرت فيما بعد الاستعمار لاسترجاعِ تراثِ ما قبل الاستعمار؛ فقد تضمَّنَ مشروعُ إعادةِ أَسْلمة الصوفية قدْرًا من إعادة الابتكار للتقليد يفوق مجرد نقله؛ ذلك لأنه قبل أن يُشير الباحثون الاستعماريون إلى وجودِ مصادر هندوسية أو حتى بوذية للأفكار الصوفية، كانت فكرةُ «الصوفية الإسلامية» إسهابًا غير ضروري. علاوةً على ذلك، شهد القرن العشرين في كل أرجاء العالم الإسلامي تنوُّعًا غير مسبوقٍ في أشكال السلطة الدينية والمعتقَد الديني، من خلال تزايُدِ فرصِ الالتحاق بالتعليم (سواء العلماني أو الديني)، واستخدامِ الوسائل الإعلامية الجديدة (سواء الطباعة أو البث الإذاعي وخلافه)، والانضمامِ إلى الأشكال التنظيمية الجديدة (سواء الجمعيات الدينية أو الأحزاب السياسية). وساهَمَ النِّطاق المتزايد من أنواع الإسلام المتاحة أمام المسلمين في جعْلِ تعاليم الصوفيين نسبيةً، وتهميشِ طرقهم الصوفية في المناطق التي لطالما كانوا فيها لاعبين مُسَيطِرين أو بارزين. باختصارٍ، بحلول منتصَف القرن العشرين كانت توجد أساليب كثيرة يُمكن من خلالها أن يكون المرء مسلمًا، وعندما وجد المسلمون خيارات كثيرة بديلة عن اتِّباعِ أحدِ شيوخ الصوفية، اختار الملايين منهم عبرَ العالَم إما اتِّباعَ أحدِ الشيوخ الجدد غير الصوفيين، وإما التخلِّيَ عن السلطة الخارجية واتِّباع ضميرهم وحده.

وعلى الرغم من أن التأثير الصوفي تراجَعَ على نحوٍ لا يمكن إنكاره، فقد ظلَّ تقليد القرون السابقة يُتوارَث من خلال الكثير من الأشكال المختلفة، وإن كانت في بعض الأحيان حديثةً على نحوٍ مميز. وكما شاهدنا من قبلُ، فقد كان يوجد صوفيون إصلاحيون عدَّلوا تعاليمهم استجابةً لمنتقديهم المناهِضين للصوفية، وفي المواقف التي وصف فيها هؤلاء النقادُ جوانبَ كثيرةً من التقليد الصوفي بأنها ليست إلا «خرافة»، نجد أنَّ الإصلاحيين الصوفيين تخلَّوْا عن كثيرٍ من جوانب الممارسة الصوفية، لا سيما ممارسة عمل الأحجبة أو المعالَجة بالقرآن والأدعية النبوية، التي قلَّ عليها الطلب على أي حال بسبب ظهور الطب الحديث. وفي المناطق الإسلامية الأكثر حداثةً وثراءً تقلَّصتِ الأنشطةُ الصوفية كثيرًا؛ لأن الناس بدءوا يرفضون مجموعةً كبيرة من الممارسات الصوفية — من تبجيلِ الأضرحة إلى قصصِ المعجزات وطلاسم التحصين — لأنها أمورٌ منفصلة عن الحداثة، إلا أنه بصرف النظر عن التوقُّعات الموثوق فيها النابعة عن نظريات العلمانية، التي صاغَت المناقشات التي تناولت الصوفيةَ في منتصف القرن العشرين، فإن الحداثة لم تُسفِر عن تحرُّر كامل من تلك الممارسات الصوفية. وفي مناطق عديدة، لا سيما تلك التي نجَح فيها الصوفيون في الاحتفاظ بمكانتهم الاجتماعية ورأسمالهم المتمثِّل في المؤسسات، استمرَّ نقلُ التقليد الصوفي بالرغم من تزايُد هجمات الإصلاحيِّين المناهِضين للصوفية. وحتى في أكثر المناطق حداثةً في العالَم، شهد النصف الثاني من القرن العشرين استجابةَ الصوفيين للتحوُّلات الذاتية وتحوُّلات المجتمع، من خلال تكوينِ أنماطٍ تنظيمية أو نماذجَ مفاهيميةٍ جديدة، ليَنقلوا من خلالها تعاليمَهم. ومع دنوِّ القرن العشرين من نهايته ظهَرتْ أشكالٌ جديدة من الصوفية في بلدان أوروبا وأمريكا الشمالية، حقَّقتْ تفاعلًا وتداوُلًا متزايدًا مع المناطق الإسلامية القديمة.

دعونا نتفقَّد بعضَ دراسات الحالة لهذه الطرق المختلفة لتطوُّر الصوفية، بدايةً من خمسينيات القرن العشرين فصاعدًا، فبينما أضعفَتِ الحكومات في الهند وباكستان في فترة ما بعد الاستعمار المؤسسةَ الصوفية؛ من خلال فرْضِ سيطرتها على الأراضي الكثيرة المملوكة للصوفيين، استمرَّ نقْلُ التقليد بطريقةٍ أقلَّ تقلُّصًا بكثيرٍ ممَّا حدَث في الشرق الأوسط، الذي اكتسبَتْ فيه القومية العلمانية والإصلاح الديني تأييدًا اجتماعيًّا أوسعَ نطاقًا.116 وعلى الرغم من ذلك، فقد استعانت كلٌّ من الهند وباكستان بالصوفية في تكوين الكيان القومي الجديد خاصتها في فترة ما بعد الاستعمار؛ فعلى سبيل المثال: في الهند حظيَت أشكالٌ معينة من الصوفية (لا سيما العروض الموسيقية وأضرحة الطريقة الجشتية التي تجمع مختلف الطوائف) بالترويج؛ لأنها تمثِّل الأسلافَ المتسامحة للجمهورية الهندية العلمانية المتعدِّدة الطوائف، وحظيت موالدها بالتغطية على التليفزيون الوطني، وناصَرَ تاريخَها أساتذةُ الجامعات. أما في باكستان، فنظرًا للشرعية المحدودة لحكومات ما بعد الاستعمار فيها، فقد اعتمَدَت مجموعةٌ كبيرة من السياسيين على مكانةِ وعلاقاتِ الصوفيِّين في محاكاةٍ للسياسات الاستعمارية القديمة في المنطقة، ووفقًا للأيديولوجيات المتباينة للأحزاب السياسية المَعْنِية، فقد كان الصوفيون يُقدَّمون في باكستان على أنهم إما وعَّاظ إسلاميون مُبشِّرون، وإما مناصِرون اشتراكيون للفلاحين، وأُلحِقت «مراكز بحثية» أو منافذ طبية بالأضرحة المشيَّدة في فترة العصور الوسطى، كتعبيرٍ ماديٍّ عن التحالُف الجديد بين الصوفيين والرئيس الباكستاني.117 وفي كتابات القائد العسكري والشيخ الصوفي الباكستاني السابق النقيب وحيد بخش رباني (المتوفَّى عام ١٩٩٥)، وُجِّهت ذكرى الأولياء الصوفيين المنتمين لفترة العصور الوسطى لخدمةِ أهدافٍ قوميةٍ على نحوٍ أكثر صراحةً؛ ففي كتابه «القوة الدفاعية الباكستانية العظيمة الشأن» المكتوب بالأردية، قدَّمَ دراسةً رومانسيةَ الطابع عن التاريخ العسكري والثقافي لباكستان بصفتها أمةً إسلاميةً أسَّسها في الأصل الصوفيون، ومُقدَّرًا لها من خلال عظمةِ هؤلاء الأولياء الصوفيين والجنود الذين يحمونهم أن تكون منارةً للعالَم الإسلامي أجمع.118 ومثلما أدَّت النماذجُ التي قدَّمها الأوروبيون عن الصوفية إلى «إعادةِ أَسْلمة» الأفكار الصوفية في مصر، نجد أن وحيد بخش رباني ردَّ بالمثْل في باكستان على صور الصوفية التي قدَّمها الأوروبيون، في عملٍ كتَبَه بالإنجليزية حمل عنوانَ «الصوفية الإسلامية»، وفي هذا الكتاب نفى أفكارَ المستشرقين القائلة بالأصول الخارجية للصوفية كي يُظهِر توافُق التعاليم الصوفية مع القرآن والشريعة، وفي الوقت نفسه اعتمَدَ على مجموعةٍ مختارة غير معتادة من العلماء الفرنسيين والكُتَّاب الأمريكيين من أتباع حركة العصر الجديد؛ ليُثبِت تناغُمَ الصوفية مع العلم.119 وفي حين ابتكر الصوفيون في كلٍّ من الهند وباكستان تصوُّراتٍ عقائديةً جديدة، ردًّا على المخاوف الكثيرة التي سادت في فترةِ ما بعد الاستعمار، فقد ظلت تعاليمُ الصوفيين وأضرحتهم في المنطقة تحظى بأهميةٍ بالغة لدى ملايين كثيرة من المسلمين (والهندوس أيضًا) حتى اليوم، وعلى الرغم من هجوم الأصوليِّين الهندوس والمسلمين على حدٍّ سواء على الممارسات القديمة المتمثِّلة في تبجيل الأضرحة الصوفية من قِبَل الهندوس والمسلمين، فما زال مئات الآلاف من الزوَّار من كل الخلفيات الدينية يتوافَدون كلَّ عام على ضريحِ مُعين الدين الجشتي (المتوفَّى عام ١٢٣٦)، الذي يعود إلى فترة العصور الوسطى والموجود في الهند.120
