نشأة الثائر وأسباب الثورة

(١) العصر الذي ظهر فيه عرابي

نحن الآن في منتصف القرن التاسع عشر، وقد تولَّى سعيد باشا أريكة مصر سنة ١٨٥٤، وظل يتولاها إلى سنة ١٨٦٣، وامتاز عهده بنهضة وطنية ترجع إلى شخصيته ونفسيته، فلقد كان يميل بجوارحه إلى خير المصريين ورفاهيتهم، ويعمل على تحريرهم من نير المظالم التي كانوا يعانونها، ويشجعهم على تقلُّد المناصب العالية في الجيش والإدارة بعد أن كان معظمها وقفًا على التُّرك والشراكسة.

في هذا العصر بدأت شخصية أحمد عرابي في الظهور، إذ نال رتبة ملازم في الجيش سنة ١٨٥٨، ومن يومئذ أخذ يرتقي في الرُّتب العسكرية.

فمن هو ذلك الضابط الذي بلغ مرتبة القيادة وعقد له الجيش بل عقدت له الأمة لواء الزعامة سنة ١٨٨١؟

(١-١) نشأته الأولى

وُلِد أحمد عرابي في ٣١ مارس سنة ١٨٤١ في «قرية رزنة» وهي إحدى قرى مديرية الشرقية على مقربة من الزقازيق، وكان أبوه شيخ البلد، وهو من عائلة بدوية استوطنت تلك القرية في عهد جد عرابي. ولما شبَّ وترعرع، علَّمه أبوه مبادئ القراءة والكتابة، وعهد إلى رجل يُدعى ميخائيل غطاس — كان صرَّافًا في البلد — تدريبه على الكتابة والأعمال الحسابية، ومكث يتمرَّن على يديه نحو خمس سنوات، ثم أرسله والده إلى الجامع الأزهر سنة ١٨٤٩ لطلب العلم، فمكث فيه أربع سنوات أتمَّ في خلالها استظهار القرآن الكريم، وتلقَّى شيئًا من اللغة والفقه والتفسير.

وبعد أن عاد إلى بلده، دون أن يُتم دراسته في الأزهر، التحق بالعسكرية في ٦ ديسمبر سنة ١٨٥٤ جنديًّا بسيطًا «نفرًا» تنفيذًا لِما قرره سعيد باشا من تجنيد أولاد العُمد والمشايخ، ولإجادته القراءة والكتابة والحساب عُيِّن كاتبًا بدرجة «بلوك أمين» بالأورطة الرابعة من آلاي المشاة الأول.

وفي سنة ١٨٥٨ رُقي إلى مرتبة الضباط، وذلك حين اعتزم سعيد باشا ترقية المصريين في الجيش، فنال في تلك السنة رتبة ملازم من تحت السلاح، وهو بعد في السابعة عشرة، ثم رتبة يوزباشي سنة ١٨٥٩، ثم رتبة صاغ سنة ١٨٥٩، ثم رتبة بكباشي سنة ١٨٦٠، ثم صار قائم مقام في سبتمبر سنة ١٨٦٠. وقد حظي برضا سعيد باشا ورافقه في زيارته للمدينة المنورة ياورًا له سنة ١٨٦٠، وكان لهذه الزيارة أثر كبير في نفسه إذ آنس من سعيد عطفًا كبيرًا على طبقة الفلاحين، ثم بدا لسعيد أن يُنقص عدد الجيش، فألغى بعض الفِرَق وفصل ضباطها من الخدمة، ومنهم أحمد عرابي، ثم أمر بإعادتهم قُبيل وفاته، وعاد عرابي إلى سابق رتبته.

من هذا البيان يتضح أن ليس في نشأة عرابي شيء يستوقف النظر، بل هي نشأة عادية لرجل عادي، لم يتميز في ماضيه بالبطولة ولم يخض غمار المعارك والحروب، كان ضابطًا من تحت السلاح، ونال مرتبة الضباط؛ لأن سعيد باشا وضع قاعدة إمكان ترقية الضباط من بين أفراد الجند رغبةً منه في إكثار عددهم. ولا غبار على هذه النشأة في شيء، وليس ثمَّة ما يمنع صاحبها من أن يقوم بدور هام في حياة البلاد السياسية والقومية.

(١-٢) متى وكيف بدأت دعوته الوطنية؟

يبدو من التأمل في حياة عرابي أن دعوته الوطنية قد بدأت تخالجه في عهد سعيد باشا، فقد سمعه يُلقي خطبة في «قصر النيل» مقر وزارة الحربية وقتئذٍ، قال فيها مخاطبًا الحاضرين من العلماء والرؤساء الروحانيين، وأفراد الأسرة الحاكمة وكبار رجال الحكومة الملكيين والعسكريين:

أيها الإخوان … إني نظرت في أحوال هذا الشعب المصري من حيث التاريخ، فوجدته مظلومًا مستعبَدًا لغيره من أمم الأرض، فقد توالت عليه دول ظالمة له كثيرًا …

وحيث إني أعتبر نفسي مصريًّا، فوجب علي أن أربي أبناء هذا الشعب، وأهذبه تهذيبًا حتى أجعله صالحًا لأن يخدم بلاده خدمة صحيحة نافعة، ويستغني بنفسه عن الأجانب، وقد وطدت نفسي على إبراز هذا الرأي من الفكر إلى العمل.

يقول عرابي تعليقًا على هذه الخطبة: إنه لما انتهى سعيد باشا من إلقائها خرج المدعوون من الأمراء والعظماء غاضبين حنقين مدهوشين مما سمعوا، وأما المصريون فخرجوا ووجوههم تتهلَّل فرحًا واستبشارًا، ويقول إنه اعتبر هذه الخطبة أول حجر في أساس مبدأ «مصر للمصريين».

ولا شكَّ أن خطبة سعيد باشا لم تصادف في نفس عرابي موضع الإقناع والغبطة إلَّا لأن روحه كانت وطنية، فهي تقبل ما يوافق ميولها واتجاهاتها.

