البُعد الرائحي

لماذا الياسمين له رائحة الياسمين، والفل رائحة الفل، والمسك ذلك المستخلص من الحيوان له رائحة المسك. أنا أفهم مثلًا حكاية ألوان الفراشات المختلفة الجذابة تلفت الأنثى بها أو الذكر نظرة الذكر أو الأنثى لإتمام عملية الإخصاب، ولكن لماذا يفرز الياسمين «رائحته» الخاصة في حين أن الحشرات تكاد لا تكون مزوَّدة إلا بحاسة النظر والرؤية، وهو ما يدفعها لارتشاف الرحيق من زهرة الياسمين، فتتم بهذه الملامسة عملية الإخصاب بين حبوب اللقاح التي تفرزها نفس الياسمينة والبويضة الأنثوية الكائنة في قاع الزهرة. إن معنى وجود رائحة للياسمين أن لها دورًا وفائدة ما، فإذا كانت كثير من الأزهار لا رائحة لها وإنما تتمتع فقط بالمنظر الجميل الذي يجذب الفراشات، فلا بد أن لرائحة الياسمين أو الورد أو الفل أو زهرة البرتقال وظيفة أخرى تمامًا.

بل إني، إمعانًا في التفكير وجدت أن لكلٍّ منا نحن البشر رائحة خاصة به، كبصمات أصابعه، لا تتشابه مع رائحة أي كائن غيره في الدنيا، بل إن لكل حيوان رائحته، بل حتى لكل مادة أو مركب عضوي أو غير عضوي رائحته الخاصة، وكنا ونحن ندرس في كلية الطب مقرر علينا أكثر من مائتَي دواء أو أصول دواء، نتعرف عليها عن طريق الشكل والشم معًا واسم هذا العلم Materia Medica أي علم المادة الطبية. حسن جدًّا. أستطيع أن نقول إذن إن هناك بُعدًا «رائحيًّا» للأشياء! وإن كرتنا الأرضية بكل مكوناتها ونباتاتها وحيواناتها لها — في الكون — رائحة خاصة في حاجة إلى أنوف كونية من حجم وحساسية مناسبة، لتشمها، وإن «رائحة» الكرة الأرضية لا بد مختلفة عن رائحة «الزهرة» أو «عطارد» أو «المريخ».

هذا البُعد «الرائحي» للأشياء والكائنات الحية، بُعد فيه سلم تطور هو الآخر؛ فهناك روائح بدائية شديدة البدائية كأنها الحيوانات الدنيا في المملكة الحيوانية، وروائح أرقى كثيرًا، تصل إلى رائحة الياسمين أو البنفسج.

لماذا إذن هذا التطور في الرائحة رغم عدم أهميته للمادة أو للكائنات الحية أو لوجودها بشكل عام؟ بل لماذا أيضًا هذا التعدد في الروائح؟ فرائحة الإنسان الغاضب غير رائحة الإنسان الخائف، وتلك تميزها جيدًا الكلاب؛ إذ حاسة الشم عندها قوية جدًّا، بل هناك روائح تفرزها أنثى الحيوانات لتثير الذكر وتلك روائح مختلفة تفرزها غدد خاصة، تختلف عن رائحة الحيوان نفسه في حالة الغضب أو الخوف، بمعنًى آخر، ليس لكل كائن رائحته الخاصة فقط، ولكن هذه الرائحة الخاصة نفسها «تتغير» و«تختلف» في الكائن الحي الواحد باختلاف حالته الوجودية، فرحًا كان أو غاضبًا، راضيًا أو مستفزًّا!

هذا البُعد «الرائحي» للإنسان وللحيوان وللنبات وللمادة، الذي يتطور باستمرار إلى أعلى وأسمى وأجمل، لماذا يتطور إلى أسمى وأجمل؟ ألغير هدف ما يفعل؟ أم أنها سنة الحياة وسُنة الخالق أن تتطور المادة بما فيها المادة الحية إلى أسمى وأعلى وأجمل؟ إذن السمو والجمال هدف وما الحديث الشريف: «إن الله جميل يحب الجمال.» قد قيل — أستغفر الله — عبثًا؛ فسلم التطور يصعد إلى المنتهى أو بالأصح اللامنتهى، الله سبحانه، أجمل جمال وأسمى عطر وأدق تناسب وأذكى ذكاء، وكل تاريخ حياة أي كائن، وعلى رأسها الإنسان، هو تاريخ قدرتها على الاقتراب من الأذكى والأفضل والأجمل والأرقى رائحة وشكلًا، هو تاريخ لمحاولاتها للاقتراب من صفات الله، رغم قدراتها المحدودة تمامًا بل واستحالة وصولها إلى أكمل كمال وأجمل جمال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