وفي جنوب شرق آسيا، كان لمثْل هذه المشاريع الهادفة إلى تأسيس أمم حديثة أثرها على الصوفية في الدول الجديدة التي تكوَّنت بعد الاستعمار مثل إندونيسيا وماليزيا؛ فعقبَ تحقيق الاستقلال من هولندا عام ١٩٤٩، فُرِض على إندونيسيا في الفترة ما بين عامَيْ ١٩٦٥ و١٩٩٨ «نظامٌ جديد» غير متهاوِن أسفَرَ عن نشأةِ مواطنين عصريين متعلِّمين، وانتقلَتِ الصوفية إلى اتجاهاتٍ محددة أثناء هذه السنوات؛ فاتجهتْ نحوَ الساحة العامة الجديدة المتمثِّلة في الأحزاب السياسية الإسلامية، أو انسحبَتْ نحوَ الساحة الخاصة المتمثِّلة في الجماعات «الباطنية» التي وعَدتْ أتباعَها بالقوة الخفية بدلًا من القوة السياسية.121 إلى جانب انتقادات الإصلاحيين المناهِضين للصوفية، فإن هذا التحديث جعل النسَق التنظيمي الصوفي القديم غير جذَّاب في أعين الأجيال الجديدة من الإندونيسيين، الذين أصبحوا يعتبرون الطرقَ الصوفية القديمة سريةً على نحوٍ مريب، وغيرَ ديمقراطيةٍ وسلطويةً؛122 ونتيجةً لذلك قطَعَ الشيوخ الصوفيون في إندونيسيا صلتَهم على نحوٍ جذري بالمؤسسات القديمة منذ سبعينيات القرن العشرين، من خلال تكوين أنماط تنظيمية جديدة للوصول إلى بَنِي جِلْدتهم المتعلمين العصريين، فأقاموا الندوات والوِرَش والخَلوات. وبحلول تسعينيات القرن العشرين أصبحَتْ تعاليمُ الصوفية متاحةً من خلال العروض التقديمية المُعتمِدة على برامج عرض الشرائح، التي يقدِّمها صوفيون يَرتدون بذلات، ويؤكِّدون على حداثةِ تعاليمهم من خلال استخدامِ مصطلحاتٍ مثل «الصوفية الجديدة» و«الصوفية العملية» و«التصوف الإيجابي»؛ ونتيجةً لذلك، وبالرغم من الجدل المناهِض للصوفية، نجح الصوفيون في استعادةِ أعدادٍ متزايدة من الإندونيسيين المُنتمين للطبقة الوسطى ومن النساء، إلى شكلٍ من الإسلام يَعِدُ بمزيجٍ جذَّاب من السعادة الشخصية والنجاح المهني. بالإضافة إلى ذلك، فإن تلك «الصوفية العصرية» تتمتَّع بصفة جذَّابة أخرى تتمثَّل في تجنُّب الانتماء للإسلام السياسي، على عكس المنظمات الدينية الأخرى في إندونيسيا.
حتى في آسيا الوسطى التي شهدت فيها الصوفية قمعًا وحشيًّا على مدار سبعة عقود من الحكم السوفييتي بصفتها «إقطاعًا إسلاميًّا»، أسفَرَ ظهورُ الجمهوريات الجديدة في تسعينيات القرن العشرين عن إحياءٍ هائل للنشاط الصوفي الذي كان مدعومًا من الدولة والأفراد أيضًا.123 ونظرًا لأن حكم الإمبراطورية الروسية والحكم السوفييتي من بعده قطَعَا الصلات على نحوٍ حاسم مع التراث القديم، فإنَّ ما عاوَدَ الظهورَ إلى السطح في تسعينيات القرن العشرين كان مزيجًا غريبًا من التقاليدِ الشعبية الريفية المتذكَّرة، وابتكارات قومية جديدة لطوائف الأولياء.124 وعزَّزَ انقطاعُ الصلة بالتقليد استخدامَ السوفييت للحروف السيريلية بدلًا من الحروف العربية، وترويجَهم لِلُّغة الأوزبكية كلغة قومية؛ مما جعل — على غرار ما حدث في تركيا المعاصرة — الكتاباتِ الصوفيةَ القديمة التي أُلِّفت في المنطقة، والمكتوبة بالفارسية والعربية، من غير المُمكن قراءتها إلا من خلال محاوَلات ترجمتها التي لا تتمُّ كثيرًا، ونظرًا لتعرُّضِ معظم العائلات الصوفية القديمة للاضطهاد، وسَلْبِ تراثهم منهم، فإنَّ مَن عملوا على إحياء التقليد الصوفي من جديدٍ بعد سقوط الحكم السوفييتي كانوا أساتذةَ جامعات متديِّنين، أمثال الكاتب الأوزبكي صدر الدين سالم بخاري، الذي كان متخصِّصًا في دراسةِ أعمالِ الشاعر الألماني جوته.125
منذ بداية سبعينيات القرن العشرين، شهدت تركيا ظهورَ الطريقة النقشبندية في الحياة التركية من جديد، خاصةً تحت الستار المؤسَّسي للأحزاب السياسية المحافِظة اجتماعيًّا.126 وعلى غرار المناطق الأخرى، اتخذَتِ التقاليدُ الروحانية والفكرية وكذلك المؤسَّسية للصوفيِّين أشكالًا جديدة — كما هو الحال مع الحركة النورسية التي أسَّسها سعيد النورسي (١٨٧٨–١٩٦٠) المَسجون المؤيِّد للطريقة النقشبندية — تجنَّبَتْ وصْفَ نفسها بأنها صوفية؛ بسبب الوَصْمة التي اكتسبَتْها الصوفية من جرَّاءِ انتقاداتِ القوميِّين العلمانيين والإصلاحيين الدينيين لها.127 وفي تركيا كوَّنَ فتح الله جولن (١٩٤١–…) تقارُبًا أكثر انفتاحًا مع الصوفية، من خلال التأكيد على أهمية المعتقَدات الصوفية وليس مؤسساتها،128 وبسببِ ارتباطِ حركة جولن برجال الصناعة المتديِّنين، وليس المعاشات والأراضي التي كانت تَمنحها الإمبراطوريات للصوفيين في السابق، وتأسيسها مَدارسَ كان فيها الإسلامُ الصوفي متوافِقًا تمامًا مع التعليم العلمي، توسَّعَتْ بحلول تسعينيات القرن العشرين وجاوَزَتْ أصولَها القومية، ودخلت الأسواق الدينية التي فُتِحت في آسيا الوسطى بسقوط الاتحاد السوفييتي الذي قمع الطرقَ الصوفية لمدة سبعين عامًا.129 نظَرَ قادةُ تركيا إلى نجاح حركة جولن نظرةً مُتضارِبة، وفي عام ١٩٩٨ هاجَرَ جولن إلى الولايات المتحدة، ومَثَّل هذا القرار لحظةً عالمية جديدة في عمليةِ نشْرِ تعاليمه، وعلى غرار الأمثلة الإندونيسية، إذا كانَتْ حركةُ جولن في صُوَرها المادية تمثِّل كيانًا مختلفًا تمامًا عن الطرق والأضرحة الصوفية التي ظهرت في العصور السابقة، فمن حيث جاذبيتها للطبقة الوسطى المسلمة المتعلِّمة والليبرالية، فإنها تنقل إلى الوقت الحاضر نقلًا بالغَ الكفاءة لتقليدٍ صوفي مَبتور.