على أن دعوته الوطنية لم تنضج إلَّا في عهد الخديو إسماعيل، ذلك أنه حين خلَف سعيد باشا في ولاية الحكم، فقد عرابي عطف ولي الأمر الجديد، إذ لم يكن إسماعيل يأخذ بسُنة سلفه في العطف على الضباط الوطنيين، فعادت الحظوة في الجيش إلى الضباط الشراكسة، فكان ذلك من أسباب تذمر عرابي، واتجاه أفكاره إلى المطالبة بحقوق الضباط الوطنيين.

ووقع له حادث في أوائل عهد إسماعيل كان له أثر كبير في اتجاه أفكاره وتكوين دعوته الوطنية، فقد وقعت خصومة بينه وبين اللواء خسرو باشا الشركسي أدَّت إلى تقديمه إلى مجلس عسكري، والحكم عليه بالسجن واحدًا وعشرين يومًا، فاستأنف عرابي هذا الحكم أمام المجلس العسكري الأعلى، فقضى بإلغاء الحكم الابتدائي. وحدث خلاف بسبب هذا الحكم بين وزير الحربية وقتئذٍ إسماعيل سليم باشا ورئيس المجلس الأعلى؛ لأن الوزير كان يرغب في تأييد الحكم الابتدائي، فسعى لدى الخديو إسماعيل في فصل عرابي من الجيش، فتمَّ له ما أراد، فأورثته هذه الحادثة بغضًا شديدًا للشراكسة.

ورفع ظلامته من هذا القرار إلى الخديو إسماعيل، وظلَّت بين النظر والإهمال ثلاث سنوات، وقد توسَّط له بعض الخيِّرين فالتحق بوظيفة في دائرة الحلمية، وفي أثناء قيامه بهذه الوظيفة تزوج من كريمة مرضعة الأمير إلهامي باشا، وهي أخت حرم الخديو توفيق من الرضاعة، وتوصَّل بذلك إلى استصدار أمر من الخديو إسماعيل بالعفو عنه وإعادته إلى الجيش برتبته العسكرية، ولكنه حُرم مرتبه مدة فصله. فتأصلت في نفسه روح الكراهية لرؤساء الجيش من الشراكسة والتُّرك الذين كانوا سببًا في تأخير ترقية الضباط المصريين، ومنهم عرابي ذاته، فقد ظل تسعة عشر عامًا برتبة قائم مقام، وهي الرتبة التي نالها في عهد سعيد، وشهد عرابي محاباة الرؤساء لصغار الضباط الذين هم من أصل شركسي، ممن هم دونه مرتبة، حتى فاتوه في الرُّتب العسكرية لا لسبب سوى أنهم من مماليك أو أبناء مماليك العائلة الخديوية.

من ذلك الحين أخذ عرابي يبث في نفوس الضباط الوطنيين فكرة الاتحاد والمطالبة بحقوقهم ورفع الحيف عنهم، وكان للباقته وفصاحته في الكلام واستناده إلى بعض الأحاديث الشريفة النبوية والحِكم المأثورة، تأثير كبير في نفوس الضباط اجتذبهم إليه ومال بهم إلى تلبية ندائه والاستماع لنصائحه والاقتناع بدعوته، ذكر محمود فهمي باشا أحد زعماء الثورة العرابيَّة في هذا الصدد، أن عرابي دخل سنة ١٨٧٥ أحد الآلايات المرابطة بناحية رشيد، فأخذ من ذلك الوقت في تأليف قلوب الضباط الوطنيين «أولاد العرب» — على حدِّ تعبيره — وجمع كلمتهم على ولائه وإظهار الأسف لحرمانهم من الترقيات في حين أن الضباط الترك والشراكسة مغمورون بها.

فيمكن اعتبار سنة ١٨٧٥ بدء دعوة عرابي الوطنية، وكان ذلك في عهد الخديو إسماعيل.

ولما تولَّى توفيق باشا مسند الخديوية رقَّى عرابي إلى رتبة أميرالاي في يونيو سنة ١٨٧٩، وأصدر الخديو أمره بذلك وهو في الإسكندرية، فتوجه عرابي إلى سراي رأس التين وقدَّم للخديو شكره مقرونًا بعبارات الإخلاص والولاء، فشمله الخديو برعايته، وجعله ضمن ياورانه، وعيَّنه أميرالاي لآلاي المشاة الرابع الذي كان مركزه بالقاهرة، ويُعرف بآلاي العباسية، وظل يشغل هذا المنصب حتى شبوب الثورة سنة ١٨٨١.

(١-٣) أسباب الثورة

تُوصف ثورة عرابي بأنها ثورة عسكرية، وهذا صحيح لا مراء فيه، إذا لاحظنا أن زعيمها والقائمين بها هم من ضباط الجيش، وأنها قامت وتحركت وفازت وقتًا ما بقوة الجيش، ثم انتهت بهزيمته.

ولكن مما لا ريب فيه كذلك أنها ليست ثورة عسكرية فحسب، بل هي أيضًا ثورة قومية اشتركت فيها طبقات الأمة كافة، وإذا أردنا أن نستقصي أسبابها وجدناها على نوعين: أسباب خاصة مباشرة، وهي المرتبطة بطبقة الضباط والجند وموقفهم من الحكومة وموقف الحكومة منهم. وأسباب عامة، وهي التي تتصل بحالة الشعب والعوامل التي دفعته إلى مناصرة الثورة وتأييدها. وإذ كانت الأسباب الخاصة أقوى أثرًا في ظهورها وتطورها، فلنبدأ بالكلام عنها …

الأسباب المباشرة

ترجع هذه الأسباب إلى تذمر الضباط الوطنيين من سوء معاملة رؤسائهم، وخاصةً عثمان رفقي وزير الحربية في عهد وزارة رياض باشا التي شبَّت الثورة في عهدها.

كان عثمان رفقي قائدًا شركسيًّا متعصبًا لجنسه، يتحيز للضباط الذين هم من أصل شركسي أو تركي أو أرناءودي، ويعمل على جمع زمام السلطة في أيديهم، ويؤثرهم في الترقيات والتعيينات على الوطنيين الذين كان يُنظر إليهم بعين الزراية والبغض.

