الأخلاق وصلتها بالأدب ونقده

هناك معركة عنيفة حول العلاقة بين الأدب والأخلاق، وهل من الواجب أن يكون الأدب في خدمة الأخلاق، أم أنه يستطيع التحرر منها باعتباره فنًّا جميلًا، وإذا كان من الواجب أن يكون في خدمة الأخلاق؛ فعلى أي نحو يكون ذلك، هل يكون عن طريق الدعاية إلى مبادئ الأخلاق، أم يكون عن طريق علاج النفوس وتطهيرها من الشرور المختلفة بطريق غير إرادي ولا مقصود إليه؟ ويزيد هذه المعركة حدة أن الأدب كغيره من الفنون يستطيع أن يحيل قبح الواقع جمالًا، فنحن مثلًا لا نحب أن نقف أمام مريض يأكله البرص إذا لاقيناه بعرض الطريق، ولكننا قد نتأمل طويلًا لوحة زيتية في متحف من المتاحف لمثل هذا المريض؛ وهكذا اختفى من الآداب الحديثة الرأي الذي كان يذهب إليه الإغريق من أن الجمال وحده هو مادة الفن، وأصبح القبح ذاته شيئًا يُعْمِلُ فيه الكاتب قلمه، والمصوِّر ريشته، والنحاتُ أزميله.

ثم إنه إذا كانت الدعوة إلى مبادئ الأخلاق عن طريق الأدب سواء في ذلك القصة والمسرحية والقصيدة الشعرية — غير مضمون النتيجة، باعتبار أن الناس عادة لا يستفيدون من تجارب الغير، ولا بدَّ لكل فردٍ من أن يقوم بتجاربه الخاصة، وأن يدفع ثمن هذه التجارب مهما كان مرتفعًا؛ فإن النظرية التي تقول بأن علاج النفس خيرٌ من أخذها بالوعظ لا تزال تكتسب من يوم إلى يوم أنصارًا جددًا؛ وذلك لأنه ليس من شك أن الكاتب الجيد الذي يستطيع أن يهز القارئ بما يقص من حوادث، لا بد أن يُخَلِّفَ في النفس أثرًا لا إراديًّا، وربما كان هذا الأثر هو الشيء الذي يبقى، وأما الدعوة الصريحة إلى مبادئ الأخلاق، فالملاحظ أنها قلَّما تصلح قائدًا للسلوك الفردي. هذا وليس معنى إمساك الكاتب عن الوعظ أنه لا يطوي في نفسه حكمًا على ما يقصُّ من أحداث؛ وذلك لأن هذا الحُكْم يكاد يكون أمرًا لازمًا لا يستطيع أن يفلت منه كاتب من الكُتَّاب ما دام إنسانًا لا آلة راصدة، وربما كان من الخير أن يكتفي الكاتب بهذا الحكم الكامن الذي يطلع القراء من ثنايا ما يكتب، ولو لم يقصد إلى ذلك.

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهر في فرنسا مذهبٌ عُرِفَ بمذهب «الفن للفن»، وشاع اسم هذا المذهب في فرنسا وغير فرنسا، وجُرِّدَ من ملابساته التاريخية، حتى انصرف إلى معانٍ لم يَقْصِدْ إليها من قالوا به في أول الأمر، فمن الناس مَنْ يظن أن معنى «الفن للفن» هو الخروج على قواعد الأخلاق، والضرب على غير هدى، فيما يسمونه بالأدب المكشوف، وهذا فهم خاطئ، ومن الواجب أن نفهم مدلول هذا المذهب فهمًا تاريخيًّا؛ حتى نتبيَّنَ حدوده والحكمة التي دعت إليه.

«الفن للفن» كما فهمه الفرنسيون في أواخر القرن التاسع عشر وعلى رأسهم «تيوفيل جوتييه» لم يظهر إلا كردِّ فعل للمذهب «الرومانتيكي»؛ ذلك المذهب الذي اتخذ من الأدب وسيلةً للتعبير عن المشاعر الشخصية قبل كل شيء، وأسرف في هذا الاتجاه حتى أصبح في كثيرٍ من الأحيان صرخاتٌ عاطفية أو أنَّات شعورية، ولم يعد يحفل بغير الترجمة عن العاطفة الشخصية، وكان في هذا نزولٌ بالأدب إلى مستوى الوسيلة.

