حفلة تنكرية

وقفت سيارة الشرطة السوداء أمام القصر الكبير الغارق في الأضواء. كانت الساعة قد تجاوَزَت منتصف الليل، وبالرغم من ذلك لم يكن أحد في القصر قد نام بعد!

ونزل رجال الشُّرطة، يتقدَّمهم مفتِّش المباحث الشهير «سامي» إلى باب القصر حيث كان في انتظارهم الأستاذ «مكرم» صاحب القصر … ولولا أن مناسبة حضور رجال الشرطة إلى القصر لم تكن تدعو إلى الضحك … لضحكُوا جميعًا من منظر صاحب القصر، وهو يقف أمام الباب الضخم في ملابس المهرِّج. فقد وقعت بالقصر سرقة ضخمة.

ولم يكن الأستاذ «مكرم» يرتدي هذه الثياب لإضحاك الناس … أو لأنه يهوى القيام بدور المهرج … بل لأنه كان يقيم في تلك الليلة حفلة تنكُّرية، وقد اختار لنفسِه ثياب المهرِّج المتعدِّدة الألوان، والوجه المفتوح الفم … والأنف الأحمر المكوَّر، والعينين الواسعتين … مهرج حقيقي لو ظهر في أي سيرك لصفَّق له الناس!

وتقدم الأستاذ «مكرم» في خطواتٍ جادَّة لا تَتناسَب مع ملابسه … تقدَّم لاستقبال المفتش «سامي» مُرحِّبًا، ثم قال: أرجو يا سيادة المفتِّش ألا تُزعج ضيوفي … فبرغم ضخامة السرقة التي وقعت بالقصر … فإنني حريص على أن يَقضيَ ضُيوفي سهرة طيبة!

قال المفتش: سنُحاول … ولكن قد نُضطرُّ إلى استجواب بعضِهم.

مكرم: إنهم جميعًا من معارفي وأصدقائي … وهم ممَّن لا يُمكن أن تمتدَّ لهم شبهة السرقة.

المفتش: ولكن بعض جوانب التحقيق ستحتاج إلى الحديث إلى بعضهم أو كلهم.

مكرم: في هذه الحالة، أرجو استدعاءهم واحدًا واحدًا بعيدًا عن قاعة الرقص؛ حتى لا تلفتوا الأنظار.

المفتش: إنني أرجو فعلًا ألا نَلفت الأنظار … حتى لا يأخُذ اللصُّ حذره!

مكرم: في هذه الحالة سندخل من باب جانبي يفتح على الحديقة إلى غرفة مكتبي … حيث وقعت السرقة، وهناك يُمكن أن تقوموا بعملِكم.

ونزل «مكرم» السلم الرخامي الكبير، وتبعَه رجال الشرطة الثلاثة، حيث دار بهم حول القصر حتى وصلوا إلى بابٍ مُغلَق فأخرج مفتاحًا من جيبه وفتح به الباب، ودخَلَ الرجال غرفة المكتب.

كانت غرفةً واسعةً، تُغطِّي جدرانها دواليبُ الكتب من كلِّ الجوانب تقريبًا، وقُربَ أحد الدواليب مكتب ضخم وضعت عليه أدوات الكتابة … وكانت تُزيِّن الفراغات بين الدواليب لوحات رائعة. أما الأرض فتُغطِّيها سجَّادة حمراء قانية بلا نقوش … وفي أركان الحجرة تقف تماثيل ضخمة من البرونز والخشب الثَّمين.

وقف المفتِّش «سامي» قرب الباب، وألقى نظرة شاملة على الغُرفة، وقال: هنا وقعت السرقة؟

مكرم: نعم … خلف المكتب — كما ترى — لوحة كبيرة، وخلف هذه اللوحة الخزانة التي فتحها اللصُّ، وأخَذَ المجوهرات والنقود … وبعض الأوراق المهمَّة التي تتعلَّق بعملي، وتُعرِّضني لخسائر ضخمة إذا عرف ما بها المُنافسون لي في سوق السيارات.

المفتش: أنت تاجر سيارات على ما أظنُّ!

مكرم: نعم، ولي معرضٌ في القاهرة وآخر في الإسكندرية.

نظر المفتِّش إلى السجادة ذات اللون الواحد الأحمر، ثم قال: هل سرت على هذه السجادة بعد اكتشافك حادث السرقة؟

مكرم: نعم … وهل لهذا أية أهمية؟

المفتش: إلى حدٍّ ما؛ فالسجاجيد ذات اللون الواحد يسهل رؤية آثار الأقدام عليها، وقد يكون قدم اللص بينها.

وتقدم أحد مساعدي المفتش «سامي» وأخذ يقيس آثار الأحذية التي على السجادة …

كان صوت الموسيقى الراقصة يصل إلى أسماعهم من خلال الباب المُغلَق … مُمتزجًا بضحكات الضيوف الذين لم يكُونوا يعلمون حتى هذه اللحظة ما حدث … وبعد أن انتهى المساعد من أخذ مقاسات الأحذية، قال المفتش «سامي»: والآن نُلقي نظرة على الخزانة.

