خطرات أفكار

كان مِن أخصِّ ما جرى على ألسِنة العرب الكرام: الشِّعر مِلح الكلام، فهاموا به هُيامَ قيسٍ بلَيْلاه، وأقبلوا عليه إقبالَ أبي نُوَاسٍ على حميَّاه، فخاضوا عُبابَه واستخرجوا دُرر المعاني، ونَظَموا عِقدًا لجِيد الزمان، فأصبح — بعد أن أقفرَت منهم الديار، وعَفَتِ الآثار، وبعد أن عَبِثَت أيدٍ بكتبهم أيام الأندلسِ وبغدان — خيرَ ما يُستدَلُّ منه على ما لهم من الفضل، بل أصبح مِرآة نرى فيها تاريخهم وعوائدهم، علاوةً على أن الشعر مِن أرقِّ ما تَصْبو إليه النفوس.

قال لسان الدين ابن الخطيب الأندلسي في خطبة كتاب في المحبة: «واستكثرتُ من الشعر؛ لكونه من الشجرة بمنزلة النَّسيم الذي يُحرك عَذباتِ أفنانها، ويؤدي إلى الأنوف رَوائح بُستانها، وهو المِزمار الذي يَنفخ الشوق في براعته، والعزيمة التي تُنطِق مجنون الوَجْد من ساعته، وسِلعة ألسِنة العشاق، وتَرجُمانُ ضمير الأشواق، ومُجلي صورَ المعاني الرِّقاق، ومَكامِنَ قنائصِ الأذواق، به عبَّر الواجدون عن وَجْدِهم، ومشى المحبُّون إلى قصدهم، وهو رسول الاستلطاف، ومنزل الألطاف، اشتمل على الوزن المطرِب، والجمال المعجِب الْمُغرِب، وكان للأوطان مركبًا، ولانفعال النفوس سببًا.»

وعلى هذا وما جَرى مجراه، اعتنيتُ منذ مدة بجمع شَوارد شعر العرب بين غزل ونسيب لا غير، وجمعتُ بين رقيق أبياته دُررَ بعض شعراء العصر؛ حرصًا على تخليد آثارهم الحسان، وسأُردفه — إن شاء الله — بخاتمة تتضمَّن ذكر إيقاع هارون الرشيد بالبرامكة.

ثم إني رأيت أن أُتحف القرَّاء الكرام ببعض ما عرَفتُه واطلعت عليه من التفاصيل المتعلقة بموضوع الكتاب؛ فأقول: العشق طمع يتولَّد في القلب، ثم تجتمع إليه موادُّ الحرص، وكلما قَوِي زاد صاحبه في اللجاج، وربما نظَر العاشق إلى معشوقه، فمات فرحًا، وتراه إذا ذكَر مَنْ يهوى هرَب دمعه، واستحال لونه، وزادت شجونه.

وقال أفلاطون: هو قوة غريزية متولِّدة من وَسْواس الطمع وأشباح التخيُّل، نامٍ بنِصال الهيكل الطبيعي، مُحْدِث للشجاع جُبنًا وللجبانِ شَجاعة، يكسو كلَّ إنسان عكسَ طباعه. وقال أرسطاطاليس: العشق عَمى العاشق عن عُيوب المعشوق، والذي مَشى عليه الطبيب ابن سينا وغيرُه من الأطباء أنه مرضٌ وسواسي شبيه بالماليخوليا، يجلبه المرء إلى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والتماثيل، ويسمَّى العشقُ الميلَ المؤقَّت، وعلاقة بدون ارتباط، وحس بدون قصد. قال فولتير: إنه أميال شهوانية، وزخارف رومانية، ولذة تعقبها مرارة، فإن رُمْتَ معرفةَ حقيقة العشق، فانظر إلى بلابل الحدائق وحَمائمها.

وقال سيد طائفة الجنيد: العشق أُلْفَة رحمانية وإلهام شوقي أوجبَهما كرم الإله على كل ذي روح، وهي في الأنفس بقدر مَراتبها عند أربابها؛ فما أحدٌ إلا عاشق لأمر يستدلُّ به على قدر طبقته من الخلق.

وفي تزيين الأسواق قالت أعرابية: هو تحريك الساكن، وتسكين المتحرك.

وسأل المأمونُ ابنَ أكثم: ما العشق؟ فقال: سوانحُ للمرء تُؤْثِرها النفس ويَهيم بها القلب، فقال له ثُمامة: إنما شأنُك أن تُفتيَ في مسألة طلاق أو محرم، فقال المأمون: قل يا ثُمامة، فقال: العشق جليسٌ ممتع، وأليف مؤنِس، وصاحبٌ مالِك، وملكٌ قاهِر، مسالكه لطيفة، ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائرة، ملِكُ الأبدان وأرواحِها، والقلوب وخواطرِها، والعيون ونواظرها، والعقول وآرائها، وأُعْطي عِنان طاعتِها، وقِيَاد مُلكِها، وقوى نُصرتها، تَوارى عن الأبصار مدخله، وعَمِي عن القلوب مسلكه! فقال له المأمون: أحسنتَ يا ثمامة، وأمَر له بألف دينار.

وعن ابن العباس أن الهوى إلهٌ معبود، وقيل لعُذريٍّ: أتعدُّون موتكم في الحب مَزيَّة وهو من ضعف البنية ووهن العقيدة وضيق الرئة؟ فقال: أما والله لو رأيتم المحاجِرَ البُلْج ترشق بالعيون الدُّعْج من تحت الحواجب الزُّجِّ، والشفاهَ السُّمر تَبسِم عن الثنايا الغُر كأنها شَذر الدُّر لجعَلتُموها آلهتَكم.

وعندي أن العشق مُرقِّي النفوس ومُغذِّي الأفكار بلبان الآداب، الساعي بمن عَلِق به إلى رِفعة الاجتهاد، فهو أعظم الوسائل لترقية الشاب، لا سيما إذا انتظَم في سِلْك الأدباء، وعرَف حقائقَ المعرفة معرفةَ الحقائق؛ بدليل ما قيل عن «بهرام جور»: إنَّه لم يُرْزَق سِوى ولد، فأخذ في ترشيحه للمُلْك وهو ساقط الهمة، إلى أن اتفق المعلِّمون من الحكماء وغيرهم على أنه لا نافع له غير العشق، فسلَّط عليه الجواريَ يَعبَثْن به، إلى أن عَلِق بواحدة منهنَّ، فأمرها الملك بالتجنِّي عليه، وأنها لا تطلب إلا رفيع الهمة، ذا رغبةٍ في العِلم والملك، فكان بسبب ذلك مِن أجَلِّ ملوك الفرس وأحكمها. اﻫ.

وهو في عُرفي رأيٌ حميد، إن لم تُعارِضه مُماحَكات الأقارب، وتَحكُّم الأهل، وعَذْل المعارف، وشماتة الأعداء، فلا يَقطع مِن ثم سيفُ اللَّحْظ في دِرع نُسِجَ مما ذُكِرَ، إلا إن كان مِن جاذبٍ طبيعي بين القلوب يُقوِّي فيها الشعائر رغمًا.

وقال بعض حكماء الهند: ما علق العشق عندنا بأحد إلا وعزَّينا أهله فيه.

وقال أعرابي: العشق نبت؛ بَذرُه النظر، وماؤه الزيارة، ونماؤه الوصل، وقتله الهجر، ومصادره التجنِّي. وفي ديوان الصَّبابة كان يُقال: النظر من المحب موتٌ عاجل، ومن المحبوب سهمٌ قاتل، وقيل: رُبَّ عشق غُرِسَ من لحظة، وحربٍ جُنِيَ من لَفْظة! مَن أطلق طَرْفه كثر أسَفه. مَنْ كثرت لحَظاتُه دامَت حسَراته.

ونقل ابن خلِّكان في ترجمة العلَّاف أن العشق لا يكون إلا عن أريحيَّة في الطبع، ولطافة في الشمائل، وَجودٍ لا يتفق معه منع، وميلٌ لا ينفع فيه عَذْل. ووُجِد على صخر: العِشق مَلِك غَشوم ومسلَّط ظَلوم، دانت له القلوب، وانقادت إليه الألباب، وخضعت له النفوس، فالعقل أسيره، والنظر رسوله، واللَّحْظ عامله، والتفكر جاسوسه، والشغَف حاجبه، والهيمان نائبه، مستقَرٌّ غامض، ويَمٌّ تياره طافح فائض، وهو دقيق المسلك، عسير المخرج.

ونظر رجل إلى معشوقته فغُشِيَ عليه، فقال حكيم: إنه مِن انفراج قلبه اضطرَب جسمه، فقيل له: ما بالنا لا نكون كذلك عند النظر إلى أهلنا؟ فقال: محبة الأهل قلبية، وهذه روحانية؛ فهي أوقَدُ وألطف، وأعظمُ سرَيانًا وفعلًا. وقال الزارع: ودَّع هنديٌّ جارية كان يهواها، فذرفت إحدى عينيه، فغمض الأخرى عن الملاذ؛ عقوبة لها أربعًا وستين سنة حتى مات! وعندي أن في رواية الزارع بعضَ الزرع الذي لم يأتِ بالمطلوب.

أما سببه النَّفساني فقد قال بعض الأطباء: إنه الاستحسان والفكر، وعلامته نحافة البدن (وقد لا تكون)، وخلاء الجَفْن للسهر، وحركة الجفن ضاحكة، كأنه ينظر إلى شيء لذيذ، ونَفَسٌ كثير الانقطاع والاسترداد والصُّعَداء، ونبضٌ غير منتظم، ولا سيما عند ذكر أسماء وصفات مختلِفة؛ كرواية ابن سينا، ولا موضع لذكرها هنا. وإغضاءُ المحب عند نظر محبوبه إليه، ورمْيُه بطَرْفه نحو الأرض من مهابتِه له، وحيائِه منه وعظَمتُه في صدره، وحبِّ أهله وأقاربه، وجيرانِه وغلمانه، وساكنِ بلده.

ومما قاله في ديوان الصبابة عن الصَّيْمري أن عاشقًا عشِق الهواوِين من أجل صوت هاون محبوبته، فوُجِد في ترِكته عشَرةُ آلاف منها! إلى أن قال: والجنون فنون. وعندي أن صاحب ديوان الصبابة إنما أورَد هذا الخبر للتهكُّم لا غير؛ لأن ليس في حفظ هذا العاشقِ الهواوينَ مِن أمر يُستدَل منه على شدة عشقه؛ لأن العشق يصح أن يُقال فيه: إنه نوع من الجنون، ولكنه جنون يُحْمَد على غير هذا النمط.

ومراتب العشق عديدة: أولها الهوى، وهو مَيل نفس المحبوب، ثم العلاقة، وهي الحب الملازِم للقلب، ثم الكلَف، ثم العشق أي فَرْط الحب، وهو أمرُّ الأسماء، وقَلَّما نطقَت به العرب، والشغَف والجَوى … إلخ مما هو معروف، وقيل لبعض العلماء: إن ابنك قد عَشِق، فقال: الحمد لله! الآنَ رقَّت حَواشيه، ولَطُفَت معانيه، وصلحت إشاراته، وظَرُفَت حركاته، وحَسُنت عباراته، وجادت رسائله، وحَلَتْ شمائله، فواظَب على المليح، واجتنَب القبيح، وأرواح العشاق أرواح لطيفة، وأبدانهم ضعيفة خفيفة، وكلامهم يطرب الأرواح، ويجلب الأفراح، وأرى أن العاشق لا بد أن يكون فيه بعضُ مشابهة للمعشوق؛ إذ بتلك المشابَهة تَتمُّ الأُلْفَة، وتنعقد القلوبُ على الوداد.

ثم إن تعلُّق العاشق بالمعشوق أمرٌ لا ريب فيه؛ فهو مرتبط به تمامَ الارتباط، فإذا أصاب المحبوبَ ضرٌّ توجَّع المحبُّ لتوجُّعه، وقلق لقلقه، وهام لِهُيامه، وانقطع عن اللَّذات؛ لانقطاعه عنها، وإن يكن ذلك من الأمور الصعبة فإن العشق مَرارة فيها لذةٌ لا يشعر بها إلا من جرى في تلك الحلبة؛ فقد قال القنوي: دُعِيت إلى عيادة مريض أحَبه آخر، فدخَلنا عليهما والمحَب الصحيح يَذُب عن المريض، فكان إذا اشتكى المريضُ شيئًا شكى الآخرُ مثلَه، فقُدِّر أن قضى ونحن عنده، فحال مفارقته نفسه فارق الصحيح نفسه! كما وأن العاشق الذي يُبْتَلى بمعشوق قاسي القلب غير ميَّال إليه ولا مبالٍ بصبابته؛ مرحوم، وأي رحمة! يُقاسي مِن العذاب أمَرَّه. وقال أبو الهذيل العلَّاف: لا يجوز في دورة الفلَك، ولا في تركيب الطبيعة، ولا في القياس ولا في الحِسِّ، ولا في الممكن ولا في الواجب؛ أن يكون محبٌّ ليس لمحبوبه إليه ميل. اﻫ. وذكر بعضهم أن سبب المحبة ثلاثة أشياء: إما رؤية صورة، أو سماع نَغْمة، أو سماع صفة؛ فهذه الثلاثة هي أصل ينبوع المحبة؛ إذ لا يخلو حبُّ أحد من أن يَستند إلى شيء منها، وقد قيل:

ثلاث محبات فحب علاقة
وحبُّ تِملَّاق وحبٌّ هو القتلُ

وقال بعض الحكماء: إن الله — عز وجل — جعل القلب أميرَ الجسد ومَلِك الأعضاء، فجميعُ الجوارح تَنْقاد له، وكل الحواسِّ تُطيعه، وهو مديرها، وبإرادته تنبعث، ووزيره العقل، وعاضده الفهم، ورائده العينان، وطليعته الأذنان، وهي في باب النقل سيَّان، لا يَكتُمانِه شيئًا، ولا يَطوِيان عنه سرًّا — يعني العينَ والأذن. وقيل لأفلاطون: أيُّهما أشد ضررًا؛ السمع أم البصر؟ فقال: هما للقلب كالجناحَين للطائر، لا ينهض إلا بهما، ولا يستقل إلا بقُوَّتهما، وربما قُصَّ أحدهما، فتحامل بالآخر على تعب ومَشقة! قيل: فما بال الأعمى يُحبُّ وما رأى؟ فقال له: لذلك قلتُ: إن الطائر قد ينهض بأحد جناحيه، ولا يستقل طيرانًا، فإذا اجتمعا كان ذَهابه أمضى وطيرانه أقوى. اﻫ. وأمثال هذا في الشعر كثيرة ترد في الكتاب.

أما ما ذكره صاحب نشوة السكران ممَّا نقله جميعَه عن تزيين الأسواق وديوان الصَّبابة وسِواهما من كتب العرب؛ فهو مما لا يُعْتَمد على روايته؛ لكونه اتَّبع في ذلك غيرَ منهج العرب أصحاب التأليف الذين متى نقَلوا الفقرة أتَوا على ذكر قائلها ومَنْ أسنَدها إليه، فيتجنَّبون في كل ذلك الحذفَ والترقيع بما يَخطر للناقل من الآراء التي في تغييرها سوءُ فَهم، بحيث يعسر تأدية المعنى بعبارات جديدة يُلفِّقها أولئك؛ ليتوهَّم الناس أن تلك الأقوال من مُبتكَراتهم.

وسُئِل أحدهم: هل سَلِم أحد من العشق؟ قال: نعم، الجِلْف الجافي، الذي ليس له فضل … اﻫ. وعندي أن الحب ما كان في النفوس الأبيَّة مجردًا من كل شهوة جسدية، ناشئًا عن مفاعيل الحُسن في القلب؛ بدليل ما قاله لسان الدين الوزير صاحب كتاب المحبة — رحمه الله: «إنما الحب الحقيقي حبٌّ يُصعدك ويُرقِّيك، ويُخلِّدك ويُبقيك، ويُطعِمك ويَسقيك، ويُخلِّصك إلى منصة السعادة ممن يُشْقيك، ويجعل لك الكون رَوْضًا، ومَشرَب الحقِّ حوضًا.» إلى أن قال بعد شرح طويل: «المحبة رِقَّة، ثم فكرة مُسترَقَّة، ثم ذَوق يطير به شَوق، ثم وجَل لا يَبقى معه طَوق.» اﻫ.

وشرط المحبة أن تكون مَيلًا بلا نَيل، وشرطًا بلا جزاء؛ لئلا تَزول عند زوال العوض، مثال ذلك أنه قيل لأعرابي ليلةَ تزويج محبوبته: أيَسرُّك أن تظفر بها؟ فقال: نعم، قيل: فما كنتَ تصنع؟ قال: أطيع الحب في لَثْمها، وأعصى الشيطان في إثمها! وقال إبراهيم بن عرفة:

كم قد ظَفرتُ بمن أهوى فيَمنعُني
عنه الحياءُ وخوفُ اللهِ والحذَرُ
وكم خلَوتُ بمن أهوى فيُقنِعُني
منه الفكاهةُ والتَّحديثُ والنظر
أهوى الحِسانَ وأهوى أن أُجالِسَهم
وليس لي في حَرامٍ منهمُ وطَرُ
كذلك الحبُّ لا إتيان معصيةٍ
لا خيرَ في لذةٍ من بعدها سقَرُ

وفي تزيين الأسواق قال سعيدُ بن عقبة الهمَذاني لأعرابيٍّ حضَر مجلسه: ممَّن الرجل؟ قال: من قوم إذا عَشِقوا ماتوا، فقال: عُذريٌّ وربِّ الكعبة! ثم سأله عِلةَ ذلك؟ فقال: لأن في نسائنا صَباحةً وفي فِتياننا عِفَّة. اﻫ.

ومهما يَكُن من اختلافات العلماء وأئمة العرب في تعريف العشق فإن الأخبار التي ذُكِرَت تكفي لتؤيِّد المذهب الأرجحَ أنه ممدوح، وعَنيتُ بالعشق الممدوح ما كان منزَّهًا عن كل ما يَشين المرء من مثل الغرَض والشهوة؛ لأن هذا زائل، فالعشق المسبَّب عن زائلٍ زائلٌ طبعًا، وقيل: وشَتْ جارية بجميل وبُثينة إلى أبيها، وأنه الليلةَ عندها، فأتى وأخوها مُشتمِلَين معتمِدَين سيفَيْهما لقتله، فسمعاه يقول لها بعد شكوى شغفه بها: هل لك أن تُطفئي ما بي بما يَفعل المتحابَّان؟ فقالت: قد كنتَ عندي بعيدًا من هذا، ولو عُدتَ إليه لن ترى وجهي أبدًا، فضحك، ثم قال: والله ما قلتُه إلا اختبارًا، ولو أجبتِ إليه لضَربتُكِ بسيفي هذا إن استطعتُ، وإلا هجَرتُك! أما سمعتِ قولي:

وإني لأرضى مِن بُثينةَ بالذي
لوَ ابْصرَه الواشي لقَرَّت بَلابِلُهْ
بلى وبأنْ لا أستطيعَ وبالْمُنى
وبالأمَلِ المرجوِّ قد خاب آمِلُهْ
وبالنظرة العَجْلى وبالحَول يَنقضي
أواخرُه لا تلتقي وأوائلُهْ

فقالا: لا ينبغي لنا إيذاءُ مَنْ هذه حالاته، ولا منعُ التزاور، وانصرَفا.

وعندي أن هذه العشيرة استحقت أجمل المديح، عنَيتُ بها بَني عُذْرة؛ لأن كلًّا منهم لطيفٌ خفيف، يقتطف من الأحاديث أسْلسَها، ومن العبارات أرَقَّها، فهم قوم امتزجَت الرقةُ بأرواحهم، فأُعجِب برقيقين قد استَرقَّا القلوب، وخفيفين قد ملكا الأفئدة.

وقال في تحفة الظراف: العُشاق معذورون على كل حال، مغفورٌ لهم بجميع الأقوال والأفعال؛ إذ العشق إنما دهاهم على غير اختيار، بل اعتراهم على جَبْر واضطرار، والمرء إنما يُلام على ما يستطيع من الأمور، لا في المقضيِّ عليه والمقدور.

وقال ابن عياض: لو رزَقني الله دعوة مُجابة، لدعوتُ الله بها أن يغفر للعشاق؛ لأن حركاتهم اضطرارية لا اختيارية. وذهب غيره من الأطباء أنه اختياري؛ بدليل ضمير الإنسان وفكرته؛ إذ بهما يمكنه التسلُّط على ما أراد. وفي ديوان الصبابة أن العشق يختلف باختلاف ما جُبِلَ عليه الإنسان من اللطافة ورقة الحاشية، وغلظ الكبد، وقساوة القلب، ونفور الطباع. ثم إن الحسن على قول بعضهم معنًى لا تناله العبارة، ولا يحيط به الوصف، وهو أيضًا مركَّب من أشياء وضَّاءة وصباحة، وحُسن تشكيل وتخطيط ودموية في البشَرة. وقال ابن الخطاب: إذا تمَّ بياض المرأة في حُسن شعرها فقد تمَّ حُسنها. أما أقسام الحسن فهي الظُّرف في القَدِّ، والبراعة في الجِيد، والرِّقة في الأطراف، والحلاوة في العينين، والملاحة في الفم، والجمال في الأنف، والظرف في اللسان، والرشاقة في القد، والنعومة في الخد، والبرَاقة في الأسنان، ثم المَلاحة في العين (ونُكتة الملاحة الدَّعَج)، والحسن في الفم (ونُكتته الفَلَج)، والطَّلاوة في الجبين (ونكتتها البلَج)، والرَّونق في الخد (ونكتته الضرَج).

ويُستحسَن في المرأة طول أربعة: أطرافها، وقامتها، وشعرها، وعنقها، وقِصَر أربعة: يديها، ورجليها، ولسانها، وعينيها، وبَياضُ أربعة: لونها، وفرقها، وثغرها، وبياض عينيها، وسَواد أربعة: أهدابها، وحاجبها، وعينيها، وشَعرها، وحُمرة أربعة: لسانها، وخدها، وشفتيها مع لعَسٍ، وإشرابٍ في بياضِها بحُمْرة.

ومن تشابيه الشعراء تشبيهُ الأعضاء بالحروف؛ كتشبيه الحاجب بالنون، والعين بالعين، والصُّدغ بالواو، والفم بالميم، والطَّرْف بالصاد، أو الثَّنايا بالسين، والطُّرة المضفورة بالشين، والقامة بالألف. وبالفواكه؛ فشبَّهوا الخدود بالتفاح، والشفة بالعُنَّاب، والثديَ بالرُّمان. وبالزهور؛ فشبَّهوا الوَجْنة بالورد، والعين بالنرجس، والعذار بالآس. وبغير ذلك؛ كالشفة بالعَقيقِ وبالمَرْجان أيضًا، والأسنانِ باللُّؤلؤ، والوجه بالبدر، والفَرق بالصبح، والشعر بالليل، والجدائل بالحيَّة، والصُّدْغ بالعقرب، والوجه بالماءِ والنار، والرِّيق بالخمر. ولكل هذه أمثالٌ شعرية تَرِد في الكتاب؛ منها قول الحريري:

سألتُها حين زارَت نِضْوَ بُرقعِها الْـ
ـقاني وإيداعَ سمعي أطيبَ الخبَرِ
فزحزحَتْ شفَقًا غَشَّى سَنا قمَرٍ
وساقطَت لؤلؤًا مِن خاتَمٍ عطِرِ
وأقبلَت يوم جدَّ البينُ في حُللٍ
سُودٍ تعَضُّ بنانَ النادمِ الحصِرِ
فلاحَ ليلٌ على صبحٍ أقلَّهما
غصنٌ وضرَّسَتِ البِلَّورَ بالدُّررِ

هذا بعضُ ما اطلعت عليه مما يتعلق بموضوع الكتاب، جعلتُه مقدمةً كحديقة يقتطف القارئ منها ما يَطيب، واللهَ أسألُ وإليه أُنيب.

سليم

قال عمر بن أبي ربيعة:

هيهات من أمة الوهَّابِ مَنزلُنا
إذا حلَلْنا بسِيفِ البحر من عدَنِ
واحتلَّ أهلُك أجيادًا وليس لنا
إلا التذكرُ أو حظٌّ من الحزَنِ
لو أنها أبصرَتْ بالجزْع عَبْرتَهُ
ظنَّت بصاحبها أنْ ليس مِن وطني
ما أنسَ لا أنْسَ يومَ الخيفِ موقفها
وموقفي وكلانا ثَم ذو شجَنِ
وقولَها للثُّريا وهْي باكيةٌ
والدمعُ منها على الخدَّين ذو سَننِ
بالله قولي له في غيرِ مَعْتبةٍ
ماذا أردتَ بطول المُكْث في اليمَنِ؟
إن كنتَ حاولتَ دُنيا أو رَضيت بها
فما أخذتَ بذاك الحجِّ مِن ثمن

وللأبيات رواية يطول شرحها.

ولأبي بكر بن باجة في عبد حبشي كان يَهواه وبلَغه خبرُ موته:

ألا يا رِزقُ والأقدارُ تجري
بما شاءت نشَأْ أو لا نشاءُ
هلَ انتَ مُطارِحي شَجْوي فتَدري
وأدري كيف يُحتمَل القضاءُ
يقولون الأمورُ تكون دورًا
وهذا فَقْده فمتى اللقاءُ؟!

وحُكِيَ عنه — وهي من الغرائب — أنه مات له حبيب، فبات مع أحد أصحابه عند ضريحه ومثواه، وكان قد عُرِف وقتُ كسوف البدر بصناعة التعديل، فردَّد في نفسه بيتَيْن في خطاب القمر، أتقنهما ولحَّنهما، حتى إذا كان قُبيلَ وقت الكسوف بقليل تغنَّى بهما بذلك الصوت المشجي، واللَّحن يَسوقُ الشوقَ ويشجي، وهما:

شقيقُك غُيِّب في لَحدِهِ
وتُشرِق يا بدرُ مِن بعدِه
فهلا كسَفتَ فكان الكسوفُ
حدادًا لبستَ على فَقدِه

فكسف القمر في الحال، وعُدَّت له هذه من العجائب!

وكتب جلال الدولة إلى أبي الطيب الطبري سؤالًا بقوله:

يا أيها العالمُ ماذا ترى
في عاشقٍ ذاب مِن الوَجْد؟
من حبِّ ظبيٍ أهْيَفٍ أغيَدٍ
سهلِ المحيَّا حسَنِ القدِّ؟
فهل تَرى تقبيلَه جائزًا
في النَّحر والعينَين والخدِّ
من غير ما فُحشٍ ولا رِيبةٍ
بل بعفافٍ جائزِ الحدِّ؟
إن أنت لم تُفتِ فإني إذَنْ
أَصِيح مِن وَجْدي وأَستَعْدي

فأجابه بقوله:

يا أيها السائلُ إني أرى
تقبيلَك العينَ مع الخدِّ
يُفضي إلى ما بعدَه فاجتنِبْ
قُبلتَه بالجِدِّ والجهدِ
فإنَّ مَنْ يرتَعُ في روضةٍ
لا بد أن يَجني من الوردِ
وإن مَنْ تحسبُه ناسكًا
لا بد أن يُغلَب بالوَجدِ
فاستشعِرِ العفَّة واعصِ الهوى
يسلَمْ لك الدينُ مع الودِّ
تُغنيك عنه كاعبٌ ناهِدٌ
تضمُّها بالمِلكِ والعَقدِ
تملك منها كلَّ ما تَشتهي
من غير ما فُحشٍ ولا ردِّ
هذا جوابي لقتيل الهوى
فلا تكن بالحقِّ تَستعدي

وقال لسان الدين بن الخطيب:

أشكو لِمَبسِمه الحريقَ وقد حَمى
عني لَمَاه المشتهَى ورحيقَهُ
يا ريقَه حيَّرتَني ومطَلْتَني
ما أنت إلا باردٌ يا ريقَهُ

ولابن عبد ربِّه من أبيات بعث بها إلى غلام كان ينوي سفرًا، فعاقته السماءُ بالأنواء والأمطار:

هلا ابتكرتَ لِبَينٍ أنت مُبتكِرُ
هيهات! يأبى عليك الله والقدَرُ
ما زلتُ أبكي حذارَ البَينِ ملتهبًا
حتى رثى ليَ فيك الريحُ والمطرُ
يا بَردَه مِن حيا مُزْنٍ على كبدي
نيرانها بغليل الوُدِّ تَستعِرُ
آليتُ أن لا أرى شمسًا ولا قمرًا
حتى أراك وأنت الشمسُ والقمرُ

ولابن الحاج الغرناطي:

قد قارب العشرينَ ظبيٌ لم يكن
ليرى الورى عن حبِّه سُلوانًا
وبدا الربيعُ بخدِّه فكأنما
وافى الربيع يُنادِم النُّعمانا

ولصريع الغواني مسلم بن الوليد قوله:

فأقسمتُ أنسى الدَّاعياتِ إلى الصِّبا
وقد فاجأَتْها العينُ والسِّترُ واقعُ
فغطَّت بأيديها ثمارَ نُحورِها
كأيدي الأسارى أثقلَتْها الجوامعُ

ولجريرٍ قوله:

سقينَ البَشامَ المِسكَ حين رشَفْنَهُ
رشيفَ الغُريريَّات ماء الوقائعِ
إذا ما رجا الظَّمآن وِردَ شريعةٍ
ضربنَ خيال الموت دون الشرائعِ

ولآخرَ في رقيبٍ أحوَل:

أحوى الجنونِ له رقيبٌ أحوَلٌ
الشيءُ في إدراكِه شيئانِ
فيَلوحُ في عينيَّ منهُ واحدٌ
ويلوح في عينيه منه اثنانِ
يا ليتَه ترَك الذي هو مبصِرٌ
وهو المخيَّر في الحبيبِ الثاني

وللسلطان المنصور وهو معنًى حُقَّ فيه أن يُقال: أقوالُ السلاطين سلاطينُ الأقوال:

وكيف بقلبٍ في هواه مقلَّبٌ
وأنَّى له بين الضُّلوعِ قيامُ
فيا شادِنًا يَرعى الحَشا أنت في الحَشا
أمَا لِمَحلٍّ أنت فيه ذِمامُ

ولآخرَ:

قال الطبيبُ لقومي حين جَسَّ يدي
هذا فتاكم وربِّ العرشِ مسحورُ
فقلتُ: ويحكَ قد قاربتَ في ضعفي
بعضَ الصواب فهلا قلتَ: مَهجورُ

وتُرْوَى: غيرَ الصواب.