وكان عثمان رفقي من ناحية الكفاية جاهلًا، قليل الإدراك والذكاء، عديم المواهب، قليل النظر في العواقب، يمثِّل طبقة الرؤساء العسكريين المنحدرين من سلالة الترك والشراكسة الذين كانت لهم رياسة الجيش في عهد إسماعيل وأوائل عهد توفيق. ولم يكن الضباط الوطنيون يجدون منهم في الجملة إنصافًا ولا مساواة ولا معاملة حسنة، ولو أن إسماعيل دَرِج على سُنة سعيد في تشجيعه المصريين وترقيتهم في المناصب العسكرية، لسادت روح المساواة في الجيش، ولمَا هيأ أمثال عثمان رفقي السبيل إلى الفتنة.

ولا مراء في أن إسماعيل كان يميِّز الضباط والرؤساء الشراكسة والترك على الوطنيين في المعاملة، برغم ما بدا منهم من العجز والجهل وعدم الكفاية، مما ظهر أثره جليًّا في الهزائم التي حاقت بالجيش سنة ١٨٧٥-١٨٧٦ في حرب الحبشة. وعلى ما كان لهذه الهزائم من أسوأ الأثر، فإن إسماعيل لم يحاسب أولئك القواد والضباط على ما وقع منهم من الإهمال والتقصير، وقيل إنه اعتزم محاكمة راتب باشا قائد هذه الحملة، ولكنه ما لبث أن رجع عن ذلك … فقرَّبه إليه وجعله من خاصة بطانته.

وهذا يدلُّك على شديد ميله إلى تلك الفئة … فكانت لها الحظوة لديه، ثم لدى الخديو توفيق. ولو ظلَّت روح المساواة التي بثها سعيد في الجيش سائدة في عهد إسماعيل وتوفيق لمَا قامت الثورة العرابيَّة؛ لأن عرابي وصحبه لم يثوروا إلَّا حين طفح الكيل من محاباة أمثال عثمان رفقي للترك والشراكسة واضطهادهم للضباط الوطنيين، فعرابي وصحبه كانوا على حق في المرحلة الأولى من الثورة؛ لأن الطبيعة البشرية مفطورة على كراهية الظلم والاضطهاد. ومن صفات النفس الإنسانية الثورة على المظالم. ولم تكن المظالم التي يشكو منها الضباط الوطنيون مقصورة على حرمانهم حقوقهم في الترقي، بل كانوا كذلك هدفًا لأشد ضروب العنت والإرهاق، إذ كان يكفي أن تُلصق بأحد منهم تهمة ما، ولو لم تكن صحيحة، ليكون جزاؤه أن تُنزع منه درجته أو يُقصى عن منصبه، أو يُنفى إلى أقصى السودان، وتصبح حياته عرضة للخطر لأوهى الأسباب.

فالثورة العرابيَّة كانت ثورة دفاع عن الحق، ودفاع عن الحياة، وليس من يُنكر ما كان عليه معظم الرؤساء الشراكسة والترك والأرناءود من الغلظة والغطرسة، والزهو والخيلاء، والزراية بالوطنيين … فإن هذه النزعات كانت فاشية فيهم، لا في مصر وحدها، بل في سائر بلاد السلطنة العثمانية القديمة، إذ كان العرب يعانون سوء معاملة الترك لهم واضطهادهم إياهم، وكانت هذه المعاملة من أسباب قيام الفتن والثورات في السلطنة العثمانية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.

ومادمنا في صدد الأسباب المباشرة للثورة، فلا جدال في أن ظهور أحمد عرابي كان في مقدمة هاتيك الأسباب، فهو الذي بث في نفوس الضباط روح التضامن والاتحاد للمطالبة بحقوقهم المهضومة، وتقدَّم الصفوف لعرض مطالبهم جهارًا على ولاة الأمور، وكانت هذه المطالب فاتحة الثورة، فهذه الجرأة كان لها أثر كبير في ظهور الثورة، ولو لم يظهر عرابي، ولم تكن له تلك الشخصية التي اجتذبت إليه صفوف الضباط وبثت فيهم روح التضامن والإقدام، لكان محتملًا ألَّا تظهر الثورة العرابيَّة، أو لظهرت في زمن آخر وفي ظروف وملابسات أخرى غير التي ظهرت فيها.

وهناك سبب من الأسباب المباشرة، يرجع إلى شخصية الخديو توفيق، فقد كان من أخص صفاته التردُّد والضعف، فلم يعالج الثورة في مهدها بالحزم والشدة، أو بالعدل ورفع المظالم التي شكا منها الضباط، بل كان موقفه منها موقف التردد والتناقض، لا يستقر على رأي واحد ولا على خطة واحدة … بل كان يقابل حركة الضباط تارةً باللين وآونةً بالشدة، ثم يجنح إلى التراخي والضعف، ثم إلى الشدة بعد الضعف. ولم يكن صريحًا في سياسته ولا في تصرفاته، وكان له عدا ذلك من ظروفه العائلية ما يشجع عوامل التحريض على الثورة، فإن إسماعيل كان لا يفتأ يسعى في العودة إلى الحكم، ولا يرضيه أن يستقر ابنه على العرش.

ومن هنا جاء الظن بأن لإسماعيل ضلعًا في مؤامرة الضباط الشراكسة التي أججت نار الخلاف بين الخديو والعرابيين، كما سنذكره في موضعه. وكذلك كان له من الأمير محمد عبد الحليم بن محمد علي منافس قوي في التطلع إلى مسند الخديوية، وكان وجود عبد الحليم في الآستانة — مهبط الفتن والدسائس — واتصاله برجال المابين، عاملًا قويًّا لتهيئة الأفكار لتوقيع خلع توفيق كما خُلع أبوه من قبل. هذا إلى أن الأمير عبد الحليم كان بحسب نظام الوراثة القديم أحق بالعرش من توفيق؛ لأنه أكبر أفراد الأسرة الحاكمة سنًّا.

ولم يتبدَّل هذا النظام إلَّا في عهد إسماعيل إذ جعل العرش في ذريته — فرمان ٢٧ مايو سنة ١٨٦٦ — فكان توفيق أول من أفاد من النظام الجديد، ولم يكن قبل صدور هذا الفرمان يتطلع إلى العرش، ولا كان معترَفًا له بالزعامة من أمراء آل بيته، وبخاصة الأميرات، إذ كنَّ ينعين على والدته أنها قينة من جواري إسماعيل. فهذا المركز القلِق من شأنه أن يحرض على الثورة، أضف إلى ذلك أن أعضاء وزارة رياض باشا كانوا مختلفي الرأي والنزعات في مواجهة الثورة، فكان هذا الموقف وما ينطوي عليه من الاضطراب والتنافس من العوامل التي أعانت على ظهور الثورة ونجاحها.