وتقدم الأستاذ «مكرم» وأزاح اللوحة التي خلف المكتب جانبًا، فبدا خلف اللوحة ثقبٌ صغير لا يكاد يختلف لونه عن لون بقية الحائط، وأشار «مكرم» إلى الثقب قائلًا: هنا الخزانة.

ثم مد يده بمفتاح صغير أداره في الثقب بضع مرات، ثم جذب الباب، فانفتح عن خزانة مختفية ببراعة في الجدار، لم تكن كبيرة الحجم، لكنها تَكفي لإخفاء ثروة.

أخذ المفتش «سامي» يتأمل الخزانة، ثم قال: إنها من نوع قديم، ولكنها نادرة الوجود الآن، ومن الصعب فتحها بدون مفاتيحها. على كلِّ حالٍ سنرى.

وتقدَّم أحد مُساعدي المفتش، ونقل البصمات الموجودة على الخزانة، ثم تقدَّم المساعد الثاني، وأضاء كشافًا قويًّا، وأخرج من جيبه مكبرًا، أخذ ينظر من خلاله إلى ثقب المفتاح ثم إلى باب الخزانة وقال: لم يُستعمَل أيُّ عنف في فتح الخزانة، وقد فُتحت بمفاتيحها الأصلية لا بمفاتيح مقلَّدة.

قال المفتش: إنهم لصوص على درجة كبيرة من المهارة، وإنني أتوقَّع ألا يكونوا قد تركوا أي بصمات على الخزانة.

وسكت المفتِّش قليلًا ثم عاد يقول: من مكالمتك التليفونية فهمت أنك اكتشفت السرقة منذ ساعة تقريبًا.

مكرم: في الساعة الثانية عشرة تقريبًا.

المفتش: وكيف عرفتَ الساعة؟

مكرم: كانت المفاتيح قد ضاعت مني في الإسكندرية ثم أحضرها أحد الموظفين الذين يعملون عندي، وقد كنتُ قلقًا أنظر إلى الساعة بين حين وآخر حتى وصل من الإسكندرية ومعه المفتاح قرب منتصف الليل.

جلس المفتش وطلب فنجانًا من القهوة، وطلب من «مكرم» أن يروي له القصة كاملة، فقال «مكرم»: سأذهب إلى ضيوفي وأستأذن منهم في التغيُّب ثم أعود.

ومشى في ثيابه المضحكة، ففتح بابًا على القاعة الواسعة التي كانت مزدحمة بالضيوف، وخرج، وقام المفتش «سامي» خلفه، ففتح الباب فتحة صغيرة وأخذ يتأمل المدعوين. كانوا جميعًا في ملابس تنكرية … فارس من عهد المماليك … كاهن من أيام الفراعنة … فلاحة من الحقل … جنرال من أيام نابليون … طرزان … وغيرهم … وكانت السيدات يَلبسْن الملابس التنكُّرية أيضًا … والجميع يرقصون ويمرحون، فلم يكن أحد منهم يعلم بالسرقة الضخمة التي تمَّت على بُعد أمتار منهم … وقال المفتش في نفسه: ليس هناك من يلبس ملابس المهرج إلا صاحب الحفل!

وأغلق الباب، وعاد يتحدث مع مساعديه، فقال أحدهم: لا بد أن اللص كان يعلم بمكان الخزانة؛ فهي مخفية ببراعة خلف هذه اللوحة الجميلة؛ فهو في الأغلب من معارف أو أقارب صاحب البيت.

قال المساعد الثاني: ليس شرطًا أن يكون من معارفه أو أقاربه … لعلَّه عرف بمكان الخزانة بالمصادفة.

المفتش: سوف يكون أمامنا الكثير من الاستنتاجات بعد أن نستمع إلى قصة الأستاذ «مكرم».

ودخل «مكرم» في هذه اللحظة، وقال للمُفتش: إنني على استعداد لأروي القصة كاملة.

المفتش: ونحن على استعداد للاستماع.

قال «مكرم»: اشتريتُ هذا القصر منذ أشهر؛ فقد كنتُ أتمنى دائمًا أن أسكن في المعادي، هذه الضاحية الجميلة الهادئة، وكان القصر يحتاج إلى كثير من الإصلاحات؛ فهو قديم، وقد أجريت هذه الإصلاحات، وتكلَّفت الكثير.

قاطعه المفتش قائلًا: وهل كانت الخزانة موجودة من قبل؟

مكرم: نعم؛ وقد سلَّمني أصحاب القصر مفتاحها منذ اشتريت القصر، ولكني لم أستعملها إلا صباح اليوم عندما نقلت إليها مجوهرات زوجتي، ومبلغًا كبيرًا من المال، وبعض الأوراق المهمة الخاصة بعملي.