وللشيخ ناصيف اليازجي:

أجارَتَنا هل للنَّسيمِ وُصولُ
إليكِ فلي منه الغداةَ رَسولُ
مضى وأراهُ لم يَعُد فلعلَّه
قضى نَحبه إذ راح وهْو عَليلُ
تمنَّعْتِ بين البيضِ والشُّوس والقَنا
وكلٌّ بِمَنع الطَّارِقين كَفيلُ
وكان بوُدِّي لو برَزتِ إلى الحِمى
وأنتِ على عهد النِّفار جَفولُ
أيا دارَهم بالوادِيَين قريبةً
نراكِ ولكن ما إليكِ وصولُ
لَئِن عَمُرَت منكِ البيوتُ فإنما
لديكِ قلوبُ العاشقين طلولُ
لنا فيك خودٌ تَحسد السُّمرُ عِطْفَها
فيبدو على أعطافهنَّ ذُبولُ
عزيزةُ قومٍ حبُّها قد أذلَّني
نعَم كلُّ مَنْ يهوى الجمالَ ذليلُ
أقامَت عبيدُ الخال في الخدِّ حارسًا
على الوِرْد أن يَسطو عليه جَهولُ
وأحرزَتِ الدِّرْياق في الثَّغر إذْ رأت
أفاعيَ ذاك الشَّعرِ وهْي تَجولُ
تذكَّرتُ ما لم أنسَ من وقفةٍ لنا
خلالَ الثَّنايا حين جدَّ رحيلُ
بكَتْ فاستهلَّ الدمعُ في صَحنِ خدِّها
فحاكى صِداءَ السَّيف وهو صَقيلُ
تقول نساءُ الحي: إني خليلُها
كذَبْنَ فما للغانياتِ خَليلُ

وقال المعلم بطرس كرامة الحِمْصي من غزَل قصيدة مدح بها الأمير بشيرًا الشهابي المشهور، عندما أتته خِلْعةٌ منه:

جاءت تَميسُ وقدها الخطَّارُ
هيفاء تَحسد وجهَها الأقمارُ
ودَنَتْ تَروم تحيةً فتسابقَت
للِقائها الألبابُ والأفكار
تهتزُّ من تحت الحليِّ وتنثَني
كالغصن أشرقَ فوقَه النوَّارُ
تَجْلو عَوارضَ ذي حَبابٍ عاطرٍ
يَصبو إليه الخمرُ والخمَّارُ
سمَحت بنِضْو لِثامها لكنَّه
يحميه عقربُ صُدغِها الدوَّارُ
آنستُ في الخدَّين نارًا عندما
سفَرَت وفي قلبي لذلك نارُ
جعلَت تُغازِلني بغُنْجِ لحاظِها
حتى سَكرتُ وما لديَّ عُقارُ
فرأيتُ من ذاك المحيَّا كوكبًا
يهفو إليه الكوكبُ السيَّارُ
عجبي لِطُرَّة شعرِها وجبينِها
أنَّى يكون مع الظلامِ نهارُ؟
باتَت تُنادِمُني وفي أجنابِها
أثرُ الحياء وللهوى آثارُ
تُملي عليَّ من الحديثِ طرائفًا
فكأنها عند الحديث هَزارُ
فكأنَّ ما في خدِّها في لفظها
وكأنَّ أقداح السُّلاف تُدارُ
تَجني لحاظي وردَ وجنتِها فيا
لله ما فازتِ به الأنظارُ
أشكو لديها ما لقيتُ من الهوى
فتَزيدُ وَجْدًا والوقارُ وقارُ
حتى الصباح بدا فقُمْتُ مودِّعًا
والدمع من أجفاننا مِدرارُ
جاءت وما ضنَّت بحُسن زيارةٍ
لكنَّ أوقاتَ الصفاء كِثارُ
فوَدِدتُ أن الليل دام وزِدتُه
من ناظِرَيَّ ولم تكن أسحارُ
يا لائمي أنِّي جُنِنتُ بحبِّها
أقصِرْ فليس على المتيَّم عارُ
لو كنتَ تدري ما الصَّبابة والصبا
كانت لديك أُقيمَت الأعذارُ
الله يعلم ما أراش بمُهجتي
عند التداني لَحظُها السحَّارُ
فكأنما أجفانُها لما رنَتْ
سيفُ الأميرِ الصارمُ البتارُ

وللشافعي:

مَرِض الحبيبُ فعُدتُهُ
فمَرضتُ من لهَفي عليه
شُفِيَ الحبيبُ فعادني
فشُفِيتُ مِن نظري إليه

وللشيخ خليل اليازجي فيما يُقاربه:

مرض الحبيبُ بجسمه مِن لُطفِه
فمَرِضتُ مَعْه بقلبيَ الولْهانِ
شرب الحبيبُ دواءه فشُفِي به
وأنا شربتُ دواءه فشفاني

وقال أمير المؤمنين سليمانُ الظافر:

عجبًا يهاب الليثُ حدَّ سِناني
وأهاب لحظَ فواترِ الأجفانِ
وأقارعُ الأهوالَ لا متهيِّبًا
منها سوى الإعراضِ والهجرانِ
وتملَّكَت نفسي ثلاثٌ كالدِّما
زُهْرُ الوجوهِ نَواعمُ الأبدانِ
ككواكبِ الظلماء لُحْنَ لناظرٍ
من فوق أغصانٍ على كُثْبانِ
هذي الهلالُ وتلك بنتُ المشتري
حُسنًا وهذي أختُ غصنِ البانِ
حاكمتُ فيهنَّ السُّلوَّ إلى الصبا
فقضى بسلطانٍ على سلطانِ
فأبَحنَ من قلبي الحِمى وثنَيْنَني
في عزِّ ملكي كالأسير العاني
لا تَعذِلوا ملِكًا تذلَّل للهوى
إن الهوى عزٌّ وملكٌ ثاني
ما ضرَّ أني عَبدُهنَّ صبابةً
وبنو الزمان وهُنَّ من عُبْداني
إن لم أطع فيهنَّ سلطان الهوى
كلَفًا بهنَّ فلستُ مِن مروانِ
وإذا الكريمُ أحبَّ أمَّن إلْفَه
خطبَ العلى وحوادثَ السلوان
وإذا تَجارى في الهوى أهلُ الهوى
عاش الهوى في غِبْطة وأمانِ

وللشيخ ناصيف اليازجي:

أي ذنب ترى وأية زلَّة
للمُحبِّ الذي تحلَّلتَ قتْلَهْ
كلُّ ما تَرتضيه سهلٌ ولكنْ
عثَراتُ الآمالِ ليست بسَهلَة
يا لَقومي لقد سَباني غزالٌ
تقتل الأُسْدَ مِن عِذارَيْه نَملَة
ذابلُ الجَفنِ فاترُ الطرْف لا بِدْ
عَ ففي خدِّه من النار شُعلة
هو دائي ولا أقول الدَّوا منـ
ـه لئلا يقولَ حبي لعِلَّة
نقَل الثَّغرُ عن صِحاح الثنايا
أنه الجوهريُّ فاخترتُ نقلَهْ
وحَكى قوسُ حاجِبَيكِ عن الرِّيـ
ـشِ من الهدْب إنَّ لحْظَك نبلَهْ

ولغيره:

وقائلةٍ ما ذا الهُزالُ وذا الضَّنى
فقلتُ لها قولَ الْمَشوق المتيَّمِ
هواكِ أتاني وهو ضيفٌ أُعزُّه
فأطعمتُهُ لحمي وأسقيتُه دمي

ولآخر:

يا هلالًا أضَا وصُبحًا أنارَا
لامُ خدَّيك صيَّرَتْنا حَيارى
صِحْت مُذْ ذقتُ من لماك عقارَا
إن هذا الطَّلا وهذا العذارَا
فتَكَا في الأنام حتى العَذارى
لا تقولَنْ عذارُه إذ تَبدَّى
سَوسنٌ أم بنَفْسجٌ حفَّ وِردَا
لا ولا اللامُ في الكتابة عمْدَا
إنما النملُ دبَّ يطلب شهْدَا
فرأى النارَ في الطريقِ فدارا

وقال أحدُ شعراء العصر مُشطِّرًا البيت الأخير:

إنما النملُ دَبَّ يطلب شهدًا
مِن مَسيل الثَّغر الشهيِّ فغارا
وأراد المرورَ من فوق شمسٍ
فرأى النارَ في الطريق فدارا

وحُكِيَ عن أبي تمام أنه سَمع جارية تُغنِّي بالفارسية، فشجَاه صوتها فقال:

ولم أفهَمْ مَعانيَها ولكن
شجَتْ قلبي فلم أحمل شَجاها
فكنتُ كأنني أعمى مُعنًّى
يحبُّ الغانياتِ ولا يراها

وقال كُثيِّر عزة:

وأدنَيْتِني حتى إذا ما سبَيتِني
بقولٍ يُحِلُّ العظمَ سهلَ الأباطحِ
تجافَيتِ عني حينَ لا ليَ حيلةٌ
وغادرتِ ما غادرتِ بين الجوانحِ

وله أيضًا:

قضى كلَّ ذي دَيْن فوفَّى غريمَه
وعزَّةُ مَمطولٌ مُعنًّى غَريمُها

ويُروى أن أمَّ البنين أختَ عُمر بن عبد العزيز قالت لعزة: ما ذاك الدَّيْن الذي لِكُثير عليك؟ فقالت: وعَدتُه قُبْلَةً فأخلَفت، قالت أم البنين: أنجزيها وعليَّ إثمها! وبلغ الخبرُ عمرَ فلامها، حتى ألزمَها أن تُطْلِق أربعين رقَبة.

وقال مظفَّر بن إبراهيم الأعمى في الاعتذار عن العشق مع العمى:

قالوا عَشِقتَ وأنت أعمى
ظبيًا كَحيلَ الطَّرْف ألْمَى
وجلاه ما عاينتَها
فتقول قد شَغفتك وهْمَا
وخياله بك في المنا
مِ فما أطافَ ولا ألَمَّا
مِن أين أرسل للفؤا
دِ وأنت لم تنظُرْه سَهمَا؟
ومتى رأيتَ جَماله
حتى كَساك هواه سُقما
وبأيِّ جارحةٍ وصَلْـ
ـتَ لوَصفِه نثرًا ونَظْما؟
والعينُ داعيةُ الهوى
وبه تتمُّ إذا استَتمَّا
فأجبت إني مُوسَويُّ
العشقِ إنصاتًا وفَهمَا
أهوى بجارِحة السَّما
عِ ولا أرى ذاتَ المسمَّى

ولابن نُباتة:

إني إذا آنَستُ همًّا طارقًا
عاجَلتُ باللَّذات قطْعَ طريقِهِ
ودعَوتُ ألفاظَ المليح وكاسَهُ
فنَعمتُ بين حديثِه وعتيقِه

ولابن الخطيب — وروايتُه لغيره باطلة:

بَرى جسَدي فيكم غرامٌ ولَوعةٌ
إذا سكَن الليلُ البهيم تَثورُ
فلولا أنيني ما اهتدى نحوَ مَضْجعي
خيالُكمُ بالليل حين يَزورُ
ولو شئت في طيِّ الكتاب لزُرتُكم
ولم تَدْرِ عني أحرفٌ وسطورُ

وللباخزري في المعارضة:

عاتبتُ طيفَ الذي أهوى وقلتُ له:
كيف اهتديتَ وجُنحُ الليلِ مَسدولُ
فقال: آنستُ نارًا من جَوانحِكمْ
يُضيء منها لدى السارين قِنديلُ
فقلتُ: نارُ الجوى معنًى وليس لها
نورٌ يُضيءُ فما ذا القولُ مقبولُ
فقال: نِسبتُنا في الأمر واحدةٌ
أنا الخيالُ ونار الشوق تَخْييلُ

ولآخر:

وأهيَفَ ظلَّ بالمرآةِ مُغرًى
يواظِبُ رؤيةَ الوجهِ المليحِ
وقال: طلبتُ معشوقًا مليحًا
قلَّما لم أجِدْه عَشِقتُ روحي

ولعمر ابن أبي ربيعة:

أمِن آل نعْمٍ أنتَ غادٍ فمُبْكِرُ
غداةَ غدٍ أو رائحٌ فمُهجِّرُ
لحاجةِ نفسٍ لم نقل في جوابها
فتُبلِغ عذرًا والمقالةُ تَعذِرُ
أشارَت بمِدْراها وقالت لتِرْبِها
أهذا المغيريُّ الذي كان يذكرُ؟
لئن كان إيَّاه لقد حالَ بَعدنا
عن العَهد والإنسانُ قد يتغيَّرُ

وله وأجاد:

حبُّكم يا آلَ ليلى قاتِلي
ظهَر الحبُّ بجسمي وبطَنْ
ليس حبٌّ فوقَ ما أحبَبتُكم
غيرَ أن أَقتل نفسي أو أُجَنْ

وقال أبو النجاب: رأيتُ في الطواف فتًى نحيف الجسم بيِّنَ الضعف، يلوذ ويتعوَّذ ويقول:

ودِدتُ بأن الحب يُجْمَع كلُّهُ
فيُقْذَف في قلبي ويَنفلِق الصدرُ
فلا يَنقضي ما في فؤادي من الهوى
ومِن فرحي بالحبِّ أو يَنقضي العمرُ

فقلت: يا فتى أما لهذه البِنْية حرمةٌ تمنعك من هذا الكلام؟ فقال: بلى والله، ولكن الحب ملأ قلبي، فتمنيت المنى، والله ما سرَّني ما بقلبي منه ما فيه أميرُ المؤمنين من الملك، وإني أدعو أن يقصر الله في عمري ويجعله ضجيعي في قبري، دَريتُ به أم لم أدر، هذا دعاني، وله قصدت، وفيه رَغِبت، فما يُعطي الله سائر خلقه! قال هذا ومضى.

ولأبي بكر الشِّبلي:

إن المحبِّين أحياءٌ وإن دُفِنوا
في التُّرب أو غَرِقوا في الماء أو حُرِقوا
أو يُقْتَلوا بسيوفٍ وَسْط معركةٍ
أو حتفَ أنفٍ وإن أضناهمُ الفرَقُ
لو يَسمعون مُنادي الحبِّ صاح بهم
يومًا للبَّاه مَنْ بالحب يَحترقُ

ولعمر ابن أبي ربيعة:

طال ليلي وتَعنَّاني الطرَبْ
واعتراني طولُ همٍّ ووصَبْ
أرسلَتْ أسماءُ في معتَبةٍ
عتَبتْها وهْي أحلى مَن عتَبْ
إذ أتى منها رسولٌ موهِنٌ
وجدَ الحيَّ نيامًا فانقلَبْ
ضرَب الباب فلم يَشعر به
أحدٌ يَفتح بابًا أن ضرَبْ
قال أيقاظٌ ولكن حاجةٌ
عرَضَت منكمُ عنها فاحتجَبْ
ولِعَمدٍ ردَّني فاضطُهِدَت
بيمينٍ حَلْفة عند الغضَبْ
يَشهد الرحمنُ لا يجمَعُنا
سقفُ بيتٍ رجبًا بعد رجَبْ
قلتُ حِلًّا فاقْبَلي معذرتي
ما كذا يَجزي محبًّا مَنْ أحَبْ
إن كفي لكِ رهنٌ بالرضا
فاقبَلي يا هندُ١ قالت: قد وجَبْ

وللشيخ ناصيف اليازجي من أبيات:

فديتُكِ من مودَّعةٍ تولَّت
وخيَّم شخصُها في السر وهْمَا
إلى الجبَلَين منا اليومَ شوقٌ
وإن لم نَعرفِ الجبلَين قِدْمَا
إذا أبصَرتِ نارَهما تمنى
فؤادي أنه لو كان فحمًا
رأيتُ لعينها قوسًا وريشًا
فما كذَّبتُ أنَّ هناك سهمَا

وللمعلم بطرس كرامة في لابس أسود:

أقبلَت تَنْجلي وفي مِعطفَيها
نظَرُ العاشقين مثل النطاقِ
ما تَرى بُرْدها وقد صبَغتهُ
من سوادِ القلوب والأحداقِ

وله:

مرَّت مُعذِّبتي يومًا فقلتُ لها:
كُفِّي القتالَ وفُكِّي قيد أسراكِ
قالت: أزورُك لولا الليلُ قلتُ لها:
لِطلعة البدر جزءٌ مِن مُحيَّاكِ
قالت: أتذكر ماضي العهد؟ قلتُ لها:
ما كان يا ظبيةَ الوَعْساءِ أوفاكِ
قالت: أراكَ فصيح القول قلتُ لها:
لثَمتُ ثَغْر عَذولي حين سمَّاكِ

وله في العيون الزُّرق:

إن تَغزُنا بالعيون الزُّرق لا عجَبٌ
فإن زُرْق القنا زُرقٌ أسنَّتُها
وإنْ بِحُلَّتِها الخضرا زهَتْ ميلًا
فغصنُ بانِ النَّقا الميَّاسُ قامتُها
أو أنكرَت يومَ جد البينِ سفكَ دمي
فشاهِدي خدُّها الوردي وقامتُها

ولولده إبراهيم بك كرامة:

جاءت تَزور من الإفرَنجِ غانيةٌ
وشعرُها طال فينا ليلُه الحلَكي
تقول: صِفْني وفُسْطاني فقلتُ لها:
أنت الغزالةُ حَلَّت قُبَّة الفلَكِ

وكان رجل اسمه القاسم الشركي يرعى عُنَيزات، وكلما دُعِيَ لا يجيب، فمرَّ به صبي يومًا يغنِّي:

إنَّ هواك الذي بقلبي
صيَّرني سامعًا مُطيعَا
أخذتَ قلبي وغمْضَ عيني
سلبتَني العقل والهجوعَا
فدع فؤادي وخُذ رُقادي
فقال: لا، بل هما جميعَا

فاعترى القاسمَ اضطرابٌ شديد، وأقبل يَستعيد الغلام، فخاف الغلامُ منه ومضى، فرجع هائمًا إلى رجل يقال له: أحمد الفاخوري وكان عارفًا بالأشعار، فجعل يردِّد الأبياتَ عليه ثلاثة أيام وهو يضطرب حتى مات!

وقال الشاعر:

تولَّعَ بالعشق حتى عَشِقْ
فلما استَقلَّ به لم يُطِقْ
رأى لُجَّة ظنها موجةً
فلما تمكَّن فيها غَرِقْ

ولإبراهيم أفندي حوراني قوله في صباه من قصيدة:

في وجنتَيْه لكلِّ شمسٍ مطلَعُ
وبمُقلتَيه لكل نفسٍ مصرعُ
قَمرٌ له في كل صُدغٍ عقربٌ
من فرعه، ومن البروج البُرقعُ
وهَبَت لواحظُه الحواجبَ أسهُمًا
ما زال في أقواسِهنَّ يُنزَّعُ
والخال يتلو في صفيحة خدِّه
خطَّ العذارِ فكلُّ خال يردعُ

ومنها:

ولقد وقفتُ على ربوع أُولي الهوى
فأخافني ذاك العراءُ البَلْقعُ
عَفَت الديار وبُدِّدَت أجسامُهم
فكلاهما أيدي الدمارِ تقطَّعُ
ترَكوا لنا تلك الرُّبوعَ نذيرةً
تُبدي لنا كيف الأحبةُ تَصنعُ
ويَدُ الهوى كتَبت على أرجائها
أن الغرامَ هو القضا لا يُدْفَعُ

ومنها:

ولقد أقولُ لِمن جفَوْني وامتطَوْا
عِيسَ النوى والقلبُ راح يُشيَّعُ
يا ساكني أطلالَ قلبيَ رحمةً
كيلا تذوبَ كما الفؤاد الأضلعُ
خلَّفتُموني مُفرَدًا متمكِّنًا
في حبكم فلِمَا بكم لا أُجمَعُ
وخفَضتُموني مذ نصَبتُ لنُبلكم
هدفًا فحتامَ الجَفا لا يُرفعُ
مِلتُم إلى الواشي بإشعارِ الثَّنا
فصرَفتُموني والموانعُ أربعُ
إعجامُ صبري وازديادُ تولُّهي
وصفاتُكم وجموعُ عَذْلٍ تَلذعُ
بين المحبِّ وطيفِ ظبيِ كِنَاسِكم
لم يبقَ للتمييز عندي موضعُ
طال النَّوى بمديدِ وافرِ هجرِكم
والقربُ يُبطئ والمدامعُ تُسرِعُ
وأهاج وَجْدي عاذلي في قوله:
دع عنك أمرًا ليس فيه مطمعُ
إياك برْقَ ثُغورهم ونُحورهم
فالبرق من وقْعِ الصَّواعق يسطعُ
يا عاذلي رَجْواك في نُصحي كمَن
يَرجو من الآلِ الرِّواء فيُخدَعُ
لا يَنجع الشَّهدُ المصفَّى للذي
يهوى فكيف النُّصح فيه يَنجعُ؟
يا أيها الوَجْد احْتكِم إني فتًى
إن سُمْتَني كأسَ المنيَّة أجرَعُ

ومنها:

لله دَرُّ أخي الصبابةِ إنه
بلَظى الغرام مدرَّعٌ ومقنَّعُ
والحبُّ لو وَلِج الجبالَ رأيتَها
تَصبو إل ذِكر الحبيب وتركعُ

ولابن اللبَّانة، أبو بكر محمد بن عيسى — وهو من النسيب الحسن:

هلا ثناكِ عليَّ قلبٌ مُشفِقُ
فترَيْ فراشًا في فراشٍ يحرقُ
قد صرتُ كالرَّمَق الذي لا يُرْتَجى
ورجَعتُ كالنفَس الذي لا يُلحَقُ
وغَرِقتُ في دمعي عليكِ، وغمَّني
طرفي، فهل سببٌ به أتعلَّقُ؟
هل خدعةٌ بتحية مَخفيَّةٍ
في جنب موعدِكِ الذي لا يَصدُقُ؟
أنتِ المنيَّة والمنى، فيكِ استوى
ظِلُّ الغمامة والهجيرُ المحرِقُ
لكِ قَدُّ ذابلة الوشيجِ ولونُها
لكنْ سِنانُكِ أكحَلٌ لا أزرقُ
ويُقال: إنكِ أيكةٌ حتى إذا
غنَّيتِ قيل: هو الحمام الأوْرقُ
يا مَنْ رشَقتُ إلى السُّلوِّ فرَدَّني
سبقَت جفونُكَ كلَّ سهمٍ يَرشُقُ
لو في يدي سحرٌ وعندي أُخْذةٌ
لجعلتُ قلبَكَ بعضَ حين يعشقُ
لِتَذوقَ ما قد ذقتُ من ألم الجوى
وتَرِقَّ لي مما تراه وتُشفقُ
جسدي من الأعداء فيك لأنه
لا يَستبينُ لطَرْف طيفٍ يَرمقُ
لم يَدرِ طيفُك موضعي من مَضجعي
فعَذرتُه في أنه لا يَطرُقُ

ولآخر قوله:

مسألةٌ جئتُك مستفهِمًا
عنها وأنت العالم المستشارْ
علامَ تحمرُّ وجوهُ الظِّبي
وأوجُه العشاقِ فيها اصفرارْ؟

فأجابه بعضهم:

يحمرُّ وجهُ الظبيِ إذْ لحْظُهُ
سيفٌ على العشاقِ منه احْورارْ
واصفرَّ وجهُ الصبِّ لما نأى
والشمسُ تُبقي للمغيبِ اصْفرارْ

وللِسان الدين الأندلسي قولُه من قصيدة:

ليَ اللهُ مِن نفسٍ شَعاعٍ ومُهجةٍ
إذا قدَحَت لم يَخبُ من زَنْدِها سقطُ
ونقطةِ قلبٍ أصبحَت منشَأ الهوى
وعن نقطةٍ مفروضة ينشَأ الخطُّ

ومثله لغيره:

بَرهنَ إقْليدسُ في فنِّهِ
وقال في النُّقطةِ لا تنقسِمْ
ولي حبيبٌ فمُه نَقطُه
موهومةٌ تُقسَم إذ يبتسِمْ

ولآخر:

محبَّتي لا تنتَهي
لعِلَّةٍ تُبطِلُها
كأنَّها دائرةٌ
آخرُها أولُها

ولابن الخطيب في الساقي:

كيف أمَّنتُما على الشُّرب ظبيًا
لحْظُه في القلوبِ غيرُ أمينِ
راح يَسقي فصَبَّ في الكأس نَزرًا
ثقةً منهُ بالذي في العيونِ

قال ابن زيدون يتشوَّق إلى ولَّادةَ ابنةِ المهدي ومَعاهِده بقرطبة، وضمَّن بيت المتنبِّي المشهور:

هل تَذكُرون غريبًا عادَه الشجَنُ
من ذِكرِكم وجَفى أجفانَه الوسَنُ
يُخفي لَواعِجَه والشوقُ يفضحُه
فقد تساوى لدَيه السرُّ والعلَنُ
يا ويلتاهُ أيَبقى في جوانحِه
فؤادُه وهو بالأطلالِ مرتَهنُ
وأرَّق العينَ والظلماءُ عاكفةٌ
ورقاءُ قد شفَّني أو شفَّها الحزَنُ
فبتُّ أشكو وتشكو فوقَ أيكتِها
وبات يَهْفو ارْتياحًا بينَنا الغصُنُ
يا هل أُجالس إخوانًا أحبُّهمُ
كنَّا وكانوا على عهدٍ وقد ظعَنوا
أوْ تحفَظون عهودًا لا أضيِّعُها
إن الكرام بحفظ العهد تُمتحَنُ
إن كان عادَكمُ عيدٌ فرُبَّ فتًى
بالشوق قد عاده من ذِكركم حزَنُ
وأفردَتْه الليالي عن أحِبَّتِه
فبات ينشدها مما جنى الزمنُ
بم التعلُّلُ لا أهلٌ ولا وطنٌ
ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكَنُ

ولآخر وهو بديع:

فِلاحَةُ مثليَ ممقوتةٌ
وإن أعجَب البدءُ منها وراقْ
زَرعتُ اللقاءَ وعالَجتُهُ
فلم أستفِدْ منه إلا الفِراقْ

وقال شاكر أفندي شقير — والأصل عن التركية:

لما رأيتُ بوَردِ خدِّك نقطةً
سوداءَ مثلَ المسك فوق لهيبِ
ورأيتُ قلبيَ كالفراشةِ حائمًا
مِن حولها بتحرُّقٍ ووَجيبِ
وعَلمتُ أن سهامَ لَحظِك مزَّقَت
أحشايَ حين دعَوت غيرَ مُجيبِ
أيقنتُ أن الخال حبَّته وقد
صارت علامةَ قلبيَ المجذوبِ
فبك الحياةُ الآن صار قيامُها
فإذا صدَدت أمُتْ بلا تَثْريبِ

ولابن الجزري:

نتفدَّاك ساقيًا قد كَساك الْـ
ـحُسن مِن فَرْقِك المضيءِ لِساقِكْ
تُشرِق الشمسُ من يدَيك ومِن فيـ
ـك الثُّريا والبدرُ من أطواقِكْ
أوَليس العجيبُ كونَك بدرًا
كاملًا والمحاقُ مِن عُشَّاقِكْ
فتنةٌ أنتَ إذ تُميت وتُحيي
بتلاقيك مَن تَشا وفِراقِكْ
لستَ مِن هذه الخليقة بل أنْـ
ـتَ مَليكٌ أُرسِلتَ مِن خلَّاقِكْ

وقال الشيخ خليل اليازجي:

أقول لها وقد رشَقَت فؤادي
بأسهُمِ لَحظِها عند اللقاءِ
حَذارِ فأنتِ في قلبي فأخشى
عليك السهمَ منهُ عن خَطاءِ
فقالت: إنني أَشفي فعَيني
بها سرُّ الجراحة والشفاءِ
فقلت لها: إذَنْ فاشفي جراحي
فقالت: سوف تَحظى بالدواءِ

وقال نجيب أفندي المشعلاني في هذا المعنى:

عجبًا أما تخشَين سهمَ اللَّحظ إذ
ترمين في قلبي وأنتي فيه
قالت: إذا رمَتِ السهامُ لَواحظي
أرنو لِمَجروحي وذا يَشفيهِ

وقال ابن اللبَّانة:

فؤادي مُعنًّى بالحِسان مُعنَّتُ
وكلُّ موقًّى في الصِّباء موقَّتُ
ولي نفَسٌ يَخفى ويَخفِتُ رقةً
ولكنَّ جسمي منه أخفى وأخفَتُ
وبي ميِّتُ الأعضاءِ حيٌّ دلالةً
غرامي به حيٌّ وصبريَ ميِّتُ
جعلتُ فؤادي جَفْن صارم جفنِه
فيأمر ما يَصْلى به حين يُصلَتُ
أذِلُّ له في هَجرِه وهْو ينتمي
وأسكُن بالشكوى له وهْو يَسكتُ
وما انْبَتَّ حبلٌ منه إذْ كان في يدي
لِرَيْحان رَيْعان المشيبةِ مَنبتُ

ولأبي الحسن البرقي:

أُجيلُ الطَّرْف في خدٍّ نضيرِ
يردِّد ناظِرَي نظَري إليهِ
إذا رمدَت بحُمرتِه جُفوني
شَفاها منه إثمِدُ عارِضَيهِ

ولابن ديلاق الأندلسي:

سقَتْني بيُمناها وفيها ولم أزَلْ
يُجاذِبُني مِن ذا ومِن هذه سُكْرُ
ترشَّفْتُ فاها إذ ترشَّفتُ كاسها
فلا والهوى لم أدرِ أيُّهما الخمرُ؟

وللسان الدين بن الخطيب في معشوقٍ أحول:

وأحْوَلَ يُعْدي القلبَ سهمُ جُفونهِ
فتُضحي صحيحاتُ القلوبِ به مَرْضى
رأى الحسنُ أن اللَّحْظَ منه مهنَّدٌ
فحرَّفه كيما يَكون له أمْضى

ولآخرَ في شرب الدخان:

وما شُربُنا الدُّخَّانَ عيبٌ وإنما
أردنا به معنًى، قِفوا وتأمَّلوا
أدَرْناه فيما بينَنا فلعلَّها
إلى ثَغْر مَن نهوى به نتَوصَّلُ