وثمة أسباب عامة يشترك فيها الشعب بجميع طبقاته، منها أسباب سياسية، وأخرى اقتصادية، وثالثة اجتماعية.

الأسباب السياسية

فالأسباب السياسية ترجع إلى تذمر المصريين عامة من سوء نظام الحكم القائم ورغبتهم في التخلص منه، فقد كان قوام هذا النظام استبداد الحكم واضطهادهم الأهلين.

لم يكن ثمة عدل ولا قانون، ولا قضاء ينتصف للمظلوم ويعطي كل ذي حق حقه، ولا حرية، ولا مساواة، ولا ضمانات قانونية تكفل للناس حقوقهم وحياتهم، وكان الضرب بالكرباج شائعًا يتخذه الحكام وسيلة لتحصيل الأموال أو أداة للقسوة والتعذيب … حقًّا أن رياض باشا أمر بإبطاله، ولكن أوامره في هذا الصدد لم تُنفَّذ تنفيذًا تامًّا، وبقي الكرباج في كثير من النواحي أداة للحكم. وكانت السُّخْرة مضروبة على البلاد، ولم تكن مقصورة على المنافع والأعمال العامة، بل كانت تُستخدم لاستصلاح أطيان ذوي السلطة والجاه من الحُكَّام والأمراء، وكان النفي إلى أقاصي السودان عقوبة يعانيها الكثيرون لمجرد الشبهة أو النكاية. ذكرت جريدة «المونيتور إجبسيان» — الجريدة الرسمية الفرنسية للحكومة — أنه لما ألَّف شريف باشا وزارته بعد قيام الثورة العرابيَّة، تقدَّمت له عرائض كثيرة من المحكوم عليهم بالنفي إلى السودان يطلبون رفع الظلم عنهم، وبلغ عددهم ٩١٢ منفيًّا، وهو عدد كبير يدلُّك على كثرة المظالم التي كان الناس يعانونها قبل الثورة، وقد تبيَّن من تحقيق هذه الشكايات أن كثيرين من المنفيين كان يتقرَّر نفيهم لمجرد محضر موقَّع عليه من بعض الأفراد، باتهام أي شخص بأنه خطر أو لمجرد خطاب من أية سلطة محلية بهذا الاتهام. ولم تكن المظالم مقصورة على طبقة دون أخرى، بل كانت عامة، يعانيها العامة والخاصة، ولم يكن ينجو من شرِّها إلَّا من كانت تشملهم رعاية أُولي الأمر، على أن هذه الرعاية لم تكن مضمونة البقاء، بل كثيرًا ما تنقلب غدرًا لغير ما سبب سوى أهواء الطغاة وتقلباتهم.

فالمصريون كانوا إذن يتطلعون إلى التخلص من نظام الحكم القائم، وقد أدركت الطبقة الممتازة من الأمة أن إصلاح هذا النظام إنما يكون بقيام الدستور وإنشاء مجلس نيابي يوطد مبادئ العدل والحرية، ويتحقق فيه معنى الرقابة على الحُكَّام، ويحُول دون ارتكاب المظالم … فيأمن الناس على حقوقهم وعلى حياتهم. ومن هنا اتحدت الطبقة المثقفة من الأمة مع الضباط الوطنيين في الشعور والميول، وأجمع الكل على المطالبة بالمجلس النيابي. فالثورة العرابيَّة كانت من هذه الوِجهة ثورة على المظالم، وثورة على الحكم الاستبدادي.

وليس يخفى أن البلاد عرفت شيئًا من النظام الدستوري من قبل، إذ أُنشئ مجلس شورى النواب سنة ١٨٦٦ على عهد إسماعيل. ولكنه كان مجلسًا لا سلطة له، فلم يكن له أي أثر في رفع المظالم عن الأهلين، وقد بدأت روح الحياة والمعارضة تظهر بين أعضائه في أواخر عهد إسماعيل، وتطلعت أفكار الخاصة من النواب والأعيان إلى إصلاح نظامه وتوسيع اختصاصه، وحقَّق شريف باشا هذه الآمال بوضع دستور على أحدث المبادئ العصرية سنة ١٨٧٩، ولكن الأزمة التي انتهت بخلع الخديو إسماعيل حالت دون إصداره والعمل به.

وبينما كانت الطبقة المثقفة ترتقب إعلان الدستور على يد الخديو توفيق، إذا بهم يرون شريف باشا يستقيل لمعارضة الخديو إياه في تشكيل مجلس النواب، وإصراره على الحكم المطلق. ورأوا الخديو يؤلف وزارة برياسته، مما ينُمُّ عن ميوله الاستبدادية، ثم يكلِّف رياض باشا تأليف وزارة كان من مبادئها الأساسية حكم البلاد حكمًا مطلقًا وحرمانها أي نظام دستوري … حتى مجلس شورى النواب القديم على ما كان عليه من ضعف السلطة، فقط ظل معطلًا زهاء سنتين، طوال عهد وزارة رياض باشا. ولم ينسَ الناس ما كان لهذا المجلس من بعض المواقف الطيبة في أواخر عهد إسماعيل، وأنه عُطِّل في عهد توفيق، فكان لزامًا أن يستأنفوا الجهاد للدستور، وكان طبيعيًّا إذا دعاهم داعٍ إلى الثورة أن يلبوا نداءه طائعين مستبشرين … ويتبيَّن لك من هذه الناحية أن الثورة العرابيَّة هي استمرار للحركة الوطنية التي ظهرت في أواخر عهد إسماعيل وامتداد لها.