في الشرق الأوسط العربي، شهد النصف الثاني من القرن العشرين جدلًا مستمرًّا بين الصوفيين والإصلاحيين المناهِضين للصوفية، وعلى الرغم من ذلك يرى كثيرٌ من أتباع الطرق الصوفية أنَّ القرونَ التي تمتَّعت فيها الصوفيةُ بالمنزلة الرفيعة مكَّنَتْ شيوخَها من الحفاظ على مكانتهم كناقلين للتقليد.130 وعلى الرغم من توقُّعات الزوال الحتمي للصوفية في الشرق الأوسط أثناء ذروة القومية العربية، وعلى الرغم من المشروع الإصلاحي الطويل المتمثِّل في السلطة الدينية الفردية، فإن شيوخ الطرق الصوفية في الشرق الأوسط ظلُّوا حتى نهاية القرن العشرين يحظَوْن بتقديرٍ كافٍ لجذْبِ أتباعٍ من خلفيات مختلفة. ويَتراوح أتباعُ الطرق الصوفية في شمال سوريا ما بين أساتذة جامعيين ورجال صناعة أثرياء وبين عمَّال يدويِّين فقراء يقودُهم شيوخُهم عبر طقوسِ انضمامٍ شاقَّة، تتضمَّن حمْلَ ثعابين حية، وأكْلَ فحم مُشتعِل، وطعْنَ أجسادهم بأسياخ.131 وفي حين سعَتْ قوانين الدولة في مصر إلى منْع مثل هذه الممارَسات الشنيعة من موالد الأولياء، فإن حكومة الرئيس مبارك ما زالت تَستخدِم هذه الموالد كمنصَّات للنشرات السياسية والتنظيم الشعبي؛ إذ إنها كوَّنت تحالُفاتٍ مع القادة الصوفيين الإصلاحيين أصحاب مصانع الكيماويات، والحاصلين على مؤهلات علمية من دول أوروبا الشرقية الشيوعية،132 أما خلف الأبواب المغلقة، فقد ظلَّت العروض الصوفية القائمة على النشوة جزءًا مهمًّا من حياة المسلمين في مصر. وكما هو الحال مع الطريقة الجديدة التي تأسَّست عام ١٩٥٢، بعد أن ظهر النبي محمد في المنام للموظف الحكومي جابر حسين الجزولي (١٩١٣–١٩٩٢)، فقد استمرت التنظيمات الجديدة في الظهور، والتي تَنقُل التقليد حاليًّا من خلال وسائل رخيصة، تتمثَّل في الأشرطة الصوتية، والأقراص المدمجة، ومواد الدراسة المنزلية المُعدَّة للاستخدام في حلقات الذِّكْر الجماعي التي ظهرت لأول مرة منذ ما يزيد عن ألف سنة.133
وفي كل أنحاء الشرق الأوسط نجحت الصوفية في الحفاظ على جاذبيتها، من خلال تسجيل موسيقاها. وعلى الرغم من أن هذه الأمر يُحوِّل التقليد إلى سلعة، فإنه سمح بوصول الشعر المكتوب منذ قرون إلى جماهير الشباب الحضري، الذين أقدَمَ بعضهم بدورهم على خطوة الانتساب رسميًّا إلى إحدى الطرق الصوفية.134 وعلى الرغم من تزايُد القوانين الحكومية التنظيمية، فقد ظلَّت موالد الأولياء بالنسبة إلى كثيرٍ من المصريين العاديِّين مُناسَباتٍ للترفيه والتنفيس العاطفي، وإذا لم تكن العروضُ والممارسات المصاحِبة لتلك الموالد هي الإسلام الصوفي المُتخيَّل في كثيرٍ من الروايات الغربية عن الصوفية، فإن هذه الأمور تمثِّل عناصر مهمَّة من عناصر الصوفية بالرغم من كل ذلك. وبالنسبة إلى الكثير من المسلمين في المدن الصغيرة والقرى في مصر والمغرب، ما زالت أضرحةُ الأولياء الصوفيين مزاراتٍ للاستجمام والتبرُّك؛ حيث تصطحب النساءُ أقاربَهن للتنزُّه، ويشترينَ في الوقت نفسه وصفاتٍ علاجيةً شعبية رخيصةَ الثمن، ويطلبْنَ من الولي المساعَدةَ في التغلُّب على مصاعب الحياة اليومية.135 وكنوع مشابه للتحالفات القديمة بين الدولة والصوفيين، دعمَت أنظمةٌ عربية عديدة في العقود الأخيرة من القرن العشرين الجماعاتِ الصوفيةَ كقوةٍ مضادَّة لتنظيماتِ الإسلام السياسي الحديثة المعارِضة لحُكمها مثل جماعة الإخوان المسلمين، وفي بعض الحالات أدَّى ذلك إلى ظهورِ أشكالٍ جديدة لنقل التقليد الصوفي، فضَّلت، كما في الأمثلة السابقة في أماكن أخرى، ألَّا تُوصَف بأنها صوفية؛ وذلك كي تقدِّم نفسَها في صورة إسلامية صرفة، أو ربما في صورة عصرية، ومن أمثلة هذه الأشكال في لبنان «جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية»، التي أسَّسها الشيخ الإثيوبي المنفي عبد الله الهرري الحبشي، والتي قد لاقَتْ استحسانًا كبيرًا بين المسلمين اللبنانيين الذين ضاقوا ذَرْعًا بالإسلام السياسي.136 والمخاطرُ في هذه المنافَسة شديدةٌ حاليًّا، ومثلما أدَّتِ المعارَضةُ الصوفية للجبهة الإسلامية للإنقاذ الأصولية في الجزائر أثناء تسعينيات القرن العشرين، إلى قتْل الكثير من المسلمين الصوفيين وأتباعهم، فإنه بعدَ تقديم تلك الجمعية لمرشَّحين لها لخوض الانتخابات الوطنية في لبنان عام ١٩٩٢، أسفَرَتْ معارَضتُها الصريحة للجماعات الإسلامية عن اغتيالِ رئيسها.
