رسالة العلم وآداب المتعلمين

خطأ الجمهور والكتَّاب في فَهم الغزاليِّ

آراء الغزاليِّ في العلم على لونين؛ لونٌ صوفي ينادي بالعلم الأُخروي والعزوف عن سواه، ولونٌ آخر يقدِّس العلوم كافة ويدعو إليها ويأمر بها.

وقد التبس هذا الأمر على كل دارسي الغزاليِّ والمتتبعين لآرائه، بل إن لسوء فهم آراء الغزاليِّ في العلم أثرًا بعيدَ المدى جدًّا في التفكير الإسلامي.

فالغزاليُّ قد هيمن على عقول القرون التي تلته هيمنة كاملة، وقد فهم جمهرة أتباعه، ومن تثقف على آرائه أنه يخاصم العلم الدنيوي، بل لقد وقع في هذا الخطأ كثير من العلماء والسادة؛ فظنوا — وأكثرُ الظن إثمٌ — أن الغزاليَّ يحارب علوم العقل والتجربة، بل ويذمها ويحقرها، ولا يدعو إلا إلى علوم الآخرة.

وقد حسب كثيرٌ من الناس في قرون متتالية أنهم يتابعون الغزاليَّ، وهو حجة الإسلام، إذا أعرضوا عن الدنيا إعراضًا كاملًا، نعيمها وطيباتها وعلومها أيضًا.

وتسلسلت هذه الفكرة مع القرون، وتتابعت مع السنين، وجارى العلماءَ العامَّةُ في تفهم الغزاليِّ، بل جارى العامةُ كثيرًا من رجال الفِكر والقلم؛ فظنوا بالغزاليِّ ما ظنوا، ووقفوا من آرائه في العلم والتعليم موقفًا مضحكًا! حسبوا فيه أنهم يَسخرون من الغزاليِّ؛ لتعدد آرائه وسوء فهمه، وهم يَسخرون من أنفسهم؛ لأنَّهم لم يتفهموا حقيقة آرائه.

وسرُّ هذا الخطأ في الفهم أن الغزاليَّ كان يكتب في أواخر حياته كُتبه للصوفية وعلى طريقتهم، وما كتب للصوفية لا يصلح إلا لهم ولا يباح للناس جميعًا، وليس هو الحق وحده، والغزاليُّ يقول: «إن هذا الطريق ليس للناس جميعًا، ولو تبعه الناس وعملوا به لخرب العالم وبطلت الحكمة منه.»

فالغزاليُّ حينما عرَّف العلم «بأنه العلم الأخروي»، وحينما دعا إلى الاشتغال بالعلم الحقيقي كالعلم بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر، وإهمال علوم العقل والتجربة؛ إنما كان يخاطب الصوفية وحدهم، ويقرر مذهبهم القائم على الفناء في الله والإعراض عن الدنيا بالكلية؛ كان يصف صورة مثالية لقوم مثاليين في عبادتهم.

وهو إذ يعرِّف علم الفقه بأنه من علوم الدنيا، ويقول: «إن الفقيه هو العابد المرشد لا المجادل العالم بأصول الفقه وتخريجات أحكامه.» إنما قصد بهذا التعريف وجهة النظر الصوفية، وقد نبَّه الغزاليُّ على ذلك في مواقف مختلفة من كتبه، فهو يقول بعد أن أشاد بعلوم الآخرة وحثَّ عليها، وأمر بترك ما سواها من علوم الدنيا:

ولا ينبغي أن يفتر رأيك في طلب العلوم الدنيوية بما حكيناه عن طريق الصوفية؛ فإنهم لا يعتقدون حقارة العلوم؛ بل يعتقد كل مسلم حرمتها وعظمتها، وما ذكروه إنما أوردوه بالإضافة إلى مرتبة الأنبياء والأولياء.

ثم يقول:

ومَن قصدَ التقرب إلى الله بالعلوم نفعه الله ورفعه لا محالة.

ذلك هو قول الغزاليِّ في وضوح وصراحة، وكأنما أحسَّ بما سيحدث من سوء فَهمٍ لآرائه؛ فنادى بعدم فتور الرأي في طلب العلوم العقلية بما يُحكى عن الصوفيين؛ لأنَّ ذلك لهم خاصة، وهم لا يحتقرون العلوم؛ بل يُجِلِّونها ويعتقدون عظمتها وحرمتها وقداستها، بل يقرر الغزاليُّ أن مَن قصدَ التقرب إلى الله بالعلوم على اختلاف أنواعها نفعه الله ورفعه.