وكانت سياسة رياض باشا من أسباب ظهور الثورة، فقد استُهدف لحركة مقاومة قوية لِما بدا منه من المعارضة في إنشاء مجلس النواب، وانحيازه للنفوذ الأوروبي، ولِما عُرِف عنه من الاستخفاف بميول الشعب وعدم اكتراثه لآراء الخاصة من الكبراء والأعيان، وإصراره على قمع كل معارضة بالشدة واضطهاده للمعارضين. ومن أمثلة هذا الاضطهاد تجريده الفريق شاهين باشا كنج وزير الحربية السابق من رتبته وألقابه لاتصاله بالحزب الوطني، وتقديم السيد حسن موسى العقاد للمحاكمة ونفيه إلى أقصى السودان لاعتراضه على إلغاء قانون المقابلة، ثم اضطهاده للصحف المعارضة لوزارته.

استُهدفت الصحف المعارضة للاضطهاد في عهد وزارة توفيق، ثم في عهد وزارة رياض، واستخدمت الحكومة اللائحة القديمة المسماة لائحة أو «نظامنامه» المطبوعات لإنذار الصحف أو تعطيلها. ففي عهد الوزارة التي رأسها توفيق باشا عطَّلت الحكومة جريدة «مرآة الشرق» لمدة شهر، وأنذرت جريدة «التجارة»، ثم عطلت جريدة «مرآة الشرق» لمدة خمسة أشهر «لأنها اعتادت الدخول فيما لا يعنيها، ونشرت مطالعات سخيفة مخترَعة من تلقاء نفسها خرجت فيها عن حدود وظائفها»، وفي عهد وزارة رياض باشا أُنذرت جريدتا «مصر» و«التجارة» لنشرهما مقالات عدتها الحكومة غير معتدلة تخدش الأذهان، ثم عُطلتا نهائيًّا لإصرارهما على خطة المعارضين.

كانت جريدتا «مصر» و«التجارة» من أقوى صحف المعارضة، تجلَّت فيهما روح السيد جمال الدين، ولا غرو فصاحبها ومنشئها هو أديب إسحق من خاصة تلاميذ الحكيم الأفغاني، أُنشئت الأولى سنة ١٨٧٧ والثانية سنة ١٨٧٨ في أواخر عهد إسماعيل، وكانتا في عهد توفيق لا تفتأ كلٌّ منهما تنشر المقالات الحماسية وتنتقد سياسة الحكومة وتندد بتفريطها في حقوق البلاد، فلم تطق وزارة رياض باشا صبرًا على مسلكهما، وأصدرت قرارها بتعطيلهما تعطيلًا نهائيًّا.

وأُنذرت جريدة «مصر الفتاة» لطعنها على الحكومة لمناسبة توسيع اختصاصات الرقيبين الماليين، ثم عُطلت تعطيلًا نهائيًّا لنشرها مقالات وأخبارًا عدَّتها الحكومة مهيجةً للخواطر والأفكار. ومنعت جرائد «النحلة» و«أبو نضارة» ثم «أبو صفارة» و«القاهرة» و«الشرق» من دخول القطر المصري، وأنذرت جريدة «الإسكندرية» ثم عطلتها شهرًا، وعطلت جريدة «المحروسة» لمدة خمسة عشر يومًا. ولم يقتصر الاضطهاد على الصحف العربية، بل تناول الصحف الأوروبية، فعُطلت جريدة «الريفورم» تعطيلًا نهائيًّا وأُغلقت مطبعتها بحجة أنها تنتشر مقالات مثيرة للأفكار، وأُنذرت جريدة «الفارد السكندري».

فالصحف المعارضة، وما كانت تبثه في الأفكار من روح التبرم بنظام الحكم والتطلع إلى الحرية والدستور، وما لقيته من اضطهاد، كل ذلك كان من الأسباب الممهدة للثورة والمحرِّضة عليها.

•••

وقد اشتدَّ ساعدُ الحركة بتأليف جمعية من الناقمين من سياسة رياض باشا، عُرفوا بالحزب الوطني «القديم»، وقد نشروا في ٤ نوفمبر سنة ١٨٧٩ أول بيان سياسي لهم، وطبعوا منه عشرين ألف نسخة. وسعى رياض باشا في معرفة ناشريه لإقصائهم إلى السودان، فلم يستطع إلى ذلك سبيلًا. ويقول المسيو جون نينيه الذي عاصر حوادث الثورة العرابيَّة: «إن إخفاق رياض باشا في تعقُّب ناشري هذا البيان شجع خصومه على متابعة العمل لإسقاطه، وإن منهم الخديو توفيق ذاته. ومن بينهم الباشوات الأربعة: شريف باشا، وإسماعيل راغب باشا، وعمر لطفي باشا، وسلطان باشا، وإنهم أوفدوا إلى باريس أديب إسحق لإنشاء جريدة القاهرة، وقد رحل فعلًا إلى أوروبا بعد إلغاء جريدتيه «مصر» و«التجارة». وأصدر بباريس جريدة معارضة لوزارة رياض، وكانت من أشد الصحف لهجة ضدها، فكانت من أقوى العوامل في إثارة الأفكار على رياض ووزارته. وتعقَّبها رياض لمنع تداولها في مصر، ولكن الباشوات الأربعة كانوا يوزعونها في أنحاء البلاد. وتعدَّدت الاجتماعات السرية في منزل سلطان باشا لتنظيم الحزب الوطني، وقويت الروابط بين منظميه … وكان في مقدمتهم سلطان باشا، وأحمد عرابي بك، وصاحباه عبد العال حلمي وعلي فهمي، ومحمود سامي البارودي باشا، وسليمان أباظة باشا — مدير الشرقية — وحسن الشريعي باشا — مدير المنيا — ومحمود فهمي باشا.

ويقول المسيو «جون نينيه»: إن الغرض من ضمِّ المديرين إلى الحزب هو نشر الدعاية له في الأقاليم، وإن سلطان باشا بوجاهته وثرائه — إذ كان يمتلك نحو ثلاثة عشر ألف فدان من أجود الأطيان — كان يطمع في رياسة الحزب رغم ضعف أخلاقه ودخيلة نفسه، ولم يكن يتطلَّع إلى الوزارة؛ لأنه لم يكن كفؤًا لها بل كان يرنو إلى رياسة مجلس النواب.