إن التنافس مع تنظيمات الإسلام السياسي كان أيضًا إحدى سمات التاريخ الصوفي في أفريقيا فيما بعد عصر الاستعمار، ولقد رأينا بالفعل صوفيين بارزين يلعبون دورًا قياديًّا في الحياة السياسية في السنوات التي أعقبَتِ استقلالَ السودان عام ١٩٥٦. إلا أنه منذ سبعينيات القرن العشرين أدَّى ظهورُ تنظيماتِ إسلامٍ سياسي، مثل الإخوان المسلمين والجبهة الإسلامية القومية، إلى تهميشِ دورِ الصوفيين السودانيين في الحياة العامة، وفي حين جذَبَ الإسلاميون السودانيون استثماراتِ أموالِ النفط الثرية، من خلال آليات الصَّيرفة الإسلامية العالَمية الجديدة، لم يَبْقَ مع الصوفيين الذين ازدهروا في ظل الإمبراطورية الفونجية والإمبراطورية البريطانية على حدٍّ سواء إلا موارد مُستنزَفة، متمثِّلة فيما يمتلكونه من أراضٍ زراعية، وأتباعٍ مُهمَّشين اقتصاديًّا.137 وتبدو الصورة مختلفة كثيرًا في مناطق أخرى من أفريقيا، فنجد في غرب أفريقيا أن وَرَثة الطرق الصوفية التي كانت موجودةً من قبلُ استمروا في الازدهار من خلال تكوين تحالُفات استراتيجية مع التنظيمات السياسية الحديثة، ويُعدُّ فرعُ الطريقة التيجانية الذي يقوده الشيخ إبراهيم نياس (١٩٠٠–١٩٧٥) أحدَ الأمثلة على ذلك؛ فقد كوَّنَ الشيخ تحالُفاتٍ ماكرةً مع الكثير من قادة الاستقلال الأفارقة والعرب في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وأصبَح نائبَ رئيسِ رابطةِ العالَم الإسلامي، وجمَعَ تعاليمَه في كتابِ «كاشف الإلباس»، التي ثَبُت في النصف الثاني من القرن العشرين مدى تأثيرها الهائل في غرب أفريقيا.138
وفي بقية الأماكن في المنطقة، واكَبَ أتباع السجين السابق في سجون الاحتلال الفرنسي أحمدو بامبا مباكي التغيُّرات التي حدثَت في مجتمعِ غربِ أفريقيا في العقود الحديثة، من خلال جذْبِ أتباعٍ جدُد بين الفلاحين الذين هاجَروا إلى مدن السنغال النامية،139 وفي ظلِّ خلفاء مباكي، واكبَتِ الحرَكة المُريدية السنغالية أيضًا التطوُّرات الحادثة في تكنولوجيا الاتصالات للحفاظ على ولاء أتباعها، حتى في مجتمع الشتات التجاري الكبير الذي خلقَتْه العولمة في أوروبا وأمريكا.140 وفي حين تدهوَرَ وضعُ الصوفيين في السودان مقارَنةً بمنافسيهم الإسلاميين بسبب قلَّة استثماراتهم مقابل استثمارات الإسلاميِّين، فإن الطريقة المريدية في السنغال جذبَتْ تدفُّقاتٍ ماليةً متزايدة عندما روَّجت لمفهومٍ متديِّن للعمل، يُشجِّع الأتباعَ على اعتبار رحلات العمل الدولية التي يقومون بها جزءًا لا يتجزَّأ من تقدُّمهم الروحاني.141 وفي تسعينيات القرن العشرين ظلت الصوفية حيةً بالقدر نفسه في مالي المُجاورة للسِّنغال، عن طريق ظهور قادة صوفيين شباب جذَّابين، حقَّقوا نجاحًا هائلًا في الترويج لأنفسهم بين غيرهم من الشباب الحضري في مدنٍ مثل باماكو وسيجو.142 وفي حالة الشيخ صوفي بلال، تضمَّنَ الأمرُ عملَ جدائل شِعر الراستا الرائجة، ونَشْر كتيبات عن تعاليمه، وشراء أوقاتِ بثٍّ للترويج لنفسه في محطات الإذاعة المحلية. وكما هو الحال في بيئات ما بعد الاستعمار الأخرى، التي انفصل فيها المُواطنون العصريُّون عن التقاليد الأدبية لأسلافهم بسبب سياسات اللغة التي فرضها الاستعمار، نجد أن كتابات الصوفيين أمثال صوفي بلال كانت باللغة الفرنسية، وليست باللغة العربية التي كتب بها الصوفيُّون قاطنو الصحراء الكبرى في العصور السابقة. لكنْ إذا كان هذا ينطوي بالتأكيد على إعادةِ صياغةٍ للتقليد، فإن الحقيقة الذرائعية للأمر تتمثَّل في أن اللغة الفرنسية، لا اللغة العربية، هي ما جعلت هؤلاء الصوفيِّين جذَّابين في أعيُن جماهيرهم الحضَرية العريضة. وكنوعٍ من إضفاء الطابع المحلي في فترة ما بعد الاستعمار، أصبحَتْ لغاتٌ مثل الفرنسية والإنجليزية من لغات الإسلام الصوفي الجديدة، لتحُلَّا محلَّ اللغتين الفارسية والتركية، اللتَين كانت لهما القيادة في السابق.

(٤-٢) الصوفية في الغرب

في سياق العولمة نجد أن ظهور اللغات الأوروبية كوسيلةٍ للتعبير الصوفي يمكن رؤيته أيضًا في انتشار الطرق الصوفية في العصر الحديث في أوروبا وأمريكا. وعند انتقال الصوفية إلى هذه السياقات الاجتماعية الجديدة، تغيَّرت هي نفسها في بعض الأحيان بسبب احتياجات السكان المختلفين الذين خاطَبَتْهم؛ إذ كانت لدى بعضهم رغبةٌ في «تصوُّف» عالمي وليس الإسلام. وكما رأينا في السابق، فإن الصوفيين كانوا قد بدءوا بالفعل في الانتقال إلى أوروبا وأمريكا أثناء فترة الاستعمار، سواءٌ من خلال رحلاتِ شمال أفريقيا التي قام بها الباطنيون السويسريُّون أمثال فريتجوف شوان، أو الرحلاتِ الأمريكية التي قام بها الصوفيون الهنود أمثال عنايت خان. لقد تزايَدَ هذا الانتشارُ الجديد في النصف الثاني من القرن العشرين المتأثِّر بالعولمة تأثُّرًا شديدًا.

يمكن ملاحظة ثلاثة أنماط عامة وسطَ هذا العدد المتزايد من الجماعات الصوفية التي تكوَّنت في الغرب في فترة ما بعد الاستعمار؛ أما النمط الأول الذي كان يضمُّ ما يمكن وصفهم بأنهم «الصوفيون المهاجِرون»، فتضمَّنَ جلْبَ جماعات صوفية كجزءٍ من عمليةٍ أكبر مُتمثِّلةٍ في تأسيسِ مُجتمعات المهاجرين. وفي هذه الحالات، تنوَّعَتْ أشكالُ الصوفية وفقًا للخلفيات الإقليمية والطبقية والتعليمية لمُجتمَع المُهاجِرين ذي الصلة، وخضعَتْ للتعديل مع تغيُّر التفضيلات الدينية للمهاجرين أنفسهم نتيجةً لتجاربهم في أوطانهم الجديدة. وعلى الرغم من أن البيئات نفسها التي وُجِد فيها هؤلاء الصوفيون كانت جديدة في حدِّ ذاتها كما رأينا في الفصول السابقة، فإن نمط هجرة الصوفيين في أعقاب التحرُّكات السكانية الواسعة ليس بالجديد وإنما أكثر قدمًا. أما النمط الثاني الذي كان يضمُّ ما يمكن وصفهم بأنهم «الصوفيون الرياديون»، فتضمَّنَ صوفيين لم يكن لديهم مجتمعُ هجرةٍ مضيفٌ موجود من قبلُ، وجمعوا أتباعًا كانوا في الأساس إما من مناطق إسلامية مختلفة عن مناطقهم وإما غربيِّين متحوِّلين حديثًا إلى الإسلام. مرةً أخرى، على الرغم من أن البيئة كانت مختلفة، فإن النمط نفسه كانت له سوابقُ مُتعدِّدة، خاصةً في القرن التاسع عشر الذي اتَّسَم بالحَراك بسببِ السفن البخارية والسكك الحديدية؛ حيث شهدنا صوفيين روَّادًا مُشابِهين قادمين من أفريقيا وشبه الجزيرة العربية، يَجمعون أتباعًا من مجموعاتٍ عِرْقيةٍ مختلفة في جنوب آسيا وجنوب شرقها. أما النمط الثالث الذي يضمُّ ما يُمكن وصْفُهم بأنهم «الصوفيون المندمجون»، فتضمَّنَ صوفيين من أصولٍ مسلمة أو من أصول غير مسلمة تربَّوْا في دول غربية، وجذبوا أتباعًا كانوا مثلهم إما متحوِّلين إلى الإسلام وإما مسلمين مولودين في الغرب. ونظرًا لكون هؤلاء الصوفيِّين متأثِّرين كثيرًا بالأفكار والتوقُّعات الأوروبية الأمريكية، فقد تشكَّلوا في كثيرٍ من الحالات من خلال حركةِ العصر الجديد، أو الاتجاهاتِ الباطنية الرائجة في السوق الديني. وعلى الرغم من أنَّ هذا النمط الأخير ظهَرَ بالتأكيد بسبب التفاعلات الاستعمارية التي رأيناها بين السالكين الأوروبيين وشيوخ شمال أفريقيا أو شيوخ الهند في بعض الأحيان في أوائل القرن العشرين، فإنه لم تكن له سوابق مُهمَّة قديمًا.143 وتعرض الصفحاتُ التالية أمثلةً على كلِّ نمط من هذه الأنماط الثلاثة؛ لنُدرك تنوُّعَ الجماعات الصوفية المتضمَّنة في هذا التوسُّع الغربي الثلاثيِّ الأشكال.