ولابن الخطيب الأندلسي:

ولما رأَت عَزْمي حثيثًا على السُّرى
وقد رابَها صبري على موقفِ البَينِ
أتَتْ بصِحاح الجوهريِّ دموعُها
فقابلتُ مِن دمعي بمختصَر العينِ

ولي في الاعتذار عن النوم إبان انتظار المحبوب:

أفْدي الذي زارَني ليلًا فعاتبَني
أيَّانَ أدركَني والعينُ في أرَقِ
أجَبتُه: إنَّ عيني مُذ جلَيتَ لها
راقَت وقد سجدَت للفاترِ الحدقِ

ولشاكر أفندي شقير:

البَينُ علَّم مِثلَنا الأشعارا
إذْ لم نَجِد للشوقِ فيه قَرارا
قد كنتُ غادرتُ القريضَ وأُخمِدَت
نيرانُه وقصَدتُ منه فِرارَا
حتى دعا هذا الفِراقُ قَريحتي
وأعاد لي ممَّا مضى تَذْكارا
بقيَتْ شرارتُه التي لا تنطفي
والبُعد أضرَمها فعادت نارا
قلتُ: استرحتُ من الحبيبة والنَّوى
فأتى الحبيبُ ينبِّه الأفكارا
سبحانَ مَنْ جعَل المحبةَ فِطرةً
في القلب حتى يُظهِر الأسرارا
فالقلبُ لا يُنجيه مِن شَرَك الهوى
حذَرٌ ولو عَمِل الجناحَ وطارا
طَورًا يحبُّ الغانياتِ وتارةً
يَهْوى الكرامَ ويعشق الأحرارا
والكل حبٌّ قد تساوى فعله
شرفًا أقام لأهلِه أو عارا
حتى نرى الحيوانَ يعشقُه الفتى
وجميعُ ما في القلبِ نال قرارا
في ذا جرى القدَرُ المتاح ومَن ترى
إن كان يَعقِل عارَض الأقدارا
فاعلم فديتُك أنَّ عِلمك صادقٌ
قلبي أسيرَ وِدادِكم قد صارا
ولكَمْ تراكُم في الليالي مُقلتي
وأذوب وَجدًا كي أراك نهارًا
حتى وَدِدتُ تكون أيامي دُجًى
أو لو أصادِفُ في النهار غِرارا
لم تمضِ مذ غِبتم علينا ليلةٌ
إلا ونحوَكمُ فؤادي سارا

ولغيره في فتاةٍ سوداء:

يكون الخالُ في وجهٍ قبيحٍ
فيَكسوه الملاحةَ والجمالا
فكيف يُلام معشوقٌ على مَن
يراها كلَّها في العينِ خالا

ولعمر ابن أبي ربيعة:

أحبُّ لحبِّك مَن لم يكُن
صفيًّا لنفسي ولا صاحبَا
وأبذُل مالي لمَرْضاتِكم
وأعتبُ مَنْ جاءكم عاتبَا
وأرغَبُ في ودِّ مَنْ لم أكُن
إلى ودِّه قبلَكم راغِبَا
ولو سلَك الناسُ في جانبٍ
من الأرض واعتزلَت جانبَا
ليمَّمتُ طينتَها إنني
أرى قُربَها العجبَ العاجِبَا

ولابن عبد ربِّه:

يا ذا الذي خطَّ العذارُ بخَدِّهِ
خطَّين هاجا لوعةً وبَلابِلَا
ما صحَّ عندي أن لحْظَك صارمٌ
حتى لبستَ بعارِضَيك حَمائلَا

وقال صاحبُ نَفْح الطِّيب: أخبرني بعضُهم أن الخطيب أبا الوليد بن عيال حجَّ، فلما انصرف تطلَّع إلى لقاء المتنبِّي واستشرف، ورأى أن لُقْياه فائدة يكتسبها، وصِلة فخرٍ لا يحتسبها، فسار إليه، فوجده في مسجد عمرِو بن العاص، ففاوَضه قليلًا، ثم قال له: أنشدني لمليحِ الأندلس — يعني ابن عبد ربِّه — فأنشده:

يا لؤلؤًا يَسْبي العقولَ أنيقَا
ورَشًا بتقطيع القلوب رفيقَا
ما إن رأيتُ ولا سمعتُ بمثلهِ
دُرًّا يَعود من الحياءِ عَقيقَا
وإذا نظرتُ إلى مَحاسنِ وجههِ
أبصرتُ وجهَك في سَماهُ غريقَا
يامَن تَقطَّع خَصرُه من رقَّةٍ
ما بالُ قلبك لا يكون رقيقَا

فلما أكمَل إنشادها استعادها منه، وقال: يا ابنَ عبد ربِّه، لقد تأتيك العراق حبوًا.

ولشاكر أفندي شقير — وفيه الجناس المزدوج:

قلبي على أثَر المراحلِ راحلُ
وهوايَ في تلك المنازلِ نازلُ
يا راحلين ولم نَفُز بوداعِهم
مهلًا فإني بالتقابُلِ قابِلُ
قد طال بُعدكمُ فسارَت إثرَكم
كتبي ودمعي في الرَّسائلِ سائلُ
لم تُنصِفوا في الحبِّ فيما بيننا
وأنا على الحبِّ المعادلِ عادلُ
ما عندَكم جزءُ الذي في مُهْجتي
لكنْ أنا عن ذَا التغافُلِ غافِلُ
أوَلا يكونُ على الأقل تحيَّةٌ
منكم لمن هو للشَّمائلِ مائلُ؟

ولأبي عمر الأندلسي:

مَن حاكمٌ بيني وبين عَذولي
الشجْوُ شَجوي والعَويلُ عويلي
أقصِرْ فما دينُ الهوى كفرٌ ولا
أعتدُّ لَومَك لي مِن التَّنزيلِ
عجبًا لقومٍ لم تكن أذهانُهم
لِهوًى ولا أجسامُهم لنُحولِ
دقَّت مَعاني الحبِّ عن إفهامهم
فتأوَّلوهُ أقبحَ التأويلِ
في أيِّ جارحةٍ أصونُ مُعذِّبي
سَلِمَت من التعذيبِ والتنكيلِ
إنْ قلتَ: في عيني، فثَمَّ مَدامعي
أو قلتَ: في قلبي، فثَمَّ غَليلي

ولي في فتاة مُبرقَعة:

يا مَن يلوم غزالةً سَدلَت على
بدرِ المحيَّا بُرقعًا منَع النظَرْ
ذا مانعٌ من ضر سيف اللَّحْظ إذ
تَرْنو ومِن سهمِ العيون إذا ابتدَرْ
خوفَ انكسافِ الشمس صانَت وجهها
والشمسُ يَكسفُ ضوءُها نورَ القمَرْ

ولإبراهيم أفندي الحوراني في صِباه:

حمَل النسيمُ لنا عبيرَ شَذاكا
ظبيَ الخيام فرُحتُ مِن أسراكا
ورياضُ رَبعِك ضاع نشرُ خُزامِها
سحرًا فضاع القلب في مَغْناكا
مغنًى توهَّمَت السماءُ رِحابَه
لما رأيت أُهيله أملاكا
وظننتُ سُكَّان المضاربِ أنجُمًا
لما رأيتُ خِيامَه أفلاكا
أغصانُه سَكْرى بصَهْباء الصِّبا
وحِسانه سَكْرى بخَمر صِباكا
ورياضُه ريَّانة بدمِ الأُلَى
أودى بهم ظمَأٌ لِماءِ لَماكا
وسيولُه مِن مُقلة الصبِّ التي
فقدَت لذيذ رُقادِها بجَفاكا
فيهِ لقيت الوَجْد قلبي والضَّنا
وأضعتَ رُشدَك واتبعتَ هواكا
وعصاك صبرُك عن حبيبك عندما
ألقى إلهُ الحبِّ فيه عَصاكا
وشُغِلتَ عن آرامِ رامةَ بالصفا
حتى قلاك على الغَضا وشَواكا
وسلَوْت عن رَشْف الْمُدام بأدمُعٍ
من مُهجةٍ ذوَّبتَها بلَظاكا
منها غلا ظَمأُ الغليلِ وما شَفى
تَسْكابُها إلا غليلَ عِداكا
يا قاصدًا وادي العَقيق تحيةً
لعريبِ حُسنٍ نازلينَ هُناكا
وانْشُد فؤادي في خمائلِ ضالهِ
لكن حذارِ من الْمَهى تَلْقاكا
من كل صائدةِ القلوب مريضةِ الْـ
أجفانِ تَسْبي بالدلالِ نُهاكا
وإذا لقيتَ القلب بين حِسانه
إياك نارَ غرامِه إيَّاكا
وإذا هُديتَ إلى الهُيام فلا تدَعْ
حُسنَ الدعاء لمن إليه هَداكا

ومنها:

وإذا سُئِلت عن العميد فقل له:
تبقى سليمًا كان ذاك فِداكا
فارحَم ثَراه بنظرةٍ يَحيا بها
أو عَبْرة فيها يَنال رضاكا
وارفُقْ بمهجته المقيمة بالحِمى
واحفَظ مودَّتها وخَفْ مولاكا
يا رَبْع مَن ملَك الفؤادَ بدَلِّه
لا زال بدرُ جماله بعُلاكا

ومنها:

سبحان مَنْ ولَّاه أربابَ الهوى
يَقْضي على هذا ويُحيي ذاكا
مَلك العبادَ بسيفِ مُقلتِه ولم
يَتركْ لمملَكةِ السُّلوِّ مِلاكا
وهواه لولا ساحراتُ لَحاظِه
ما جُنَّ قيسُ الحبِّ في ليلاكا
يرعى النَّجومَ وهُن من أجفانِه
تَهمي لبرقٍ وامِضٍ برُباكا
ويظل ملتفِتًا إلى أرض الصفا
يترقَّب الحدواءَ من ريَّاكا
أحييتَ مقتول البِعاد بنَشرها
وأمتَّ سُلوانَ المحب ولاكا
وتركتَني ثَمِلًا بذكرِك مُنشدًا
طوبى لمن يَحظى بلَثْم ثراكا
ويرى مَليك الحسن من أوصافه
نصَبَت لقلبي في الهوى أشراكا
حتامَ يوردُني مَوارِد هجرِه
دهري ويَسقي العاشقين هلاكا
طُبع الزمان على العناد فلو به
رُمْت البعادَ لجاد لي بلِقاكا
فكفاك يا بدرًا بمُنعَرج اللِّوى
بالصدِّ تنشر للقتال لِواكا
والغنجُ مِن سود اللَّواحظ ينتَضي
بيضًا جرَحتَ بها حشى مُضناكا
رفقًا بمن يهواك قد بَلغ الزُّبى
سَيلُ الجفا، رفقًا بمَن يهواكا
يا قاتلي بجَماله ودَلاله
لم يَرمِني سهمُ الهوى لولاكا
عطفًا على الصبِّ الذي لا يبتَغي
من ربِّه بعد الرِّضى إلاكا
دَنِفٌ أقام على الفؤاد جفونَه
حربًا وفرسانُ الملام عراكا
فغدا على طَوْر الغرام مُكلَّمًا
والنار يُضرِمها به خدَّاكا
مُلقًى بسجن النَّائبات مقيدًا
بغرامه لا يستطيع حَراكا
عُذريُّ حبٍّ لا يَرى في حبه
حظًّا سوى أنْ لا يحب سواكا
يا أيها الصبُّ الذي بنُواحه
لِنَوى الأحبة قد أذَبْت حَشاكا
تَجْني السَّقامَ بمُقلتَيك وتدَّعي
أنَّ الحَمام مهيِّجٌ لبُكاكا
لو كان للوَرْقاء نطقٌ أنشدَت
علَّمتنا نوحَ الغرامِ كفاكا
يا باخلًا بالوصلِ هل مِن رحمةٍ
لحليفِ وَجْدٍ بالحياة فَداكا؟
ركِبَ الظلامَ وسار يخترقُ الفَلا
نحو الرُّبوع وغادرَ الإدراكا
وأتته أرواحُ الخزام أدلَّةً
خوفَ الضَّلالة عن سبيلِ حِماكا
وتمزَّقَت حُجبُ الظلام ببارقٍ
أهداه في طيِّ النَّسيم سَناكا
وتسنَّمَت عصْفَ الرياح جِيادُه
تجري كدَمْع الصبِّ يوم نَواكا
ترمي سَنابِكُها الشرارَ كأنها
وُقِدَت أضالِعُها بنار هواكا
حتى وصلنا حاجرًا وحِسانُه
ألقَت عليَّ من الدلال شِباكا
مغنًى قساورةُ المهى وظِباؤهُ
عربٌ حكَت بلَحاظِها الأتراكا

ومنها:

يا رَبَّة الطَّرْف الذي طعَن الحشى
طعنًا يقُدُّ الدارِعين دِراكا
لا تُنكِري ولَهي العظيمَ فإنه
لو حلَّ في الصخر الأصمِّ أحاكا
قسمًا بشمسِك يا مُحيَّا والضحى
وبليلِ ذاك الفرعِ إذ يغشاكا
ما كابدَ الوَلهانُ أهوالَ السُّرى
لو لم تُهيِّج وَجْدَه ذِكراكا
يا جَفنَها رفقًا بمن أهلَكْتَه
يا أضعفَ الأجفان، ما أقواكا!
أنسيتَ سفْكَ دمي وسُهْدي بالنَّوى
أم كنت تَلهو عنهما بكراكا؟
يا عِطْفَها عَطفًا على مُتَولِّهٍ
كلِفٍ عليلٍ بالنُّحولِ حَكاكا
زِدتَ الجفا ربِّي يَزيدُك رقَّةً
وتظل في أهل الهوى فتَّاكا

ولابن إسرائيل وقد حيَّاه غلامٌ بتفاحة:

لله تفاحةٌ وافى بها سَكني
فسكَّنَت لهبًا في القلبِ يَستعِرُ
كقَرْصة الْمِسك وافاني الغزالُ بها
وغُرَّة النَّجم حيَّاني بها القمرُ
حمراءُ في صورة المرِّيخ عاطرةٌ
يُزْري بنشر الحُميَّا نشرُها العطِرُ
أتى بها قاتِلي نحوي فهل أحدٌ
قبلي تَمشَّى إليه الغصنُ والثمرُ؟

وله في كحَّال:

يا سيدَ الحكماء هذي سُنةٌ
مسنونة في الناس أنت سنَنْتَها
أوَكلما كلَّت سيوفُ جفونِ مَن
سفَكت لواحِظُه الدماءَ سنَنتَها

ولإبراهيم الحائكِ في طباخ:

هوَيتُ طباخًا سَلاني وقَد
قلا فُؤادي بعدَما ردَّهُ
محترقًا إذ لم يزَلْ بالجَفا
يَطبَخ لي أحمضَ ما عندهُ

ولأديب بك إسحاق من أبيات:

بأبي أَفدِي التي قالَت سَلوا
هل رأى العشاقُ مِثلي في الملالْ؟
أن يَكونوا رسْلَ ألحاظي سَلوا
فبِخدِّي للذي يَهوى بلالْ
سحَرَتهم لحَظاتي فابْتُلوا
بهواها يا له سِحرًا حلالْ
وجمالي كلَّ ذي قلب فَتنْ
ولأربابِ النُّهى قد قمرا
وسَلوا في الحب شيخًا وفتًى
يَرعَيان الليلَ فيَّ القمرَا

ولي من أبيات:

وظبيٍ شقَّ قلبي مِن هواهُ
وقاطعَني وأعلنَ بالبعادِ
فقلتُ علامَ هجْرك لي وروحي
قد اتحدَت بروحك بالودادِ
فقال: رأيتُ ما قد شقَّ سهمي
وليس يلازِمُ المشتقَّ هادي

ولأبي نُواسٍ — وقد وصله كتاب عنان وفيه محوٌ:

أكثري المَحوَ في كتابكِ وامحيـ
ـهِ إذا ما محَيتِه باللِّسانِ
وامْرُري بالمحاءِ بين ثنايا
كِ العِذاب المفلَّجاتِ الحِسانِ
إنني كلما مررتُ بسطرٍ
فيه محوٌ لطَعتُه بلِساني
تلك تقبيلةٌ لكم من بعيدٍ
أُهدِيَت لي وما بَرِحتُ مكاني

ولآخر:

روَّحَني عائدي فقلتُ له:
لا، لا تَزِدْني على الذي أجِدُ
أما ترى النارَ كلَّما خمدَت
عند هبوبِ الرياحِ تتَّقدُ

وقال غيره:

وقائلةٍ ما بالُ جسمك جاسِمٌ
وعهدي بأجسام المحبِّين تَسقَمُ
فقلتُ لها: قلبي بسرِّيَ لم يبُحْ
لجسمي، فجِسمي بالهوى ليس يَعلَمُ

ولغيره:

دعوتُ بماءٍ في إناء فعِفتُه
وقلتُ: طلبتُ الماءَ أحضرتَ لي الرَّاحا
فأعرض عنِّي باسمًا وهْو قائلٌ:
هو الماءُ لكنْ لونُ خدِّي له لاحا

ولسليمان أفندي بستاني عن الفارسية:

وحقِّكِ أدركَتْ شفَتيَّ رُوحي
ومن شفَتَيكِ تنتظر الإفادَة
فدَيتُكِ عجِّلي بالأمرِ واقْضي
بموتِ اليأسِ أو عيشِ السعادَة

وحكى ولَد الفرزدق قال: اجتمع أبي وجميلٌ وجريرٌ وكُثيِّر ونُصَيْب، فقال بعضهم لبعض: لا تجتمعون مثلَ هذه، فهَلمُّوا نفعل شيئًا نُذْكَر به في الزمان، فقال جرير: هل لكم أن نُسلِّم على سُكينةَ ابنة الحسين؛ فلعلها تكون سببًا لما أردتُم، فقالوا: نِعْمَ الرأي! وانطلقوا، فطرقوا الباب، فخرجَت جارية ظريفة، فبلَّغها كلٌّ السلامَ، فدخلَت ثم عادت، فقالت: أيكم القائل:

سرَت الهمومُ فبِتْنَ غيرَ نيامِ
وأخو الهمومِ يَروم كلَّ مَرامِ
درَسَت مَعالِمَها الرَّواسمُ بَعدنا
وسِجال كلِّ مجلجلٍ سجَّامِ
ذُمَّ المنازلَ بعد منزلة اللِّوى
والعيشَ بعد أولئك الأيامِ
«طرَقَتْكِ صائدةُ الفؤاد وليس ذا
وقتَ الزيارة فارجِعي بسلامِ»
يجري السِّواك على أغَرَّ كأنهُ
برَدٌ تَحدَّر مِن مُتونِ غَمامِ
لو كنتِ صادقةً بما حدَّثتِنا
لوَصَلتِ ذاك وكان خيرَ تمامِ

قال جرير: أنا قلتُه. قالت: فما أحسَنتَ ولا أجملت، ولا صنعتَ صُنع الحرِّ الكريم، لا ستَر الله عليك كما هتكتَ سترك وسِترها! ما أنت بكَلفٍ ولا شريف حين ردَدتَها وقد تجشَّمَت إليك هولَ الليل. هلَّا قلتَ:

طرَقَتك صائدةُ الفؤاد فمَرحبًا
نفسي فداؤُكِ فادخُلي بسلامِ!

خذ هذه الخمسَمائةِ درهمٍ واستعِنْ بها على سفرك. ثم انصرفَت إلى مولاتها وقد أفحمَتْنا وكلٌّ من الباقين يتوقَّع ما يُخجِله، ثم خرجَت فقالت: أيُّكم القائل:

ألا حبَّذا البيتُ الذي أنا هاجِرُهْ
فلا أنا ناسيهِ ولا أنا ذاكِرُهْ
فبُورِكَ من بيتٍ وطال نَعيمهُ
ولا زال مغشيًّا وخُلِّد عامِرُهْ
هو البيتُ بيتُ الطَّوْل والفضلِ دائمًا
وأسعدَ ربِّي جدَّ مَنْ هو حاذِرُهْ
به كلُّ موشيِّ الذِّراعَين يرتعي
أصول الخُزامى ما يُنقَّرُ طائرُهْ
هما دَلَّياني مِن ثمانينَ قامةً
كما انْقضَّ بازٌ أقتَمُ الريشِ كاسرُهْ
فلما استوَتْ رِجْلايَ في الأرض قالَتَا
أحيٌّ يُرجَّى أم قتيلٌ نُحاذرُهْ؟
فأصبحتُ في أهلي وأصبح قصرُها
مُغلَّقةً أبوابُه ودَساكرُهْ

قال لها أبي (يَعني الفرَزدق): أنا قلتُه. فقالت: ما وُفِّقتَ ولا أصَبْت، أما آسيتَ بتعريضك من عودةِ صدق محمودة! خذ هذه الستَّمائة درهم، فاستعن بها. ثم انصرفَت إلى مولاتها، ثم عادت فقالت: أيكم القائل:

فلولا أن يُقال: صبَا نُصَيبٌ
لقلتُ: بنفسيَ النشَأُ الصِّغارُ
بنفسي كلُّ مهضومٍ حَشاها
إذا ظلَّت فليس لها انتصارُ

فقال نُصيبٌ: أنا قلته. فقالت: أغزَلتَ وأحسنت، ولا كَرُمت؛ لأنك صبَوتَ إلى الصغار، وتركتَ الناهضات بأحمالها. خذ هذه السبعَمائة درهم، فاستعن بها. ثم انصرفَت إلى مولاتها، ثم عادت فقالت: أيكم القائل:

وأعجبَني يا عَزُّ منكِ خلائقٌ
كرامٌ إذا عُدَّ الخلائقُ أربعُ
دُنوُّكِ حتى يَذكر الجاهلُ الصِّبا
ومَدُّكِ أسبابَ الهوى حين يَطمَعُ
وإنكِ لا تدري غَريمًا مَطلْتِه
أيَشتدُّ إنْ لاقاكِ أو يتضرَّعُ
وإنكِ إن واصلتِ أعلمتِ بالذي
لديكِ، فلم يُوجَد لك الدهرَ مَطمعُ

قال كُثيِّر: أنا قلتُه. قالت: أغزلتَ وأحسنت. خذ هذه الثمانِمائةِ درهم فاستعن بها. ثم انصرفت إلى مولاتها، ثم خرجت فقالت: أيكم القائل:

لكل حديثٍ بينهنَّ بشاشةٌ
وكلُّ قتيلٍ بينهنَّ شهيدُ
يقولون: جاهِدْ يا جميلُ بغزوةٍ
وأيَّ جهادٍ غيرَهن أريدُ؟
وأفضلُ أيامي وأفضلُ مَشهدي
إذا هِيجَ بي يومًا وهنَّ قُعودُ

فقال جميل: أنا قلته، قالت: أغزلتَ وأحسنت، وكرمت وعففت، ادخل. قال جميل: فلما دخلتُ سلَّمت، فقالت سُكَينة: أنت الذي جعلتَ قَتيلنا شهيدًا، وحديثَنا بشاشة، وأفضلَ أيامك يوم تذُبُّ عنا وتدافع، ولم تتعدَّ ذلك إلى قبيح. خذ هذه الألفَ درهم، وابسُط لنا العذر؛ أنت أشعَرُهم. اﻫ. قلت: ولما اطَّلَع قاضي القضاة تاجُ الدين ابنُ السُّبكي على قول جرير الواردِ أولًا وهو: (طرَقَتْك صائدةُ الفؤاد … البيتَ) قال يردُّ عليه:

يا ليتَ شعري هل أحبَّ
جريرُ إذ أبدى اعتذارَهْ
إن كان يَصدُقُ حبُّهُ
فالقلبُ منهُ كالحجارَة
إذْ قال قولًا لم يقلْـ
ـهُ عاشقٌ أو ذو جَسارة
طرَقَتك صائدةُ القلو
بِ وليس ذا وقتَ الزيارة

وأقبل الشعراء من بعده، وردُّوا عليه الردَّ المشبع، وأذاقوه شرَّ ما جنى؛ فمنه ما قاله القاضي المذكور:

هذا مَقالك يا جريـ
ـرُ لديَّ أشنعُ ما يُقالْ
هل ثَمَّ وقتٌ ليس يَصْـ
ـلُحُ للزيارةِ والوصالْ؟!
أم قيلَ قبلَكَ: فارجِعي
ولذاك ذنبٌ لا يقالْ؟!
أم كان قلبك مِن حديـ
ـدٍ ليس تُؤذيه النِّبالْ؟!

وقال شهاب الدين أحمد ابن أبي حَجلة يردُّ على جرير:

وا خَجْلتا لكَ يا جريـ
ـرٌ في المحافلِ والمشاهِدْ
طرَقَتك صائدةُ القلو
بِ فكنتَ صبًّا غيرَ صائدْ
فردَدْتَ طيفَ خيالِها
هذا خَبالٌ منك فاسِدْ
الطَّيفُ أعشقُ منك إذ
وافى إليك وأنتَ راقدْ
لا عاد مِثلَك ما بَقي
في الناس للعشاقِ عائدْ

وقال أزاد الهندي يرد عليه:

يأتي على مَنْ هام وقتٌ لا يكو
نُ له إلى الحسناءِ فيه رُكونُ
طرقَته صائدةُ الفؤاد فردَّها
لا تَعذِلوهُ فالجنون فنونُ

قلت: ولو اطلع جريرٌ على هذه الأقوال لما فات قائليها بعضُ نفَثاته المشهورة، ولعل له في طردها بعضَ العذر، وهم يلومون، فقلت:

طرَقَته صائدةُ الفؤاد فردها
خوفَ الرقيبِ وخشيةً مِن عاذلِ
إذ كان ذاك الوقتُ ليس بصالحٍ
لزيارةٍ، وكذاك شأنُ العاقلِ
ولكلِّ شيءٍ موعدٌ، أوَمَا ترى؟!
فوزُ العَجول محددٌ بالآجلِ

ولبعضِهم لما اطَّلع على أبياتي:

طرَقتْه صائدةُ الفؤاد فصدَّها
درءًا لسهمِ شماتة الأضدادِ
ورمى غَوايتَها بصائب نَبلِه
كي لا يُقال سطَتْ على الآسادِ

وللمُعلم بطرس كرامة:

يا مليكَ الحسن في خدِّك خالْ
جاء يدعو للهوى مَن كان خالْ
مُذْ رأى خدَّك والخالُ بهِ
ظنَّه البلبل في الورد وخالْ
عمَّ هذا الخال أنواع إليها
فسَلَوْنا عنده عمًّا وخالْ
أسودُ العين تُرَى فرَّ إلى
خدِّك الورديِّ أم هذا خيالْ
أم سُوَيدا القلبِ فرَّت مِن لظَى
جمرة الحبِّ إلى نار الجمالْ
إن سقاني الخالُ مرًّا فعلى
كل حالٍ يا حبيبي فهو حالْ
قد حكى النمَّام مَنْ عارضَهُ
شرَكًا في حبَّة القلب وقالْ
شرَكٌ صادَ فؤادي عندما
جئتُ أرجو منه عَنْقاءَ الوِصالْ
يا له خالًا على الخدِّ استوى
أصبحَت عُشاقُه أهلَ الكمالْ
عبَد النارَ لهذا لم يكن
فارق الخدَّ مدى العمر وحالْ
أكسَب الزَّنْج افتخارًا وبهِ
فاخرَت رأْدُ الضحى دُهمَ الليالْ

ولأسعد أفندي داغر:

رآني حبيبي قد أطَلتُ تفكُّري
بخالٍ له أرمي الظُّنون وأحدِسُ
فقال بسَفْح الخدِّ نُعمانُ نازلٌ
وهذا أخوه فوقَه قام يَحرُسُ

ولأمين الدين بن عطايا:

أنا أهوى غُصن النَّقا وهْو لاهٍ
وفؤادي يحبُّه في التِّيهِ
يا نسيمَ الصَّبا ترفَّقْ عليهِ
وتلطَّفْ به ولا تؤذيهِ
وتحمَّلْ رسالةً ليس إلا
كَ أمينًا في حَملِها أرتضيهِ
وإذا لم يكن رسولي نسيمًا
نحوَ غصنِ النقا فمن يَثْنيهِ

ولإبراهيم أفندي الحوراني في صِغره ارتجالًا:

بدويَّةٌ لاموا العَميدَ بحبِّها
فأجبتُهم والدمعُ أحمرُ قاني
ما شانَ فيها أنها بدويةٌ
تَرمي السهامَ بمُهجة الحَوْراني

ولشاكر أفندي شقير — ولهما حادثة:

مِن أين يبقى لي دمٌ وأنا الذي
في الحب قد سُفِكَت دمايَ الطاهرة؟!
ولقد بَقيْ بالأمسِ منه بقيةٌ
فأخذتُها، ها هيْ بخدِّك ظاهرة

وقال الحسن بن أحمد الحيمي اليمني:

فؤادٌ على هَجْر الأحبَّة لا يَقْوى
وكيف ورَبْع العامريَّةِ قد أقْوى؟!
وصبرٌ ولكن غالَه الهجرُ والنوى
فلا نفعَ للمهجور فيهِ ولا جَدْوى
ولكنَّني قد مِتُّ في الوصل بالرَّجا
وكم ذي لُباناتٍ تمنَّع بالرَّجوى
فيا أيها الخِلُّ الذي أنا صَبُّه
عليك بآدابِ الحديث الذي يُرْوى
ومُنَّ علينا بالترسُّل إنني
رأيت حديثَ المنِّ أحلى من السَّلوى

وقال أبو بكر محمد بن طفيل:

ألَمَّت وقد نام المشيحُ وهوَّما
وأسْرَت إلى وادي العَقيق من الحِمى
وجرَّت على تُرْب المحصَّبِ ذَيلَها
فما زال ذاك التُّرب نَهبًا مقسَّمَا
تناولَهُ أيدي التِّجَار لَطيمةً
ويَحمله الداريُّ أيانَ يمَّما
ولما رأَتْ أنْ لا ظَلامَ يُجِنُّها
وأنَّ سُرَاها فيه لن يتَكتَّما
نضَتْ عذَباتُ الربط من حرِّ وجهِها
فأبدَت محيًّا يُدهِش المتوسِّما
فكان تَجلِّيها حِجابَ جمالِها
كشَمس الضحى يَعْشى بها الطَّرْف كلَّما
ولما التقَينا بعد طُول تَهاجُرٍ
وقد كاد حبلُ الودِّ أن يتصرَّما
جلَتْ عن ثَناياها وأومَض بارقٌ
فلم أرَ من شقِّ الدُّجُنَّةِ مِنهما
وساعَدني جَفنُ الغمامِ على البُكا
فلم أدرِ دمعُ أيِّنا كان أسجَما
فقالت وقد رقَّ الحديثُ وأبصرَت
قرائنَ أحوالٍ أذَعْنَ المكتَّما
نشَدتُك لا يذهَبْ بك الشوقُ مذهبًا
يهوِّن صعبًا أو يُرخِّص مأثمَا
فأمسكتُ لا مُستغنِيًا عن نَوالِها
ولكنْ رأيتُ الصبرَ أدْنى وأكرَما