بل هو يقرر في يقينٍ أن الله سبحانه حبَّب العلوم إلى الناس لصلاح العالَم؛ فيقول في كتابه ميزان العمل: «فلولا أنَّ الله حبَّب علم الفقه والنحو والطبِّ والرياضة … إلى آخر العلوم، في قلوب طوائف من الناس، لبقيت هذه العلوم معطلة، ولتشوش النظام الكلي.»

الغزاليُّ عالمٌ رحبُ الآفاق، تشهد بذلك كُتبه وآثاره، عالمٌ بالعلوم وفنونها على اختلاف ألوانها وغاياتها، تشهد بذلك أيضًا كتبه وآثاره؛ فهو عالِم يدعو إلى رسالة العلم كاملة في يقين وإيمان؛ لأنَّه يؤمن بأن نظام العالم ونظام القوة والسيادة في الدنيا إنما يُبنى على العلوم والمعارف الكونية والعقلية، فمن الخطأ في حق العلم، ومن الخطأ في حق العقل أن يقول قائل: إنَّ الغزاليَّ يحارب علوم العقل والكون والتجربة. وهو إمام من أئمتها.

ولكنه حين يتحدث في أساليب الصوفية ومبادئ الصوفية يعلي شأن العلوم الأخروية؛ لأنَّها روح العبادة واليقين، ويجري المقارنات بينها وبين علوم الدنيا، فيذمها بالقياس إليها وتمجيدًا لها، والصوفية فئة من الناس ارتضوا لأنفسهم وضعًا معينًا، وحياة معينة، ومسلكًا في الوجود فريدًا كالرهبان مثلًا، فما يصلح لهم لا يصلح لغيرهم، وهم لم يقولوا للناس هلمَّ إلينا، ولم يقولوا لهم تكلفوا ما نتكلف، واتبعوا ما نتبع، وتحملوا ما نتحمل.

ولغة الغزاليِّ الصوفيةُ شديدةُ الخطوة في تفهم آرائه، بعيدةُ الأثر في تشويه تلك الآراء، وتشويه آثارها في النفوس والعقول، وقد فتن كثير من الناس وضلوا بسبب خطئهم في فهم الصوفية وأغراضها ولغة مباحثها وعلومها.

وهو يعرض صورة الصوفية في براعة وتشويق شأنَ أساليبه، والقلوب تسارع إلى التمسُّك بتلك الصور المعطرة بذكر الله والجنة، فتنسى في تلك الوثبة الروحية في ختام البحث مثلًا أن الغزاليَّ قد بدأه بقوله:

مَن لم تكن بصيرة عقله نافذة فلا تعلق به من الدين إلا قشوره، بل خيالاته وأمثلته دون لبابه وحقيقته، فلا تدرك العلوم الشرعية إلا بالعلوم العقلية؛ فإن العقلية كالأدوية للصحة، والشرعية كالغذاء، والنفس المريضة المحرومة من الدواء تتضرر بالأغذية ولا تنتفع بها.

وذلك اعترافٌ صريح من الغزاليِّ بأن العلوم الشرعية والأخروية لا تُدرك إلا بعد التمكن من العلوم العقلية؛ لأنَّها الميزان والدواء، بل هو يربط معرفة الله بمعرفة علوم الكواكب والآثار العلوية، ومعرفة أقسام الموجودات وآيات الآفاق في كثير من بحوثه، فيكف يُتهم الغزاليُّ بعد ذلك بأنه من خصوم العلوم والفنون؟!

العلم أصيل في النفوس

يرى الغزاليُّ أن النفس الإنسانية معدنٌ للعلم والحكمة ومنبع لها، فالمعارف أصيلة فيها لا دخيلة عليها.

مثلها في ذلك كالنار في الحجر، والماء في الأرض، والنخل في النواة، ولذلك وجب السعي للتعلم؛ لتعُود النفسُ إلى فطرتها، ولا بدَّ من الصبر والتجمل في الصبر لإدراك تلك الغاية العُليا.

والغزاليُّ هنا متأثر بالصوفية؛ فالمتصوفة يقولون: إن العلوم كافة موجودة في القلب، وإنما أُسدلتْ على القلوب أحجبةٌ من الظلمة طمست تلك الأنوار، فلو رفعت الحُجب بالرياضة والمجاهدة لامتلأتِ القلوب حكمةً وعلمًا.

