الفارس الثاني

جلس الصديقان، المفتش الطويل القوى الشهير … والصبي السمين الذكي … كلاهما يفكر في هذا اللغز العجيب، بل اللغزَين العجيبَين … كان السؤال الذي يُلحُّ عليهما معًا هو … لماذا أخفى «مكرم» أنه قابَل الفارس المقنع في غرفة المكتب؟

ومن هو الفارس المقنَّع؟ أهو «فتحي بهجت» أم إنسان آخر لا يعرفانه؟

وأخيرًا قال المفتش وهو ينظر إلى النيل ساهمًا: هل تعتقد أن قصة السرقة هذه كلها ليست صحيحة، وأن «مكرم» يُحاول أن يلعب لعبة لا نعرفها؟

تختخ: إن هذا مُمكن طبعًا … وبخاصة هذه الحفلة التنكُّرية … فليس من المعتاد إقامة حفلات تنكرية هذه الأيام … هل وراء هذه الحفلة شيء ما؟

المفتش: الأسئلة كثيرة ولا إجابة عنها.

تختخ: ما رأيك أن نُواجه «مكرم» بهذه المعلومات كلها ونرى ماذا يقول.

المفتش: يستطيع أن ينكر كل شيء.

تختخ: هو حر أن ينكر … فالأشياء التي ضاعت يملكها هو …

المفتش: من يدري؟ … لعل شيئًا لم يضِع! أو أن ما ضاع وراءه سرٌّ ما يريد أن يخفيه.

تختخ: هل تقترح أن ننتظر ونرى؟

المفتش: لا أستطيع أن أنتظر … إنني مهتمٌّ بهذه الجريمة، وعندي فكرة أخرى … أن أقول «لمكرم» إننا حصرنا شبهتنا في شخص ما من ضيوفه، وإننا سنقبض عليه، ونرى ماذا يفعل!

تختخ: أُفضِّل أن تواجهه بالحقائق، وفي الوقت نفسه تقول له إنك تعرف السارق، وتحتاج إلى مساعدته … ونرى ماذا سيفعل.

المفتش: اتفقنا … سأعود الآن إلى مكتبي، فهناك عمل كثير في انتظاري … وسوف أطلب منه الحضور إلى إدارة البحث الجنائي، وهناك أستطيع بأساليبي الخاصة أن أؤثر عليه.

تختخ: من ناحيتي أنا وبقية المغامرين سوف نحاول فحص كل المعلومات التي حصلنا عليها، ثم نراقب «مكرم»، وسنُخطرك بما نجده أو نستنتجه.

المفتش: وسوف أتصل بك بعد استجواب «مكرم».

وانصرف الصديقان … فاتجه «تختخ» إلى الأصدقاء الذين كانوا في انتظاره عند «عاطف»، فروى لهم «تختخ» ما قاله «منصور»، وكانوا جميعًا يستمعون باهتمام شديد. وعندما انتهى «تختخ» من حديثه قال «عاطف» ساخرًا: إنه لغز كلام … هذا قال … وهذا قال … ولا نعرف من الذي قال الحقيقة ومن الذي يكذب … إننا نريد أن نتحرك لا أن نتكلم!

تختخ: إن التفكير حركة.

عاطف: يستطيع الواحد أن يُحرك رأسه ذات اليمين وذات الشمال أحسن …

وأخذ «عاطف» يحرك رأسه … وضحك الأصدقاء، إلا «لوزة» التي قالت فجأة: إنني أفكر في شيء.

والتفت إليها الأصدقاء فقالت: في كلام «منصور» شيء مُحيِّر … فهو يقول إنَّ الأستاذ «مكرم» دخل غرفة المكتب … ثم دق جرس التليفون في الوقت نفسِه تقريبًا … وعندما رفع السماعة شاهد الأستاذ «مكرم» يَنزل من الدور الثاني في القصر … فكيف أمكن أن يكون الأستاذ «مكرم» في مكانَين في وقت واحد؟

أخذ الأصدقاء يُحملقون فيها، وقال «تختخ»: لقد قال عم «منصور» إنه يظن أن الأستاذ «مكرم» خرج من المكتب بدون أن يراه.

لوزة: لقد قال عم «منصور»: إن الأستاذ «مكرم» دخل غرفة المكتب … ثم دقَّ التليفون في تلك اللحظة، وشاهد الأستاذ «مكرم» ينزل من الدور الثاني، فكيف حدث هذا؟! كيف يوجد إنسان في مكانين في لحظة واحدة؟!

تختخ: هذا مُستحيل طبعًا.