ولآخرَ فيمَن يرقُص:

وراقِصٍ مثل غُصنِ البان قامَتُه
تكاد تُذهب روحي مِن تنقُّلهِ
لا يَستقرُّ له في رقصهِ قَدمٌ
كأنما نارُ قلبي تحتَ أرجُلِه

ولابن الوردي:

ودَّعتْني يومَ الفراقِ وقالت
وهْي تبكي مِن لوعةِ الإِفتِراقِ
ما الذي أنت صانعٌ بَعد بُعدي
قلتُ: قولي هذا لمن هو باقِ

ولآخر:

يا أيها القمر المنيرُ الزاهرُ
الأبلَجُ الغضُّ البهيُّ الباهرُ
بلِّغ شبيهَتَك السلامَ وصِفْ لها
شوقي وأنِّي في هواها ساهرُ

ولعلي ابن المبارك في جاريةٍ له:

هبَّتِ الريحُ من الشَّرْ
قِ فجاءَتْني برِيحِكْ
كيف أنساكِ وروحي
صُنِعَت من جنسِ روحِكْ

وكُتِب على خاتَم:

قلبانِ في خاتم الهوى جُمِعا
فأرغَمَ اللهُ أنفَ مَن قطَعا

ولآخر — وهو بديع:

إلى الطائر النَّسرِ انظُري كلَّ ليلةٍ
فإني إليه بالعَشيةِ ناظرُ
عسى يلتقي طَرْفي وطرفُكِ عندهُ
فنشكو إليه ما تُكنُّ الضمائرُ

وللأمير شكيب أرسلان:

يا صاح عاجمتَ النَّقا وزُرودَا
ولَبِستَ دَرْن ظِبى الظِّباءِ زرودا
وسَبرْتَ أغوارَ العقيقِ ولم تزَل
تَطْوي بنَجْدَ تَهائمًا ونُجودا
تسعى إلى صيدِ المهى فلعلَّما
علَّمتَ نفسك أن تَصيدَ أُسودا
خفِّفْ عليك فلستَ أولَ صائدٍ
قد راح يَصطادُ الغزالَ فَصيدا

ولطهمان الكلابيِّ قوله:

سقى دارَ ليلى بالرَّقاشين مُسبلٌ
مهيبٌ بأعناق الغمام دَفوقُ
أغرُّ سماكيٌّ كأنَّ ربابَهُ
بَخاتيَّ صُفَّت فوقَهنَّ دسوقُ
كأنَّ سَناهُ — حين تَقدَعُه الصَّبا
وتَلحَقُ أُخراه الجنوبُ — حريقُ
وبات بحَوضي والسبال كأنَّما
يُنشَّر ريطٌ بينهنَّ صفيقُ
وما بيَ عن ليلى سُلوٌّ وما لها
تلاقٍ، كِلانا النأيَ سوف يَذوقُ
سَقاكِ وإن أصبَحتِ واهيةَ القوى
شقائقُ عرضٍ ما لهنَّ فُتوقُ
ولو أن ليلى الحارثيةَ سلَّمَت
عليَّ مُسجًّى في التُّراب أسوقُ
حَنوطي وأكفاني لديَّ مُعدَّةٌ
وللنفسِ من قُرب الوفاة شهيقُ
إذن لحَسبتُ الموتَ يَتركني لها
ويُفْرِج عني همَّه فأُفيقُ
ونُبِّئتُ «ليلى بالعراقِ مريضةٌ»
فماذا الذي تُغني وأنت صديقُ؟!
سقى الله مَرْضًى بالعراقِ فإنني
على كلِّ مرضى بالعراق شفوقُ
وإني بأن لا يَنزل الناسُ منزلًا
تحمَّيتُ من قلبي به لحَقيقُ
وإنِّي لِلَيلى بعد شيبِ مَفارقي
وبعد تَحَنِّي أعظُمي لصديقُ
وإني مِنَ ان يَلْغَى بكِ القومُ بينَهمْ
أحاديثَ أَجْنيها عليكِ شَفوقُ

ولشاكر أفندي شقير:

قل للأُلى عشقوا الجمال تأملوا
في قامةٍ يَعْنو لدَيها البانُ
غصنٌ، ولكن فاعجَبوا من حملِه
الزهرُ وردٌ والجنَى رمَّانُ

ولي ولهما حادثة:

يا مديرَ الكُئوس قد قال قومٌ:
إن مِن كأسِك الهمومُ تبدَّدْ
قد سَكِرنا قبلًا بريقٍ لهذا
وحِّد الكأس فالحبيبُ موحَّدْ

واجتمع جَميل بُثينة العُذري بعمر بن أبي ربيعة، فأنشدَه جميل قصيدته اللامية التي منها:

لقد فرِح الواشون إذا أصرَمَت حَبلي
بُثنيةُ أو أبدَتْ لنا جانب البُخلِ
يقولون: مهلًا يا جميلُ وإنني
لأقسم ما لي عن بُثينة مِن مَهلِ
أحِلمًا فقبلَ اليوم كان، وإنه
أوَ اخشى فقبلَ اليوم أُوعِدتُ بالقتلِ
إذا ما تناشَدْنا الذي كان بيننا
جرى الدمعُ من عينَيْ بثينةَ بالكحْلِ
كلانا بكى أو كاد يَبكي صَبابةً
إلى إلفِه فاستعجلَتْ غَيرةً قبلي
فيا ويح نفسي حَسْب نفسي الذي بها
ويا ويح أهلي ما أُصيبَ به أهلي
خليليَّ فيما عِشْتما أرَأيتما
قتيلًا بكى مِن حبِّ قاتلِه قَبلي؟

وهي طويلة.

وقال له: أكان في منظوماتك شيء من هذه القافية؟ قال: بلى، قال جميل: فأنشِدْني. فقال عمر:

جرى ناصحٌ بالودِّ بيني وبينها
فقرَّبَني يوم الخطاب إلى قتلي
فطارَت بحدٍّ من سهامي وقارنَتْ
قرينتُها حبلَ الصفاء إلى حبلي
ولما تواقَفْنا عرَفتُ الذي بها
كمِثل الذي بي حَذْوَك النعلَ بالنعلِ
فقلتُ لها: هذا عشاءٌ وأهلُنا
قريب ألَمَّا تسألي مركبَ البغلِ

ومنها:

فقالت: فما شئتنَّ! قُلنَ لها: انزِلي
فلَلأرضُ خيرٌ من وقوفٍ على رِجْلِ
نجومٌ دَراريٌّ تكنَّفْن صورةً
من البدر وافَت غيرَ هُوجٍ ولا عُجْلِ
فسلَّمتُ واستأنستُ خِيفةَ أن يَرى
عدوٌّ مقالي أو يرى كاشحٌ فِعلي
فقالت وأرخَتْ جانبَ الستر: إنما
معي فتكلَّمْ غير ذي رِقْبةٍ أهلي
فقلت لها: ما لي لهم مِن ترقُّبٍ
ولكنَّ سِري ليس يَحمله مِثلي
فلما اقتصَرنا دونهنَّ حديثَنا
وهنَّ ضنيناتٌ بحاجةِ ذي الشكلِ
عرَفْن الذي تَهوى فقلنا: ائذني لنا
نَطُفْ ساعةً في بردِ ليلٍ وفي سَهلِ
فقالت: فلا تلبَثْن، قُلن: تحدَّثي
أتيناكِ، وانسَبْنَ انسيابَ مَهى الرملِ
وقُمن وقد أفهَمْنَ ذا اللُّب أنَّما
أتينَ الذي يأتين مِن ذاك مِن أجلي

فما أتمها حتى صاح جميل: هيهات، يا أبا الخطاب، أن آتيَ بمثل هذا! فوالله ما خاطب النساءَ مخاطبَتَك أحد! وقام مشمِّرًا.

وسمع الفرزدق عمر بن أبي ربيعة ينشد هذه القصيدة، ولما بلغ قولَه: (فقُمن وقد أفهمن … البيت) صاح الفرزدق: هذا واللهِ الذي أرادَتْه الشعراء فأخطأَتْه، وبكَت على الديار.

وقال محمد بن حزم:

لئن أصبحتُ مرتحِلًا بجسمي
فروحي عندكم أبدًا تُقيمُ
ولكن للعيانِ لطيفُ معنًى
له سأل المعاينةَ الكَليمُ

ولي مُلغِزًا:

فتاةٌ تثنَّت كالقَنا بقوامها
فأثنى عليها الغصنُ لما تثنَّتِ
رأت حبَّها في القلب صار محكَّمًا
فقامت تَجود اليوم والقدَّ هزَّتِ
يعَزُّ عليَّ اليوم أن يَعرف الورى
حبيبيةَ قلبٍ مُبتلًى بالمحبةِ
ومُولَعةٍ بالهجر والهجرُ عادةٌ
لدى كلِّ محبوب وكل مُحبَّةِ
حليفَ الهوى إني أُناجيك فاهدِني
إلى اسْمٍ سَبى قلبي ولُبِّي ومُهجتي
ففي عينها راءٌ ومَبسِمُها غدَا
شبيهًا بفاء، والختامُ كبَدْأةِ
يُرَى شَطْرها طَردًا وعَكسًا لقد جرى
على فِعل أمرٍ بعدَه ردْفُ لجَّةِ
فإن كنتَ تدري كلَّ ذلك فاسقِني
بكاسات حبَّيها خمورَ المسرَّةِ

فأجابني محمد أفندي الحريري بأبيات، منها:

وكنتَ سليمًا من هواها وخاليًا
فصرتَ أخا قَيسِ الغرام بنَظرةِ
وما هذه العذراءُ إلا سَميَّةٌ
لذاتِ المعالي في الورى والفضيلةِ
فخُذ ما حلا ضِمن الكتابةِ حلُّهُ
ودُم سالِمًا واسمَحْ لنا بالبقيةِ

وقال آخر:

ليتَ المِلاح وليت الراحَ لو جُعِلا
في جبهةِ الليث أو في قُبَّة الفلَكِ
كيلا يُقبِّل ذا حُسنٍ سوى أسدٍ
ولا يطوفَ بكاساتٍ سِوى مَلكِ

وقال المعلم بطرس كرامة يُخمِّسهما، موافقًا الناظمَ في المعنى:

كم فاز بالوصلِ مِن خودٍ وكأسِ طلا
فدْمٌ وعزَّ على ذي همةٍ وعَلا
ناديتُ والوَجدُ ما بين الحشا اشتعَلا
ليتَ المِلاح وليت الرَّاحَ لو جُعِلا
في جبهةِ الليث أو في قُبةِ الفلَكِ
أوْ ليتَ كلَّ رشيق القدِّ ذا غيَدِ
بين الظِّبى وعَوالي الخطِّ ذو رصَدِ
وليتَما الخمر تَعلو فوقَ كلِّ يدِ
كيلا يُقبِّل ذا حسنٍ سوى أسدِ
ولا يطوفَ بكاساتٍ سِوى ملَكِ

ثم قال يضادُّه في المعنى:

لو كلُّ غانيةٍ تُعطَى لشَهم علا
لمات مَن بات يَهْواها وما وصَلا
فدَعْ مَقالة مَغبونٍ قد ارتجَلا:
ليتَ الملاح وليت الرَّاح لو جُعلا
في جبهة الليثِ أو في قُبَّة الفلكِ
فهذه مُنْيةٌ جاءت بلا سنَدِ
وليس يرضى بها صَبٌّ وذُو رشَدِ
ما خُصِّص الحبُّ والصَّهباء في أحَدِ
كيلا يُقبِّل ذا حُسنٍ سوى أسَدِ
ولا يطوفَ بكاساتٍ سوى ملكِ

وقال إلياس أفندي صالح كنعان:

ونَحْويةٍ ساءَلتُها أعرِبي لنا:
حبيبي عليه الحبُّ قد جار واعتَدى
فقالت: حبيبي مُبتدَا في كَلامِهم
فقلتُ لها: ضُمِّيه إن كان مُبتدَا

ولأسعد أفندي داغر:

سألتُ حبيبي حين وافى وقُرْطهُ
غدَا في اضطرابٍ مثلَ قلبيَ حائرَا
علامَ أراه هكَذا فأجابني
وقد مال مِن خمرِ الدَّلال مُفاخِرا
بجِيديَ بات المسكُ بالأمسِ ضائعًا
فأضحى عليه اليومَ قُرطيَ دائرَا

وقال إلياس أفندي صالح كنعان:

أفديه نَحْويًّا نحا قَتْلي ولم
يُشفِقْ على لهيبِ قلبي المضْطَرِمْ
سألتُه لأيِّ معنًى ضنَّ في
كلامهِ ودمعُ عيني يَنسجِمْ
أجابني كمُعرِضٍ وقال لي:
(كلامُنا لفظٌ مفيدٌ كاستَقِمْ)

وكان الخليفة المعتمد على الله يومًا في قُبَّة له، يكتب شيئًا، وعنده بعضُ كرائمه، فدخلَت عليه الشمس من بعض الكُوى الكائنةِ فيها، فقامت دُونه تسترُه من الشمس.

قامَت لتَحجِبَ ضوءَ الشمس قامتُها
عن ناظِري حُجِبت عن ناظري الغِيَرُ
عِلمًا لعَمرُك منها إنَّها قمرٌ
هل تَكسِفُ الشمسَ إلا صورةُ القمرِ؟

ولآخرَ في مثل ذلك:

قامت تُظلِّلُني من الشمسِ
نفسٌ أعزُّ عليَّ مِن نفسي
قامت تُظلِّلني فوا عجَبي
شمسٌ تُظلِّلني من الشمسِ

وقال العزُّ الموصلي في المنطق:

غزالٌ لرسمِ الحُسن لامٌ بخدِّهِ
يُعرِّفها بالعارِض الطيِّب الشمِّ
فأنبَا عن المحبوبِ بعضُ لَوازمٍ
وهذا هو الحدُّ الملقَّبُ بالرَّسمِ

وقال شمس الدين بن عفيف التِّلمساني:

يحكي الغَزالَ مُقلةً ولفْتةً
مَن ذا رآه مُقبِلًا ولا افتتَنْ
أحسَنُ خلقِ الله وجهًا وفمًا
إن لم يكن أحقَّ بالحُسنِ فمَنْ؟
في ثَغرِه وشكلِه وخدِّهِ
الماءُ والخُضرة والوجه الحسَنْ

وهذان للحلِّي:

كم قد سفَكْنا من دموعٍ ودمًا
على رُبوعٍ للدِّيار ودِمَنْ
وكم قضَينا للبُكاءِ مَنسَكًا
لما تذكَّرْنا بهنَّ مَن سكَنْ

ولعبد الرحمن بن معاوية:

أيُّها الراكبُ الميمِّمُ أرضي
أقْرِ مِن بعضيَ السلامَ لبَعضي
إنَّ جِسمي كما عَلِمتَ بأرضٍ
وفؤادي ومالِكيه بأرضِ
قُدِّر البَينُ بينَنا فافترَقْنا
وطَوى البينُ مِن جُفونيَ غُمْضي
قد قضى الله بالفِراقِ علينا
فعسى باجتماعِنا سوف يَقْضي

وقال أبو القاسم بن عباد المعتمِد على الله في مَملوك له صغيرٍ كان يتصرَّف بين يديه، أهداه إياه صاحبُ طُليطِلة، واسمُ المملوك سيف:

سمَّوْه سيفًا وفي عينَيه سيفانِ
هذا لِقتليَ مسلولٌ وهذانِ
أمَا كفَتْ قَتْلةٌ بالسيفِ واحدةٌ
حتى أُتيحَ من الأجفانِ ثِنْتانِ
أسَرْتُه وثَناني غُنجُ مُقلتِه
أسيرَهُ فكِلانا آسِرٌ عانِي
يا سيفُ أمسِكْ بمعروفٍ أسيرَ هوًى
لا يَبتغي منك تسريحًا بإحسانِ

وقال غيره:

ألِفُ القَوامِ وواوُ صُدْغِك بعدَها
ياءُ العِذارِ المستطيل لمِحنَتي
هم أنحَلوا جِسمي القويمَ لأنَّهم
عندَ النُّحاةِ همُ حروفُ العِلَّةِ

وللشيخ محمد أفندي طبارة يُشطِّر قول المعرِّي:

حسَّنتِ نظْمَ كلامٍ تُوصَفين بهِ
ومنطقًا دائمًا يَفْترُّ عن دُررِ
وقد حلَلتِ بقلبٍ هام فيك جَوًى
ومنزلًا بك مَعمورًا من الخفَرِ
فالحُسن يَظهر في شيئَين رونَقُهُ
خدٌّ مِن الورد أو طرْفٌ من الحوَرِ
وهكذا الظُّرف في بيتَين مسكَنُه
بيتٌ من الشِّعْر أو بيت من الشَّعَرِ

وقال بهاء الدين زهير:

أنا في الحبِّ صاحبُ المعجزاتِ
جئتُ للعاشِقين بالآياتِ
كان أهلُ الغرام قبليَ أُمِّيـ
ـينَ حتى تلَقَّنوا كَلِماتي
فأنا اليومَ صاحبُ الوقتِ حقًّا
والمحبُّون شِيعتي ورُعاتي
ضرَبَت فيهمُ طُبولي وصارَت
خافقاتٍ عليهِمُ راياتي
خلَبَ السامِعين سِحرُ كلامي
وسرَتْ في عقولهِمْ نفَثاتي
أين أهلُ الغرام أتْلو عليهِم
باقياتٍ من الهوى صالحاتِ
خيَّم الحب من حديثي بمسكٍ
رُبَّ خيرٍ يجيءُ في الختَماتِ
فعلى العاشِقين منِّي سلامٌ
جاء مثلَ السلامِ في الصَّلواتِ
مذهبي في الغرام مذهبُ حقٍّ
ولقد قمتُ فيه بالبيِّناتِ
فلَكَم فيَّ مِن مكارمِ خُلْقٍ
ولكَم فيَّ مِن حميدِ صفاتِ
لستُ أرضى سِوى الوفا لِذَوي الودِّ
ولو كان في وَفايَ وفاتي
طاهرُ اللفظِ والشمائل والأخْـ
ـلاقِ عَفُّ الضميرِ واللحَظاتِ
ومع الصمتِ والوقار فإني
دمِثُ الخُلقِ طيِّبُ الخلَواتِ
يَعشقُ الغصنَ والرشاقةَ قلبي
ويحبُّ الغزالَ ذا اللَّفَتاتِ
وحبيبي هو الذي لا أُسمِّيـ
ـهِ على ما استقرَّ مِن عاداتي
ويقولون: عاشقٌ وهْو وصفٌ
من صفاتي المقوِّماتِ لِذاتي
إنَّ في نيتي وقد عَلِم اللهُ
بها وهْو عالمُ النِّياتِ
يا حبيبي وأنت أيُّ حبيبٍ
لا قَضى الله بيننا بشَتاتِ
إنَّ يومًا تراك عينِيَ فيهِ
ذاك يومٌ مُضاعَفُ البركاتِ
أنتَ روحي وقد تملَّكتَ روحي
وحياتي وقد سلَبتَ حياتي
متُّ شوقًا فأحْيِني بوِصالٍ
أُخبرِ الناسَ كيف طعمُ المماتِ
وكما قد علمتَ كلُّ سرورٍ
ليس يَبقى فواتٌ قبل الفواتِ

ولنجيب أفندي المشعلاني:

رُبِيتُ على المحبةِ والودادِ
فهِمْتُ من الغرام بكلِّ وادِ
وأسكرَني هوى المحبوبِ حتى
أضعتُ ولم أَفُق فيهِ رَشادي
فلولا القلبُ لم أدرِ غرامًا
ولولا اللَّحظُ لم يُصمَ فؤادي
ولولا الدَّلُّ لم أهْوَ غصونًا
ولولا الحبُّ ما شمْتُ المعادي
ولولا الطيفُ لم تَدرِ جُفوني
منامًا أو تَذُق طعمَ الرُّقادِ
ولولا الهجرُ ما أتلفتُ جسمي
وما قضَّيتُ ليليَ بالسُّهادِ
ولولا أنني أرجو لقاءً
لفضَّلتُ المماتَ على البِعادِ
أعيش على الرَّجاء لعلَّ يومًا
سيجمَعُني ومَنْ أهواه نادِ
وأدفَع بالتَّعِلَّة جَورَ دهري
لعل الصبر يُظْفِرُني مُرادي
يُبلبِلُني الغرامُ فلست أدري
أمَن أهوى بعيدٌ أم فؤادي؟

ولي:

ألا إنني إن متُّ مِيتةَ عاشقٍ
ولا بدَّ مِن هذا فتلك حقيقتي
وزينبُ مرَّت عند قبري وسلَّمَتْ
لأنَّتْ عِظامي في البلاء وردَّتِ

وللسلطان المنصور في رقيب:

رقيبي كأنَّ الأرضَ مرآةُ شخصهِ
فأين تولَّى القلبُ مني يَراهُ؟
مقيمٌ بوجهِ الوصل حتَّى كأنما
وصالي هلالٌ والسوادُ صَداهُ

ولشاعر أندلسي قوله:

رقَّ الرَّبيع ورق طبعُ هوائِه
فانظُرْ نَضارةَ أرضه وسمائهِ
واجعَلْ قرينَ الوُد فيه سُلافةً
يحكي مُصعِّدُها مُشعشعَ مائهِ
لولا ذبولُ الورد قلتُ بأنهُ
خدُّ الحبيب عليه صِبغُ حيائهِ
هيهات أين الوردُ من خدِّ الذي
لا يستحيل عليك عهدُ وفائهِ
الوردُ ليس صفاتُه كصفاتهِ
والطير ليس غِناؤها كغِنائهِ
يتنفَّس الإصباحُ والرَّيحانُ مِن
حركاتِ مِعطفه وحُسنِ رِوائه
ويجولُ في الأرواح روحٌ ما سرَتْ
ريَّاه مِن تِلقائه بلقائِه
صرَف الهوى جِسمي شبيهَ خيالهِ
مِن فرْط خفَّتِه وفرطِ جَفائه

ولنجيب أفندي المشعلاني:

عجبتُ كيف لهيبُ النار يُحرِقني
بل كيف تَسْطو على نيراننا نارُ؟
أنا إلى شُعلة النيران منتسِبٌ
فأحرقتْني بنارِ الخد كُلْنارُ؟

ولي في فتاة سقطَت فألمَّ برِجلها ألم:

ألا في أمان الله موجَعةَ الرِّجْلِ
وفي الحفظِ لمياءٌ تحبب لي حبي
لقد سقطَتْ من عينِ حاسد حُسنِها
ألا عَمِيَت ذي العينُ يا مُنيةَ القلبِ
ثقيلٌ على الرِّجلَين حملُ محاسنٍ
وعقلٍ وآداب فصارت لِذا تبكي

وقال بشر:

أريد لأنسى ذِكْرها فكأنما
تمثَّلُ لي ليلى بكلِّ سبيلِ
أريد ولا كُفرانَ بالله إنما
أعلِّق — إن علَّقتُ — كلَّ مَخيلِ

ولسليمان أفندي الصولي:

إذا جرَّد الأحبابُ جيشًا من الجفا
بنَينا من الصبر الجميل حُصونا
وإن أرسَلوا خيل الصُّدود مُغيرةً
بعَثْنا لهم خيلَ الخضوعِ كَمينا

ولآخر:

تجرَّدَ للحمَّام عن قشرِ لؤلؤٍ
وأُلبِس من ثوب الملاحةِ ملبوسا
وقد أخذ الموسى لِتَزيين شعرهِ
فقلتُ: لقد أوتيتَ سُؤْلَك يا موسى

ذات الخال

كان إبراهيم الموصليُّ يَهوى جارية يُقال لها: «خنَث»، وكانت من أجمل النساء وأكمَلِهنَّ، وكان لها خالٌ فوق شَفتها العليا، وكانت تُعْرَف بذات الخال، وكانت أولًا لقرين المكنَّى بأبي الخطَّاب النحَّاس، وكان يقول فيها الشعر ويُغنِّي فيها؛ فشهَرها بشعره وغنائه، وبلغ الرشيدَ خبرُها فاشتراها بسبعين ألف درهم، فقال لها ذات يوم: أسألك شيئًا فإن صدَقْتِني وإلا صدَقَنِي غيرُكِ وكذَّبتك، قالت له: بل أصدُقُكَ، قال لها: هل كان بينكِ وبين إبراهيم الموصليِّ شيءٌ قط؟ وأنا أحلِّفه أن يصدقني، فتلكَّأَت ساعةً ثم قالت: نعم، مرةً واحدة، فأبغضَها من ذلك الوقت، وقال يومًا في مجلسه: أيكم لا يُبالي أن يكون كشخانًا حتى أهبَه ذات الخال؟ فبكر حمويه الوصيف فقال: أنا، فوهبها له، وفيها يقول إبراهيم:

أتحسب ذاتَ الخالِ راجية ربًا
وقد سلبَتْ قلبًا يَهيم بها حُبَّا
وما عُذرها نفسي فِداها ولم تدَعْ
على أعظُمي لحمًا ولم تُبقِ لي لبَّا

وروى عبد الله وإبراهيم ابنا العباس الصُّولي قالا: كانت للرشيد جارية تُعْرَف بذات الخال، فدَعَتْه يومًا، فوعَدها أنه يصير إليها. وخرج يريدها، فاعترضته جارية وسألته أن يدخل إليها، فدخل وأقام عندها، فشقَّ ذلك على ذات الخال، وقالت: والله، لأطلبنَّ شيئًا أغيظه به. وكانت أحسنَ الناس وجهًا، ولها خال على خدها لم يرَ الناس أحسن منه في موضعه، فدعت بمقراض فقصَّت الخال الذي كان في خدِّها، وبلغ ذلك الرشيدَ فشقَّ عليه وبلغ منه. فخرج من موضعه، وقال للفضل بن الربيع: انظر مَنْ بالباب من الشعراء؟ فقال: الساعةَ رأيتُ العباس بن الأحنف، فقال: أَدْخِلْه. فأدخلَه، فعرَّفه الرشيد بالخبر، وقال: اعمل لي شيئًا على معنًى رسمُه له، فقال:

تخلصتُ ممَّن لم يكن ذا حَفيظةٍ
ومِلْت إلى مَنْ لا يغيِّره حالُ
فإن كان قطعُ الخال لما تعطَّفَت
على غيرها نفسي فقد ظُلِمَ الخالُ

فنهض الرشيد إلى ذات الخال مُسرعًا مترضِّيًا لها، وجعل هذين البيتين سببًا، وأمر للعباس بألفَي دينار، وأمر إبراهيمَ فغنَّاه هذا الشعر.

وللعباس بن الأحنف فيها:

ألا ليت ذاتَ الخال تَلقى من الهوى
عُشَير الذي ألقى فيَلتئِمَ الشعبُ
إذا رضِيَت لم يَهْنِني ذلك الرِّضى
لعِلمي به أنْ سوف يَعقُبه عتْبُ
وأبكي إذا أذنبتُ خوفَ صدودها
وأسألُها مَرْضاتَها ولها الذنبُ
وِصالُكمُ صُرْم وحبُّكمُ قِلًى
وعطفُكمُ صدٌّ وسِلمُكمُ حربُ

قال محمد بن موسى: ما أحسنَ ما قسم؛ حتى جعَل بإزاء كلِّ شيء ضدَّه! والله إن هذا لأحسنُ من تقسيمات إقليدس.