الغاية من العلم

يضفي الغزاليُّ على الغاية من العلم ثوبًا خلقيًّا؛ لأنَّه ينظر إلى الدنيا دائمًا نظرة مثالية، فالغاية من العلم عنده هي بلوغ النفس كمالها؛ لتسعد بكمالها مبتهجة بما لها من البهاء والجمال أبدَ الدهر.

وهذا التعريف يشتمل على أدقِّ ما قيل في الغاية من العلم، والهدف الذي ينشده الإنسان من ورائه.

بلوغ النفس كمالها، تلك غاية العلم، وغاية هذا الكمال سعادة النفس بما لها من البهاء والجمال؛ بهاء العلم وجمال المعرفة.

واجبات المتعلم

ثم يضع الغزاليُّ دستورًا شاملًا للآداب والأخلاق والمبادئ الواجبة على المتعلم والمعلِّم وطرق التعليم ووسائله، فيرى أن على المتعلم واجبات، أهمها: ألَّا يبدأ دراسته في علمٍ ما بتعلُّم الاختلاف الواقع بين أصحاب هذا العلم؛ لأنَّ ذلك يفتر عزمه، ويضعف إيمانه فيما يتعلم.

وألَّا يدع فنًّا من فنون العلم ونوعًا من أنواعه إلا وينظر فيه نظرًا يطَّلع به على غايته ومقصده وطريقه، ثم يتخصص بعد ذلك؛ لأنَّ العلوم جميعها متعاونة، يفيد بعضها بعضًا، وحتى لا يكون معاديًا لعلم ما بسبب جهله له؛ فإن الناس أعداء ما جهلوا، قال تعالى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ.

ثم من واجباته أيضًا ألَّا يخوض في فنون العلوم دفعة واحدة، بل يراعي الترتيب؛ فيبدأ بالأهم فالأهم، ولا يخوض في فنٍّ من الفنون حتى يستوفي الفنَّ الذي قبله، وألَّا يبتر العلم، بل يتمه؛ لأنَّ العلم يجب أن يكون تامًّا وإلا كان مضرًّا. نعوذ بالله من نصف متكلم ونصف طبيب؛ فذلك يفسد الدين، وهذا يفسد الحياة الدنيا.

تلك آراء الغزاليِّ في واجبات طالب العلم وأساليب التعليم، وهي تطابق أرقى البرامج العلمية الحديثة، وتتمشى جنبًا إلى جنبٍ مع المناهج المستحدثة في الكليات والجامعات، من حيث التخصص بعد الإلمام العام.

ومن أروع لفتات الغزاليِّ البارعة أنه يجب الاطلاع على كلِّ علم حتى لا يُعادى بسبب الجهل به؛ لأنَّ الناس أعداء لما جهلوا.

ثم يجعل الغزاليُّ رسالة العلم مستمرة، فيقرر أن المتعلم إذا بلغ الغاية من العلوم أصبح من الواجبات المقدسة عليه أن يُعَلِّم غيره؛ حتى تتم حلقة العلم فتشمل الإنسانية كافة.

واجبات المعلِّم

وعلى المعلِّم آدابٌ وواجباتٌ أهمها:

أن يجعل تلاميذه عنده كبَنِيه تمامًا حبًّا ورعاية وإخلاصًا في تثقيفهم وتعليمهم، وتزويدهم بالمُثُل العُليا التي تفيدهم وتفيد الإنسانية على أيديهم.

وعليه أن يعمل بما علِم قبل أن يدعو الناس إلى علمه، فمعلِّم الشرع لا يكذِّب حالُه مقالَه، وإلا نفر الناس من آدابه وشرعه.

والطبيب إذا تناول ما زجر الناس عنه حملهم على الهُزء به وتناولِ ما نهاهم عنه، ولو كان من السموم، فيُضَل ويَضِل، وينقلب النهي إغراءً وتحريضًا.

والعلم والعمل صفتان متلازمتان عند الغزاليِّ، فلا قوام لإحداهما بدون الأخرى، فإذا ترك المعلمُ ما يهديه إليه علمُه ويأمره به فقد ضلَّ وأضل، وفقد ثقة الناس، بل يجب الإعراض عنه وإخراجه من حظيرة العلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