إذا التفتْنا إلى النمط الأول، فسنجد أننا رأينا بالفعل أحدَ الأمثلة المهمة على الصوفيين المهاجِرين عندما تناوَلْنا أتباعَ الطريقة المريدية في غرب أفريقيا، الذين حملت تجارتُهم المتنقلة حول العالَم مُمارَساتِهم إلى مجتمع الشتات السنغالي المُنتشِر بأعداد قليلة في كل الدول الأوروبية تقريبًا. وعندما انتشَرَ المُريديون في فرنسا وما وراءها بعد ذلك، استمرَّت شبكة التجارة التي أسَّسها في الأصل مباكي وأسرته مع اقتصاد الاستعمار الفرنسي حتى فترة ما بعد الاستعمار، على يد أتباع الطريقة المريدية الذين جلبوا معهم — إلى جانب مصنوعاتهم اليدوية الأفريقية والساعات المقلَّدة — تقليدَهم، بما في ذلك إنشاد الذِّكْر، وتعليق مُلصَقات مباكي أينما عملوا.144 وفي حالةِ الصوفيين المهاجِرين من جنوب آسيا، أدَّتْ هجرةُ الباكستانيين إلى بريطانيا إلى ظهور أنماط معقَّدة من التداول الديني؛ لأن الطرق الصوفية التي نشأت في الأصل في الوطن الآسيوي اتَّخذت أشكالًا جديدة في بريطانيا قبل تصديرها بدورها مرةً أخرى إلى باكستان.145 ومن أمثلة ذلك طريقة زنده بير التي ظهرت عند التلال السفحية لجبال الهيمالايا القاحلة في مدينة كوهات الباكستانية، في خمسينيات القرن العشرين، وانتشرت تدريجيًّا بين الباكستانيين البريطانيين من خلال جهود الجنديِّ السابق وعامل المسبك صوفي صاحب في برمنجهام. وفي ثمانينيات القرن العشرين، نجد أن الطريقة التي كانت في الأصل مهمَّشةً اجتماعيًّا في كلٍّ من باكستان وإنجلترا تطوَّرت إلى شبكة شتات باكستاني عالَمية، يتدفَّق من خلالها الزوَّار والأموال، وكذلك التقاليد الطقسية، وطلاسم التحصين، والممارسات التأمُّلية. وعلى الرغم من أن تلك الطريقة كانت مقتصرةً على مُجتمع الشتات الباكستاني على وجه الخصوص، شأنها شأن بقية أشكال الصوفية المُهاجِرة الأخرى في الغرب، فإنها من خلال تقديمِ عقيدةٍ تصوُّفية مُتماسِكة، وكذلك جلسات لطرد شياطين «الجن»، حازَتْ على إعجاب الأطباء المتعلِّمين، وكذلك ربَّات البيوت غير المُتعلِّمات، الذين مثَّلوا الجاليةَ الباكستانية العالَمية في نهاية القرن العشرين.
يمكن أن نجد أشكالًا مشابهةً لهذا التبادل القائم على التداول في صوفية مجتمع المهاجرين الأتراك في ألمانيا؛ حيث إن نشأة هؤلاء المهاجرين في الرِّيف الأناضولي في الأساس جعلَتِ ارتباطَهم بالتقليد الصوفي أكثرَ قوةً مقارَنةً بالأتراك الحضَريِّين الأكثر علمانيةً؛ ومن أمثلة ذلك طريقة الشيخ النقشبندي سليمان حلمي طوناخان (المتوفَّى عام ١٩٥٩)، وخليفته كمال كاتشار (المتوفَّى عام ٢٠٠٠)، وعلى الرغم من تعرُّض تلك الطريقة للتمييز من جانب كلٍّ من الحكومة التركية والحكومة الألمانية، فقد شهدت انتشارًا هادئًا لكنه سريع ومتزامن في كلا البلدين؛ بسبب نسق «الهجرة والعودة» المُنتظم، الذي ميَّزَ نموذجَ هجرة العامل الوافد في ألمانيا، الذي يُعدُّ في حد ذاته نوعًا من العولمة.146 أما إذا تطرَّقنا إلى الصوفيين المهاجرين في إيطاليا، فسنجد أن عملية الهجرة أعادَتْ تشكيلَ الممارَسات الصوفية لغَجَر الروم المقدونيِّين، أعضاءِ الطريقة الخلوتية، الذين هاجروا إلى إيطاليا في تسعينيات القرن العشرين. لقد واجَهَ هؤلاء انتقاداتٍ من المسلمين العرب المتأثِّرين بالإسلام الوهابي المُناهِض للصوفية، الذين كانوا مُقِيمين بالفعل في إيطاليا؛ حيث قالوا إن أسلوبَ الصوفية «الغجري» ليس هو الإسلام الحقيقي؛ ونتيجةً لذلك هَجروا ممارَساتٍ معينةً مثل تقبيلِ يدِ شيخِهم.147 وفي هذه الحالات، أصبحت أوروبا نفسها مكانًا لتغيير التقليد الصوفي قدر ما أصبحت مكانًا لنَشرِه.
إذا تطرَّقنا إلى النمط الثاني من الصوفيين في الغرب، فسنجد أن أحد أنجح الأمثلة على الصوفيين الرياديين هو شيخ الطريقة النقشبندية الجذَّاب الشيخ ناظم الحقاني. وُلِد الشيخ ناظم في جزيرة قبرص عام ١٩٢٢، واكتسب العلمَ الصوفيَّ في إسطنبول ودمشق بعد أن درس أولًا الهندسةَ الكيميائية.148 وإلى حدٍّ ما كانت الظروفُ تستثير الطابعَ المتجاوِز للقوميات الذي يميِّز أتباعَه لدرجةِ أنه ربما طُرِد من تركيا نفسها في ذروة التوجُّه الجمهوري العلماني خاصتها في منتصف ستينيات القرن العشرين. وفي حين حقَّق الشيخ ناظم نجاحًا هائلًا في تكوين أتباعٍ له في تركيا وسوريا ومصر، فقد كان مميَّزًا للغاية بسبب نجاحه في أوروبا والولايات المتحدة، الأمر المدهش بصفةٍ خاصة فيه هو قدرته على جذب أتباعٍ له على مستوًى عالَمي؛ فهُمْ لم يكونوا فقط من بلاد مختلفة، بل من مناطق ثقافية مختلفة وأصحاب لغات مختلفة أيضًا. وفي أوروبا كان ناجحًا بصفة خاصة في جذْبِ الألمان المتعلمين من الطبقة الوسطى، بينما في الولايات المتحدة نجح كثيرًا في جذب الأمريكيِّين ذوي الأصول اللاتينية والأفريقية، الذين شكَّلوا في العقود الأخيرة الكتلةَ الأساسية من الأمريكيِّين المُتحوِّلين إلى الإسلام.149 وعلى النقيض من بعض «الصوفيين المندمجين» الذين سنتطرَّق إليهم فيما يلي، ظلَّ الشيخ ناظم ملتزمًا بالتقليد النقشبندي في التمسُّك بأهمية الشريعة في حياة الصوفي، إلا أنه كان في الوقت نفسه مُنفتحًا على نحوٍ مدهش مع غير المسلمين؛ حيث قَبِل أتباعًا دون اشتراطِ دخولهم المبدئي في الإسلام. وعلى الرغم من أن توقُّعاته بنهاية العالم التي لم تتحقَّق على نحوٍ متكرِّر في أعوام ١٩٩٦ و١٩٩٧ و١٩٩٨ قلَّلت من مصداقيته، فإن ريادتَه الجذَّابة جعلَتْه يستخدم نطاقًا من وسائل الإعلام الحديثة لجذب الأتباع، وعن طريق السماحِ للمريدين الجدد بأخذ قَسَم البيعة التقليدي له عبر الإنترنت، والسفَرِ حول العالَم لإعطاء دروسِ الصُّحبة البالغة التنظيم، وبَيعِ مجموعةٍ من المنتجات الصوفية المُنتَجة على نطاقٍ واسع؛ سعى بدهاءٍ إلى إعادةِ إنتاج التقليد باستخدام آليات العولمة، وأثبَتَ أيضًا عبقريتَه كمُديرٍ لجماهيره المختلفة، وقد حقَّقَ ذلك من خلال تعديلِ درجة الاختلاط بين الذكور والإناث، وصرامةِ أعراف اللبس، وتجنُّب القضايا السياسية (أو الترويج لها)، على حسب مجموعة الأتباع التي يُخاطِبها. وشأن الأشكال الأخرى من الثقافة المتَّسمة بالعَولمة، فمِن المُمكن الاعتقاد بأن التقليد الصوفي تعرَّضَ للإضعاف أو للدقرطة، إلا أن ما يبدو واضحًا هو زيادة مصداقية التقليد في زمن المستحدَثات الزائفة.