ويقول عرابي في مذكراته عن تأسيس الحزب الوطني: إنه تألَّف من لفيف من العظماء والكبراء والعلماء والنبهاء، ويرجع تأليفه إلى التذمر من تغلغل النفوذ الأوروبي في الحكومة، فألَّف أولئك الكبراء هذا الحزب وجعلوا مركزه مدينة «حلوان»، ونشروا عدة منشورات في الصحف الفرنسية نصحوا فيها للحكومة بمراعاة مصالح البلاد، وأعلنوا عن وجود الحزب الوطني وبيَّنوا واجباته وحقوقه، ثم اعترضوا على «الدين الممتاز» واختصاصه بالضمان، وطلبوا المطالب الآتية:
  • أولًا: تعاد إلى الحكومة المصرية جميع الأملاك المسماة بالخديوية.
  • ثانيًا: يُلغى النص القاضي بتخصيص السكة الحديدية للقرض الممتاز — في قانون التصفية — فإن لم يرضَ بذلك الدائنون من الإنجليز تعيَّن عليهم قبول ذلك الدخل كما هو من غير أن تؤخذ بقية الفائدة المخصصة لهم من الدخل العام.
  • ثالثًا: أن تكون الديون الممتازة والسائرة والمنتظمة دينًا واحدًا مضمونًا بمال الأمة والبلاد بفائدة مقدارها ٤ في المائة.
  • رابعًا: أن تقام إدارة مراقبة وطنية خاصة مؤقتة، يكون فيها ثلاثة من الأجانب تعيِّنهم الدول وتقرهم الحكومة المصرية.

فرواية عرابي عن تأسيس الحزب الوطني لا تختلف في جوهرها عن رواية نينيه. ويقول عرابي: إنه لما علمت الحكومة بوجود هذا الحزب شدَّدت الرقابة على زعمائه وهددتهم واضطهدتهم، وكان الفريق شاهين كنج باشا وزير الحربية السابق من زعماء هذا الحزب، فاحتمى بالحماية الإيطالية وغادر مصر إلى إيطاليا، فصدر أمر الخديو في ١٤ يونيو سنة ١٨٨٠ بتجريده من رتبه وألقابه، ومحو اسمه من دفاتر ضباط الجيش. وبُني الأمر على أنه دخل في حماية دولة أجنبية دون أن يُعطى له إذن بذلك، وأنه سافر من مصر بدون جواز سفر مستعينًا بجواز سفر حصل عليه من حكومة أجنبية دون أن تعترف به الحكومة المصرية.

يتبيَّن مما تقدَّم أن الحزب الوطني كان له أثر كبير في إظهار الثورة العرابيَّة. وكانت بالإسكندرية جمعية أخرى عُرفت بجمعية «مصر الفتاة» رفعت عريضة إلى الخديو بمطالب الحرية، وأنشأت جريدة «مصر الفتاة» للدعوة إلى الحرية، وهي الجريدة التي عطلتها الحكومة كما تقدَّم.

وثمة عامل آخر، يتصل بالأسباب السياسية، كان له أثره في التحريض على الثورة، ويُعد من مقدماتها، وهو حدوث سابقة للثورة العرابيَّة … ونعني بها ثورة الضباط على وزارة نوبار باشا أواخر عهد إسماعيل في فبراير سنة ١٨٧٩، فإن تلك الثورة هي صورة مصغرة للثورة العرابيَّة، إذ قامت على أكتاف الضباط، وكان الباعث شكواهم من تأخير مرتباتهم وإحالة ٢٥٠٠ منهم إلى الاستيداع. فذهب نحو ستمائة ضابط منهم يتبعهم لفيف من طلبة المدرسة الحربية ونحو ألفين من الجنود إلى وزارة المالية، بحجة رفع ظلامتهم إلى نوبار باشا والسير ريفرس ويلسن وزير المالية وقتئذٍ، فهجموا على نوبار باشا واعتدوا عليه بالضرب، وكذلك اعتدوا على السير ريفرس ويلسن، واقتحموا أبواب الوزارة واحتلوا غرفها وقاعتها وحبسوا نوبار باشا ورياض باشا — وكان وزيرًا للداخلية — والسير ريفرس ويلسن في إحدى غرف الدور الأعلى، وكانت نتيجة تلك الثورة سقوط وزارة نوبار، فهذا الفوز الذي أحرزه الضباط سنة ١٨٧٩ قد أغرى عرابي وصحبه بالثورة سنة ١٨٨١.

الأسباب الاقتصادية

لم تكن الحالة الاقتصادية خيرًا من الحالة السياسية، بل كانت أدعى منها إلى الثورة. فالديون التي اقترضها الخديو إسماعيل ألقت على البلاد عبئًا جسيمًا من الأثقال الفادحة، واضطرت الحكومة إلى تخصيص نصف موارد الميزانية لسداد فوائد الديون. فكان ذلك سببًا لتذمر الأهلين خاصتهم وعامتهم؛ لأن تخصيص هذا المبلغ الضخم، الذي يُجبى كل عام من عرق الفلاح وكَدْه، معناه حرمان الأهلين ثمرة جهودهم ومتاعبهم وإضاعتها لحساب الدائنين … هذا فضلًا عن فداحة الضرائب في مجموعها، وعدم توزيعها توزيعًا عادلًا، واقتضائها بوسائل القهر والإرهاب. فانضم الأهلون إلى الثورة وشايعوها آملين أن تخفف عنهم أعباء الضرائب، وكان استفحال نفوذ الأجانب عامة، واستحواذهم على مرافق البلاد الاقتصادية، مما دعا إلى تبرُّم الأهلين بنظام الحكم … فإن الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها والمزايا التي نالها التجار والمرابون منهم، قد أكسبتهم الأموال الطائلة، فأثروا على حساب الخزانة المصرية وعلى حساب الأهلين.