ولإبراهيم الموصلي في ذات الخال أيضًا:

جزى الله خيرًا مَنْ كَلِفتُ بحبِّه
وليس به إلا المموَّهُ من حُبِّي
وقالوا قلوبُ العاشقين رقيقةٌ
فما بالُ ذاتِ الخال قاسيةَ القلبِ
وقالوا لها: هذا مُحبُّكِ مُعرضًا
فقالت: أرى إعراضَه أيسرَ الخَطبِ
فما هو إلا نظرةٌ بتَبسُّمٍ
فتَنشَبُ رِجْلاه ويسقطُ للجَنبِ

ولي في ذات خالَين:

يقولون لي: أنظارُ كلِّ أُولي الهوى
إلى ربَّة الخالَين ميَّالةٌ طبعَا
فقلتُ لهم: ما ذا عجيبٌ وقبلَهم
إلى ذات خالٍ كم مَليكٍ غدَا يسعى؟

ولي أيضًا فيها:

لِتلك بخالٍ واحد ألفُ عاشقٍ
وهذي بخالَيْها لها عاشقٌ فردُ
جميلُ هوًى عُذْريُّ قلبٍ سليمُه
كثيرُ جوًى ذو عزةٍ كيفَما صدُّوا

ولي فيها أيضًا:

لله مِن ذاتِ خالٍ فوق وجْنتِها
وآخرٌ نازلٌ في سَفحِ نُعمانِهْ
قدَّت لها من صُخور البَرِّ ما عشِقَت
به فتًى قلبُه من ماءِ سُلوانِهْ
كأنَّ والدَها سوَّى على صغرٍ
لها فؤادَ هوًى مِن مثل سَنْدانِهْ

ولي فيها:

قيل يَبغي مِن بين خالَيكِ قُبلَة
فأجابت: هل ذا يُحلِّل قتْلَهْ
أيُّها العاشق الجَسور تمهَّلْ
إنَّ للنار فوقَ خدِّيَ شُعلة
قلت: ليست تَضرُّني النارُ مما
أضرَم الوَجدُ في الفؤادِ المولَّهْ
فأجابت: أخشى الرقيبَ المُفاجي
قلتُ: هذي واللهِ أحسنُ غفلة
فأجابت: إن كنتَ لستَ تخاف النَّـ
ـارَ حتَّى ولا الرقيبَ وعذْلَهْ
فوقَ نعمانِ وجنتَيها أخوهُ
قام يرمي في الحربِ عنترُ عبلَة
فإذا كنتَ ذا اقتدارٍ وبطشٍ
فتقدَّمْ تُزِل عن القلبِ دبْلَه

ولي فيها أيضًا:

يا ربَّة الخالَين إن محبَّتي
عذريةٌ وبها الفؤادُ بحَبسِه
خالَيكِ زينبُ، أحرَقا قلبي جَوًى
ولكلِّ شيء آفةٌ من جنسِه

ولي فيها:

إن كان هارونُ الرشيد بعزِّه
وبملكِه يَعْنو لذاتِ الخالِ
فأنا الذي مِن دونِه لا غَرْو أن
في ذات خالَينٍ تضَعْضَعَ حالي

قال لسان الدين:

كتبتُ بدمع عيني صفحَ خدِّي
وقد منَع الكرى هجرُ الخليلِ
ورابَ الحاضرين فقلتُ: هذا
كتابُ العين يُنسَب للخليلِ

ولإبراهيم أفندي الحوراني قوله في صباه من قصيدة:

ما بين آرامِ العقيقِ وحاجِرِ
أجرى الغرامُ دمَ الحشا بمَحاجري
وتناهَبَت نومي العيونُ مخافةً
من أن أُمتَّعَ بالخيال الزائرِ
تلك الظِّباءُ ليوثُ حربٍ لحظُها
منهُ يُحاذر كلُّ ليثٍ كاسرِ
ما قابلَت أحدًا بطَرْفٍ ساحرٍ
إلا ودان لها بطرْفٍ ساهرِ
وغدَا يَهيم بكل وادٍ والِهًا
والناس بين عواذِلٍ وعواذرِ
يأوي الرِّياض مُردِّدًا زفَراتِه
ويُهيجُه نَوْحُ الحمامِ الهادرِ
يَبغي النَّجاة من الهُيام ولا يَرى
أين النجاةُ مِن المليك القاهرِ؟

ومنها:

سلبَتْ فؤادي بالدلال وأتلفَتْ
روحي وأفنَتْ بالتجنِّي سائري
فعفَتْ حُصون الصبر من فَرْط الجَوى
وبَدَتْ لكلِّ العالَمين سَرائري
غِيدٌ مَغانيها لأرباب الهوى
سوقٌ وكلٌّ فيه أعظمُ خاسرِ
تاجرتُ في حب الحِسان بمُهجتي
فيها فكان السُّقْم رِبْح التاجرِ
فشغَلتُ أقلامي بشرح صَبابتي
وملأتُ مِن وصف الحبيب دَفاتري
لله كَم بِرُبوعها من قَسْورٍ
يَرمي السِّهامَ لدى خدورٍ جاذِرِ
ولكَمْ بها قمَر يَصول بمِغْفرٍ
وشموس حُسن تَنْثني بمآزرِ
سفَرَت لنا جُنحَ الظلام فأشرقَت
زُهرُ النجوم مِن المحيَّا الزاهرِ
وترنَّمت وشَدا الحُلِي فتراقَصَت
مُلْد الغصون على غناءِ الطائرِ
نظمَت من الشُّهبِ القلائد مِثلما
حوَت الأهلَّةُ في مقامِ أساوِرِ
وتقنَّعَت بغَياهب وتبرقعَت
بكواكبٍ وتمنطَقَت بنواظرِ
ومَهاةُ خِدرٍ في المرابع ما رنَتْ
إلا رمَتْ كبِدي بجَفْنٍ فاترِ
ريَّانة الأعطافِ دون وصالِها
هزُّ الرماحِ وكلُّ سيفٍ باترِ
خفَضَت مقامي عندما دَعْوى الجفا
رُفِعَت إلى حَكَم الغرامِ الجائرِ
فتركتُ توليهي بحُسنِ صفاتها
وجعلتُه بمَديح عبد القادرِ

وللوزير أبي بكر بن عمر الأندلسي:

جاء الهوى فاستشعِروهُ عارُهُ
ونَعيمهُ فاستعذِبوه أُوارُهُ
لا تَطلبوا في الحب عزًّا إنما
عُبْدانُه في حُكمِه أحرارُه
قالوا: أضرَّ بك الهوى فأجبتُهم
يا حبَّذاه وحبَّذا إضرارُهُ
قلبي هو اختار السَّقامَ لجسمِه
زيًّا فخلُّوهُ وما يختارُهُ
عيرتُموني بالنُّحول وإنما
شرَفُ المهنَّدِ أن ترِقَّ شِفارُهُ
وشَمِتُّمُ لفراقِ مَن آلفتُه
ولربما حجَبَ الهلالَ سِرارُهُ
أحَسبتُم السُّلْوانَ هبَّ نَسيمُه
أو أنَّ ذاك اليوم عاد غِرارُه
إنْ كان أعيا القلبُ مِن حرب الجوى
خذَلَتْه مِن دمعي إذًا أنصارُه
مَنْ قدَّ قلبي أن تَثنَّى قدُّه
وأقام عُذْري إذ أطلَّ عِذارُهُ
لما طوى الصُّبحَ المبينَ نِقابُه
وتوشَّح الليلَ البهيمَ خِمارُه
غُصنٌ ولكنَّ النفوس رِياضُه
رشَأٌ ولكنَّ القلوب عِرارُه
سخِرَت ببدر التَّمِّ غُرَّتُه كما
أزْرَت على آفاقِه أزرارُه
ما زال ليلُ الوصل مِن فَتكاتِه
تَسْري إليَّ بعَزمِه أسحارُه
ويَجودُ رَوْضُ الحسن مِن وجَناتِه
دمعي، فيَنْدى زَندُه وبَهارُه
حتى سقاني الدَّهرُ كأسَ فِراقِه
فسَكِرتُ سُكرًا لا يُفيق خُمارُه
ووقفتُ في مثلِ المحصَّبِ وقفةً
للبَيْن من حبِّ القلوب حجارُه
حيرانَ أرعى الطَّرْف وهو سماؤهُ
وأذاب فيه القلبَ وهو قرارُه
ولئن يُذِبْه وهْوَ مثواهُ فكَم
قد أحرقَت عودَ العَفارةِ نارُه
إن يَهْنِه أني أضعتُ لِحبِّه
قلبي وذاعَت عندهُ أسرارُه
فلْيَهنِ قلبي أنْ شَكاه وِشاحُه
لسِوارِه فاقتصَّ مِنه سِوارُه

ولبعضهم:

ولما وقَفْنا غَداةَ النَّوى
وقد أسقطَ البينُ ما في يدِي
رأيتُ الهوادِجَ فيها البُدورُ
عليها البراقعُ مِن عسْجَدِ
وتحتَ البراقعِ مقلوبُها
تَدِبُّ على وردِ خدٍّ ندي
تُسالِمُ من وطِئَت خدَّه
وتَلدَغُ قلبَ الشَّجِي الكَمِدِ

وللأمير شكيب أرسلان من قصيدة:

ما بينَ غِزلان العَقيق وبانِه
حربٌ بها بطَلُ اللِّقا كجَبانِه
الموتُ بين العاشقين موزَّعٌ
مما جرى للعَطْف مع أقرانهِ
حربٌ تُضرَّمُ بالحضيض سَعيرُها
وعَجاجُها بالجِزْع فوق رِعانِهِ
عَبِثَت بعُشَّاق العقيق وأوغلَت
فدِماؤهم تُرْبي على غُدْرانهِ
لم يرهَبوا بأسًا لقاءَ أُسودِه
فأبادَهم حتفًا لِقا غِزْلانهِ
لم يُنجِهم تكسيرُ مُرَّان العِدى
من فتكِ قدِّ الحبِّ في مُرَّانهِ
يا زائرًا تلك الرُّبوعَ وسائرًا
بعِراصِها الفيحاءِ في رُكبانِه
إن تنزِلَنْ سفْحَ العقيق فأشرِفَنْ
واسفَحْ عقيقَ الدمعِ معْ عِقْيانهِ
وتأمَّلَنْ صُنع الهوى بغَريقِه
فإذا رضيتَ فبعد ذلك عانِهِ
وانظُر أيا مُستسهِلًا طُرق الهوى
لِمَصارع العُشَّاق في مَيدانِه
لا عزَّةٌ عصَتِ الهوى بحُروبها
وتخرَّمَت بين الهوى وهَوانِه
لم تَختَشِ القضُبَ الصَّوارمَ في الوغى
وسَطا عليها البانُ في قُضبانِه
فتَسيل أجفانُ الظُّبى رُعبًا وكَم
ظبيٍ تَسيل على ظُبَى أجفانِه
سبحان مَنْ خلَق الفؤاد وطامَهُ
أبدًا على حبِّ الحِمى وحِسانِه

ولبشارٍ وقد واعدَتْه امرأة بالزيارة فأخلفَت:

يا لَيْلتي تزدادُ نُكرَا
مِن حبِّ مَنْ أحببتُ بِكرَا
حوراءُ إن نظرَت إليْـ
ـكَ سقَتْك بالعينَينِ خَمرَا
وكأنَّ رجْعَ حديثِها
قِطَعُ الرِّياضِ كُسِينَ زَهرَا
وكأنَّ تحتَ لسانِها
هاروتَ يَنفُث فيه سِحرَا
وتخالُ ما جُمِعَت عليْـ
ـهِ ثِيابُها ذهبًا وعِطرَا
وكأنَّها بردُ الشرا
بِ صفا ورافقَ منك فِطرَا
جِنيَّةٌ إنسيَّةٌ
أوْ بين ذاك أجَلُّ أمرَا
وكَذاك إني لم أُحِط
بشَكاةِ مَنْ أحببتُ خُبرَا
إلا مقالةَ زائرٍ
نثرَتْ ليَ الأحزانَ نثرَا
متخشِّعًا تحت الهوى
عشرًا وتحت الموتِ عشرَا

ولأسعد أفندي داغر وقد اقترَح عليه أحدهم نَظْم حديثٍ له مع كاويةٍ جميلة:

وقلتُ لمن في كفِّها شِبهُ قلبِها
ووَجْنتُها أدنى شبيهٍ لما فيهِ
فُؤادي وما تَكْوينَ سيَّانِ فالذي
يُكابِدُه هذا فؤادي يُعانيهِ
فقالت: نعم، لكنْ فؤادُك عادِمٌ
عزاءً؛ يَدي للثوب باللَّمسِ تُعطيهِ

ولي في ساعة المحبوب:

وبي ساعةٌ قد عُلِّقَت فوقَ صدرِها
من الذهبِ الإبْريزِ قد أوجبَتْ فَخْري
لها لونُ وجهي يوم قيلَ لقد قضَتْ
عُهودَك والعُذَّالُ في فشَلي تُزْري
وسِلسلةٌ منها إلى القلبِ قد جرَت
فمِن خفَقانِ القلب قد أصبحَت تجري

ولابن نُباتة:

أأغصانُ بانٍ ما أرى أم شَمائلُ
وأقمارُ تَمٍّ ما تضمُّ الغَلائلُ
وبِيضٌ رِقاقٌ أم جُفونٌ فَواترٌ
وسُمرٌ دِقاقٌ أم أُسودٌ قَواتِلُ
وتلك نِبالٌ أم لَحاظٌ رَواشقٌ
لها هدفٌ منَّا؛ الحَشا والْمَقاتلُ
بروحي أُفدِّي شادِنًا قد ألِفتُه
غدوتُ وبي وجْدٌ من الشُّغلِ شاغلُ
أميرُ جمالٍ والمِلاحُ جنودُه
يجور علينا قَدُّه وهْو عادلُ
له حاجبٌ عن مُقلَتي حجَب الكَرى
وناظِرُه الفتَّانُ في القلبِ عاملُ
رفعتُ إليهِ قصةَ الدمعِ شاكيًا
فواقِعَ تَجري وهْو في الخدِّ سائلُ
شكوتُ وما أَلْوى وقلتُ فما صَغى
وجدَّ بقلبي حبُّه وهْو هازِلُ
طويلُ التداني دَلُّه مُتواترٌ
مديدُ التجنِّي وافرُ الحسنِ كامِلُ
أطارِحُه بالنَّحوِ يومًا تعلُّلًا
فيَبْدو وللإعرابِ منهُ دلائلُ
ويَرفع وَصْلي وهْو مفعولُ في الهوى
ويَنصُب هَجْري عامِدًا وهْو فاعِلُ
تفقَّهتُ في عشقي له مِثلَما غدَا
خبيرًا بأحكامِ الخلاف يُجادِلُ
فيا مالِكي ما ضرَّ لو كنتَ شافِعي
بوَصْلك وافعَلْ فيَّ ما أنت فاعلُ
فإني حنيفيُّ الهوى مُتحنبِلٌ
بعشقِك، لا أُصغي وإن قال قائلُ

ولآخر:

ومُستترٍ مِن سنا وجههِ
بشمسٍ لها ذلك الصُّدغُ فَيْ
كوى القلبَ مني بلامِ العِذار
فعرَّفَني أنها لامُ كَيْ

ولبعضهم موجِّهًا في المنطق:

ما للمِثالِ الذي لا زال مُشتهِرًا
للمَنطقيِّين في الشَّرطيِّ تسديدُ
أما رأَوْا وجهَ مَنْ أهوى وطُرَّتَهُ
الشمسُ طالعةٌ والليلُ موجودُ

ولي في الورد على الصدر وفيهما توريةٌ لطيفة:

لاموا على الوردِ لَمَّا
بدا على الصَّدرِ يُشهَرْ
هذا نَسيب حَبيبي
والشيءُ بالشيءِ يُذكَرْ

وحكى أبو عمرِو بنُ العَلاء قال: استنطقتُ أعرابيًّا عند الكعبة فإذا هو فصيحٌ عذري، فسألتُه: هل عَلِقه الحب؟ فأنبأ عن شِدَّة ولوَع، فسألتُه: ما قال في ذاك؟ فأنشد:

تَتبَّعْن مرمى الوَحْش حتى رمَينَنا
من النَّبلِ لا بالطائشاتِ المخاطفِ
ضعائفُ يَقتُلنَ الرجالَ بلا دمٍ
فيا عجبًا للقاتلاتِ الضعائفِ

محاورة بين الشريف الرضي وأبي تراب

قال أبو تراب:

أسَلَوتَ حبَّ بدورَ أم تتجلَّدُ؟
سَهِرَت جفونُك أم عيونُك تَرقدُ؟

فقال الشريف:

لا، بل همُ ألِفوا القطيعةَ مِثلَما
ألِفوا نُزولهمُ بها فتبَعَّدوا

فقال أبو تراب:

فإلامَ تصبرُ والفؤادُ متيَّمٌ
ولَظى اشتياقِك في الحشا يتوقَّدُ

فقال الشريف:

ما دام لي جلَدٌ فلستُ بِجازعٍ
إذْ كان صبري في العواقبِ يُحمَدُ

فقال أبو تراب:

أحسنتَ، كِتمانُ الهوى مستحسَنٌ
لو كان ماءُ العين ممَّا يَجمُدُ

فقال الشريف:

إن كان جَفْني فاضِحي بدُموعِه
أظهرتُ للجُلساءِ أنِّي أرمدُ

فقال أبو تراب:

فهَبِ الدموعَ إذا جرَت موَّهْتَها
فيُقال: لِمْ أنفاسُه تتصعَّدُ؟

فقال الشريف:

أمشي وأُسرِعُ كي يظنُّوا أنها
من ذلك المشيِ السريع تَولَّدُ

فقال أبو تراب:

هذا يجوز وكلُّه مستعمَلٌ
لكنَّ وجهَك بالمحبة يشهدُ

فقال الشريف:

إن كان وجهي شاهِدًا يَهْوى، فما
يُدرى إلى مَنْ بالمحبَّة أقصدُ؟

فقال أبو تراب:

قد رجم الناسُ الظُّنونَ وأجمَعوا
أنَّ التي ذُكِرَت إليها المقصدُ

فقال الشريف، وحَجَّه:

لو يَزعمون كما زعمتَ لما روَوْا
لي في سواها ما نظَمتُ وأنشَدوا

وللِسان الدين في فتًى رَكِب البحر وأصابه الدُّوار، فترنَّح على ظهر المركب ترنُّحَ السكران:

ركب السفينةَ واستقلَّ بأُفْقِها
فكأنما رَكِب الهلالَ الفرقدُ
وشكَوْا إليه بمَيْدِه فأجبتُهم:
لا غَرْو إنْ مادَ القضيبُ الأملَدُ

وللمأمونِ بن الرشيد:

قمرٌ يَحمِلُ شمسًا
مرحبًا بالنيِّرَينِ
ذهَبٌ في ذهبٍ يسْـ
ـعى به غُصنُ اللُّجَينِ
هذه قُرةُ عينٍ
حملَتْ قرةَ عينِ

ولي وقد اقترحَت عليَّ إحدى السيدات نظْمَ شيء في حادثة:

بعظيمِ لُطفكِ يا فتاةُ تَغزَّلي
والقول حقٌّ لستُ فيه أُجارى
دُرُّ المقال لقد تناثر بينَنا
عن دُرِّ ثَغرٍ لا أراه يُبارى
إنْ كذَّبوني فالحقيقةُ تنجَلي
والخطُّ زورٌ والشُّهود سَكارى

ولابن خطيب داريَّا وهي قصيدةٌ بديعة:

حَبيبي لقد أصبحتُ بالسُّقْم هكذا
وظَهري بما لاقَيتُ بعدَكَ هكذا
وطَرْفيَ من فيض الدُّموع مُقرَّحٌ
وقلبيَ مِن ذِكراكَ يَخفِقُ هكذا
أبيتُ على جمرِ الغَضا مُتقلِّبًا
وأنتَ على فَرْش المسرَّاتِ هكذا
وتُصبح مسرورًا بحُسنِك لاهيًا
وأُصبِح ذا صدرٍ من الهجرِ هكذا
وأهواكَ يا زينَ الملاح وتَبتغي
هلاكي وعمري تحتَ طوعكَ هكذا
نسيتَ وقد بِتْنَا وأنت مُنادِمي
وقد تركَتْك الراحُ تَنعُس هكذا
وألتمِسُ التقبيلَ في كلِّ ساعةٍ
وتأتي إلى نَحوي بثَغْرك هكذا
وتُنكِرني حتى كأنيَ لم أكن
ضمَمتُ إلى صدري قَوامَك هكذا

وللمعلم بطرس كرامة الحمصي من قصيدةٍ مدح بها حضرة شيخ الإسلام عارف حِكْمت بك الشهير:

أرَجُ الصَّبابة مِن ثنائك عارفُ
وفؤادُ صبِّك بالمحبةِ عارفُ
يا مَنْ مَحاسنُ وجهه قد أفتنَتْ
كلَّ الأنام وكَلَّ عنها الواصفُ
فإلامَ تَكلَفُ بالدلال وتنثَني
وتزجُّ نبلَ الحاجِبَين طوارِفُ
هذي جُفونك أم سهامٌ أُرسِلَت
للعاشقين فكلُّ صبٍّ خائفُ
هلَّا عَلمتَ بأن قدَّك ناهبٌ
منَّا القلوبَ وأنَّ لَحظَك خاطفُ
ما السِّحر إلا ما تَريش نواظرٌ
والخمرُ إلا ما تُدير مَراشفُ
أَفْدي برُوحي أهْيفًا في فرقِه
صبحٌ وفي فرعَيه ليلٌ سادفُ
يَغزو الأنامَ بقَدِّه وبطَرْفهِ
ذا رامحٌ فيهم وهذا سائفُ
لعب الهوى بقَوامِه فتخاصمَت
عند الوِشاح ذَوائبٌ ومَعاطفُ
واهتزَّ مثلَ الغصن أشرَق فوقَه
بدرٌ سَناهُ كلُّ بدرٍ خاسفُ
أخَذَت مَعاطِفُه النحولَ وخَصْره
لما تثاقَل رِدفُه المتكاثِفُ
شطَّت ركائبُنا وشطَّ مَزارُه
فالقلبُ وارٍ والجفونُ ذوارفُ
حسبي مِن الحب المبرِّح ما عرا
قلبي المتيَّمَ والترحُّلُ آزِفُ
قمرٌ تبرقَع بالخِداع ولم يزَلْ
مثلَ الزَّمان خِداعُه مُترادِفُ
يا هل ترى هو حافظٌ عهدَ الهوى
أم مِن صُروف الدهر عَهدي صارِفُ؟
فالقيدُ والأيام كلٌّ منهما
فيما يُعاهِد ناكثٌ ومُخالِفُ
عتبًا على الأيام يَبكيها دمًا
لو أنهنَّ بما فعَلْن عَوارفُ
لا أختشي غدرَ الزمان وناصري
ذو المجد والشرفِ الأميرُ العارفُ

وله:

قالت وقد رنَّحَت بالتِّيهِ قامَتَها
ماذا تقولُ بقدِّي العادلِ الحسَنِ؟
فقلت: غصنٌ، فقالت وهْي ضاحكةٌ:
قد شبَّه الغصنَ بعد الجهدِ بالغصُنِ

وله في جميل وضع خدِّه على كفه:

مُذْ وسَّد الخدَّ على كفِّهِ
ظبيٌ بعينَيه دَمي يَستبيحْ
نادى مُحيَّاه ألا فانظُروا
فوق الثريَّا قمرٌ يَستريحْ

وله في أثرٍ بحاجب جميل:

قالوا: بحاجبِ مَن صابَيْتها أثرٌ
فقلتُ: مهلًا؛ فما في ذاك صِدقُ خبَرْ
لفَرْط ما رشَقَت عن قوس حاجبِها
نبلًا فأثَّر وقْعُ النَّبلِ فيه أثَرْ

وله، وفيه نوعٌ حسَن التعليل:

يا ميُّ حسبُكِ كم يَبيت معذَّبًا
يَرعى النجوم ولم يَذُق طعمَ الكَرى
يصبو إلى البدرِ المنير لأنَّهُ
تمثالُ وجهِك في السماء تصوَّرا

وقال يمدح حضرة الشريف علي ابن الشريف غالب المشهور:

سلا ظَبْيةَ الوَعساء أين يَمينُها؟
وأين عهودٌ أوثقَتْها يمينُها؟
تُرى عَلِمَت ماذا لقينا مِن الهوى
وما فعَلَت يومَ الوداع جُفونُها
وهل عَلِمت سحَّارةُ الجَفنِ أنني
أسيرُ هواها والفؤادُ رهينها؟
ولي كبِدٌ حرَّى تئنُّ صبابةً
ولم يُجْدِها إلا الْتِياعًا أنينُها
ومِن عجَبي ترمي السهامَ بمُهجتي
ويُطرِبني عند الوقوع رَنينُها
برُوحيَ مَنْ جاءت بليلِ غدائرٍ
فأشرق صبحًا في الظلام جَبينُها
مَهاة لها كلُّ القلوب مَنازلٌ
ونَهْب قلوبِ العاشقين شُئونُها
من العُرْب إن ماسَت ففي التُّركِ لوعةٌ
وترنو فتَغزو الرومَ جهرًا عيونُها
بقامتها لينٌ وفي القلب قسوةٌ
فيا ليت حظِّي منهما كان لينُها
يَروقك تحتَ المعطفَيْن ذوائبٌ
يَمِسنَ وبين الفرقَدَيْن سكونُها
مُهفهَفةً يَروي عن الوردِ خدُّها
أحاديثَ خالٍ في الفؤاد شجونُها
إذا جيدُها الحالي أذاع لآلئًا
ففي ثَغْرها الحالي الرُّضابُ ثَمينُها
أُطالبُها بالوعد وهْيَ ضَنينةٌ
به، والغواني ليس تُقضَى ديونُها
تُسائلُني عن مِثل ما في لِحاظِها
وعن كبدي ما في الخدود كَمينُها
فقلتُ: دَعيني والهوى إنَّ مُهجتي
مديحُ الشريف الأرْيَحيِّ مَعينُها

وقال:

أقبلَت تَنجلي وفي الخدِّ شامَة
تَسْتبي كلَّ مَنْ رآهُ وشامَهْ
بين خطِّيَّ قامةٌ وحسامٌ
من جفونٍ أربَتْ على الصَّمصامَة
زجَّجَت حاجبًا فأصبح قوسًا
فأراشَت للعاشِقين سِهامَهْ
وجلَتْ مَبسِمًا تَفيض جفوني
دُرَّ دمعٍ إذا رأيتُ ابتسامَة
أخجل الوردَ وجْنَتاها فأضحى
ذا احمرارٍ مُشقِّقًا أكمامَهْ
غازلَتْنا والحبُّ فينا كَمينٌ
فأذاعَت من كل صبٍّ غرامَهْ
لاعبَ الدَّلُّ عِطْفَها باهتزازٍ
فأقامَت على الغُصون القيامَة
جرَّدَت أبيضًا بأسودِ جَفنٍ
وغزَتْنا ظلمًا بأعدلِ قامَة
أسقَم السِّحرُ طَرْفَها فأعارَت
يومَ بَينٍ للعاشقين سِقامَهْ
مَن عَذيري بظَبْيةٍ وردُ خدَّيْـ
ـهَا لِفَتك العيون أوفى علامَة
تَسترِقُّ النُّهى برِقةِ خَصرٍ
يَستفزُّ الأشياخَ وَهْي غُلامَهْ
يا خَليًّا أضحى يَلوم شجيًّا
لستَ تدري الهوى فخَلِّ الملامَة
ومُحيَّا تحت اللِّثام هلالٌ
وَهْو بدرٌ إذا أزاحَتْ لِثامَهْ
لو رأيت العيونَ وَهْي سكارى
رحت ذا سَكْرة بغير مُدامَة
أوْ تَرى الفَرْقد المنيرَ ببدرٍ
سمْتُ بالنفس ضمَّهُ والْتثامَهْ
إن للحُبِّ لذةً لم يَذُقْها
مَن تولَّى عليهِ حُب السلامَة
كيف أنسى مُهفهَفًا جاء يُهدي
بلِحاظٍ خوفَ الوُشاة سلامَهْ
عَندَمُ الخدِّ عن دمي سَلْ خِضابًا
زاد حُسنًا بَنانَهُ وسُلامَهْ
مِن ظباء الأتراك ظبيٌ رشيقٌ
فتَن العُرب حينَ هزَّ قِوامَهْ
عجبًا في الجبينِ ليلٌ وصبحٌ
كيف لا يَنسخ الصباحُ ظلامَهْ
يا غزالًا غزا القلوبَ بلَحْظٍ
عَمْرَك اللهَ قد سلَبتَ الكرامَة
جُدْ بوَصلٍ على الكريم بنَفْسٍ
بوِصالٍ حاشاك تأبى الكرامة
ما سلَوْتُ الهوى وحقِّ جمالٍ
منك وافٍ وذي أبَرُّ قسامَة
يا نَدامايَ والزمانُ مُوافٍ
ما لِدهرٍ على العهود استقامَة
أين عهدٌ مضى وعصرٌ تَقضَّى
بين أُسْد الشَّرى وغِزْلانِ رامَة
لو صَحا الدهرُ مِن سُلافة جَورٍ
شقَّ أطواقَهُ بُكًا ونَدامَة

ولإبراهيم الصبيبي:

لما بدا مبيَّضًا
والقلبُ مشتاقٌ إليهِ
ناديتُ هذا قاتلي
والرايةُ البيضا عليهِ

ولابن بقيٍّ في غلام مُغنٍّ قام يرقص:

بأبي قَضيب البان يَثْنيه الصِّبا
عوض الصَّبا في الروضة الغنَّاءِ
نادمتُه سَحرًا فأمتعَ مسمَعي
بترنُّمٍ كترنُّم الورقاءِ
وكأنما أكمامُه في رقصهِ
تتعلَّم الخفَقانَ من أحشائي
ويمرُّ يلتقط الزجاجَ بذيلهِ
مرَّ النسيمُ على حَباب الماءِ

ولي وقد كتبتُها على رسمي:

إليكم يا أحبةُ رسْمَ جسمٍ
ملَكتم قبلَهُ طوعًا فؤادي
وإن البُعد خلَّفَني سقيمًا
ولم يبقَ السليم سِوى ودادي

ولآخر:

يا مَن إذا أقبل قال الورى:
هذا مَليك الحسن في موكبِهْ
إنَّ الهوى صعبٌ ولكنَّني
بُلِيت بالأصعَبِ مِن أصعَبِهْ
قد كان لي في خِنْصري خاتَمٌ
واليوم لو شئتُ تمنطَقتُ بهْ
وصِرت مِن فرط نُحولي بكم
يَحمِلني البرغوثُ في مخلبِهْ
وذبتُ مِن وجدي فلو زجَّ بي
في مُقلة النائم لم ينتبِهْ

والشيء بالشيء يُذْكَر؛ فقد قلتُ في خاتَمٍ أحمر اللون وضعَتْه مَحبسًا لقِلادة العنق:

ذا خاتَمٌ أجلَلْتُه فوَضعتُه
كقِلادةٍ للعُنْق دون رياءِ
خوفَ البِعاد دفَعتُ بالياقوتةِ الْـ
ـحمراءِ شرَّ المقلةِ الزرقاءِ

ولبعضهم قولُه وهو بديع، فيه من محاسن التوجيه ما فيه:

خاطَبَنا العاذلُ عند الملامْ
بكثرةِ الجهل فقُلنا: سلامْ
ما لامَنا من قبلُ لكنَّهُ
لما رأى العارِضَ في الخدِّ لامْ
وليس لي مِن عشقِه مَخلَصٌ
لكنني أسألُ حُسنَ الختامْ
والجَفْن في لجَّةِ دمعي غدَا
مِن بعده يَسبح شهرًا وعامْ
ونارُ خدَّيه التي أَضرَمَت
عذابَها كان لقلبي غرامْ
اختَرتُه مولًى ويا ليتَهُ
لو قال: يا بُشرايَ هذا غُلامْ
سلامُه يبخل فيه وما
قصديَ إلا وُدُّه والسلامْ
عنِّي حمى الثَّغْر بألحاظهِ
وكان حالي معَهُ في انتظامْ
وفيه قد زاحمَني شاربٌ
والمنهَلُ العذْبُ كثير الزحامْ
لِبَرق هذا الثَّغرْ كم عاشقٍ
قد هام وجْدًا بين مِصرٍ وشامْ
دَمعي ونَظْمي في هواهُ غدَا
يألفُ كلٌّ منهما الإنسجامْ
ما ليَ سهمٌ قطُّ مِن وَصْلهِ
لكنْ مِن اللَّحْظ لقلبي سِهامْ
مُذْ حلَّ ذاك الشِّعرُ قلبي غدَا
يرقص لكنْ رَقصُه في الظلامْ
ماسَ وقد غطَّى بأكمامهِ
خدَّيه خوفًا من عيون الأنامْ
فقلتُ: ما ألطفَ غصنَ النَّقا
وأحسنَ الوردَ الجني في الكِمامْ
جرَت دموعي حين قبَّلتُهُ
فهل رأيتَ البدر تحت الغَمامْ؟