حصرت المجموعات الصوفية الريادية الأخرى انتشارَها في الغرب في مناطق معينة؛ مثل الطريقة البودشيشية المغربية، فتَحْتَ رعايةِ سيدي حمزة بن العباس بودشيش (المولود عام ١٩٢٢) استخدَمَ قادةُ الطريقة البودشيشية ندواتٍ شبيهةً بندوات عالم الأعمال؛ لتسويق الطريقة على أنها بديلٌ حقيقي للإسلام السياسي لكنه بديل تقدُّمي.150 لم تجذب الطريقة المواطنين الفرنسيين من أصلٍ شمالِ أفريقيٍّ فقط، بل جذبت أيضًا السالكين الرُّوحيِّين الفرنسيين في العموم، وعلى هذا النحو نجحَتْ في زيادة شُهرتها عن طريق الأنشطة الثقافية للأتباع المشاهير؛ ومن أمثلة هؤلاء المشاهير: المفكِّر العام الفرنسي فوزي الصقلي الذي ساعَدَ في تأسيس مهرجان فاس السنوي للمُوسيقى الروحانية، ونجم الراب الفرنسي — الكونغولي المَولد — عبد الملك، الذي أرَّخَ من خلال موسيقى الهيب هوب والسيرة الذاتية رحلتَه إلى الصوفية من المُخدِّرات والجريمة في ضواحي المدن.151 وأثناء ثمانينيات القرن العشرين تكوَّنتْ بالمثل في ألمانيا فروعٌ محلية من الطرق الصوفية الأقدم على يد ألمانٍ مُتحوِّلين إلى الإسلام على درايةٍ واسعةٍ بالمتطلَّبات النفسية لزملائهم من بني وطنهم،152 ومن أمثلة هذه الطرُقِ طريقةٌ لها اسم باللغتَين العربية والألمانية، وهي «طريقة السفينة» أو «شيفس فيك»، التي تأسَّست بعد أن أقام بشير أحمد دولتس (المولود عام ١٩٣٥) — الألماني الذي اعتنق الإسلام — لفترةٍ طويلة في ليبيا، وبعد العودة إلى بون عام ١٩٨٣ أسَّس دولتس العديدَ من المؤسَّسات المخصَّصة للحوار بين الأديان.153 بالإضافة إلى تأسيس تلك الجماعات الصوفية الألمانية مؤسساتٍ متأثِّرةً بالعلاج النفسي، مثل معهد الأبحاث الصوفية الموجود في برلين، فقد حقَّقت نجاحًا هائلًا في جذب الأتباع السابقين للحركات الدينية الجديدة المنبثقة من الهندوسية، لدرجةِ أنَّ صحيفةَ التابلويد الألمانية التي تحمل اسم «بيلد» كتبت في عنوانها الرئيسي: «ذهَب الإله بهاجوان الهندوسي، وحلَّ محله الله.»154
أما في سياق أمريكا الشمالية، فقد كان محمد رحيم باوا محيي الدين (المتوفَّى عام ١٩٨٦) واحدًا من أهم الصوفيين الرياديين،155 فبعد أن انتقل إلى الولايات المتحدة من موطنه سريلانكا عام ١٩٧١، جذب إلى خلوته الريفية التي أسَّسها خارجَ فيلادلفيا أتباعًا كانوا في الأساس من البِيض المُنتمين للطبقة الوسطى، واستخدم النمطَ الجذَّاب الرائج المُتمثِّل في نمط الحياة النباتي، وتسجيلِ ألبومٍ لصالح شركة فوكواي ريكوردز للتسجيلات، وتقديم نفسه في صورة مُعلِّم روحاني — كما في الهندوسية — تصادَفَ أنه مسلم. وفي أول أعماله بالإنجليزية «الحكمة الإلهية المضيئة المُبدِّدة للظلام»، المنشور في الولايات المتحدة عام ١٩٧٢، جمع بين التعاليم الإسلامية والروحانية المُقتبَسة عن الهندوسية التي كانت رائجةً في الثقافة المضادة الأمريكية.156 إلا أنَّه حتى هذه الصوفية الريادية ذات الحَراك العالَمي كانت خاضعةً للعولمة أيضًا، ومع مرور الوقت اكتسبت فيلادلفيا سكانًا من المهاجرين المسلمين، الذين شجَّعوا محيي الدين على إبراز الجوانب الإسلامية الأكثر رسميةً في تعاليمه، وفي عام ١٩٨٤ انضمَّ المتحوِّلون إلى الصوفية الذين كانوا بين صفوف أتباعه القدماء المَولودين في أمريكا إلى المهاجرين المسلمين المُستجدِّين، وأسَّسوا مسجدًا لمُجتمع المسلمين في فيلادلفيا، الذي أصبح في ذلك الوقت مجتمعًا كبيرًا. ومنذ ستينيات القرن العشرين اكتسب الكثير من هؤلاء الصوفيين الرياديين أتباعًا من كل أنحاء الولايات المتحدة، ووصَفَت دراسةٌ حديثة ثُلثَي المؤسسات الصوفية البارزة بالنَّشِطة هناك، وكان يقود معظمَ هذه المؤسسات قادةٌ صوفيون مهاجِرون، لكنَّ بعضها كان يقوده متحوِّلون إلى الإسلام يَنتمون إلى نمط «الصوفيين المندمجين» الذي سنتطرَّق إليه الآن.157
أما النمط الأخير للتوسُّع الصوفي في أوروبا وأمريكا الشمالية، فيتمثَّل في «الصوفيين المندمجين». بوجهٍ عام، نشأ هؤلاء في البلاد الغربية (سواء لعائلات مسلمة أو غير مسلمة) وجذبوا أتباعًا كانوا مثلهم، إما متحوِّلين إلى الإسلام أو مسلمين تربَّوْا في بلاد غربية، وفي بعض الحالات كان القادة الصوفيُّون المُندمِجون هؤلاء هم أنفسهم من المتحوِّلين إلى الإسلام؛ ونظرًا لأن الكثير من هؤلاء الصوفيين كانوا أكثر تأثُّرًا من غيرهم من الحركات الصوفية بالتركيز على «الروحانية» و«الباطنية» في أعقاب ستينيات القرن العشرين، فقد تطرَّفَ العديد منهم لدرجةِ فصْلِ الصوفية تمامًا عن إطارها الإسلامي، مع استمرارِ الاعتماد على سماتٍ معيَّنة من التقليد الصوفي.158 وبينما يُمكن على هذا النحو أن يَزعُم الصوفيون المهاجرون والرياديون في عصر العولمة أنهم لم يتخلَّوْا تمامًا عن التقليد الصوفي؛ فإنَّ الصوفية المندمجة المنسلخة عن الإسلام تُمثِّل بوضوحٍ ردًّا جديدًا على انتقائية السوقِ الدينيةِ العالَمية. ويُعدُّ إدريس شاه (١٩٢٤–١٩٩٦) أقدمَ الأمثلة وأكثرَها إبهارًا في هذا الإطار؛ حيث تربَّى في إنجلترا بعد أنْ وُلِد لأمٍّ اسكتلندية وأبٍ هندي من أصلٍ أفغاني، وبعد نَشرِه كتابًا عن السحر بعنوان «سحر الشرق» في عام ١٩٥٦، وكتابَ رحلات إلى مكة كانت شخصيتُه فيه تُشبه كثيرًا شخصيةَ البريطاني الاستعماري المُتعجرِف؛ أصبَحَ في أوائل الستينيات سكرتيرًا لجيرالد جاردنر؛ متعهِّدِ سحرِ الوثنية الجديدة.159 ومع انصراف حماسِ الحركة الهيبية عن الامتزاج بالثقافة المغربية والهندية وتحوُّله إلى الأديان الشرقية، اعتمَدَ إدريس شاه على خلفيته الأُسَرية، ليُعيدَ تقديمَ نفسه كوريثٍ لسلالة قديمة من الأرستقراطيين والشيوخ الصوفيين الأفغان، تعود إلى ماضي بلاد فارس القديم. ومن خلال أخْذِ أجزاءٍ سهلةِ الفهم من