ثار على هذا الاتجاه أدباء رأوا أن من حق الأدب أن يصبح غاية في ذاته وفنًّا للفن، لا مجرد وسيلة للتعبير عن المشاعر الخاصة، وعندهم أن الأدب يستطيع أن يصل إلى ذلك بفضل صيغه الخاصة، نعني صورَه وأخيلتَه وموسيقاه.

ولكي ينأوا به عن الإسفاف العاطفي أخذوا يتَّجهون نحو الوصف بنوع خاص، ففي الوصف لا تتدفَّق العواطف الخاصة ولا تُسفر عن وجهها، وإذا لم يكن بدٌّ من أن نُسلم بوجود تلوين عاطفي للوصف ذاته؛ فإن هذا التلوين من الممكن أن يقتصر على الإحساس الفني الذي يمازج الوصف، ونعني بالإحساس الفني الإحساس بالجمال.

وعلى هذا النحو يبدو أن مذهب «الفن للفن» لا علاقة له بالمسألة الأخلاقية وارتباطها بالأدب؛ فالقول بأن الفن غاية في ذاته لا محل للحكم عليه حكمًا أخلاقيًّا، بأن يقال: إن هذا المذهب مع الأخلاق أو ضد الأخلاق. ومن البديهي أن هناك أشياء كثيرة تفلت من أحكام الأخلاق ولا تخضع لها على الإطلاق، وكما أننا لا نستطيع أن نحكم حكمًا أخلاقيًّا على الحقائق الرياضية مثل: ٥ + ٥ = ١٠؛ فكذلك مذهب «الفن للفن» لا محل للحكم عليه حكمًا أخلاقيًّا بأن نصفه بأنه خير أو شر، يماشي الأخلاق أو يعارضها.

ولسوء الحظ انتشر في مصر الفهم الخاطئ الذي أشرنا إليه بخصوص هذا المذهب؛ فأصبح المفهوم من مدلوله أنه المذهب الذي يعارض في أن يتقيد الأدب بالأخلاق والدعوة إليها، وهذا الخطأ يجب أن يُحَارَبَ؛ لأنه يؤدي إلى تبديد في مجهود من يكتبون مؤيدين أو معارضين مذهبًا أدبيًّا يجب أن يتقيد الإنسان في فهمه بنشأته التاريخية ما دمنا لسنا نحن مخترعيه.

كما أن مذهب «الفن للفن» لا علاقة له بالأخلاق من حيث التقيد بفكرة أو محاربتها؛ فإنه كذلك لا يمتُّ بصلة إلى أدب الكفاح أو الأدب الاجتماعي، فهو لا يعارضه، وإنما يتعسَّف أحيانًا بعض كُتَّاب الاشتراكية، فيهاجمون مذهب «الفن للفن» ظانين أن في ذلك صرفًا للأدب عن غايته، وأنه دليل أثرة عند الكاتب وانصراف عن أداء رسالته. والذي لا شك فيه أنه مع التسليم بأن الإنسانية في حاجة إلى عقول مفكرة وأقلام نافذة للدفاع عن حقوقها المهدرة، إلا أن العقل الحر لا يستطيع أن يقبل التحكم مهما كانت دوافعه، وكما أن الإنسانية بحاجة إلى مَنْ ينتصف لها من الظلم، ومن ينتصف لها من الجهل، فهي أيضًا بحاجة إلى من ينتصف لها من الألم، ومن ينتصف لها من غلظ الذوق. وفي «الفن للفن» ما يصرف الإنسان عن نفسه فيُلهيه عن بعض ألمه، كما أن فيه ما يُهَذِّبُ إحساسَه فيرقِّق من سماجة ذوقه، وتلك خدمات إنسانية لا شك فيها، بل ربما كانت أبعد أثرًا في الشخصية البشرية مما تظن؛ لما هو واضح من أن شدة الألم تشل حتى القدرة على الإنتاج المادي، كما أن غلظ الذوق خليق — لا بأن يشل الحياة الاجتماعية فحسب — بل وبأن يفقر حياة الأفراد.

