المستحيل

كانت الشيفروليه الخضراء منطلقة كالسهم أمامهم، وكان واضحًا أن «حافظ» أستاذ في القيادة فعلًا، وقال «وجيه»: إنهما مُنطلقان إلى الطريق الصحراوي … فليست به عقبات لمن يريد أن يقود سيارته بسرعة.

تختخ: إنه الطريق نفسه الذي حاولتْ أن تَهرُب فيه عصابة لغز الشيء المجهول.

بدأت السيارتان تغادران الإسكندرية، وفجأة قال «تختخ»: «محب» … انزل أنت بسرعة!

قال «محب» مُندهشًا: لماذا؟

تختخ: لقد فكَّرتُ أنهما من الممكن أن يهربا منا — أو يعتديا علينا — فانزل أنت الآن، وأسرع إلى التليفون وحدِّث المفتش «سامي»، واطلب منه أن يقابلنا عند «الرست هاوس» في الطريق الصحراوي … ثم التفت إلى «وجيه» قائلًا: وأنت يا «وجيه» … لا تقترب منهما كثيرًا … لقد غيَّرت خطتي … وسنُراقبهما من بعيد فقط؛ فقد يغيران اتجاههما. وتوقفت السيارة لحظات حتى نزل «محب» فقال له «تختخ»: اتصل بأبي واعتذر عن موعد الغداء، ثم اركب أي قطار أو سيارة إلى القاهرة، ولا تنسَ أن تصف سيارة «حافظ» للمُفتِّش … وتذكُر له رقمها.

نزل «محب» مسرعًا، وعاودت السيارة انطلاقها … وكانت الشيفروليه الخضراء قد غابت عن البصر في الطريق الصحراوي.

قال «وجيه» وهو يضغط على البنزين رافعًا السرعة: لكن لماذا يَهرب «حافظ» إلى القاهرة؟

تختخ: إنه لصٌّ ذكي … فهو يعرف أني إذا بلَّغت عنه فسيبحث عنه رجال الشرطة في الإسكندرية حيث يعمل ويعيش … ولهذا يذهب إلى القاهرة … ثانيًا القاهرة مدينة كبيرة … يسهل على أيِّ إنسان أن يختفي فيها أكثر من الإسكندرية، فتعداد القاهرة نحو خمسة ملايين، أما الإسكندرية فحوالي مليون فقط.

انطلقت المرسيدس تخطف الطريق خطفًا … وقال «تختخ» وهو يُغمض عينيه ويستلقي على المقعد: سأستغرق في التفكير … فلا تُحدِّثني إلا إذا حدث شيء هام … فلا بد أن أحل اللغز في الساعة القادمة.

نظر إليه «وجيه» مُندهشًا … ثم عاد يركز انتباهه في قيادة السيارة التي كانت تطير على الأسفلت الأسود.

أخذ «تختخ» يستعيد القصة كاملة … الحفلة، «مكرم»، عم «منصور» … عم «منصور» إن حديث عم «منصور» فيه حلُّ اللغز، وأخذ يسترجع ما قاله «منصور» كلمة كلمة.

كنتُ أقف هنا، ولاحظت أن الأستاذ «مكرم» وهو في ثياب المهرِّج يتجه من باب القصر إلى المكتب … ثم دخل بعده مباشرة الفارس المقنَّع … ودق جرس التليفون في تلك اللحظة في الصالة، فأسرعت إليه لأردَّ … وكان المتحدث هو «مجدي» من الإسكندرية، وكان يُريد التحدث إلى الأستاذ «مكرم» … وهناك وصلة تليفون في غرفة المكتب … فانتظرت لحظة والسماعة على أذني لعلَّ الأستاذ «مكرم» يرد ما دام في غرفة المكتب … وبدا لي أنَّني سمعتُ فعلًا السماعة تُرفع، وقد يبدو أني كنت واهمًا … فقد وجدت الأستاذ «مكرم» ينزل من الدور الثاني … وصاح «تختخ» فجأة وكأنه جُن: لقد وجدته! … وجدته!