المعتقَدات الموجودة في الأعمال الصوفية الكلاسيكية وتحويلِها إلى كتيباتٍ حقَّقت أعلى مبيعات، ومن خلال جذْبِ مساعدين طليعيِّين مثل الروائية دوريس ليسينج والشاعر روبرت جريفز؛ اكتسَبَ إدريس شاه في نهاية ستينيات القرن العشرين نطاقًا كبيرًا من الأتباع، بالإضافة إلى قاعدة مؤسسية عن طريق إنشاء دار نشر، وكذلك مؤسسة خيرية سمَّاها معهد الأبحاث الثقافية. وعلى الرغم من الانتقادات الواسعة التي طالت إدريس شاه، فقد كان — نظرًا لبراعته في الترويج لنفسه — مسئولًا أكثر من غيره عن زيادة وعي الغرب بالصوفية (وإنْ لم يكن دائمًا زيادة فهم الغربيِّين لها). وبالاعتماد على الطرق الاستعمارية والعولمة، نجد على الأقل في العالم الناطِق باللغة الإنجليزية أن الصوفيين الذين لديهم أصولٌ عائلية في مناطق كانت واقعةً تحت الحكم البريطاني، هم مَن استطاعوا في كثيرٍ من الحالات تكوينَ شبكات في الغرب، كما حدث مع إدريس شاه، ويَنطبِق ذلك بصفة خاصة على الصوفيين الذين تربطهم علاقاتٌ بالأراضي الهندية التي كانت واقعةً تحت الاستعمار، سواء إدريس شاه أو سلالة عنايت خان (١٨٨٢–١٩٢٧) الذي رأيناه سابقًا في هذا الفصل ينتقل من الهند إلى بريطانيا ثم إلى أمريكا. وعلى الرغم من أن سيرةَ عنايت خان بصفته مهاجرًا صوفيًّا يَعِظُ الجماهيرَ الغربية تُماثِل سِيَر الصوفيين الرياديين في الغرب، ففي الأجيال التالية لموته انتقَلَ التراثُ الذي خلَّفه إلى أستراليا على يد الصوفيين المندمِجين. وبحلول التسعينيات كان وَرَثةُ عنايت خان هؤلاء، الذين كانوا من أصلٍ أوروبي لا مِن أصلٍ آسيوي، قد عدَّلوا تعاليمَ شيخهم الهندي الراحل لتُناسِب أعرافَ مجتمعهم، وأكَّدوا على العفوية والمساواة والنِّسوية، لدرجةٍ سبَّبَتْ توتُّراتٍ مع نسل عنايت خان، الذين زعموا أيضًا أنهم وَرَثتُه الروحانيون.160 وهكذا يتَّضح أن الصوفية المندمِجة، التي ظهَرت نتيجةَ لقاءِ الصوفية بالسوق الدينية المُعتمِدة على العولمة في أواخر القرن العشرين، اختبرتْ مبادئَ النظام والانضباط الأساسية التي مثَّلت الأساسَ التنظيمي للتقليد الصوفي على مدار قرون.
إلا أنَّ العولمة لم تُقدِّم مسارًا واحدًا للتطور الديني؛ فلقد أتاحت أيضًا فُرَصًا جديدة لوصول تعاليم الصوفيين إلى جماهير جديدة بلُغات جديدة، سواء من خلال ترجمةِ تعاليمِ أعمدة التقليد — أمثال الرومي وابن عربي — إلى اللغات الغربية، أو من خلال تأليفِ أعمالٍ صوفية جديدة تمامًا بهذه اللغات. وأسهمَتْ كلُّ الجماعات الصوفية العاملة في الغرب في تكوينِ تراثٍ صوفيٍّ ثريٍّ باللغات الأوروبية، وساعدت في جعل اللغة الإنجليزية بصفة خاصة لغةَ الإسلام العالمي، إلا أن الصوفيين المندمجين، أمثال إدريس شاه، والصوفي الإنجليزي المقيم في كاليفورنيا لويلين فون لي (١٩٥٣–…)، كانوا هم الأكثر كفاءةً في دخول سوق النشر التجاري.161 وإذا كان يُمكن القول إنَّ تلك الكتابات تمثِّل محاوَلةً للاستيلاء على التقليد أكثر ممَّا تُمثِّل سعيًا لاستمراريته، فإن عملية تكوين التقليد التي رأيناها على مدار القرون المنصرمة كانت أيضًا في بعض الأوقات عمليةَ استيلاءٍ وإعادةِ بناء، بل كانت أيضًا ابتكارًا. وأيًّا كان تقييمنا لكتابات الصوفيين المندمِجين الغربيين هؤلاء، فإنها الآن تُعدُّ قنواتٍ مبدئيةً مهمة لكثيرٍ من المواطنين العالميِّين الساعين إلى استكشافِ تراثِ الصوفية الثري.

ملخَّص

وسطَ الانهيار المدوِّي للقوة الإسلامية في العصر الاستعماري، وجدَتْ جماعات صوفية كثيرة، من غرب أفريقيا حتى آسيا الوسطى والهند، نفسَها في مواجَهةِ التوسُّع الأوروبي؛ لذا استفادَتْ من وَلاء الأتباع والتنظيم اللوجستي المميَّزَيْن للطرُق الصوفية، لتكوين أنواعٍ مِن المعارَضة المسلَّحة للغزو الاستعماري في بعض الأوقات. وعلى الرغم من ذلك، في أغلب الأحيان كان قادةُ المقاومة الصوفية هذه شخصياتٍ ليس لديها سلطة كبيرة. ومثلما كان الصوفيون مُرتبطين بالدول الحاكمة من خلال مفاوَضاتهم السابقة مع الإمبراطوريات الإسلامية في عصر ما قبل الاستعمار، كان أعضاءُ المؤسَّسة الصوفية في كثيرٍ من المناطق أكثرَ استعدادًا لإيجادِ وسيلةِ تَوافُق مع حُكَّامهم الاستعماريين الجدُد، على الرغم من أن بعض الحكَّام الاستعماريِّين (لا سيما الفرنسيين والروس) قد أبدَوْا عدمَ الثقة في الطُّرُق الصوفية؛ ولذلك تمكَّن الصوفيون، في كثير من البيئات الاستعمارية وأيضًا في المناطق المستقلَّة مثل إيران والإمبراطورية العثمانية، من الحفاظ على روابطهم مع الحكَّام الاستعماريِّين وتوسيعها في بعض الحالات، ليَدخلوا القرنَ العشرين في زمرة المؤسَّسات الإسلامية القليلة المُنتمية لعصر ما قبل الحداثة، التي نجت من الاستعمار دون أن يمسَّها أذًى على نحوٍ كبير. وسواء أكانت هذه التحالفات مع الطبقات الحاكمة تتمُّ في ظلِّ حكم إسلامي أو حكم أوروبي، فقد كانت في النهاية تُحقِّق نتائجَ عكسيةً، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر جعلت سياساتُ الإصلاح الإسلامي المعارِضة هذه المؤسسةَ الصوفية هدفًا طبيعيًّا للانتقاد، وفي الوقت نفسه، تعرَّضَتْ مكانةُ الصوفيين للتهميش على يدِ مزاعمِ المرجعية الدينية من قِبَل مؤسساتٍ جديدة وأفرادٍ جُدُد رافضين للتقليد الصوفي، ونموذجَيْه البرَكة والسُّلطة المتوارَثَيْن. وكثير من هؤلاء القادة الإسلاميين الجُدُد انتمَوْا لمِهَن الطبقة الوسطى الجديدة، مثل التدريس في المدارس أو الصحافة أو الطب، وهذه المجموعة المتنوعة من الإصلاحيين والحداثيين رفضَتِ الصوفية؛ لأنها مثالٌ للتقليدية المُتدنية، التي سمحت باستعمار المسلمين؛ ومن ثَمَّ وضَعوا الصوفيةَ بدايةً من أوائل القرن العشرين تحتَ الهجوم الأكثر استمراريةً ونجاحًا في تاريخها.