لوزة: هذا هو اللغز …

تختخ: عندي اقتراح … أن نقوم بتمثيل هذا الجزء من الحفلة في منزلنا … إن والدي ووالدتي في الإسكندرية والفيلا خالية … وهي تشبه في تركيبها القصر، ولكنها صغيرة … فعندنا سلم داخلي يؤدي إلى الدور الثاني … وغرفة مكتب في الدور الأول … وتليفون … ونحن خمسة، وهو عدد يكفى لإعادة تصوير ما حدث.

عاطف: هكذا يصبح في الموضوع شيء مُثير … ولكن من أين نأتي بالثياب التنكرية؟

تختخ: لا داعى لثياب تنكُّرية … وإن كان عندي الكثير.

وأسرع الأصدقاء إلى فيلا «تختخ»، وأخذ هو يوزع الأدوار عليهم قائلًا: ستقوم «لوزة» بدور عم «منصور»، وتقف بجوار التليفون … وتراقب باب حجرة المكتب … وسيقوم «عاطف» بدور الفارس المقنَّع رقم «١»، ويقوم «محب» بدور الفارس المقنَّع رقم «٢»، وسأقوم أنا بدور الأستاذ «مكرم»، و«نوسة» تراقبنا جميعًا وتُعطي تعليمات الحركة.

نوسة: كما أتصور الحفلة … ففي هذا الركن تقفون جميعًا.

واتجه الأصدقاء إلى حيث أشارت «نوسة»، ثم قالت: وأنت يا «لوزة» تقفين بجوار التليفون … وانظري إلى باب المكتب.

واتجهت «لوزة» إلى التليفون ووقفت بجانبه … وأخذت تنظر إلى باب المكتب.

نوسة: الآن يتحرَّك الأستاذ «مكرم» متجهًا إلى غرفة المكتب.

واتجه «تختخ» إلى غرفة المكتب … ومضت لحظات وفتح «تختخ» باب المكتب ودخل.

نوسة: ويذهب الفارس المقنَّع رقم واحد خلفه!

واتجه «عاطف» خلف «تختخ» إلى غرفة المكتب.

نوسة: والآن الساعة التاسعة، ويرنُّ جرس التليفون: «ترررن» … ردي الآن يا «لوزة».

رفعت «لوزة» سماعة التليفون، وتظاهرت بأنها تتحدَّث، ونظرت إلى غرفة المكتب، وكأنها في انتظار حضور «تختخ» الذي يقوم بدور «مكرم».

نوسة: هل يُمكن أن يكون «تختخ» قد خرج من غرفة المكتب، ثم صعد إلى الطابق الثاني ويحضر الآن؟!

ونظرت «لوزة» إلى السلَّم … ولكن بالطبع لم ينزل أحد.

نوسة: إذن كان هناك اثنان يَلبسان ثياب المُهرِّج … أحدهما الأستاذ «مكرم» والثاني لا نعرفه.

وصفقت «نوسة» بيدَيها، فاجتمع الأصدقاء مرةً أخرى، وقال «تختخ»: من الواضح أنني لم أكن أتمكن من الخروج من الغرفة والصعود إلى الدور الثاني، ثم النزول من على السلَّم إلى التليفون … لا بد أنه كان هناك اثنان يَلبسان ثياب المُهرِّج؛ أحدهما الأستاذ «مكرم»، والثاني رجل لا نعرفه.

نوسة: هذا ما قلته منذ لحظة واحدة.

عاطف: وهذا يجعل اللغز أكثر غموضًا.

محب: وأكثر تشويقًا أيضًا … إننا أمام قصة معقَّدة جدًّا، ولكنها مُسلية.

تختخ: والآن أدركت لماذا لم يقل لنا الأستاذ «مكرم» إنه قابل الفارس المقنَّع في غرفة المكتب … فالأستاذ «مكرم» لم يدخل غرفة المكتب في الساعة التاسِعة … لقد كان في الطابق الثاني … والذي دخل المكتب هو مُهرِّج آخر.

لوزة: تمامًا … المهم الآن أن نعرف من هو المُهرِّج الثاني، ومن هو الفارس المقنَّع الذي دخل خلفه غرفة المكتب، إنهما لِصان!

وأسرع «تختخ» يتَّصل بالمفتش «سامي» تليفونيًّا، وشرح له ما حدث، وطلب منه أن يحدث الأستاذ «مكرم» تليفونيًّا، ويسأله عما إذا كان قد دخل المكتب قبل أن تصلَه المكالمة التليفونية من الإسكندرية مباشرة أم لا …

قال المفتش: هذه مسألة سهلة سوف أسأله فيها.

تختخ: اسأله أيضًا هل شاهد شخصًا آخر يَرتدي ثياب المهرِّج مثله أو لا؟

المفتش: سأسأله … وسأتصل بك بعد دقائق.