وليس معنى «الفن للفن» أن يخلو الأدب من موضوع؛ وذلك لأنه ليس التفكير أو العاطفة هما الموضوعان الوحيدان اللذان يصلحان مادة للأدب، بل هناك إلى جانبهما كافة معطيات الحواس التي نتلقَّاها من الخارج وبخاصة المرئيات. وبإدمان التأمل لآيات الطبيعة التي تحيطنا لا بد من أن ينتهي الكاتب والشاعر — إذا وهبه الله قوة في الخيال ومقدرة على الانفعال — إلى أن تختلط هذه المعطيات بشخصيته البشرية، وإلى هذا المعنى أشار الشاعر الفرنسي «بودلير» بقوله: «إن الأشياء تفكر خلالي كما أفكر خلالها».

ولقد اتضحت تلك الحقيقة في اللغات ذاتها على سبيل المجاز، ولنأخذ لذلك مثلًا يتبادر إلى الذهن هو قولنا: «إن الرياح تئنُّ في رءوس الأشجار» فالفعل يئن «فعل بشري»، وإنما استعملْنَاه لنخلع على الأشياء صفة الإنسان؛ فتمازجنا ونمازجها وبذلك نفلت من سجننا الخاص.

هذا ويتجه الأدب الحديث إلى فهم النفس البشرية وإلقاء الضوء على خفاياها؛ فهو أدب تحليل أكثر منه أدب توجيه، ولربما كان في ذلك خير الأدب؛ لأنك لا يمكن أن تخدم الأخلاق بشيء أكثر من فهم النفس البشرية، فمهما كنت قاسي الطبع، فإنك لا تملك إلا أن تتسامح عندما تدرك ما تستهدف له الطبيعة البشرية من شهوات وأهواء. وفي استطاعتنا دائمًا أن نحب الخير ونمقت الشر دون أن يمنعنا ذلك من فهمهما، ولا يضعف هذا الاتجاه من التعلُّق بمثل الخير، بل لعلها تزداد سموًّا؛ فأنت عندما تلقى البطولة وسط ما يحل بالبشرية من مخاطر، وتدرك مدى خطرها على الإنسانية واستهداف تلك الإنسانية لها — لا تملك إلا أن تزداد إعزازًا لتلك البطولة، فيصبح تقديرك لها عن بينة ووعي بقدرها، وإلا كانت بطولة لا فضل فيها للإنسان أكثر مما للكلب في الأمانة وما للأسد في الضراوة.

هذا والأدب لا يتجاهل مواصفات الأخلاق، ولكنه يحاول أن يحل مقياسًا مكان مقياس، فالعمل الأخلاقي في كثير من الآداب الحديثة هو العمل الجميل في ذاته، لا العمل الذي يتواضع الناس على خيريته.

ومن هنا يصطدم كثير من الأدباء بآراء الهيئات الاجتماعية المحيطة بهم، والغالب أن ذلك لا يكون لإسفاف في طبيعة الأدباء، بل لاختلاف معاييرهم عن معايير عامة الناس.

والأدب شق للحجب، ومحو للطلاء حتى تتكشف الإنسانية عن حقيقتها، وليس هناك خلقٌ أبغض إلى رجال الأدب والفن من النفاق الاجتماعي.

والأديب بفطرته لا يكره أن يكون ذا أثرٍ في البشر، بل يسعى لإحداث هذا الأثر وهو عزاؤه الوحيد، ولكنه يفطن بطبيعته إلى أن الأثر يكون أعمق كلما كان قصده إلى إحداثه غير مباشر، وهذا حق، وحتى في الأدب الوصفي يصح هذا الحكم.

ومن الواضح أن الموضوعية في الأدب شيء لا تستطيعه طبيعة الأدباء، كما لا تستطيعه طبيعة الأدب؛ فكل كاتب لا بد أن يُحس في كتابته بعطف أو بغض لموضوع كتابته، وإنما تتهلهل الكتابة عندما يفتضح الإحساس، والحياء شرط أساسي في الكتابة.