وقال شمس الدين بن الصائغ:

بروحيَ أَفْدي خالَهُ فوق خدِّهِ
ومَنْ أنا في الدنيا فأَفْديه بالمالِ
تَباركَ مَن أخْلى مِن الشَّعْر خدَّهُ
وأسكنَ كلَّ الحُسن في ذلك الخالِ

وللسان الدين بن الخطيب:

إنَّ اللَّحاظ هي السيوفُ حقيقةً
ومَن استراب فحُجَّتي تَكفيهِ
لم يُدعَ غِمدُ السيفِ جَفنًا باطلًا
إلا لشِبْه اللَّحْظ يُغمَد فيهِ

وقال إلياس أفندي صالح كنعان:

ألا قُولا لها أن تَقرَباها
سيول الصدِّ قد بلَغَت رُباها
سَلاها كيف لا تَرثي لِصبٍّ
سَلاهُ بها الغرامُ وما سَلاها؟
أراها بالصدود تَزيد جَورًا
فقد راحَت وما الْتفتَت وَراها
وَفاها بالعهود غدَا حَرامًا
فكم قد كذَّبَت بالمَطْلِ فاها
نواها بالغَت فيه فيه وراحَت
ولم تَرحم عليلًا أنَّ: واها
قلاها لم تقل منه مُعنًّى
ولم يترك حَشًا إلا قَلاها
عَصاها في الفؤاد لقد رمَتْها
وقد ذاب الفؤادُ وما عَصاها
لِما هذا الدلالُ بغير وصلٍ
تُرى وإلامَ أُحْرَم مِن لَماها
مُرادي أن أخاطبها وِجاهًا
ولستُ بطالب عزًّا وَجاهَا
أبى هذا الهوى إلَّا هلاكي
بها للهِ ما أقسى أباها
خُطاها في الهوى خَطأٌ ولكن
لِتُخطِئْ آهِ ما أحلى خُطاها
دَعاها بالدلال تَزيد تيهًا
لِتَفعلْ ما تشا لا تَردَعاها
إذا هام الفؤاد فليس بِدعٌ
ولا جُرْمٌ إذا زادَت أذاها
لنا مُهَجٌ بَراها الله تَهوى
وتحيا بالغرام ولو بَراها

وللشيخ تقيِّ الدين ابن دقيق العبد:

إذا كنتُ في نجدٍ وطيبِ نَعيمهِ
تذكَّرتُ أهلي باللِّوى فمُحَيجِرِ
وإن كنتُ فيهم زدتُ شوقًا ولوعةً
إلى ساكني نَجد وعِيلَ تَصبُّري
فقد طالَ ما بين الفريقَين موقفي
فمَنْ لي بنَجدٍ بين أهلي ومَعشري

وهذه رائيةُ جميلِ بُثينة العُذْري:

خليلَيَّ عُوجا اليومَ حتى تُسلِّما
على عَذْبةِ الأنياب طيِّبة النشرِ
فإنَّكما إن عُجْتما بيَ ساعةً
شكَرتُكما حتى أُغيَّبَ في قبري
وإنكما إن لم تَعوجا فإنني
سأصرف وَجْدي فأْذَنا اليومَ بالهجْرِ
وما ليَ لا أبكي وفي الأيْكِ نائحٌ
وقد فارقَتْني شَختةُ الكَشح والخَصرِ
أيَبْكي حَمامُ الأيك مِن فَقْد إلفِه
وأصبر! ما لي عن بُثينةَ مِن صبرِ
يقولون: مسحور يُجَنُّ بذِكْرها
وأُقْسِم ما بي من جنونٍ ولا سِحرِ
وأُقْسم لا أنساكِ ما ذَرَّ شارقٌ
وما هبَّ آلٌ في مُلمَّعةٍ قَفرِ
وما لاحَ نجمٌ في السماءِ مُعلَّقٌ
وما أورَق الأغصانُ مِن ورق السِّدر
لقَد شُغِفَت نفسي، بُثينَ، بذِكركم
كما شُغِف المجنون يا بُثْنَ بالخمرِ
ذكَرتُ مقامي ليلة البانِ قابضًا
على كفِّ حَوراءِ المدامع كالبدرِ
فكِدتُ ولم أملك إليها صَبابةً
أهيمُ وفاض الدمعُ مني على النَّحرِ
فيا ليت شِعري هل أبيتنَّ ليلةً
كلَيلتِنا حتى نرى ساطعَ الفجر
تَجودُ علينا بالحديث وتارةً
تجود علينا بالرُّضاب من الثَّغر
فليت إلهي قد قضى ذاك مرةً
فيَعلمَ ربي عند ذلك ما شُكري
ولو سألَت مني حياتي بذَلتُها
وجُدتُ بها إن كان ذلك مِن أمري

وهذه رائية عُمر بن أبي ربيعة ومطلعها:

أمِن آل نُعمٍ أنت غادٍ فمُبكِرُ

إلى أن يقول:

وغاب قُميرٌ كنتُ أرجو غُيوبَهُ
وروَّح رِعْيانٌ ونوَّم سُمَّرُ
فحَيَّيتُ إذ فاجأتُها فتولَّهَت
وكادَت بمكتومِ التحيَّة تَجهرُ
وقالت وعَضَّت بالبَنان: فضَحتَني
وأنت امرُؤٌ ميسورُ أمرِك أعسرُ
أريتَك إذْ هُنَّا عليك ألم تخَفْ
رقيبًا وحولي مِن عدوِّك حُضَّرُ
فوالله ما أدري أتعجيلُ حاجةٍ
أتى بك أم قد نام مَنْ كنتَ تَحذرُ؟
فقلتُ لها: بل قادني الشوقُ والهوى
إليكِ وما عينٌ مِن الناس تَنظرُ
فيا لك مِن مُلقًى هناك ومجلس
لنا لم يُكدِّرْهُ هناك مُكدِّرُ
يَمجُّ ذكاءَ المسك منها مُفلَّجٌ
رقيقُ الحواشي ذو غروبٍ مؤشَّرُ
يرقُّ إذا نفترُّ عنه كأنهُ
حَصى برَدٍ أو أُقْحُوانٌ مُنوَّرُ
وتَرنو بعينَيها إليَّ كما رَنا
إلى زَرْنبٍ وَسْط الخَميلةِ جُؤذُرُ
فلمَّا تولى الليلُ إلا أقلَّهُ
وكادت تَوالي نَجمِه تتغوَّرُ
أشارت بأنَّ القوم قد كان مِنهمُ
هبوبٌ ولكنْ موعدٌ لك عَزْوَرُ
فما راعَني إلا مُنادٍ برِحلةٍ
وقد لاح مفتوقٌ من الصبح أشقَرُ
فلما رأَت مَن قد تنوَّر مِنهمُ
وأيقاظَهم قالت: أشِرْ كيف تَأمرُ
فقلتُ: أُباديهم فإمَّا أَفوتُهمْ
وإما يَنال السيفُ ثأرًا فيَثأرُ
فقالت: أتحقيقٌ لما قال كاشحٌ
علينا وتصديقٌ لما كان يؤثرُ
إذا كان ما لا بدَّ منه فغيرهُ
من الأمر أدْنى للخفاء وأستَرُ
أقُصُّ على أختَيَّ بدْءَ حديثِنا
وما ليَ عمَّا يعلما مُتأخَّرُ
لعلَّهما أن ينعتا لك حيلةً
وإن يَرْحبا صدرًا بما كنت أحصرُ
فأقبلَتا فارْتاعَتا ثم قالتا:
أقلِّي عليك الخطبَ فالأمر أيسرُ
يقوم فيمشي بيننا متستِّرًا
فلا سِرُّنا يَفشو ولا هُو يظهرُ
فكان مِجَنِّي دون مَنْ كنتُ أتَّقي
ثلاث شخوصٍ كاعِبانِ ومعصرُ
فلما أنَخْنا ساحة الحيِّ قُلن لي:
ألم نتَّق الأعداءَ والليلُ مُقمرُ؟
وقلنا: أهذا دأْبُك الدهرَ سادرًا
أما تنتهي أو تَرعوي أو تُفكِّرُ؟

ولجميل بثينة من داليَّتِه:

ويَحسب نسوانٌ من الجهل أنني
إذا جئتُ إياهنَّ كنتُ أريدُ
فأَقسم طَرْفي بينهنَّ فيَستوي
وفي الصدرِ بَونٌ بينهنَّ بعيدُ
يَموت الهوى منِّي إذا ما لقيتُها
ويَحيا إذا فارَقتُها فيعودُ

ولسليم أفندي عنحوري في غادة تلعب في سبحة:

ولي حبيبٌ سبى أُملودُ قامتِه
بانُ النَّقا شفَّ جسمي فَرطُ رِقتهِ
يَجول قلبي على راحاته لعبًا
كأنه حبَّة في سلك سبحتِهِ

وله:

حتَّامَ أسعى أن أفوزَ بخَلْوةٍ
بك دون أن يأتي الزمانُ بطائلِ
الناسُ تشكو من عَذولٍ واحدٍ
ما القولُ بي والدهرُ بعضُ عَواذلي؟

ولعزتلو خليل أفندي الخوري:

ذهَب العقلُ فمَنْ يرجعُهُ
وسَطا العشقُ فمَن يَمنعُهُ
بدرُ حُسنٍ قد سَبَاني حُسنُه
جلَّ باري لُطفِه مُبدِعُهُ
شفَّني وجْدٌ به تيَّمَني
حبُّه حيَّرني بُرقعُه
فأنا الآن مُعنًّى حائرٌ
ليس تُطفي نارَه أدمعُهُ
أسرَتْني بالهوى الخُودُ التي
سلَبَت رُشدي فلا تُرجِعُه
غادةٌ ذابَت من اللُّطفِ كما
ذابَ قلبي والهوى يَصرَعُه
نصفها يسقط للأرض إذا
ماسَ ذاك الخَصرُ إذ تَدفعُه
تتجلَّى بجَمالٍ وبها
ولها الحسنُ انتهى أجمَعُه
عقرب الشَّعر على الفَرْق لوى
يَجذبُ القلبَ كما يلسعهُ
وجلا الصدرُ سَنى فجرٍ على
مطلعِ الصبح علا مَطلَعُه
أنجمُ الأزرار دارت حولَه
تمنعُ النَّهد ولا تمنَعُه
ظاهرٌ يُخفيه عني شفَقٌ
كِدتُ لولا رهبتي أمزعُه
كفُّها الباهي بِكفِّي خِلْتُه
صِيغَ من ماءٍ صَفا مَنبعُه
قد بدا في لوح صدري كاتبًا
بالسَّنى عهدَ الوفا إصبَعُه
حيثما حلَّت مَهاتي جانبي
في مَقامٍ يزدهي مربعُه
مَسَّها حرُّ الهوى فانعطَفَت
لمُحبٍّ مُزِّقت أضلعُه
ثم مالت حيثما خالجَني
أمَلٌ عن فكرتي تَنزعُه
أعرَضَت عني وقالت: يا فتى
أنت لا تَعلم ما تَصنعُه
رُحْ إلى أهلك عنِّي إنما
أنت صبٌّ غرَّه مَطمَعُه
قد بلغت الآن منِّي منزلًا
فوقَ هامات العُلى موضِعُه
فاعْلمَنْ أنَّك عندي في حِما
صُعُبٍ أسهَلُه أمنَعُه
غفَل الدهرُ ولاحَت فرصةٌ
فاختلَسْنا منه ما يَمنعُه
إنما أنت معي في خَلوةٍ
لا سوى العِفَّة ما تَجمعُه
إن مِن ذاتي لذاتي حارسًا
ساهرَ الطرْفِ فلا تَخدَعُه
ليس إلا نظَرٌ تَحظى به
وحديثٌ في الدُّجَى تَسمعه
سِرْ مُعافًى من رحابي لا تكن
خابطًا نحو الشَّقا مَرجِعُه
حمْلقَ الفجرُ بعينَيْه بنا
ورَقيبي شَوكُه مَضجعُه
لستُ أخشاه ولكنْ عزَّتي
تَكرَه الظنَّ ومن يُبدِعُه
إنني لم أدرِ قبلًا ما الهوى
إنني والله لا أتبَعُه
لستُ أدري الحبَّ لا أعرفه
كيف معناه وما مَوقعه؟
إنه علمٌ جديد دَرْسُه
صعبُ الحفظ فلا أسمَعُه

ولابن معتوقٍ من غزَل قصيدةٌ يمدح بها السيد علي خان:

فُتِنَت في جَمالها الشُّهْبُ حتى
شاركَتْنا ونازعَتْ في هواها
عَلِقَت شمسُنا بها فلهذا
عينُها في الرواح تَجري دِماها
لم تحل من فراقها كلَّ يومٍ
فهْي صفراءُ خشيةً مِن نواها
قد يرى حُبَّها الأهلَّةُ وجدًا
فأطالت على الضُّلوع انحِناها
ذات حُسن لو تُحسِن النطقَ يومًا
سبعةُ الشُّهْب أقسمَت بضُحاها
خالُها في الخدود في الحال مثلي
حائرٌ بين ثَلجِها ولَظاها
سقْمُ جسمي وصحَّتي وفَنائي
ووجودي في سُخطِها ورِضاها

ولي مِن غزلٍ قصيدةٌ أمدح بها عزتلو سليم بك تقلا مدير جريدة الأهرام:

نَهاها عن مَحبَّتنا نُهاها
فتاهَ تعجُّبًا منها فَتاها
سرى أرجُ النَّسيم لذا أراه
كئيبًا حيث أنبأ عن جَفاها
فتاةٌ زُيِّنَت بكمالِ خُلْقٍ
وخَلقٍ قُل تباركَ مَن براها
أراقت مِن دِمايَ ومن دُموعي
فكان لِغَدرها نهرٌ رواها
لقد طال الوقوف على ربوعٍ
بها أبدًا أُسائل عن رِضاها
سَقمتُ فلا أرى في الحب ملجا
ولا ألقى مُجيرًا مِن هواها
لقد علمَت بعِزَّتها وذُلي
حمائمُ رامةٍ ومَهى نَقاها
مضى زمَني ومُذ أمَّلتُ منها انـ
ـفِلاتًا لاحظَتْني مُقلَتاها

ولسليم أفندي عنحوري:

وقائلةٍ إلامَ السُّحْبُ تبكي
فقد أجرت على برٍّ بِحارا
فقلتُ: وكيلة عني وهذا الْـ
ـحَيا مِن مدمع الصبِّ استعارا
كذاك الحبُّ مظهره عجيبٌ
يُسخِّر إن يَشا الفلَك اقتِدارا

وله:

لا تَعجبوا لَمَّا ترَون بدائعي
في الشِّعر يُسكِر راحُها راحَ الدِّنانْ
لو قام أمِّيٌّ تجاهَ مَليكتي
لسبَتْ بلاغتَه فلاسفةُ الزَّمانْ

وله:

وقد ارتجلَهما في غادةٍ ربَّت
ظفر خنصرها حتى طال كثيرًا:
ربَّت لخِنصرها المجوهَرِ ظُفْرَه
وبرَت ظُبَى طرَفَيه حتى أثَّرَا
لم يَكفِ رُمحُ قَوامِها وحُسامُ مُقْـ
ـلتِها فزادَت للتفنُّن خِنجرَا

ولي من غزل قصيدة:

بين نَسْرينٍ ووردٍ وإقاحْ
ومَسَّراتٍ وأقداحٍ وراحْ
دارَت الراحُ علينا وجَلَت
كلَّ همٍّ وبها الصبُّ استراحْ
خَنْدَريسٌ عُتِّقت في دَنِّها
إنها روح وفيها الهمُّ راح
في رياضِ الزَّهرِ بين الزُّهر إذْ
عِطرُها يا قوم في الأكوانِ فاحْ
قلبُ صبٍّ صابر في بُعدِ مَن
صبَّ دمعي بعدَها دمعُ النُّواحْ
تيَّمَتْهُ في الهوى مالِكةٌ
والملوكُ اليومَ في حكمٍ مباح
بين خالَيْها وقلبي نسبةٌ
في انقِسامٍ وهي في الودِّ صِحاحْ
أسودُ الخال على وجنَتِها
قد حكى حظَّ مُحبٍّ مُستباحْ
يا ليالي الحظِّ ما عُدتِ على
قلب صبٍّ ظُلمه أضحى مُتاحْ
طائر العقل برَوض الحُسن قد
رتَّب الأنغامَ والإقبال لاحْ
في زمانٍ آنَ فيه الملتقى
فيه نادى الحظُّ أنْ ما مِن بَراحْ
ليس يَدري حالتي في قربها
غيرُ صبٍّ هام في ذات الوشاحْ
ودنَت بعد التنائي غادَتي
فلذا طِيبُ مقالي اليومَ فاح

ولعبد الحكم يستجلي زوجته:

سترَت وجهها بكفٍّ عليهِ
شبَكُ النَّقش وَهْي تجلى عروسَا
قلت: لم يُغنِ عنك سترُك شيئًا
ومتى غطَّت الشِّباكُ الشُّموسا؟

ولابن قلاقس الإسكندري في سوداء:

ربَّ سوداءَ وهْي بيضاءُ فِعلٍ
حسَد المسكَ عندها الكافورُ
مثلُ حبِّ العيون يَحسبه النا
سُ سوادًا وإنما هو نورُ

وقال الشيخ بدر الدين الدَّماميني:

في ليلةِ البدر أتَت
ليلى فقرَّت مُقلتي
قالت: ألا يا بدرُ نَمْ
فقلتُ: هذي ليلتي

وبينما كانت جاريةٌ من كرائم الخليفة المعتمِد على الله، قائمةً على رأسه تَسقيه، والكأس في يدها؛ إذْ لمع البرقُ فارتاعت، فقال بديهًا:

رِيعَت من البرقِ وفي كفِّها
برقٌ من القهوة لَمَّاعُ
عَجِبتُ منها وهْي شمسُ الضحى
كيف مِن الأنوار تَرتاعُ؟

وحُكيَ أن ثلاثَ نساء من العرب جلَسْن بالقرب من نُصَيب بن رياح القضاعي في مكة فجعَلن يتذاكَرن الشعر والشعراء، فقالت إحداهن: قاتل الله جَميلًا العذري حيث يقول:

وبين الصفا والمروَتَين ذكَرتُكم
بمختلِف ساعٍ وآخر يرجفُ
وعند طوافي قد ذكَرتُك ذكرةً
هي الموتُ أو كادت على الموت تُضعِفُ

فقالت الأخرى: أخزى الله كُثيِّر عزة حيث يقول:

طلَعْنَ عليها بين مروةَ والصفا
يَمُرْن على البطحاء مَورَ السحائبِ
وكِدْن لَعَمْر الله يُحْدِثنَ فتنةً
لمختَشِعٍ من خشية الله تائبِ

فقالت الأخرى: بل قاتل الله ابنَ الزانية نُصيبَ بن رياح حيث يقول:

أُلامُ على ليلى ولو أستطيعها
وحُرمةِ ما بين البنيَّة والسترِ
لَمِلْت على ليلى بنفسيَ ميلةً
ولو كان في يوم التحالُفِ والحشر

فقام نُصيبٌ وسلَّم عليهنَّ وأنشدَهن قصيدة من شعره فأُعجَبْن به، وقُلن له: مَنْ أنت حيَّاك الله؟ فقال: أنا ابنُ المظلومة! فقُمْنَ إليه واعتذرَت القائلة بأن ذلك قد دعاها إليه استحسانُ كلامه المذكور.

ودخل أبو بكر الشِّبلي يومًا المارِسْتان فوجد غلامًا أسودَ قد غُلَّ إلى سارية، فلما رآه قال: يا أبا بكر، أما كفى عذابي بحبه حتى قُيِّدتُ! وأنشد:

على بُعْدِك لا يَصـ
ـبرُ مَنْ عادَتُه القربُ
وعن قُربِك لا يَصـ
ـبر من تيَّمَه الحبُّ
فإن لم ترَكَ العينُ
فقد أبصرَك القلبُ

فصُعِق الشبليُّ وخرَّ مغشيًّا عليه.

وعن ذي النون المصريِّ قول فتاة:

أحبُّك حبَّين حبَّ الوِدادِ
وحبًّا لأنك أهلٌ لذاك
فأما الذي هو حبُّ الهوى
فحُبٌّ شُغِلتُ به عن سِواك
وأما الذي أنت أهلٌ له
فكشفُك للحُجْب حتى أراك
فما الحمدُ في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمدُ في ذا وذاك

قال الأصمعي: كنتُ في بعض مياه العرب، فسمعتُ الناس يقولون: «قد جاءت»، فتحرَّك الناس، فقمتُ معهم فإذا بجارية قد وردَت الماء، فما رأيتُ مثلها قط في حُسن وجهها وتمامِ خِلْقتها، فلما رأت كثرةَ تشوُّق الناس إليها أرسلَت بُرقعَها، فكأنه غمامة غطَّت شمسًا، فقلتُ: لِمَ تمنعينا النظرَ إلى وجهك الحسن؟ فأنشأَت تقول:

وكنتَ متى أرسلتَ طَرْفَك رائدًا
لقلبك يومًا أتعبَتْك المناظرُ
رأيتَ الذي لا كلُّه أنت قادرٌ
عليه، ولا عن بعضِه أنت صابرُ

ثم نظر إليها أعرابي وقال: إنَّا والله ممن قلَّ صبره، وأنشد:

أوَحشيَّةَ العينَين أين لكِ الأهلُ؟
أبالحَزْنِ حلُّوا أم مَحلُّهمُ السَّهلُ؟
وأيةُ أرضٍ أخرجَتْكِ فإنني
أراكِ مِن الفردوس إن فُتِّش الأصلُ
قِفي خَبِّرينا ما طَعِمتِ وما الذي
شَرِبتِ ومِن أين استقلَّت بكِ الرِّجْلُ؟
لأن علاماتِ الجِنان مُبِينةٌ
عليكِ وإنَّ الشكل يُشبِهُه الشكلُ

وقال إلياس أفندي طرَّاد مما يُكتَب على رسم:

أخذتِ يا روحيَ قلبي ومِن
مَحبَّتي صُوِّرتِ لي جِسمَا
أضمُّه نحوَ فؤادي فلا
يُعرَف مَن مِنَّا غدَا رسمَا

ولإبراهيم بن المدبر، وقد كتبَت له عريب مشوَّقتُه تسأله عن حاله:

وساءَلتُموهُ بَعدكمْ كيف حالُه
وذلك أمرٌ بيِّن ليس يُشْكِلُ
فلا تَسألوا عن قلبِه فهْو عِندَكم
ولكنْ عن الجِسم المخلَّفِ فاسألوا

وتذكَّرتُ هنا قولي في مثل ذلك:

لا تسألي عن حالتي بعدَ النَّوى
وكذاك مِن مرَضي فلا تتعجَّبي
إن الفؤاد لدَيكِ لَمَّا زدتِ في
هُجرانِه قال الحبيب معذِّبي
إني أعيشُ ولا فؤادَ وإنما
ذكَر الفؤاد إلى الحياة يَعود بي

ولشاكر أفندي شقير:

قل للأُلى عَشِقوا الجمال: تأمَّلوا
في قامةٍ يَعْنو لدَيها البانُ
غصنٌ ولكن فاعجَبوا من حملِه
الزهرُ وردٌ والجَنى رُمَّانُ

وقال إلياس أفندي طراد في قَيْنة اسمها ليلى:

وظبيةٍ تدَّعي بأنِّي
ملَكتُ أحشاءَها محلَّا
وكلَّما قلتُ: نِصفُها لي
وا ذُلَّ قلبي تُجيبُني لا

ولأزاد الهندي في الأذن:

أُذُن المليحةِ وردةٌ في روضةٍ
يا ليتَها تَهْوى نسيمَ بَياني
صدَفٌ أنيقٌ لا مَحالةَ أُذْنُها
والدُّر فيها واضحُ البرهانِ

وللرصافي وقد رأى ظبْيًا أُلقيَ عليه سُبات النوم، وكلَّل العرقُ منه خدًّا طريًّا فأراه الحُباب فوقَ الحميَّا:

ومُهفهَفٍ كالغُصن إلا أنهُ
سلبَ التثَنِّي النومَ عن أثنائهِ
أضحى يَنام وقد تحبَّب خدُّهُ
عرَقًا فقلتُ: الوردُ رُشَّ بمائهِ

ولعليِّ بن المبارك:

هبَّت الريح من الشَّرْ
قِ فجاءَتْني بريحِكْ
كيف أنساكَ ورُوحي
صُنِعَت من جنسِ روحِكْ؟

ولأسعد أفندي داغر من قصيدة قوله:

بالصَّحْو حدَّثَني العَذولُ وناجَى
قلبي فأرغمَه الغرامُ فعاجا
هيهات يَصحو مِن مُدام الوَجْد مَنْ
صِرْفُ الهوى لِقُواه بات مِزاجَا
أو أن يصحَّ عَليلُ بُعدٍ لا يَرى
غيرَ الوِصال من الحبيب عِلاجَا
ما حلَّ سائرُ ذكرِه بفؤادهِ
إلا وحرَّك شوقَه وأهاجَا
شوقًا لِمَن بِسَما الملاحة أصبحَتْ
شمسًا وفي مُلكِ المحاسن تاجَا
تُبدي سَنًا يُلقي على عين السما
حَرجًا ويُخفي للأسود حِراجَا
وتزرُّ فوق سما اللُّجَين غِلالةً
فتَصون بِلَّورًا وتَحمي عاجَا
وتشِيد حِصنًا للدَّلال يَدكُّ مِن
قلب العميد أخي الهوى أبراجَا

ولمحمود سامي باشا المِصري من قصيدة:

قالوا غدًا يومُ الرحيل ومَنْ لهم
خوف التفرُّق أن أعيشَ إلى غدِ
هي مهجةٌ ذهَب الهوى بشَغافِها
معمودةٌ إن لم تكن فكأنْ قَدِ
يا أهلَ ذا البيتِ الرفيعِ مَنارُهُ
أدعوكمُ يا قوم دعوةَ مقصدِ
إني فقدتُ العامَ بين بيوتِكمْ
عقلي فردُّوه عليَّ لأهتدي
أو فاستَقيدوني ببعضِ قِيانكمْ
حتى تَردَّ إليَّ نفسي أو تَدي
بل يا أخا السيفِ الطويلِ نِجادُهُ
إن أنت لم تَحْمِ النزيلَ فأغمِدِ
هذي لَحاظُ الغِيد بين شِعابِكمْ
فتكَت بنا خَلْسًا بغير مهنَّدِ
من كلِّ ناعمةِ الصِّبا بَدويَّةٍ
رَيَّا الشبابِ سليمةِ المتجرَّدِ
يَخفِضْن من أبصارِهنَّ تختُّلًا
للنفسِ فِعلَ الفاتناتِ العبَّدِ
فإذا أصَبْن أخا الشبابِ سلَبْنهُ
ورمَينَ مُهجَتَه بطرْفٍ أصْيَدِ
وإذا لمحنَ أخا المشيبِ قلَيْنهُ
وستَرْن ضاحيةَ المحاسنِ باليدِ

وله:

فيا سعدُ حدِّثني بأخبارِ مَنْ مضى
فأنتَ خبيرٌ بالأحاديثِ يا سعدُ
لعلَّ حديثَ الشوق يُطفِئ لوعةً
من الوَجْد أو يَقضي بصاحبه الفقْدُ
هو النارُ في الأحشاءِ لكنْ لِوَقعِها
على كَبِدي مما ألَذُّ به بَرْدُ
لعَمْر المغاني وهْيَ عِندي عزيزةٌ
بساكنِها ما شاقني بَعدَها عهدُ
لكانت وما فيها تُرى عينُ ناظرٍ
وأضْحَتْ وما فيها لغير الأسى وفدُ
وقَفْنا فسلَّمْنا فرَدَّت بألسُنٍ
صَوامِتَ إلا أنها ألسُنٌ لُدُّ
فيا قلبُ صبرًا إنْ أضرَّ بك النَّوى
فكل فِراقٍ أو تَلاقٍ له حدُّ
فقد يُشعَبُ الإلْفانِ أدْناهما الهوى
ويَلتئِم الضِّدان أقصاهما الحِقدُ
على هذه تَجري الليالي بحُكمِها
فآوِنةً قُربٌ وآونةً بُعدُ

ولآخر:

لسهمِ الحب جُرحٌ في فؤادي
وذاك الجرحُ مِن عين الرقيبِ
فلو سقَط الرقيبُ من الثريَّا
لَصبَّ على مُحبٍّ أو حبيبِ

ولآخر:

أحبُّ العَذولَ لِتَكرارهِ
حديثَ الحبيبِ على مَسْمعي
وأهوى الرقيبَ لأن الرقيبَ
يكونُ إذا كان حُبِّي معي

وقيل لبعض العرب: ما أمتعُ لذَّات الدنيا؟ قال: مُمازحة الحبيب، وغَيبة الرقيب.