التفت إليه «وجيه» مندهشًا وقال: ماذا وجدت؟

أخذ «تختخ» يقفز على الكرسي وهو يصيح: وجدته … الحل … الحل! …

هز «وجيه» رأسه وقد خُيِّل إليه أن «تختخ» قد جُنَّ، وعاد يزيد من سرعته، وهو يحلم بالمكافأة التي سيأخذها.

وأخذ «تختخ» يتحدَّث بصوت مرتفع: لم يكن عم «منصور» واهمًا … لم يكن واهمًا … ومرةً أخرى بدت الشيفروليه الخضراء من بعيد تَمضي مسرعة … فأشار «تختخ» بيده قائلًا: لقد دبَّرا سرقة بارعة … بارعة جدًّا … ولكنني وجدت الحل!

مضت ساعة ونصف ساعة تقريبًا … وبدا «الرست هاوس» من بعيد، وخفق قلب «تختخ» وهو يُفكِّر … أيجد المفتش «سامي» منتظرًا … أم أن «محب» لم يعثر عليه؟!

لم يطُل تساؤله … فقد كان سدٌّ من سيارات رجال الشرطة يسدُّ الطريق … وكانت الشيفروليه الخضراء واقفة … وقد وقعت في الفخ … ووقفت المرسيدس أيضًا … وكان المفتش «سامي» يتحدث إلى «حافظ» و«مجدي» وهما يشيران بأيديهما مُحتجَّين … في حين كان الأستاذ «مكرم» يقف ساكنًا.

دُهش «تختخ» لوجود «مكرم»، ولكنه أسرع إلى المفتش الذي قال له: ماذا وراءك؟! لقد جئت كطلب «محب» ولا أدري ماذا حدث.

ابتسم «تختخ» قائلًا: أرجو أن تقبض على هذين الرجلين؛ فهما اللذان سرقا الخزانة!

مكرم: غير مُمكن … لقد كانا في الإسكندرية … وتحدثا معي تليفونيًّا!

تختخ: لقد تحدَّث واحد منهما فقط إليك من الإسكندرية، أما الثاني فكان يتحدَّث من غرفة مكتبك في القصر.

مكرم: لا أفهم شيئًا!

تختخ: سأشرح لكما كل شيء.

المفتش: تعالوا ندخل إحدى غرف «الرست هاوس» بعيدًا عن الناس.

ودخل الجميع إلى غرفة مُنفردة، وقال المفتش: والآن يا «توفيق» هات ما عندك.

قال «تختخ»: سأُصوِّر لكما ما حدث بالضبط … لقد قال الأستاذ «مكرم» إنه تذكر أنه نسي المفتاح على مكتبه في المعرض بالإسكندرية … أليس كذلك؟

مكرم: حدث هذا فعلًا.

تختخ: ثم غادرت الإسكندرية الساعة الرابعة إلى القاهرة فوصلت إلى المعادي حوالي السابعة …

مكرم: تمامًا.

تختخ: لقد عثر «حافظ» على المفتاح … ونبتَت في ذهنه خطة سرقتك … وقد دبَّر خطة بارعة حقًّا.