فالإحساس المسرف والعاطفة «المطرطشة» خليقتان بأن تصرفا النفس عما تقرأ، والتبذل — حتى في الإثم — يذهب بالشعر، فلا بد في الكتابة من شيء من الضباب، وليس هذا لأن الأخلاق تقتضي ذلك، فذلك ما لا يعنينا هنا، وإنما لنترك للكتابة قدرتها على الإيحاء. ومن مقاييس الجودة أن يزدادَ ما يُضيفه القارئ إلى ما يقرأ، ولن يضيفَ إلا إذا ترك له الكاتب ما يضيف، والكتابة الجيدة كالأواني المستطرقة بين الكاتب والقارئ، وما أضعفَه كاتبًا يقف منه قارِئُه موقفًا سلبيًّا! وإن يكن من العدل أن نقرِّر أن قدرة الكاتب على الإيحاء تزداد وتضعف بحسب قدرة القارئ الثقافية والعاطفية؛ فالقارئ المثقف الحساس هو الذي يستطيع أن يدرك ما يرقد تحت لفظ الكاتب من معنى أو إحساس.

ومن الثابت أن ما يتميز به الأدب عن غيره هو عنصر الإثارة، والعقلية الرياضية لا تمثل هذا العنصر؛ ولذلك تمتاز دائمًا ببرودها، وهي قد تُجدي في الجدل الذي ينتهي إلى الإفحام، ولكنها عديمة النفع في إدراك المفارقات بين الأشياء ومميزاتها الدقيقة، والجدل لا يمكن أن ينتهيَ إلى إقناع، أو إلى كشف حقائق جديدة من واقع الفكر أو الإحساس؛ ولذلك قد تصل إلى الإفحام مستخدمًا حقائق معروفة، وأما الإقناع فتأمين قلبي على صحة ما نقرأ، ومصدر ذلك التأمين دائمًا هو تجارب كل منا الخاصة في الحياة.

والوصف في الشعر لا يخضع لمعايير الأخلاق؛ فلا يُوصَفُ بأنه أخلاقي أو لا أخلاقي، شأنه في ذلك شأن الكثير من أنواع التصوير والتفكير البشري؛ فالتفكير الرياضي مثلًا لا يُحْكَمُ عليه إلا من ناحية الصحة أو الخطأ، والوصف في الشعر يقاس بمعايير الجمال والدقة والقدرة على الإيحاء والتصوير والبعث أمام الخيال. وفي اللغات الأوربية توجد صفات ثلاث، بينما لا تملك العربية غير صفتين: أخلاقي ولا أخلاقي، بينما في الفرنسية moral immoral amoral أي أخلاقي ولا أخلاقي وبعيد عن الأخلاق.

ومن هذا يتضح أن مذهب «الفن للفن» لا يُعارض الأخلاق، وإنما يسعى إلى خلق الجمال في ذاته، وتحرير الفنون من اتخاذها وسيلة للتعبير عن شخصية صاحبها، ولا أدل على ذلك من اتجاهه نحو الوصف. وكذلك الأمر في المذهب الواقعي، فهو لا يناهض الأخلاق؛ لأنه وإن كان يحرص على تصوير الجانب المظلم المسف في طبائع البشر إلا أنه لا يخلو من حنو على هذا الجانب، فمظاهر البؤس البشري التي يتناولها الكُتَّاب الواقعيون أحسبها أفعل في إثارة النفوس نحو الشهامة من كثير من أعمال البطولة المشرقة. والعِبْرَةُ في الحُكْم على المؤلف الأدبي — من ناحية الأخلاق — بوجهة نظر المؤلف وإحساسه الذي يطالعك من ثنايا عرضه، أكثر من موضوع المؤلف والمادة التي صِيغَ منها، وتُلَخَّصُ العلاقة بين الأدب والأخلاق بأن الاتجاه العام في الآداب يسير نحو أمرين:

  • (١)

    فهم النفس البشرية وتحليلها.

  • (٢)

    خلق الجمال وتهذيب النفوس بفضله.

وأما الوعظ والإرشاد، فذلك ما أثبت الزمن فشله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