جلس الأصدقاء يتناقشون … وكلٌّ منهم يُبدي رأيًا في اللغز العجيب … وفي الوقت نفسه كانت آذانهم مشدودة إلى التليفون في انتظار المكالمة المهمة، ولم يَطُلِ الوقت … فقد دقَّ جرس التليفون، وكان المفتش هو المتحدث وقال: إن نظريتكم صحيحة … فالأستاذ «مكرم» يتذكر جيدًا أنه كان في الطابق الثاني ليأخذ دواءً، ثم نزل ووجد عم «منصور» يُمسك بسماعة التليفون، ويقول له إن «مجدي» يُحدِّثه من الإسكندرية، ومعنى هذا أنه كان هناك رجل آخر في ثياب المهرِّج، هو الذي شاهده عم «منصور» يدخل غرفة المكتب قبل المكالَمة التليفونية مباشرة.

تختخ: وهل سألته عن المهرِّج الآخر؟

المفتش: قال إنه لم يكن هناك من يرتدي ثياب المهرِّج سواه.

تختخ: هناك إذن شيء غريب جدًّا في هذه القصة.

المفتش: بالضبط.

تختخ: بقيَ أن نتصل ﺑ «فتحي» — أحد الفارسَين المقنَّعين — ونعرف منه أدخَلَ غرفة المكتب أم لم يدخُلها؟

المفتش: أخشى أن يكون قد دخل ثم يُنكِر.

تختخ: لنُحاول.

المفتش: سأتصل به، وأطلبك بعد دقائق.

ومرة أخرى أخذ الأصدقاء يتناقشون في انتظار مكالمة المفتش الثانية، فقال «محب»: شيء لا يصدقه عقل … كان هناك رجل واحد في ثياب المهرِّج، هو الأستاذ «مكرم»، لكن الأستاذ «مكرم» لم يكن من المُمكِن أن يكون في الدور الثاني وفي غرفة المكتب في الوقت نفسه … فكيف حدث هذا؟

لوزة: إنني أكاد أُجن.

نوسة: لا داعي لأن تُجنِّي … فلكل شيء تفسير … وأنا شخصيًّا أعتقد أنه كان هناك مُهَرِّجان، لكن المهرج الثاني لم يظهر سوى لحظة واحدة ثم اختفى بعد ذلك.

تختخ: هذا هو الحل الوحيد … ولكن من هو المهرج الثاني؟

عاطف: شيء يُلخبِط العقل.

تختخ: إنني أحس أن اللغز قريب الحل … شيء ما في نفسي يقول إننا سنَكتشِف كل شيء فجأة … المهم أن نفكر جيدًا … نفكر جيدًا … وأخذ يكرر الجملة كأنه يحدث نفسه.

لم يكف «تختخ» عن تكرار هذه الجملة إلا عندما دقَّ جرس التليفون … وكان المتحدِّث هو المفتش «سامي» الذي قال ﻟ «تختخ»: لقد اتصلتُ ﺑ «فتحي» واعترف بأنه دخل غرفة المكتب.

تختخ: وهل اعترفَ بالسرقة؟

المفتش: لا … مطلقًا … لقد روى حكاية غاية في الغرابة.

تختخ: هل هناك أشياء غريبة أكثر مما سمعنا حتى الآن؟

المفتش: اسمع … قال «فتحي» إنه كان يريد التحدث مع الأستاذ «مكرم» على انفرادٍ في موضوع يخص تجارة السيارات … فانتهز فرصة دخوله المكتب، وذهب خلفه، وفتح الباب ودخل … لكنه لم يَجِد أحدًا في الغرفة.

تختخ: ماذا تقول يا سيادة المفتش؟

المفتش: لم يجد الأستاذ «مكرم» … أعني المهرج!

تختخ: لم يجده!

المفتش: نعم لم يجده، برغم أنه دخل خلفه مباشرة.

تختخ: لا يُمكن!

المفتش: هذا ما قاله «فتحي»، ولما لم يجده في الغرفة خرج وهو في أشد حالات الدهشة.

تختخ: إذن فالفارس المقنَّع الذي دخل خلف المهرِّج هو «فتحي».

المفتش: نعم … هذا ما قاله.

تختخ: ولكن أين ذهب المهرج؟

المفتش: لا أدري.

تختخ: ولكني سأعرف … لا بد أن أفكر جيدًا … أفكر جيدًا … إن حلَّ اللغز قريب جدًّا.

ووضع السماعة وهو يُكرِّر نفس الجملة … لا بدَّ أن أفكر جيدًا … أفكِّر جيدًا! … وأخذ الأصدقاء ينظرون إليه في دهشة وهو يسير في البهو أمامهم، ثم التفت إليهم فجأة وقال: تعالوا نفكر معًا … إن هناك معلومات جديدة تُهمُّكم … المهم أن تُفكِّرُوا جيدًا … إن هذا لغز التفكير العميق … وسوف نجد الحلَّ فجأة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