وزاد في تذمر المثقفين والأعيان استسلام الحكومة في عهد وزارة رياض باشا لمطالب الدائنين وحكوماتهم، فقد أقرَّت نظام الرقابة الثنائية كما أملاه القنصلان الإنجليزي والفرنسي، وخولت الرقيبين الأوروبيين سلطة واسعة المدى في شئون الحكومة المالية، واتسع النفوذ الأوروبي داخل الحكومة بواسطة الرقيبين وخارج الحكومة؛ لاستجابتها لمطالب الماليين الأوروبيين والترخيص لهم باستثمار موارد البلاد ومرافقها الاقتصادية، فأُنشئت في عهد وزارة رياض باشا عدة مؤسسات مالية واقتصادية، زادت في طغيان النفوذ الأوروبي في حياة مصر الاقتصادية، كالبنك العقاري — وقد تأسس في ١٥ فبراير سنة ١٨٨٠ — وشركة تكرير السكر، والشركة العمومية لإجراء الأشغال بالديار المصرية، وشركة المقاولات وغيرها، وكلها شركات أجنبية برءوس أموال أوروبية، وأعضاؤها من الأوروبيين، وعقود تأسيسها التي صدرت بها الأوامر العالية لم تُراعَ فيها مصالح الأهلين في شيء … فهذا الإسراف في رعاية المصالح ورءوس الأموال الأوروبية، وتمكينها من التغلغل في كيان البلاد المالي والاقتصادي، كل ذلك كان له أثره في تبرُّم الناس بالوزارة، فضلًا عن أنه كان في ذاته عملًا غير صالح ولا يتَّفق والروح القومية.

•••

وزاد الأعيان سخطًا على الوزارة إلغاؤها «قانون المقابلة» فانضموا إلى صفوف المعارضة؛ ذلك أن إبطال ما كان يقضي به هذا القانون من إعفائهم من نصف المربوط على أطيانهم من الضرائب، فيه ضياع أموالهم التي أدوها للحكومة مقابل هذا الإعفاء، وقد كان أكثر الأعيان اعتراضًا على هذا الإلغاء السيد حسن موسى العقاد، فقدَّم بذلك مظلمة إلى لجنة التصفية نشرها في جريدة «الريفورم» ووصف فيها هذا العمل بأنه استبداد، وأبان أن قانون المقابلة، وما احتواه من المزايا لدافعي الضرائب مقدمًا هو عقد لا يجوز نقضه من جانب الحكومة وحدها، وأن الأهالي قد احتملوا شدائد كثيرة في أداء المقابلة، وباعوا في هذا السبيل مصوغاتهم وأملاكهم واستدانوا الديون الفادحة، فكان لزامًا على الحكومة أن ترد جميع ما أداه المالكون إلى أصحابه، بحيث لا يسري مرسوم الإلغاء إلَّا بعد رد ما أخذته الحكومة. فرأى رياض باشا أن في تقديم هذه المظلمة إلى لجنة التصفية ونشرها في جريدة «الريفورم» معنى التشهير بالحكومة وإثارة الأفكار عليها، وبخاصة لأن العقاد دعا الأهالي إلى توقيع عرائض بهذا المعنى، فأثر بالقبض عليه وقدَّمه للمحاكمة، فحكم عليه مجلس مصر الابتدائي بالحبس سنتين، وشدَّد المجلس الاستئنافي هذا الحكم، فزاده إلى خمس سنوات. ولم تكتفِ الحكومة بذلك، بل قضى «مجلس الأحكام» بنفيه إلى فازوغلي بأقاصي السودان، ونُفِّذ فيه الحكم وسيق إلى فازوغلي … ولم يُفرج عنه إلَّا في عهد وزارة شريف باشا بعد إنشاء مجلس النواب، يضاف إلى ذلك صدور قانون التصفية — يوليو سنة ١٨٨٠ — فقد ظهر فيه من التحيز للدائنين الأجانب والإجحاف بالأهلين ما زاد الناس كرهًا لوزارة رياض باشا، وزاد الأعيان والملاك سخطًا عليها لِما فرضته عليهم من زيادة ضريبة العُشر على أطيانهم.

ومن مظاهر سياسة الحكومة الاقتصادية إنقاص عدد الجيش توفيرًا للنفقات … وهذا النقص كان له سبب آخر يتَّصل بالحالة السياسية، وهو صدور الفرمان السلطاني لتوفيق باشا مشتملًا على إنقاص عدد الجيش العامل إلى ١٨ ألف جندي، ولكن السبب الاقتصادي كان له أكبر الأثر في هذا النقص؛ لأن عدد الجيش نقص إلى اثني عشر ألفًا أي إلى أقل مما حدَّده الفرمان السلطاني، وقد استتبع هذا النقص إحالة كثير من الضباط إلى الاستيداع ووقوعهم في الضيق المالي، ولم تُعنَ الحكومة بتدبير وظائف لهم تعوضهم عمَّا نقص من رواتبهم، فانضموا بطبيعة الحال إلى الناقمين.

وشارك الموظفون ضباط الجيش في شعورهم، إذ رأوا من مظاهر اتساع سلطة الرقيبين الأوروبيين ما يثير في نفوسهم روح السخط والتبرم، وأهم هذه المظاهر ازدياد نفوذ الموظفين الأوروبيين في دور الحكومة، وزيادة عددهم، وتمييزهم بالمرتبات الضخمة … فاستاء لذلك الموظفون الوطنيون.

وخلاصة ما تقدَّم أن الثورة العرابيَّة هي من الوِجهة السياسية ثورة على الاستبداد والمظالم، ومن الوجهة الاقتصادية ثورة على التدخل الأوروبي في شئون مصر المالية، وعلى النظم الاقتصادية التي كانت تعانيها البلاد قبل الثورة.

الأسباب الاجتماعية

إن حالة المجتمع المصري كانت تؤهله بلا مراء — عند أول دعوة — لتلبية نداء الحرية والثورة … وذلك بفضل انتشار التعليم من عهد محمد علي، فالمدارس التي أسَّسها والبعثات العلمية التي أوفدها إلى الخارج، وقد خرَّجت طبقة مثقفة نالت حظًّا موفورًا من العلوم، وليس يخفى أن العلم من شأنه أن يهذب النفوس وينير البصائر، وينهض بالعقول والأفكار، ويسمو بها إلى التماس الرقي والتقدم، ويعرِّفها معاني الحرية والمساواة والحقوق الإنسانية، ويهيب بها إلى محاكاة الأمم الحرة في الثورة على الاستبداد. فالنهضة العلمية كان لها فضل لا يُنكر في توجيه أنظار المثقفين إلى التبرم بالاستبداد والتطلع إلى الحرية والدستور.