وقال عُروةُ بن أُذَينة اللَّيثي:

إنَّ التي زعَمَت فؤادُك مَلَّها
خُلِقَت هواك كما خُلِقتَ هوًى لها
فإذا وجَدتَ لها وَساوسَ سَلْوةٍ
شفَع الضميرُ إلى الفؤاد فسلَّها
بيضاء باكَرَها النعيمُ فصاغها
بلياقةٍ فأدَقَّها وأجَلَّها
لما عرَضتُ مُسلِّمًا لي حاجةٌ
أخشى صعوبتَها وأرجو حلَّها
مَنعَت تَحيَّتَها فقلتُ لصاحبي:
ما كان أكثرَها لنا وأقَلَّها
فدَنا وقال: لعلَّها معذورةٌ
في بعضِ رقْبتِها فقلتُ: لعلَّها

فقال أبو السائب المخزومي: هذا والله الدائمُ الصبابةِ الصادق، لا كالذي قال:

إن كان أهلُك يمنعونَك رغبةً
عني فأهلي بي أضنُّ وأرغَبُ

ولأسعد أفندي داغر:

ما مال طَرْفي صوبَ دار سعادِ
إلا ودمعي سال صوبَ عهادِ
دارٌ إذا ما دارَ ذِكرُ حديثِها
عندي يُذكِّرني قديمَ ودادي
دارٌ تمنَّعَت الظِّباء بها وقد
عزَّت بشوكةِ دولة الآسادِ
رَبْعٌ يَجرُّ به الجمالُ ذيولَهُ
والمجدُ يَرفعه بلا إسنادِ
من كل واضحةِ الجَبين جمالُها
أوصافه جلَّت عن التَّعدادِ
يا حادِيَ الأظعانِ يَخبِطُ في السُّرى
عَرِّجْ على ذاك الحما يا حادي
يَهْديك نَفحُ الطِّيب من فتَياتهِ
وبَوارِقُ الفِتْيان أعظمُ هادِ
وإذا الشعورُ عليك أطبقَت الدُّجى
فمِن النُّحور ترى صَباحك بادِ
فأنِخْ بناديهِ نِياقَ تشوُّقي
واقْرا السَّلامَ عريبَ ذاك النادي
قُل عينُه تجري الحيا وفؤادهُ
ظمِئٌ إلى ماء التَّداني صاد
صبٌّ حليفُ ضنًى عميدُ صبابةٍ
ناءٍ شهيدُ قِلًى قتيلُ بعادِ

وقال بعضهم في الرقيب:

قال لي عُوَّدي غَداةَ رأَوْني
ما الذي تَشتهيهِ واجتَهَدوا بي
قلتُ: مقلًى بهِ لسانُ وُشاةٍ
قَطعوهُ فيهِ بصُنعٍ عجيبِ
وأضافوا إليه كيدَ حَسودٍ
فُقِئَت فوقَها عيونُ رَقيبِ

ولابن رَشيق:

وظبيٍ مِن بَني الكُتَّاب يَسْبي
قلوبَ العاشقين بمُقلتَيهِ
رفَعتُ إليه أستقصي رِضاهُ
وأسألُه خَلاصًا من يدَيهِ
فوقَّع قد ردَدتُ فؤادَ هذا
مُسامَحةً فلا يُعدَى عليهِ

ولابن تميمٍ في عَوَّادة:

وفتاةٍ قد راضَت العودَ حتى
راحَ بعد الجِماح وهْو ذَليلُ
خاف مِن عَركِ أُذْنِه فعَصاها
فلهذا كما تَقول يَقولُ

وقال ابن قاضي ميلة:

جاءت بعودٍ يُناغيها ويُسعِدُها
فانظر بدائعَ ما خُصَّت به الشجرُ
غنَّت على عودِه الأطيارُ مُفصِحةً
غضًّا فلمَّا ذَوى غنَّت به البشَرُ
فلا يَزال عليه أو بهِ طربٌ
يهيجهُ الأعجَمانِ الطيرُ والوترُ

ولابن الحجاج من أبيات:

هذا ومُحسِنةٍ بالعودِ عاشِقُها
بذلك الطِّيب في الإحسان مسرورُ
إذا انثنَت وتغنَّت خِلْت قامتَها
غصنًا عليه قُبيلَ الصبح شُحرورُ

ولآخر:

وجاريةٍ إذا غنَّتْك صوتًا
فما لك مِن فراقِ الحلم بُدُّ
كأنَّ يَسارها في العود برقٌ
ويُمناها إذا ضربَتْه رعدُ

وقال أبو الفتح كشاجم:

لو لم تُحرِّكهُ أنامِلُها
كان الهواءُ يُفيدهُ نُطقَا
جسَّتْه عالمةٌ بحالتهِ
جسَّ الطبيبِ لمدنِفٍ عرَقَا
وحَسبتُ يُمناها تُحرِّكها
رعدًا وخِلْت يَسارها برقَا
غنَّتْ فخِلْت أظنني طربًا
أسعى إلى الأفلاك أو أرقى

ولآخر:

أشارت بأطرافٍ لِطافٍ كأنَّها
أنابيبُ دُرٍّ قُمِّعَت بعَقيقِ
ودارَت على الأوتارِ جسًّا كأنَّها
بَنانُ طبيبٍ في مجَسِّ عُروقِ

وحدَّث دِعْبِل الشاعرُ أنه اجتمَع هو ومسلمٌ وأبو الشِّيص وأبو نُواسٍ في مجلس، فقال لهم أبو نُواس: إن مجلِسَنا هذا قد أُشهِر باجتماعِنا فيه، ولهذا اليوم ما بعدَه، فليأتِ كلُّ واحد منكم بأحسنِ ما قال فليُنشِدْه، فأنشدَه أبو الشِّيص:

وقَف الهوى بي حيثُ أنتِ فليس لي
متأخَّرٌ عنهُ ولا مُتقدَّمُ
أجِدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً
حبًّا لذِكْركِ فلْيَلُمْني اللُّوَّمُ
وأهَنتِني فأهنتُ نفسيَ صاغرًا
ما مَنْ يَهون عليك مِمَّن يُكرَمُ
أشبَهتِ أعدائي فصِرتُ أحبُّهم
إذ كان حظِّي منكِ حظِّي مِنهمُ

قال: فجعَل أبو نُواس يَعجَب من حُسن الشعر حتى ما كاد يَنقضي عجَبُه، ثم أنشد مسلمٌ أبياتًا من شِعره يقول فيه:

فأُقسِم أنسى الداعِياتِ إلى الصِّبا
يمينًا وقد فاجأتُ والسِّترُ واقعُ
فغطَّت بأيديها ثِمارَ نُحورِها
كأيدي الأَسارى أثقلَتْها الجوامعُ

قال دِعْبل: فقال لي أبو نواس: هاتِ أبا علي، وكأني بك قد جئتَنا بأمِّ القِلادة! فأنشدتُه:

أين الشبابُ وأيَّةً سلَكَا؟
أم أين يُطلَب ضلَّ أم هلَكا؟
لا تَعجَبي يا سَلمُ مِن رجلٍ
ضَحك المشيبُ برأسِه فبَكى
يا ليت شِعري كيف صبرُكما
يا صاحبَيَّ إذا دَمي سُفِكَا
لا تَطلُبا بظُلامَتي أحدًا
قلبي وطَرْفي في دمي اشترَكا

وللنور الأسودي في جنكية:

لبنتِ شعبانَ جَنْك حين تَنطقُهُ
يغدو بأصنافِ ألحانِ الورى هازي
لا غَرْوَ إن صادَ ألْبابَ الرِّجال لها
أما تراه يُحاكي مِخلَب البازي؟

ولي في مُغنٍّ اسمه فواز:

خفِّف فديتُك ضرْبَ عودِك إذ أرى
قلبي عليه يرفُّ شِبهَ البازي
قد فزتِ في ملك القلوب فأنصَفوا
إذ لقَّبوك اليومَ بالفوَّازِ

ولآخر:

كأن فؤادي وطَرْفي معًا
هما طرَفا غصُنٍ أخضَرِ
إذا اشتعلَ الماءُ في جانبٍ
جرى الماءُ في الجانبِ الآخَرِ

ولإبراهيم أفندي الحوراني مما كتبه على رسم:

رسمٌ يُشخِّصُني لِمُقْلة مَن بهِ
ولَهي ورُوحي في حِماه تُقيمُ
يعقوبُ أشواقٍ إليهِ مُهجتي
وأنا بدِين الحبِّ إبراهيمُ

وله أيضًا في مثل ذلك:

يا مَعشرَ الصَّحبِ ذا رسمٌ يُذكِّركمْ
مُولَّهًا في هواكم دائمًا أبدَا
أودَعتُ روحي لدَيكم والجسومَ بلا الْـ
أرواحِ تَفْنى لِذا أتبعتُها الجسَدَا

وللمرحوم عزتلو سليم أفندي البستاني قوله:

الموت صعبٌ والصَّبابةُ أصعبُ
والكلُّ مِن هجرِ الحبيبة أعذبُ
والقلبُ يَطلب قُرب مَنْ أحببتُها
والموت مِن قُرب الحبيبةِ أقربُ
دونَ الديار مَناهلٌ وذَوابِلٌ
وصَواهلٌ وكتائبٌ تتَكتَّبُ
يا قلبُ صبرًا في المصائبِ فالفتى
مَنْ كان أقتابَ المصائبِ يَركبُ
والصَّبُّ مَن يَلقى المنونَ وفِكرُهُ
نحوَ التي ملَكَت حَشاهُ يَذهبُ
يا ظَبْيةً نفَتِ الرُّقادَ وغادرَتْ
قلبي المُعنَّى في اللَّظى يتقلَّبُ
إن كان طَرْفي لا يراكِ فإنني
أصبو إلى مَرْأى حِماكِ وأرغَبُ

وله:

إنني لا أختشي بِيضَ الظُّبَى
إنما أخشى سوادَ اللعَسِ
وعذابي لَحْظ عينٍ غُنجُها
شبَّ في قلبي لهيبَ القبَسِ
ألتقي ليلى ذَليلًا وأنا
ألتقي الأبطالَ كالمفتَرِسِ

وله:

بياضُ الضحى — إن غاب وجهُك — أسوَدٌ
وإن تُسفِري فالليلُ أبيضُ يَسطعُ
وأنتِ حياتي والفراقُ أعدُّهُ
مماتي فمِنك العيشُ والموت يَتبعُ

وللمعلم بطرس كرامة من قصيدة بعَث بها من مصر إلى الأمير أمين ابن الأمير بشير الشهابي:

مِن سَفح لُبنانَ أم من ذَيل لبنانِ
يا نَسمةً هيَّجَت شوقي وأشجاني
كيف المنازلُ هل مِن بعدنا ابتسمَت
ثُغورُها البِيضُ عن درٍّ ومَرْجانِ؟
وهل كعَهْدي على الأفنانِ صادحةٌ
ورْقُ الرِّياض بتغريدٍ وألحانِ؟
حُيِّيتَ لبنانُ مِن طَودٍ يُباكِرهُ
ودْقُ الغمام بهَطَّالٍ وهتَّانِ
حكى الجِنانَ بأنهارٍ مدفَّقةٍ
شهدًا تَفيض لدى حورٍ ووِلدانِ
دارت به جارياتُ الماء ساقيةً
مثل السواقي تَجارَت بين لبنانِ
تَحمي جُفونَ الظِّبا أحياؤه وترى
ظِباءَه تقتل الأحيا بأجفانِ
تشبُّ نارَ قِرًى منهُ ونارَ جوًى
بين المرابعِ من أُسْدٍ وغِزْلانِ
تقاسَم الفتْكَ أهلوهُ فأصبَح في
لَحاظِ غيدٍ وفي أسيافِ فِتيانِ
حكَت قدودُ غوانيه مرنَّحةً
رِماحَ فُرسانه يا خَجْلةَ البانِ
أُمسي وأُصبح ذا وَجْدٍ يواصِلُني
منهُ فيَهجرُني صبري وسُلواني
لم أنسَ يا صاحِ أيامًا به سلَفَت
قضيتُها بين أحبابٍ وخِلَّانِ
مضَت وأبقَت لنا في القلب باقيةً
تبثُّ بين الحشا أنفاسَ نيرانِ
بالله يا مَشرِقَ الأقمارِ هل نبَأٌ
عن ساكنِ الغرب يَشفي قلبَ وَلْهانِ؟
غصنٌ من البان يَعلو فوقه قمرٌ
ظبيٌ بلُبنانَ لا ظبيٌ بعُسْفانِ
أجفانُه سَكِرَت مِن خمرِ ريقتِهِ
فغازلَتْنا بفَتَّاكٍ وقتَّانِ
بمُهجتي أفتدي بدرًا يُشاكِلُه
مُهفهفًا مثلما أهواه يَهواني
مُكحَّلَ الطَّرْف من سحرٍ ومن حوَرٍ
مُضرَّجَ الخدِّ من وردٍ ورَيحانِ
بذمَّة الله ذاتُ الخال إنَّ لها
عهدًا يدوم لدى وصلٍ وهجرانِ
دَهْنانةً لا يزال التِّيه يَصحبُها
لَحاظُها وسيوفُ الهند مِثلانِ
يا أسمَ لا تجزَعي إنْ بات يُبعدني
عنك الزمانُ فإن الشَّوق أدناني
سقى زَمانَكِ يا أسماءُ صوبُ حَيا
فإنه كان عندي خيرَ أزمانِ
عصرٌ سَعِدنا به وقتًا كما سَعِدَت
أمُّ العلى بأمينٍ ما له ثاني

وللمرحوم أديب بك إسحاق في مقدمة روايته المعروفة ﺑ«الباريسية الحسناء»:

حَسِب المرأةَ قومٌ آفةً
مَنْ يُدانيها مِن الناس هلَكْ
ورآها غيرُهم أُمنيَّةً
فاز بالنِّعمة فيها مَن ملَكْ
فتمنَّى معشرٌ لو نُبِذَت
وظلامُ الليل مشتدُّ الحلَكْ
وتمنى غيرُهم لو جُعِلَت
في جَبين اللَّيثِ أو قلب الفلَكْ
وصوابُ القول لا يَجهلهُ
حاكمٌ في مسلك الحقِّ سلَكْ
إنما المرأةُ مِرآةٌ بها
كلُّ ما تَنظره منك ولَكْ
فَهْي شيطانٌ إذا أفسدتَها
وإذا أصلَحتَها فَهْي ملَكْ

وله رحمه الله في رسَّامة:

رسَّامةٌ قد جرى توقيعُ حاجبِها
بظُلم أهل الهوى والأمرُ ما رسَمَتْ
تحكَّمَت في قلوب العاشِقين كما
شاء الجمالُ ولم تَعدِل بما حكمَتْ
كريمةٌ غيرَ أن البُخل عادتُها
يا حُسنَ باخِلةٍ في الحُسن قد كَرُمتْ
وافَت لِتَرسم أزهارَ الرياضِ ضحًى
فكان في خدِّها بعضُ الذي رسمَتْ
واستقبلَت أُقْحُوانَ الرَّوض فابتسمَتْ
عن مثل ما صوَّرَت منه وما علمَتْ
فقُل لواصفِها: ما أنت مُنصِفُها
فقد عَلَتْ عن معاني وصْفِها وسَمَتْ
ما البدرُ إن سفَرَت ما الغُصن إن خطرَتْ
ما الظبيُ إن نَفرَت ما الدرُّ إن بسمَتْ

وللبهاء زُهير من قصيدة يرثي بها بعض مَن يعزُّ عليه، وإنما نشَرتُها في مقام الغزَل لما فيها من المعاني البديعة، ولما أنها في رثاءِ محبوبِ الشاعر:

نهاك مِن الغَوايةِ ما نَهاكا
وذُقتَ مِن الصَّبابة ما كَفاكا
بروحي مَنْ تذوب عليه روحي
وذُقْ يا قلبُ ما صنعَت يداكا
لقيتَ مِن الهوى وشَقيتَ فيه
وأنت تُجيب كلَّ هوًى دعاكا
فدَعْ يا قلبُ مَن قد كنتَ فيه
ألستَ تَرى حبيبك قد جَفاكا
لقد بلَغَت به روحي التَّراقي
وقد نظرَت به عيني الهلاكا
حبيبي كيف حتى غِبْتَ عني
أتعرف أنَّ لي أحدًا سِواكا؟
أراك هجرتَني هجرًا طويلًا
وما عوَّدتَني من قبلُ ذاكا
عَهِدتُك لا تُطيق الصبر عني
وتَعْصي في وِدادي مَنْ نهاكا
فكيف تغيَّرَت تلك السجايا؟
ومَنْ هذا الذي عنِّي ثَناكا؟
فلا والله ما حاولتَ غدرًا
فكلُّ الناس يَغدر ما خَلاكا
وما فارقتَني طوعًا ولكنْ
دهاكَ مِن المنية ما دَهاكا
فيا مَن غاب عنِّي وَهْو روحي
وكيف أطيق مِن روحي انْفِكاكا؟
لقد حكمَت بفُرْقتِنا الليالي
ولم يكُ عن رِضايَ ولا رِضاكا
فليتَك لو بَقيتَ لضعفِ حالي
وكان الناسُ كلُّهمُ فِداكا
يعزُّ عليَّ حين أديرُ عيني
أفتِّشُ في مكانِك لا أراكا
ولم أرَ في سِواك ولا أراهُ
شمائلَك الملاحَ ولا حُلاكا
ختمتَ على وِدادك في ضميري
وليس يَزال مختومًا هناكا
لقد عَجِلَت عليك يدُ المنايا
وما استوفيتَ حظَّك مِن صِباكا
فوا أسفي لجِسمك كيف يَبْلى
ويذهب بعد بَهجتِه سَناكا؟
وما لي أدَّعي أنِّي وفيٌّ
ولستُ مشاركًا لكَ في بَلاكا
تموتُ وما أموت عليك حزنًا
وحقِّ هواك خُنتُك في هواكا
ويا خجَلي إذا قالوا: مُحبٌّ
ولم أنفَعْك في خَطبٍ أتاكا
أرى الباكين فيك معي كثيرًا
وليس كمَن بكى مَنْ قد تَباكى
فيا قبرَ الحبيب وَددتُ أني
حمَلتُ ولو على عيني ثراكا
سَقاك الغيثُ هتَّانًا وإلا
فحَسبُك مِن دموعي ما سَقاكا

وللطائي:

تُعطيك مَنطِقَها فتَعلم أنهُ
لجنى عُذوبتِه يمرُّ بثَغرِها
وأظنُّ حبل وِصالها لمحبِّها
أوهى وأضعَف قوةً مِن خصرِها

وله:

بسطَتْ إليك بنانةً أُسروعَا
نصف الفراق ومُقلةً يَنبوعَا
كادَت لعِرْفان النَّوى ألفاظُها
من رقَّة الشكوى تَكون دموعَا

ولما مات عمر بن أبي ربيعة نُعِيَ لامرأته من مولَّدات مكة، وكانت بالشام، فبكت وقالت: مَنْ لأباطحِ مكةَ يمدح نساءها ويَصف مَحاسنهنَّ ويَبكي ظاعِنَهنَّ! فقيل لها: قد نشأ فتًى عن ولد عثمان بن عفان على طريقته، فقالت: أنشِدوني له، فأنشَدوها:

وقد أرسلت في السرِّ ليلى بأن أقِمْ
ولا تقرَبنَّا فالتحبُّب أجملُ
لعلَّ العيونَ الرامقاتِ لِوَصلنا
تُكذِّب عنا أو تَنام فتَغفلُ
أناسٌ أمِنَّاهم فبَثُّوا حديثَنا
فلما كتَمْنا السرَّ عنهم تَقوَّلوا
فما حَفِظوا العهد الذي كان بيننا
ولا حين همُّوا بالقطيعة أجمَلوا

فتسَلَّت وقالت: هذا أجَلُّ عوضٍ وأفضل خلَف، فالحمد لله الذي خلَف على حرَمِه وأمته مثلَ هذا.

وللرَّصافي قوله وقد رأى غلامًا يتَباكى ويأخذ من ريقه ويضَع على عينَيه مكانَ الدموع:

عَذيريَ مِن جَذْلانَ يُبدي كآبةً
وأضلعُه مما يُحاوله صِفرُ
أُمَيلدُ ميَّاسٌ إذا قاده الصبِي
إلى مُلَح الإدلال أيَّده السُّمرُ
يبَلُّ مآقي زهرتَيْه بريقِه
ويَحكي البُكا عمدًا كما ابتسمَ الزهرُ
ويوهِم أنَّ الدمع بلَّ جُفونَه
وهل عُصِرَت يومًا من النَّرجس الخمرُ؟

وللشيخ خليل اليازجي من قصيدة:

أحلى الهوى للعاشِقين أمَرُّهُ
وأشدُّ نفعًا للمحبِّ أضرُّهُ
أوَمَا ترى غُنْج الحبيبِ ودَلَّهُ
يحلو لذوقِ محبِّه فيَسرُّه؟
أَفْدي غزالًا كالغزالة وجهُه
وكأنما زهرُ الثريا ثَغرُهُ
قتَل المحبُّ لديه في أشجانه
عيدٌ فعِيدَ النحرِ يُمسي نَحرُهُ
ما إن نظَرتُ إليه إلا صابني
طرْفٌ كَسير ليس يُجبَر كسرُه
ما بين جفنَيه مَجالٌ للهوى
يردَى القتيل به ويَهلِك ثأرُه
أوَمَا ترى الدمَ سائلًا من مُقلَتي
لكنْ على وَجناته مُحْمرَّةٌ
لله وَجنتُه وقلبي والهوى
فالكلُّ جمرٌ قد تأجَّج حرُّه
ونحيلُ جسمي في الغرام وعطفهُ
وعقود دمعي في هواه ونحرهُ
مَلِك الجمال سَطا على مَلِك الهوى
وبجند هاتيك اللَّواحظِ نصرُه
نصرٌ من الله العزيز بفتحِها
فتحًا قريبًا ليس يُدرَك سرُّهُ
لا درَّ درُّ هوًى لدى الخنساء مِن
ظبَياتِه قد ذاب وَجْدًا صخرُهُ

وله:

تَليدُ الهوى في مُهجتي وطريفهُ
أرى منهما جيشًا تلاه رَديفهُ
مواقِعُه شعواء في كلِّ غارةٍ
وأرماحه مسنونةٌ وسيوفهُ
بأيدي صفوفٍ من عساكرِه سَطَتْ
عليَّ ومرَّت في فؤادي صفوفُه
وإنَّ الهوى ما زال لا درَّ درُّه
أليفَ الذي قد بان عنه أليفُهُ
أليفٌ يُراعي في الوَلا حقَّ إلفهِ
إذا ألف الإنسان فهو حليفُهُ
ألا في ذِمام الله صَبٌّ لقد سطا
عليه قويُّ الحب حتى ضعيفهُ
فصار إذا هبَّ الهواء يظنُّهُ
هوًى فنُسَيمات الرياض تُخيفهُ

وله:

مخافةَ واشٍ أسبَلَت غاسِقَ الشَّعْرِ
غداةَ اللِّقا والليلُ أكتَمُ للسرِّ
ولكنَّها لما دنَت فتبسَّمَت
فشا سرُّنا مما تألَّق في الثَّغْرِ
بكَت حين جدَّ البَينُ دمعًا سقَت به
شقائقَ حُمرًا فاستحالَت إلى صُفْرِ
ولكنَّني لما بكَيتُ على النوى
تخضَّبَ خدي من مَدامعيَ الحُمرِ
مورَّدة الخدَّين من نارِ حُسنِها
ومن عجَبٍ أن يَنضَر الوردُ في الجمرِ
إذا شبَّ جمرُ الخدِّ زاد نضارةً
ويَذبل إذ يُسْقَى دموعًا لها تَجري

وله:

يا قلبُ ما للصبرِ فيك مقامُ
مما رَمَتْه مِن العيون سهامُ
تلك العيونُ مَنونُنا فكأنَّما
قد كلَّفَتْها قتْلَنا الأيامُ
ولربما نام الزمانُ هُنيهةً
عنا وتلك تُصيب وَهْي نيامُ
وإذا توهَّمَت امرَءًا لتُصيبَهُ
قتلَت وأصْمَت تِلكمُ الأوهامُ
وإذا رأَت في النوم طيفَ خيالِهِ
فتكَت به ولوَ انَّها أحلامُ
الله أكبر ما ظلامُ سوادِها
إلا لذاك الظلمِ وهْو ظلامُ
وسُطور ذيَّاك العذارِ فإنما
هي للغرامِ الشرعُ والأحكامُ
شرعٌ ظَلوم غيرَ أنَّ ملوكَهُ
نجحَت وأنَّى تنجح الظُّلَّامُ؟
هي كالطلاسم ليس يُقرَأ خطُّها
كي لا يَحيق لصبِّها إحجامُ

وله:

لو كان يَحْدو بشَجْوي سائقُ الإبلِ
لرقَّ من أسفٍ قلبُ الركائبِ لي
ولو دَرى العِيسُ ما بي قبلَ أنْ رحلَتْ
توقفَت رحمةً لي دون مُرتحَلِ
أستودِعُ الله قلبًا تحتَ أرجُلِها
ومهجةً عَلقَت منهنَّ بالكلَلِ
لئن يَكن ظمْأُها عِشْرًا لقد ترَكَت
في طيِّ قلبي غليلًا لا إلى أجَلِ
وِرْدي الذي أشتهيهِ عندهنَّ كما
عندي الذي تَشتهي من دمْعيَ الهَطلِ
لئن شَكوتِ من الرَّمضاء محرقةً
ففي القُفول غدًا تَشْكين من بلَلِ
وقد شكوتُ من الدمع السَّخين على
خدِّي فهل أنا شاكٍ مَدْمع الجذَلِ؟
أو كنتِ تَشْكين من حرِّ السَّموم فلي
نظيرَها زفَراتُ القلب في الشغُلِ
تَمشين في فلَوات البِيدِ مُثقَلةً
وإنني مِن حَمول الشوق في ثقَلِ
الله أكبر قد حُمِّلتِ أنفُسَنا
لكنْ بشكلِ ذوات الأعينِ النجُلِ
ضمن الهوادج والراياتِ قد خفقَت
حمراءَ تَرهب منها مُهجةُ البطَلِ
كأنَّها بلِسان الحال هاتفةٌ
حَذارِ هذي دِما عُشَّاقِنا الأُوَلِ

وقال يحيى بن إبراهيم حجاف:

إنني بعدَ بُعْدِكم قد سُقِيتُ
من مُدامِ السُّلوِّ حتى رَوِيتُ
لم يزَل بي ساقي التَّسلِّي يُساقيـ
ـني كُئوسًا مِن بعدها ما صحيتُ
وغدًا يُصبِح الفؤادُ ويُمسي
خاليًا مِن هواكمُ ويَبيتُ
وكأني على الصَّبابة والتَّبْـ
ـريحِ والشوق والهوى ما رُبِيتُ
وكأني على مفارقةِ الرُّو
ح لجسمي لولا النَّوى ما خَشيتُ
نُزِع الحبُّ من فؤادي فسُبحا
نَ إلهٍ يُحيي الهوى ويُميتُ
وصحا القلبُ مِن هواكم فلم يَحْـ
ـلُ لِعيني عينٌ وخَدٌّ وليتُ
حبُّ تلك الثغور عنِّي تولى
ما كأني يومًا عليها وَلِيتُ
أبلِغوا الأعيُنَ المِراضَ اللَّواتي
كنَّ أمرَضْنَني بأني شُفيتُ
واخْبِروا تِلكمُ الحضورَ جميعًا
أنني بالسُّلوِّ عنها رَضيتُ
قسَمًا بالوفاء والعهدِ والميـ
ـثاقِ لا ضَمَّني وأنتم مَبيتُ
يَشهد البَرقُ والنَّسيمُ وذاتُ الطـ
ـوْقِ أنِّي مِن التصابي بَريتُ
لا أُحيِّيكمُ مع الكل مِن هـ
ـذا ومنَّا وهذه ما حَييتُ
طالما قد أُمِرتُ فيكم بسيفٍ
سلَّهُ البرقُ موهِنًا ونُهيتُ
فانقصِوا مِن جَمالكم أو فزِيدوا
لستُ آلَى عليكمُ ما بَقيتُ
وطِئَتني النَّعماءُ إنْ أنا يومًا
في مَغانيكمُ زماني رُويتُ
ما الحصى لؤلؤًا بحيثُ حلَلتُم
لا ولا التُّرْبُ فيه مِسكٌ قَتيتُ
لستُ أدري وقد رَميتُ بسهمٍ
من سهام العيون كيف رُميتُ
ليت شِعري ما لي غَداةَ الْتقَينا
في زُرودٍ لبَّيتُ حين دُعيتُ
لم أكن قد دُهيتُ بعدُ ولكنْ
من عيوني وقتَ التلاقي دُهيتُ
كم وكم قد جنَيتُ زهر التلاقي
طيباتٍ في الحي في كيف شِيتُ؟
قد ترَكتُ الهوى وعُدت كأني
من سُلوِّي ما كان ما قد هَوِيتُ
يا خليليَّ خبِّراني بصدقٍ
كيف طعمُ الهوى فإني نَسيتُ

وقال إلياس أفندي صالح كنعان في لغوية:

قد أتَتني يومًا تُسائل معنَى
لفظةٍ أشكَلَت على كلِّ فطْنِ
قلتُ: إني كما ترَيْن عليلٌ
وبذاك الصِّحاحُ أخبرُ منِّي

وله في شمَّاس:

قل لنا يا شمَّاس تَفديك روحي
كيف يَرضى المولى بهذي الذبائِحْ؟
واخْبِراني بالله يا وجنتَيهِ
كيف يُجْزَى بالنار مَنْ هو صالِحْ؟

وله في مُحنًّى:

لستُ أنسى حينما جاءني
بخدودٍ موقِدًا نارَها
وبَنانٍ لم يقل لونها
من دمي بل ودَّ إنكارَها
أحَلالٌ ذاك يا سيدي
تُنكِر الحنَّا وآثارَها

وله مما يكتب على رسم:

ألا يا مَنْ أخَذتُم قبلَ قلبي
ولم تَرْثوا لتعذيبي وحالي
خذوا جسمي الذي أضحى خيالًا
لأني صرتُ أفزع مِن خيال

ولابن نُباتة:

عهدتُ فؤاديَ مَلآنَ مِن
شُجوني ولا موضعٌ لازديادِ
إلى أن تعشَّقتُ حُلوَ اللَّمى
وللحلوِ زاويةٌ في الفؤادِ

ولأبي حسن أفندي الكستي البيروتي في قَيْنة اسمها ليلى:

غناءُ ليلى كبِنت الحانِ حيث بهِ
تُحرِّك الصخر لو يُصغي وتُطرِبهُ
فالسمع يأخذه منها ويقرأهُ
للفكرِ وَهْو بِلَوح القلب يكتبهُ

ولي عند ورود رسالة:

فديتُك يا رسولُ وقد أتتني
رسالةُ مَن أحبُّ على يدَيكا
ولولا أنَّ روحي في يدَيه
لجُدتُ وما بَخلتُ بها عليكا

ولبشار العقيلي:

أشبهَكِ المسكُ وأشبَهتِهِ
قائمةً في لونِه قاعدَة
لا شك إذ لونُكما واحدٌ
أنَّكما مِن طينةٍ واحدَة

ولعبد الله بن جندب:

ألا يا عبادَ الله هذا أخوكمُ
قتيلًا فهل مِنكم له اليومَ واتِرُ
خذوا بدَمي إن متُّ كلَّ خريدةٍ
مريضةِ جَفنِ العين والطرفُ ساهرُ

ولي مِن أبيات:

لعمريَ لما النومُ أصبح هاجِري
وسُهْدي تولَّاني وقد حِرْت في أمري
عذَرْت الكرى في الهجر منه لأنه
أتاني فلم يَلقَ سوى الذكر من أمري

وللمعلم بطرس كرامة قوله في نهر على جانبَيْه شجرتان مُتقابلتان: إحداهما قد تقنَّعَت الأزهار في أكمامها وتلاعب النسيم في قِوامها ريَّانة الأغصان مَلآنة الأفنان، والثانية مَحميَّة القوام خالية من الأوراق مبسوطة الذِّراعَين عليها أثر الاحتراق:

انظر إلى النهر كم أبدى لنا طربًا
آن السُّرور كصافي مائه اندفَقَا
حكَت عوارِضُه صُدْغَ الحبيب وقد
دبَّ العِذارُ على خدَّيه وافترَقا
قامت على جانبَيهِ دوحَتا شجرٍ
تقابَلا مثل معشوقٍ ومَن عَشِقا
كأنَّ إحداهما ذاتُ الجمال بدَتْ
وتلك عاشقُها يَشكو لها الحرَقَا

ذكرتُ في مقدمة كتابي هذا بعضَ ما يتعلق بالعِفة، ووضَعتُ عليه بعض ملاحظات اختصرتُ فيها تمام الاختصار، على أنه لا بأس في مَعرِض الكلام الآن من العَود إلى ذلك، لا سيما وقد وقفتُ على بعض ما يتعلَّق بالموضوع من جميع أطرافه، فقلتُ: هي أمنيَّة من الأماني، والكتاب وقفٌ على العفة، جارٍ في هذا السبيل، من ذلك أن جميلًا مرض بمصر مرضَه الذي مات فيه، فدخل عليه العباس بن سهل فقال له جميلٌ: ما تقول في رجل لم يشرب الخمرَ قط ولم يَزنِ ولم يقتل النفس ولم يَسرق؟ قال العباس: أظنه قد نجا، وأرجو له الجنة، فمَنْ هذا الرجل؟ قال: أنا، فقال له: ما أحسبك سلمتَ وأنت منذ عشرين سنةً تُشبِّب ببُثينة، فقال: إني لفي أول يوم من أيام الآخرة وآخرِ يوم من أيام الدنيا فلا نالتني الشفاعة يوم القيامة إن كنتُ وضعت يدي عليها لرِيبة قط، وما لبث بعد قوله هذا حتى تُوفِّي رحمه الله وأجزل ثوابه.

