فلما كانت الليلة ٨٧٩

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنَّ لخروج مريم الزنارية من عند أبيها وأمها سببًا عجيبًا وأمرًا غريبًا؛ وذلك أنها تربَّتْ عند أبيها وأمها في العزِّ والدلال، وتعلَّمَتِ الفصاحةَ والكتابةَ والحساب والفروسية والشجاعة، وتعلَّمَتْ جميعَ الصنائع مثل الزركشة والخياطة والحياكة وصنعة الزنار والعقادة، ورمي الذهب على الفضة، والفضة على الذهب، وتعلَّمَتْ جميعَ صنائع الرجال والنساء حتى صارت فريدةَ زمانِها ووحيدةَ عصرها وأوانها، وقد أعطاها الله عزَّ وجلَّ من الحُسْن والجمال والظرف والكمال، ما فاقَتْ به على جميع أهل عصرها، فخطبها ملوك الجزائر من أبيها، وكلُّ مَن خطبها منه يأبى أن يزوِّجَها له؛ لأنه كان يحبُّها حبًّا عظيمًا، ولا يقدر على فراقها ساعةً واحدة، ولم يكن عنده بنت غيرها، وكان معه من الأولاد الذكور كثير، ولكنه كان مشغوفًا بحبها أكثر منهم؛ فاتفق أنها مرضَتْ في بعض السنين مرضًا شديدًا حتى أشرفت على الهلاك، فنذرَتْ على نفسها أنها إذا عُوفِيت من هذا المرض تزور الديرَ الفلاني الذي في الجزيرة الفلانية، وكان ذلك الدير معظَّمًا عندهم، ويُنذِرون له النذورَ ويتبرَّكون به، فلما عُوفِيت مريم من مرضها أرادَتْ أن توفِّي بنذرها الذي نذرَتْه على نفسها لذلك الدير، فأرسَلَها والدها ملك إفرنجة إلى ذلك الدير في مركب صغير، وأرسل معها بعضًا من بنات أكابر المدينة ومن البطارقة لأجل خدمتها، فلما قَرُبتْ من الدير خرجَ مركب من مراكب المسلمين المجاهدين في سبيل الله، فأخذوا جميعَ ما في تلك المركب من البطارقة والبنات والأموال والتُّحَف، فباعوا ما أخذوه من مدينة القيروان، فوقعَتْ مريم في يدِ رجلٍ أعجمي تاجرٍ من التجار، قد كان ذلك الأعجمي عنينًا لا يأتي النساء، ولم تنكشف له عورةٌ على امرأةٍ فجعلها للخِدْمة، ثم إن ذلك الأعجمي مرضَ مرضًا شديدًا حتى أشرَفَ على الهلاك، وطال عليه المرض مدة شهور، فخدمته مريم وبالغَتْ في خدمته إلى أنْ عافاه الله من مرضه، فتذكَّرَ ذلك الأعجمي منها الشفقة والحنية عليه والقيام بخدمته، فأراد أن يُكافِئَها على ما فعلَتْه معه من الجميل، فقال لها: تمنِّي عليَّ يا مريم. فقالت: يا سيدي، تمنَّيْتُ عليك ألَّا تبيعني إلا لمَن أريده وأحبه. فقال لها: نعم، لك عليَّ ذلك، والله يا مريم ما أبيعك إلا لمَن تريدينه، وقد جعلتُ بيعك بيدك. ففرحت فرحًا شديدًا، وكان الأعجمي قد عرض عليها الإسلام فأسلَمَتْ، وعلَّمَها العبادات فتعلَّمَتْ من ذلك الأعجمي في تلك المدة أمرَ دينها، وما وجب عليها، وحفَّظَها القرآن وما تيسَّرَ من العلوم الفقهية والأحاديث النبوية، فلما دخل بها مدينة إسكندرية باعَها لمَن أرادَتْه، وجعل بيعها بيدها كما ذكرنا، فأخذها علي نور الدين كما أخبرنا.

هذا ما كان من سبب خروجها من بلادها، وأما ما كان من أمر أبيها ملك إفرنجة، فإنه لما بلغه أمرُ ابنته ومَن معها، قامت عليه القيامة وأرسَلَ خلفَها المراكب، وصحبتهم البطارقة والفرسان والرجال الأبطال، فلم يقعوا لها على خبرٍ بعدَ التفتيش في جزائر المسلمين، ورجعوا إلى أبيها بالويل والثُّبُور وعظائم الأمور؛ فحزن عليها أبوها حزنًا شديدًا، فأرسل وراءها ذلك الأعوار اليمين والأعرج الشمال؛ لأنه كان أعظم وزرائه، وكان جبَّارًا عنيدًا ذا حِيَلٍ وخداع، وأمره أن يفتِّشَ عليها في جميع بلاد المسلمين ويشتريها ولو بملءِ مركبٍ ذهبًا، ففتَّشَ عليها ذلك الملعون في جزائر البحار وسائر المدن، فلم يقع لها على خبر، إلى أن وصل إلى مدينة إسكندرية وسأل عنها، فوقع على خبرها عند نور الدين علي المصري، فجرى له معه ما جرى، وعمل عليه الحيلة حتى اشتراها منه كما ذكرنا بعد الاستدلال عليها بالمنديل الذي لا يُحسِن صنعتَه غيرها، وكان قد وصَّى التجار واتَّفَق معهم على خلاصها بالحيلة، فلما صارت عنده مكثَتْ في بكاءٍ وعويل، فقال لها: يا سيدتي مريم، خلِّي عنك هذا الحزن والبكاء، وقومي معي إلى مدينة أبيك ومحل مملكتك، ومنزل عزِّكِ ووطنك، لتكوني بين خَدَمِكِ وغلمانك، واتركي هذا الذلَّ وهذه الغربة، ويكفي ما قد حصل لي من التعب والسفر من أجلك وصرف الأموال، فإن لي في السفر والتعب وصرف الأموال نحوَ سنةٍ ونصف، وقد أمرني والدك أن أشتريك ولو بملءِ مركبٍ ذهبًا.

ثم إن وزير ملك إفرنجة صار يقبِّل قدمَيْها ويتخضَّع لها، ولم يَزَلْ يكرِّر تقبيلَ يدَيْها وقدمَيْها ويزداد غضبها عليه كلما فعل ذلك أدبًا معها، وقالت له: يا ملعون، الله تعالى لا يبلِّغك ما في مرادك. ثم قدَّمَ إليها الغلمان في تلك الساعةِ بغلةً بسرْجٍ مزركش، وأركبوها عليها، ورفعوا فوق رأسها سحابةً من حرير بعواميد من ذهب وفضة، وصار الإفرنج يمشون حولها حتى طلعوا بها من باب البحر وأنزلوها في قارب صغير، وصاروا يجدِّفون بها إلى أن أوصلوها إلى المركب الكبير وأنزلوها فيه؛ فعند ذلك نهض الوزير الأعور وقال لبحرية المركب: ارفعوا الصاري. فرفعوه من وقتهم وساعتهم، ونشروا القلوع والأعلام، ونشروا القطن والكتان، وأعملوا المجاديف، وسافر بهم ذلك المركب. هذا كله ومريم تنظر ناحيةَ إسكندرية حتى غابت عن عينها، فصارت تبكي في سرِّها بكاءً شديدًا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