وسكت «مكرم» قليلًا ثم عاد يقول: وقررنا أنا وزوجتي أن نُقيم حفلًا بمناسبة انتقالنا إلى القصر؛ فدعونا عددًا من الأصدقاء والمعارف والأقارب لحضور الحفل.

المفتش: وهل عندك كشف بأسماء الحاضرين؟

مكرم: أظنه مع زوجتي؛ فهي التي تولت توجيه الدعوات.

المفتش: وهل كانت هناك دعوات مطبوعة؟

مكرم: نعم؛ وقد طبعناها في الإسكندرية.

المفتش: وكم عدد المدعوين؟

مكرم: حوالي الخمسين مدعوًّا من الرجال والسيدات.

المفتش: إنه عدد كبير، فهل حضروا جميعًا؟ وهل لم يرتدِ أحد سواك ثياب المهرج؟

مكرم: اعتذر سبعة عن الحضور، ولم يلبس ثياب المُهرِّج غيري.

المفتش: أرجو أن تكمل حديثك.

مكرم: حضرت وزوجتي هذا الصباح إلى القصر، وكانت هناك صفقة سيارات قبضت ثمنها نحو تسعة آلاف جنيه أحضرتها، كما أحضرت مجوهرات زوجتي وأوراقي الخاصة، ووضعتها جميعًا في الخزانة، وأخذت المفتاح معي.

المفتش: مفتاح واحد؟

مكرم: نعم؛ فقد أخبرني أصحاب القصر أن المفتاح الثاني ضاع منذ فترة طويلة.

المفتش: وهل أصحاب القصر بين المدعوين؟

مكرم: نعم؛ حضر ثلاثة منهم.

ونظر المفتش «سامي» إلى مساعديه، وهز رأسه ثم قال: أكمل.

مكرم: وتركت زوجتي في القصر وسافرت إلى الإسكندرية في عمل عاجل، وعدت في السابعة مساء، فطلبت منِّي زوجتي إحضار بعض مجوهراتها لتلبسها، فجئت إلى غرفة المكتب هنا لأفتح الخزانة … وفوجئت بأن المفتاح ليس معي، أخذت أبحث عنه في جيوبي، ثم بحثت عنه في السيارة، لكني لم أجده … وأخذت أتذكر أين وضعته، وتذكرت أنني أخذته معي إلى الإسكندرية في الصباح … وقلت إنه لا بد قد سقط منِّي في مكان ما في الإسكندرية، إما في منزلي هناك، وإما في مكتبي بالشركة التي أملكها. وخرجت إلى القاعة حيث اتصلت تلفونيًّا بمنزلي في الإسكندرية، وبحثوا هناك، ولكنهم لم يجدوا شيئًا، وقبل أن أتصل بمكتبي وأسأل «مجدي» و«حافظ»، وهما يعملان في الشركة مساءً، اتصل بي «مجدي» وقال: إن «حافظ» وجد مفتاحًا صغيرًا على المكتب، وحمدت الله على ذلك، وأخذ «حافظ» السماعة من «مجدي» وحدثني، فطلبت منه الحضور فورًا لأنني عرفت أنه مفتاح الخزانة.

المفتش: كم كانت الساعة؟

مكرم: قبل التاسعة!

المفتش: وماذا حدث بعد ذلك؟

مكرم: بدأت أستقبل المدعوين وأرحِّب بهم حتى حضر «حافظ» ومعه المفتاح.

المفتش: كم كانت الساعة؟

مكرم: الثانية عشرة تقريبًا.

المفتش: وبعدها؟

مكرم: دخلت غرفة المكتب هنا، وفتحت الخزانة، كنتُ أريد أن أطمئن فقط على وجود النقود والمجوهرات والأوراق؛ لكن كانت مفاجأة قاسية لي ألا أجد شيئًا، وجدتها فارغة!

المفتش: هل كان من الممكن أن يدخل أحدُ المدعوِّين حجرة المكتب في أثناء الحفل؟

مكرم: لا أحد دخل إلى غرفة المكتب سواي.

المفتش: هل كل المَدعوِّين هنا الآن؟

مكرم: لقد انصرف أغلبهم، ولم يبقَ إلا حوالي خمسة عشر مدعوًّا.

المفتش: إذا كان اللص أحد المدعوين، فلا بد أنه قد سارع بالانصراف في أول فرصة؛ فهو بالطبع ليس بين الباقين.

وفكر المفتش فترة ثم سأل: هل أصحاب القصر السابقون موجودون؟

مكرم: لا، لقد انصرفوا مبكرين.

ومرة أخرى نظر المفتش إلى مساعديه ثم قال: أرجو أن تُعدَّ لي كشفًا بأسماء المدعوين جميعًا، وتستدعي كل الخدم غدًا صباحًا لسؤالهم، وتستطيع الآن الانصراف لتوديع ضيوفك، وسننصرف نحن أيضًا، ونعود في الصباح، فلم يَعُد هناك ما يُمكن عمله الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