مكرم: كيف؟

تختخ: أليس هو الذي اشترى لك ثياب المهرِّج؟

مكرم: فعلًا، وكيف عرفت؟

تختخ: لأنه اشترى لنفسه ثيابًا مماثلة، وركب سيارة وانطلق بها خلفك إلى المعادي … إنكما في نفس الحجم تقريبًا … وهكذا اشترى الثياب واتفق مع «مجدي» على أن يطلبك في التاسعة تمامًا، ويُخطرك أنه وجد المفتاح … أما هو فقد لبس ثياب المهرِّج، ووقف في الظلام يَرقبُك وأنت أمام باب القصر تَنتظر الضيوف … كان يريد أي فرصة تذهب فيها أنت بعيدًا ليحلَّ محلَّك … ورآك وأنت تصعد سلالم القصر إلى الدور الثاني لأخذ الدواء كعادتك، وهو يعرف هذا، ويعرف أنك سترتاح قليلًا كما اعتدت … انتهز الفرصة ودخل مسرعًا ثم ذهب إلى غرفة المكتب … وظنَّ الجميع أنه أنت حتى «فتحي»، لهذا ذهب «فتحي» خلفك إلى المكتب، ولم يَجدك طبعًا؛ لأن «حافظ» عندما أحس بدخوله اختفى خلف أحد التماثيل … فلما لم يجد «فتحي» أحدًا في الغرفة خرج … وأسرع «حافظ» إلى الخزانة ففتحها … وأخذ ما فيها بسرعة وأغلقها.

وسكت «تختخ» لحظات وأخذ ينظر إلى المستمعين ليرى تأثير حديثه عليهم، فوجدهم جميعًا منصتين … وقد فتحوا عيونهم على آخرها في دهشة، فمضى يقول في ثقة: ثم اتَّصل «مجدي» من الإسكندرية … ورفع عم «منصور» سماعة التليفون في الصالة، ورفع «حافظ» سماعة التليفون في غرفة المكتب … وقد قال عم «منصور» إنه خُيِّل إليه أنه سمعها تُرفع … وكان ذلك صحيحًا … ولكنه ظن أنه واهمٌ، وبخاصة عندما رآك أمامه، ولكن لم يكن واهمًا؛ فقد رفع «حافظ» السماعة فعلًا … وعندما تحدَّثت أنت مع «مجدي» قال لك إنَّ «حافظ» وجد المفتاح … وهنا تدخل «حافظ» … في الحديث وقال لك إنه وجد المفتاح فعلًا … فتصورت طبعًا أنهما معًا يتحدَّثان من الإسكندرية … وهكذا نفيا أي شبهات عنهما.

نظر «مكرم» إلى «حافظ» … الذي كان يبدو مصدومًا، وهو ينظر إلى «تختخ» في حقدٍ شديد، وقال «مكرم»: هل هذا صحيح يا «حافظ»؟ …

ولم يرد «حافظ»، ومضى «تختخ» يقول: ثم خلع «حافظ» ثياب المهرِّج التي كان يرتديها على قميص وبنطلون خفيف، وأخفى ثياب المهرِّج خلف أحد دواليب المكتب، ثم ظل مُختفيًا خلف التمثال حتى منتصَف الليل تقريبًا وخرج … وطبعًا انتظر هذه المدة حتى تظنَّ أنه قادم من الإسكندرية، وقد صدقت أنت عندما وجدته أمامك ومعه المفتاح.

مكرم: تذكرت الآن … لقد كان شكله غريبًا فعلًا … كان يلبس قميصًا وبنطلونًا، وهي ليست ثياب الليل … وكانت جيوبه منتفخة نوعًا ما … ولكني لم أشكَّ فيه.

التفت «تختخ» إلى المفتش قائلًا: معقول يا سيادة المفتش؟

ابتسم المفتش قائلًا: معقول جدًّا … لقد حللتَ عُقدة المستحيل!

قال «تختخ» مشيرًا إلى «وجيه» مُحدِّثًا «مكرم»: لقد ساعدني الأخ «وجيه» في هذا الموضوع مساعدة قيمة … وقد وعدتُه نيابةً عنك بمكافأة مُجزية.

مدَّ «مكرم» يده مُصافحًا «وجيه» وقال: سأعطيك عشرة بالمائة من قيمة المسروقات كأنك عثرت عليها.

ابتسم «وجيه» ابتسامة واسعة … فقد هبطت عليه ثروة من السماء، ثم قال «مكرم»: «تختخ» هل تسمح لي أن أقدم لك هديةً أنت أيضًا؟!

تختخ: إنَّ هديتي الوحيدة هي انتصار العدالة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