وعلى الرغم من توقُّعات الباحثين في منتصَف القرن العشرين باختفاء الصوفية سريعًا في ظلِّ موجةِ أشكالِ الإسلام الأكثر «حداثةً» هذه، فمن خلال سلسلةٍ من التكيُّفات مع التقنيات والمجتمعات السكانية الجديدة في القرن العشرين، نجَتِ الصوفيةُ من هجومِ مُنتقِدِيها، حتى وإن فقدَتْ عددًا هائلًا من أتباعها في هذه العملية. أما في بيئات العولمة في القرن الحادي والعشرين، فما يَربط كلَّ الحركات الصوفية النَّشِطة الآن في أوروبا وأمريكا الشمالية، بالإضافة إلى المناطق الإسلامية القديمة، هو استخدامُها الفعَّال للتقنيات الحديثة والأنماط التنظيمية الجديدة لنَشر رسالتها؛ ففي مدن المغرب، يُقابِلُ الشيوخُ الصوفيون مُرِيدِيهم في أغلب الأحيان في أماكن أكثر شَبهًا بقاعات المؤتمرات، التي تُعقَد فيها ندواتُ عالَم الأعمال، منها بالتجمعات الطقسية التي كانت تُميِّز الفترات القديمة، في حين أصبح من الأرجح أن تجد تجمُّعاتِ طقوسِ الموسيقى والغناءِ الصوفيَّيْن في لوس أنجلوس وليس في شيراز. وفي بيئةٍ تتأثَّر بالعولمة على نحوٍ متزايد، تتضاءل جدوى فكرةِ التفريق بين صوفيةِ العالَم «الغربي» وصوفيةِ العالَم «الإسلامي»؛ فنظرًا لأنَّ الطريقة الحقانية النقشبندية الخاصة بالشيخ ناظم القبرصي وحرَكة القائد الروحاني التركي فتح الله جولن، تَعملان بصفتهما مشاريعَ متجاوزة للقوميات في جوهرها، فإنه توجد دلائلُ كثيرةٌ على أن الصوفية سوف تحتفظ بحصَّة معقولة في السوق الدينية العالمية. وإذا كانت حركاتُ الإصلاح الإسلامي المناهِضة للصوفية في القرن العشرين قد جعَلتْ وَرَثةَ التقليد الصوفي لا يُقدِّمون دائمًا أنفسَهم على نحوٍ رسميٍّ في الوقت الحاضر باعتبارهم «صوفيين»، فإن إعادةَ استيعابِ هذه الصوفية غير المُميَّزة في تصوُّرٍ أكبر للإسلام في العموم، تُمثِّل من جوانب كثيرة عودةً إلى الفكرة القديمة المُتمثِّلة في كونِ التقليد الصوفي جزءًا لا يتجزَّأ من دين الإسلام.

fig28
شكل ٤-٥: الغناء مدحًا في الأولياء: مدَّاحون يستخدمون تقليدَ القوالي الموسيقي في الهند (تصوير: نايل جرين).

على الرغم من فترات توقُّف نقل التقليد التي تسبَّبت فيها الحداثة، وعلى الرغم من توجُّهات الدمج الرائجة في السوق الدينية العالمية، فمِن خلال التأكيد على مرجعية الشيوخ القدماء وتعاليمهم التي أورَثوها عبر العصور، يُعدُّ كثيرٌ من الصوفيين في العالَم في الوقت الحاضر الحَمَلةَ الحقيقيين لتقليدٍ تكوَّنَ من ذكرى وتراثِ الصوفيِّين الأوائل في بغداد. وفي حين يقدِّم بعضُ الصوفيين «الرياديين» أو «المندمِجين» نُسَخًا من التقليد مُبتكَرة أو مستولًى عليها على نحوٍ واضح للغاية، فإنهم ما زالوا يعتمدون على منطق التقليد ليَربطوا أنفسَهم بأقوالِ وممارَساتِ الشيوخ الصوفيين القدماء. وعلى الرغم من أنه يوجد بلا شكٍّ أكثرُ من شكلٍ متاح من الإسلام ليَختار من بينها المسلمون، وأن المؤسسة الصوفية القديمة لا توجد بين هذه الأشكال إلا في صورةٍ متضائلةٍ للغاية، فإنه بالنسبة إلى ملايين كثيرة من المسلمين ما زالت تعاليمُ الصوفية تُنِير الطريقَ إلى التناغُم مع الإله الذي خلقهم. وفي حين تغيَّرَتِ السياقات الاجتماعية للصوفية جذريًّا على مدار تاريخها الذي يَزيد قليلًا عن ألف سنة، فإن الصوفية كتقليدٍ ظلَّتْ متماسكةً عن طريقِ روابط النصوص والمصطلحات، والأنساب والشيوخ، والطقوس والعهود التي من خلالها تعهَّدَ الصوفيون الأحياء في كل جيل بالالتزام بالأخلاقيات والمُمارَسات والمُعتقَدات التي يحافظون عليها بوصفها المُعتقَد السري للنبي. ونظرًا لأن هذا الكتاب عملٌ تاريخيٌّ يعتمد فقط على الأدلة المكتوبة والآثار المعمارية، فقد افتقَرَ بلا شك إلى التطرُّق للتجربةِ الشخصية التي يعيشها الصوفيون، والنشوةِ التي يشعرون بها، اللتَين تُمثِّلان شُريانَ التقليد بالنسبة إليهم. إلا أنَّ الكلمات والأماكن التي تناولْناها هنا لم تكن مجرد الوسائل الثقافية التي ربطَت الصوفيين بالعالَم من حولهم؛ فقد كانت أيضًا أدوات التقليد التي سمحتْ لهم بتجاوُزه. وإذا كنا لم نستطع تتبُّعَهم في أفعال التسامي تلك، فهذا بسبب أننا قرأنا أعمالَهم بطريقةٍ مادية لا بطريقةٍ تأمُّلية، فعندما طالَعْنا النصوصَ العديدة المنتمية إلى فتراتٍ متعدِّدة، وقعنا في خطرِ عدمِ التطرُّق إلى الفعل الأول الذي انطلَقَ من خلاله الصوفيون في عملياتِ صعودهم وتَسامِيهم، وهو: تأمُّل حرف الباء في البسملة (بسم الله)، التي تمثِّل الكلمةَ الافتتاحية في القرآن، وإذا كانت النقطة الموجودة تحت حرف الباء هنا تمثِّل للصوفيين إشارةً تتجاوَز التاريخَ لتدلَّ على التفرُّد الكوني الذي تبدأ وتنتهي فيه كلُّ الأشياء، فإنَّ ما تناولناه في هذه الصفحات هو القصةُ المتعددةُ الأوجهِ والبشريةُ للغاية للصوفيين في العالَم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