واقترنت النهضة العلمية بنهضة في الأدب، قوامها الشعراء والكُتَّاب من أدباء ذلك العصر، والأدب بما يطبع في نفس الأديب من التطلع إلى المُثل العليا يمهد للنهضات الوطنية ويغذيها، ويحدو الأمم إلى الاستمساك بالحرية والكرامة الإنسانية، والنفور من الذل وإباء الضيم والمهانة …

فالعلوم والآداب كان لها أثرها في تمهيد الأفكار لقبول الثورة وفي الدعاية لها، وقد كان لقصائد الشعراء ومقالات الأدباء وما كان يلقيه الخطباء في المحافل والمجتمعات أثر كبير في التحريض على الثورة.

وكانت الصحافة من العوامل القوية في ترقية الأفكار بما تكتب عن الشئون العامة في مصر والخارج، وما تنشر من المقالات عن مختلِف الأحوال السياسية والاجتماعية، وما تحوي من التنويه بالأعمال النافعة وانتقاد الأعمال الضارة … فكان لها فضل كبير في تفتيح أذهان الناس، وتبصيرهم بالحقائق، وتهذيبهم وتثقيفهم، وكان لصحف المعارضة أثرها في إحراج مركز الحكومة وتبرُّم الناس بها، وقد استُهدفت هذه الصحف للإنذار والتعطيل كما تقدَّم، فكان الاضطهاد يُكسبها عطف الناس ويزيدهم تعلقًا بها، وتأييدًا لآرائها وأفكارها الحرة.

ويتصل بالأسباب الاجتماعية تأثير السيد جمال الدين الأفغاني في المجتمع المصري، فقد ظهرت على يده بيئة استضاءت بأنوار العرفان، وارتوت من ينابيع العلم والحكمة، وتحرَّرت عقولها من قيود الجمود والأوهام، وبفضله خطَّا فن الكتابة والخطابة في مصر خطوات واسعة، ولم تقتصر حلقات دروسه ومجلسه على طلبة العلم، بل كان يؤمها كثير من العلماء والموظفين والأعيان، وكان يحمل بين جنبيه روحًا كبيرة ونفسًا قوية، تزينها صفات وأخلاق عالية، فأخذ يبث في النفوس روح العزة والشهامة، ويحارب روح الذلة والاستكانة، وكان بنفسيته ودروسه وأحاديثه ومناهجه في الحياة، مدرسة أخلاقية رفعت من مستوى النفوس، وكانت على مرِّ الزمن من العوامل الفعَّالة للتحول الذي بدا على الأمة، وانتقالها من حالة الخضوع والاستكانة إلى التطلع للحرية والتبرم بنظام الحكم القديم ومساوئه، والسخط على تدخُّل الدول في شئون البلاد.

ولئن نُفي جمال الدين من مصر في أوائل حكم توفيق، فإن روحه ومبادئه وتعاليمه تركت أثرها في المجتمع المصري وهيأته للثورة، ولا غرو فكثير من أقطابها هم من تلاميذه أو مريديه أو المتأثرين بتعاليمه، ولو بقي في مصر حين نشوب الثورة لكان جائزًا أن يمدها بآرائه الحكيمة وتجاربه الرشيدة، فلا يغلب عليها الخطل والشطط، ولكن شاءت الأقدار والدسائس الإنجليزية أن يُنفى السيد من مصر، وهي أحوج ما تكون إلى الانتفاع بحكمته وصدق نظره في الأمور.

(٢) عرابي يتزعَّم الجيش

كان ضباط الجيش يتطلَّعون إلى رجل منهم يتولَّى زعامتهم وتوحيد كلمتهم للمطالبة بحقوقهم المشروعة … فوجدوا في عرابي ذلك الزعيم، ولقد كانت صفات الزعامة متوافرة فيه بالنسبة للظروف التي عاصرها، فقد كان ذا شخصية قوية جذابة تؤثر فيمن حوله وتجتذبهم إليه، وهذه أولى صفات الزعامة، كانت أقواله تقع من نفوس الضباط والسامعين موقع الإقناع، وهذا مظهر لقوة شخصيته، ولولا أنه ذو شخصية كبيرة قوية لمَا استطاع أن يجمع الجيش وضباطه على محبته، والانضواء تحت لوائه، والائتمار بأوامره.

ويمكن تحديد سنة ١٨٨١ لبدء زعامته العسكرية على معظم ضباط الجيش … في هذه السنة كان عثمان رفقي يتولى وزارة الحربية، وكان وحده من أسباب ظهور الثورة العرابيَّة، وآخر ما وقع منه — مما عجَّل بالثورة — أنه أصدر أمرًا بنقل الأميرالاي عبد العال حلمي حشيش بك — أحد زعماء الثورة فيما بعد — قائد آلاي طرة إلى ديوان الجهادية (وزارة الحربية) وجعله معاونًا بها، وفي هذا تنقيص من درجته ومركزه، وأمر بتعيين خورشيد نعمان بك بدله، وهو من أصل شركسي، وأصدر أمرًا آخر بفصل أحمد عبد الغفار بك قائمقام آلاي الفرسان، وعيَّن بدله ضابطًا شركسيًّا.

علم عرابي بهذه الأوامر في ١٦ يناير سنة ١٨٨١ قبل نشرها، فثار لها، وقال لمن بلَّغه نبأ هذه الأوامر: «إن هذه لقمة كبيرة لا يقوى عثمان رفقي على هضمها.» وذهب إلى داره ساخطًا محنقًا، فألقى كثيرًا من الضباط ينتظرونه ليتشاوروا معه فيما يجب عمله، إذ كانوا قد بلغهم أيضًا نبأ تلك الأوامر، فأخذوا يتداولون البحث في الموقف، فاتفقت كلمتهم على اختيار عرابي رئيسًا لهم، وعهدوا إليه في العمل للتخلص من هذه الحالة، وقرروا أنهم يتضامنون معه في تنفيذ ما يأمر به، وأقسموا على السيف والمصحف أنهم يفدونه ويفدون الوطن بأرواحهم، واتفقوا على كتابة عريضة إلى رياض باشا يطلبون فيها عزل وزير الحربية عثمان رفقي باشا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