وليس بِخافٍ أنَّ جميلًا عُذْري، وأمر هذه القبيلة مشهورٌ معروف مشكور، وقال رجلٌ لعُروة بن حزام العُذري: أصحيحٌ ما يقال عنكم أنكم أرقُّ الناس قلوبًا؟ قال: نعم، والله لقد ترَكتُ ثلاثين شابًّا في الحي قد خامرَهم الموت ما لهم داءٌ إلا الحب.

هؤلاء قوم حافظوا على مبادئ المحبَّة أيَّ محافظة، وقيل لأحدهم وقد طال عِشقُه لجاريةٍ من قومه: ما أنت صانعٌ إن ظفرتَ بها لا يَراكما إلا الله؟ قال: والله لا جعَلتُه أهونَ الناظرين! لا أفعل بها خاليًا إلا ما أفعله بحضرة أهلها؛ حنين طويل، ولحظٌ من بعيد، وأترك ما يكره الربَّ ويُفسد الحب، وما تناقَل الناسُ عنا إلا ما نمَّ به الواشي وحدَّث به الحَسود، ووالله إنَّ بي إليها من الحياء ما يَزجرني عن سوى ذلك، ولها لدَيَّ ولي لدَيها من الرُّتبة والوقار ما يَرفعنا في خلوتنا عن التطرُّف، والله وكيلي في صِدق قولي.

قلت: وإن كل ما صدَر عن خاطري الفاتر من الأبيات ليس إلا على هذا النمط؛ على حدِّ قولي من أبياتٍ في واقعة حال:

أنا في حُبِّك عُذْريٌّ
وقومي قومُ عُذْرة
فلنا في الحبِّ طُهرٌ
ولكم في الحسن شُهرَة
ربَّة الخالَيْن حَسْبي
منك يا زينبُ نظرَة
بعدها إن كنتُ أقضي
فعلى خيرٍ مبرَّة

في البيت الأول إشارة إلى قول مَن قال حين سُئل: مِن أي القوم هو؟ قال: مِن قومٍ إذا عَشقوا ماتوا، فقيل: لِمَ ذلك؟ قال: لأن في وجوهِ نسائنا صباحةً وفي فِتْياننا عِفة.

وللغزالي:

وهان عليَّ اللومُ في جَنب حُبِّها
وقولُ الأعادي إنه لخليعُ
أصمُّ إذا نُوديتُ باسمي وإنني
إذا قيل لي يا عبدَها لسَميعُ

ولنفطوَيه:

قلبي عليكَ أرقُّ مِن خدَّيكا
وقُوايَ أوهى مِن قوى جَفنَيكا
لِمَ لا تَرقُّ لِمن يُعذِّب نفسَهُ
ظلمًا ويَعطفهُ هواه عليكا؟

وقال أبو الوليد ابن زَيدون فيمن أصابه جُدري:

قال لي: اعتلَّ مَن هويتَ حسودُ
قلتُ: أنت العليل، ويحَك، لا هو
ما الذي قد أنكرتَ مِن بَثَراتٍ
ضاعفَت حُسنَه وزادَت حلاهُ؟
جِسمهُ في الصفاءِ والرقَّةِ الما
ءُ فلا غَرْو إن حُبابٌ عَلاهُ

وقال الهيثم فيمن أصابه جرب:

قالوا: بهِ جربٌ فقلتُ لهم: قِفوا
تلك النُّدوب مواقعُ الإبصارِ
هو روضةٌ والقدُّ غصنٌ ناعمٌ
أرأيتمُ غصنًا بلا نوَّارِ

وقال أبو بكر محمد بن عياض القرطبيُّ في مخضوبةِ الأنامل:

وعُلِقتُها فتَّانةً أعطافُها
تُزري بغُصن البانةِ الميَّادِ
مَنْ للغزالةِ والغزال بحُسنها
في الخدِّ أو في العين أو في الهادِ
خضبَت أنامِلها السَّوادَ وقلَّما
أبصرتَ أقلامًا بغيرِ سوادِ

وللنفيس القطرسي:

قُل للحبيب أطلتَ صدَّكْ
وجعلتَ قَتلي فيك وَكْدَكْ
إن شئتَ أن أسلو فرُدَّ
عليَّ قلبي فَهْو عندَكْ
أخلَفتَ حتى في زيا
رتِنا بطيفٍ منك وعدَكْ
وأنا عليك كما عَهِد
تَ وإن نقَضتَ عليَّ عهدَكْ
أحرقت يا ثَغرَ الحبيـ
ـبِ حشايَ لمَّا ذُقتُ بردَكْ
وشهدتُ أنيَ ظالمٌ
لما طلبتُ إليك شهدَكْ
أتظنُّ غصنَ البان يُعـ
ـجبُني وقد عاينتُ قدَّكْ
أوَيَخْدع التفاحُ ألْـ
ـحاظي وقد شاهدتُ خدَّكْ؟
أم خِلْت آسَ عِذارك الْـ
ـمنشوق يَحمي منك وردَكْ
لا والذي جعَل الهوى
مولايَ حتى صرتُ عبدَكْ
يا قلبُ مَنْ لانت معا
طفُه علينا ما أشدَّكْ

ولشهاب الدين بن النقيب في التصغير:

لُييَّلاتٌ تمر مع الحُبيِّبْ
بذيَّاك الحُمَيِّ بلا رُقيِّبْ
أُحَيلي مِن كُريٍّ في جُفَينٍ
أُشيهَى للظُّميِّ مِن الشُّريِّبْ
عَشقت ظُبَيةً بمُقَيلتَيْها
سُوَيفٌ أبرزَتْه مِن القُريِّبْ
سُقيِّمة اللُّحَيْظ لها جبينٌ
يَهيم به البُعيِّدُ والقُريِّبْ
حُوَيجبها قُويْسٌ ذو نبيلٍ
به يُسْبى العُويقِلُ واللُّبيِّبْ
خُويدٌ في وُجَينتِها وُرَيدٌ
يَفوق على مُبيْسِمها الشُّنيِّبْ
رُشيِّقة القُديْد إذا تبدَّتْ
مُميْشيقٌ قُويِّمها القُضيِّبْ
مُليَّحة المُنيْطِق مِن ثُغَيرٍ
مُسيْكيٍّ خُميريِّ الضُّريِّبْ
صُبيِّحة الوُجيه بها بُهيٌّ
يلوح على مُنيظِرها العُجيِّب
لُويِّنة العُطَيْف إذا تثنَّت
تَفوق على غُصيْنِ نقًى رُطيِّب
قُويِّية القُلَيب على حبيبٍ
دُويْرتُه نأَتْ فهو الغُريِّب
صُويِّمة الحُشيِّ ففي قُلَيبي
لبُعد مُنيزِلي عنها لُهيِّب
ثُعيْبينٌ تثنى من شُعيرٍ
يدبُّ على كُفيِّلها الكُثيِّب
إذا ببُريقعٍ خطرَت سُحيرًا
تُخال شُميْسةً تحت السُّحيِّب
لُهيف نُفيستي لو أسعفَتْني
يُويمًا أن تُميط ليَ النُّقيِّب
سطَت بهُجيرِها فسبَت فُوَيدي
فما لي في وُصَيِّلها نُصيِّب
وأضنَت يا أُصيحابي جُسيمي
فصرت عُليِّلًا وهْي الطُّبيِّب
وجارَت بالصُّديْد على ضُعيْفٍ
وقد طال البُعيْد مع الحُجيِّب
وتنفر كالغُزيِّل إذ تراني
وتبخل بالسُّليْم وبالكُتيِّب
بَعثت مع النُّسيِّم في سُحيْرٍ
رُسيِّلةً فلم يأتِ الجُويِّب
تُبيريح الجُويِّ بدا فمِنهُ
دُهيْري قد تقضَّى في عُذيِّب
كتمتُ هُويَّها جهدي وإني
لأقنع بالوُعيِّد والعتيِّب
وقد رقَّت حُويِّشيتي فأهوى
نُظيِّمها الغُزيِّل والنُّسيب
نظمت قصيدةً أضحت نُجيْمًا
أُليْفاظٌ لها تَحكى الشهيِّب
ففاقَت ما تقدمَ من نُظيْمٍ
وأصبح ما سواها كالتُّريِّب
فلا تنظر إلى ما قال وانظر
إلى ما قلتُ ياذيَّا الأريِّب

وفي التصغير أيضًا قول الشيخ تقيِّ الدين بن حِجة الحموي:

طُرَيفي من لُيَيلاتِ الهُجيْرِ
مُقيريحُ الجفون من السُّهيْرِ
بُعيد غُزيِّلي وجُوير قلبي
دُمَيعي في وُجيْناتي جُويْري
بُدَيويٌّ تُريكيُّ المحيَّا
غُويْب مِن عُويْشقِه الحُضيْرِ
عُبيسيُّ اللُّحيْظ له وُجيهٌ
ضُويُّ نُويرِه لبني بُدَيرٍ
حياءُ مُقيلتَيْه سبا عُقَيلي
ولكنَّ الخُديْد غدا جُميْري
رُويْض وُجَينتَيه له عُنيْدي
نُسيْبٌ في النُّظيْم إلى زُهيْرِ
مُسيبيلُ الشُّعيْر على كُفيْلٍ
يُذكِّرنا مُويْجات البُحيْرِ
بُديْرٌ في الظُّهيْر له نُويرٌ
مثيل شُكَيلِهِ ما في العُصيْرِ
شُفيفَتهُ قُفيْلٌ من عقيقٍ
مُقيْفيلٌ على درِّ الثُّغيرِ
عُذيِّره الغُويْزل دار حتى
تشوَّق للغُزيِّل والنُّويْرِ
لثَمتُ خُديدَه فجَرى دُميْعي
فما أحلى الزُّهيْرَ على النُّهيرِ
دُنيْنيرُ الوُجيه له بقلبي
نُقيدٌ ليس يَصرَف عن صُديرِ
أتاه سُويئلًا يومًا دُمَيعي
فقال: أنا جُعيْديُّ الشُّعيرِ
شُهيرُ وُصيلِهِ عندي يُوَيمٌ
ويومُ هُجيره مثل الشُّهيْرِ
تبسَّم لي سُحيرًا عن رُويضٍ
فقلت ولي دُميْع كالمُطيرِ
نَثرتُ دُميْعتي بنُظَيم ثَغرٍ
فما أحلى النُّظيمَ مع الثُّغيرِ
لُفَيظك والمُقَيلة مع نُظَيمي
سُحيرٌ في سحيرٍ في سُحيرِ
شُعيْرك مذْ أضلَّ عُويشِقَيهِ
هُدَينا في الظُّليْمة بالنُّويْري

ولأبي الحسن أفندي الكستي:

في صُدغِه فرعٌ إذا ما سرى
نحوَ محيَّاهُ فلا تعجَبوا
مِن عادة البدر على ما أرى
في ضوئه يَنطلِق العقربُ

وله أيضًا من المعنى الجديد:

يا بدرُ لا تعجَبْ بحالي إذا
هجرتَني ولم يُصبني النُّحولْ
فالغصن عند القَطع غضًّا يُرى
وبعد حينٍ يَعتريه الذُّبولْ

ولأبي تمام:

تلَقَّاه طيفي في الكَرى فتجنَّبا
وقبَّلتُ يومًا ظلَّه فتغضَّبا
وخُبِّر أني قد مرَرتُ ببابهِ
لأخلِسَ منهُ نظرةً فتحَجَّبا
ولو مرَّت الريحُ الصَّبا عند أذْنهِ
بذكرى لسبَّ الريحَ أو لَتعتَّبا
ولم تَجْرِ مني خَطْرةٌ بضميرهِ
فتَظهَرَ إلا كنتُ فيه مسبَّبَا
وما زاده عندي قبيحُ فِعالهِ
ولا الصدُّ والإعراضُ إلا تَحبُّبا

وللشاب الظريف:

بدا وجههُ من فوقِ أسمرِ قدِّهِ
وقد لاح من ليلِ الذوائب في جُنْحِ
فقلتُ: عجيبٌ كيف لم يذهَبِ الدُّجى
وقد طلعَت شمسُ النهار على رُمحِ

ولآخر:

تركتُ حبيب القلب لا عن مَلالةٍ
ولكنْ جنى ذنبًا يَئول إلى التَّركِ
أراد شريكًا في المحبة بينَنا
وإيمانُ قلبي لا يَميل إلى الشِّركِ

وللأمير شكيب أرسلان من قصيدة معارضة للامية كعب:

تَجْلو عوارضَ ذي نعجٍ إذا الْتفتَت
ففيه للشاربين الماءُ مبذولُ
أضحى يُسلسِل ماءَ الحسن عارِضُها
كأنه مُنهَلٌ بالرَّاح معلولُ
بمثلِ ما إن غدَت تفترُّ عن شنَبٍ
كأن مرشفَهُ بالشهد معسولُ
بانت سعادُ على ذا كلِّهِ وغدَت
تَضْفو عليها من النُّعْمى سَرابيلُ
إذا تَمر الصَّبا في خدِّها غلَسًا
راحت عليها مِن الريَّا مثاقيلُ
كذاك حتى إذا شمسُ الضحى طلعَت
قامَت ومنها وشاحُ الصدر محلولُ
قامت سعادُ تُحيِّينا فما قمرٌ
على قضيبٍ على الكُثبان محمولُ
نقول بدرٌ وغصن كي نُشبِّهَها
وإنما قولُنا يا صاحِ تمثيلُ
حتى إذا شُغِف القلب الذي اجتذبَت
بانت سعادُ فقلبي اليوم مَتْبولُ
فاعطِفْ على طللٍ بالجزْع إنَّ دمي
منها على طللٍ بالجزْع مطلولُ

وله من قصيدة:

هو الحب حتى لا تُحيطَ المداركُ
وبرْح الهوى حتى تَهونَ المعاركُ
ونارُ الجوى حتى كأنَّا على اللَّظى
وحمْل النوى حتى تَضيقَ المسالكُ
عذابٌ يراه الصَّب عذْبًا، وذِلةٌ
لها لذةٌ عند الرجال تشاركُ
مَهالِكُ أصحاب القلوب وإنما
تلَذُّ لنا واللهِ تلك المهالكُ
نحبُّ افتنان القدِّ والقدُّ طاعنٌ
ونهوى رُنوَّ الطرْف والطرْفُ فاتكُ
ونَحمل عِبءَ الشوق والصدرُ ضيِّقٌ
ونؤْثرُ رَعْي النجم والليلُ حالِكُ
نُسرُّ بأن تجري شُئون دموعِنا
ونَهوى لوَ انَّا للدماءِ سَوافكُ
تَرانا على وشْكِ الردى بمَسرَّةٍ
ألا فاعجَبوا من ميِّتٍ وهْو ضاحكُ

وللشيخ يوسف أفندي الأسير من قصيدة:

إذا ابتسم البرقُ الحجازيُّ في الفجرِ
أقول لدمعي: حانَ وقتُ البُكا فاجْرِ
إخالُ سُلَيمى بالثَّنايا تبسَّمَت
فما ومضُ ذاك البرقِ مِن ذلك الثغرِ
فرفقًا رفاقي بالذي عمَّه الضَّنى
فلست بخالٍ مثلكم فالهوى عُذْري
فكونوا معي وارْثوا لسائلِ مدمعي
فإني إذا أمسيتُ أُصبح كالنهرِ
وأمرُ الهوى عند الذي لم يُقاسِهِ
غريبٌ وقيسٌ قاسَ ذلك بالسِّحرِ
وشرعُ الهوى صعبٌ فيَعسر شرحهُ
وسلطانُه في عرشِه غالبُ الأمرِ
وما كلُّ حُب يُمكِن الصبَّ كتمُهُ
إذا مدُّ ماءِ النهر فاض على الجسرِ
وحاولتُ كِتمان الهوى فوجدتهُ
مُحالًا على مثلي وفَضْح الهوى قهري
أواري أُواري والدموع تُذيعهُ
ومارجُه في القلب يَسطع كالجمرِ
وقد طار مِن عَيني الكَرى ثم لم يَعُد
كما طار كرْوانٌ فضلَّ عن الوَكْرِ
وإنَّ هواني في الهوى غيرُ ضائري
ولكنَّ هجْرَ العاذِلين مع الهجرِ
فذلُّ الهوى عزٌّ، وعَذْبٌ عَذابُه
وبُخل الفتى بالرُّوح في شَرعِه مُزْري
وإني لأَخشى أن أموت ولم أفُز
بزَوْرةِ مَن أهوى فأُحصَرَ في قبري
وإني لأرضى أن أَسير لأرضهِ
أسيرًا وأبقى عندَه دائمَ الأسرِ
غرامي غرامٌ إنْ بدا لامَ عاذِلي
وإن يَخْفَ يومًا ضاق صدري عن الصبرِ
إذا جنَّ ليلي زاد وَيلي ووَحْشتي
وأعوَزَني بابٌ إلى طاقة السرِّ
ويوخَذ من صدري فؤاديَ دَغْرةً
إذا غَرَّدَت وَرْقاءُ في وارق السِّدرِ
ويَخلبُه البرقُ التِّهاميُّ خلَّبًا
فيَهْمي له دَمعي فيُصبح ذا سطرِ
وأطرَب مِن سرِّ النسيم إذا سرى
وأشكو له ضرِّي وأودِعُه سرِّي
وفي مُهجتي يَهتاج وَجْدي إذا بدا
بأفْق عَوالي طيبة الكوكب الدرِّي

وله أيضًا:

خليليَّ سِيرا بي فقد أشرقَ الشرقُ
وهبَّت صَبَا نجدٍ فهاج بيَ العِشقُ
رفيقيَّ جِدَّا بي لنجدٍ فلي بهِ
مقرُّ الهوى والطرْفِ والجِدُّ بي رِفقُ
وإن لم تَسيرا بي دُجًى خيفةَ الوجى
أجنَّ الجوى قلبي وأرَّقني الخفْقُ
وما بكما وَجْدي فإن تبْقيَا هنا
ولم تُنجِدا أُنجِدْ ولو طالت الطُّرْقُ
نعَم في فِراق الإلْف والأهلِ كلُّنا
ولكنَّما بيني وبينَكما فرقُ
فإنَّ التي قد ودَّعَتْني ودَعتُها
وفي طرْفِها ودْقٌ وفي كبدي حرقُ
خريدةُ خِدرٍ غادةٌ بدويَّةٌ
فريدةُ عصر ما بهِ مِثلَها خلْقُ
قد الْتبسَت في اللَّبس بالغصن وارقًا
فكادت عليها في الفلا تقف الورْقُ
بها مِن ظِباء القاع حسنُ الْتفاتةٍ
ورخمةُ صوتٍ والنواظر والعنْقُ
ويَسطَع مِن تحت الشُّنوف شعاعُها
كشمس الضحى صيفًا إذا غيَّم الأفقُ
وتَبسم عن دُرٍّ ولله دَرُّها
فيَلمع منه خاطفًا لُبِّيَ البرقُ
وإنْ نزَل المشروبُ في جوفِ حلقِها
يكاد لنا يُبديه من لطفِه الحلقُ
نوارٌ من النور المجسَّد جسمُها
سوى فرعِها الليليِّ وهْو به فرقُ
وإني لأرضى أن أكون أسيرَها
مدى الدهر ما لي مِن يدَيْ أسرِها عتقُ

وله أيضًا من بحر السلسلة:

يا عاذل دعني مع الهوى فأنا الآنْ
قد أصبح قلبي مِن الصَّبابة ملآنْ
لا العشق حرام ولا المحبة نكرٌ
حتى أتسلَّى عن الحبيب بسُلوانْ
أفديه غزالًا قد استجرَّ فؤادي
للعشق جمال بهِ فأصبح ولهانْ
ما ألطفَ ما فيهِ من رشاقة قدٍّ
أن بان فيا خَجْلة الغصون من البان!
كالرمح وكالصبح قامةً ومحيَّا
كالخمر وكالجمر ريق فيهِ وخدَّان
لم أنسَ كئوس الطلا بنا وإنها
في روضة أنسٍ بها النسيم لهُ شانْ
والروضة تزهو بزهرها كعروسٍ
تجلى وعليها مِن الملابس ألوان
والغيد تهادي بها ثلاث ومَثْنى
والورق تغنَّت على الغصون بألحانْ
ألحان قِيان عزَفْن في يدهنَّ الـ
أوراق دفوفٌ إذ الرواقص أغصان
والماء خلاخيل عَسْجد ولُجَين
شتى ودواليبها تخر بتختان
تَحكي بحنين لها وصب شئون
عينيَّ وقلبي لبعد خلي إذ بان
إذ بان بقلبي دجًى وأودع سمعي
في وقت وداعي مقال أغير غيران
إياك تصافي سِواي بعد بعادي
إذ إن رقيبي عليك عندك سهران
قد أسكرني لفظه وقال بلطف
يا صاح تحمَّل كلام عاذلك الآن
إن كنت بحبي متيَّمًا فتجمل
إذ يبذل نصحًا لنا بأكمل كتمان

وللشيخ مصطفى أفندي نجا البيروتي من قصيدة:

يا لها مِن غادةٍ في خدِّها
روضُ أنسٍ منه طيبُ الورد فاحْ
كلَّما رُمْتُ الجَنى عارَضني
حارسٌ مِن جَفنها شاكي السلاحْ

ومنها:

تَخِذَ الوجدُ بقلبي مَسكنًا
وبه قد طار من غير جَناحْ
يا لقومي هل وجدتُم طائرًا
عُشُّه طار به شوقًا وراحْ؟

ومنها:

صدم الشوقُ اصطِباري صدمةً
لم يُطِق معها بِرازًا أو كفاحْ
فتلاشى عَزمُه حتى غدَا
كهَشيمٍ راح تَذْروه الرياحْ

وله من قصيدة:

إذا رُمتَ انشراحَ الصدرِ يومًا
أطِعْ قولي وخالِفْ مَنْ عَصاني
وبادِرْ للرِّياض بنا وباكِرْ
صَبوحَك وارتشِفْ بنتَ الدِّنانِ
وخُذْها من يدَيْ رشَأٍ رشيقٍ
بها يَسعى إليك بلا توانِ
فعينُ الدَّوح ترمقُها إذا ما
جلَاها بالكئوسِ وبالقناني
غزالٌ فاترُ الأجفانِ أضحى
فريدًا ما له بالحُسن ثاني
له وجهٌ يَفوق البدرَ حسنًا
وقدٌّ دونَه سُمْر الطِّعانِ
وخدٌّ عمَّه بالحسن خالٌ
يُحدِّث عن شقيق الأُرجوان
وطرْفٌ فاترٌ وَسْنانُ لكنْ
له فعلٌ كفعل الهِنْدواني
وأعطافٌ سبَتْ أغصانَ بانٍ
بلينٍ فاق لين الخيزُرانِ
بنفسي أفتديه وليس نَفْسي
أعزَّ عليَّ منه وإن جفاني
وما أنا في الأنام له بِقَالٍ
ولا أسْلو هواه ولَو سَلاني

وله من قصيدة:

سَلي يا مُنْيَتي عن فرطِ وَجْدي
وما قاسَيتُه في حالِ بُعْدي
فإن النَّجم دون الناس أدرى
بما ألقاه من سهَري وسُهْدي
إلى ماذا الجفا مِن غير ذنبٍ
وإظهارُ العداوةِ والتعدِّي؟
تعاهَدْنا على ودٍّ فما لي
إخالُكِ قد قطَعْتِ حبالَ ودِّي

ومنها:

يقول العاذلون: اترُكْ هواها
وخلِّ القلبَ مِن هزْلٍ وجِدِّ
وما عَلِموا بأن الروح تَصْبو
إليها لا إلى دَعدٍ وهِنْدِ

ومنها:

طلبتُ وِصالها يومًا فقالت:
أَوَصْلي تَرتجي مِن بعد صدِّي؟
فقلت لها: نعم ما كنتُ أنسى
ليالي الوصلِ يا أمَلي وقصدي
ليالٍ كانت الأفراحُ فيها
تضيءُ شموسُها ببروج سَعدي

وله من قصيدة:

حبيبٌ يَرى الهِجْران ظُلمًا وهكذا
يكون الذي في الناس أصبحَ مُنصِفَا
إذا ما انْثَنى تِيهًا تظنُّ قوامَهُ
غصينًا عليهِ طائرُ القلب رفرفَا
بَشوش المحيَّا الطَّلْق ما رام قُربَهُ
أخو شجَنٍ إلا وبالقربِ أسعفَا
به بطلَت لا شكَّ بُغْيةُ عاذلي
فلم ينَلِ المقصودَ منا ولا اشتفى
يهزُّ على الواشي من القدِّ أسمرًا
ويُنْضي له سيفًا من اللَّحظ مُرهَفا
فلله كم أحيا المحبُّ بوَصلهِ
وقد كان مِن قبل الوصال على شفا
رعى الله ذاك الوجهَ كم بضيائهِ
هُدي مَن بظَلماء الضَّلال تعسَّفا
كما تهتدي الأفكارُ في مدح سيدٍ
به وِرْد أوقات المسرَّات قد صفا

وله في قصيدة:

باللثم جُدْ كرمًا مِن خدِّك القاني
يا غصنَ بانٍ بنارِ الهجر ألْقاني
وارفُق بصبٍّ سلاه البينُ وهْو على
حكم الهوى صابرٌ مِن غير سُلوانِ
يَبيت يا مُفرَدًا بالحسن مشتغِلًا
بأمر لُقياك لم يَخطر له ثاني
وأنتَ لم تَدرِ فيما قد ألمَّ بهِ
وما يلاقيه من همٍّ وأحزانِ
إلى متى يا كثيرَ التِّيه تَحرمهُ
منك الوصالَ بلا ذنبٍ وعصيانِ؟
وظُلمهُ في الهوى يُرضيك وهْو يَرى
لك الإطاعة في سرٍّ وإعلانِ
عامِلْ بفعلٍ جميل مثل وجهك يا
كلَّ المراد ولا تُسرِف بهجرانِ

ولآخر قوله:

أنبتَ وردًا ناضرًا ناظِري
في وَجْنةٍ كالقمَرِ الطالعِ
فلِمْ منَعتم شَفتي لَثْمَهُ
والحقُّ أن الزرعَ للزارعِ؟

فأجابه آخرُ بقوله:

لأنَّ أهل الحُبِّ في حيِّنا
عَبيدُنا في شرعِنا الواسعِ
والعبد لا مِلكٌ لهُ عندنا
فزَرعهُ للسيد المانعِ

ولصفيِّ الدين الحلِّي في غلام وقعَت عليه شمعةٌ فأصابت شفتَه:

وذي هيَفٍ زارَني ليلةً
فأضحى به الهمُّ في مَعزِلِ
فمالَت لتقبيلِه شمعةٌ
ولم تخشَ من ذلك المحقَلِ
فقلتُ لصَحْبي وقد حكمَت
صوارمُ لَحْظَيه في مَقتَلي
أتدرون شمعتَنا لِمْ هوَتْ؟
لتقبيلِ ذا الرَّشأِ الأكحَلِ
درَت أن ريقتَهُ شهدةٌ
فحنَّت إلى إلْفِها الأوَّلِ

ولأسعد أفندي طراد من قصيدة:

قل للذي قد ردَّ صبًّا سائلَا
ما ردَّ طرْفي قطُّ دمعًا سائلَا
لو كنتَ تنظر جودَ عيني مرةً
ما كنتَ تبقى في وِصالك باخِلَا
أُخْبِرتُ عن نار الصدود بما رأَتْ
عينايَ من نار الخدودِ مَشاعلَا
وعلمتُ هجْرَك للمُحبِّ لأنني
قبل الرحيل وجدتُ قلبي راحلَا
عطفًا على مَنْ بات يُنحِله الهوى
يا مَنْ نراك حوَيتَ عطفًا ناحِلَا
لو كنتَ مِن أهل المطال تُعَدُّ، ما
حاولتَ قتلي في صدودِك عاجِلَا
هيهاتَ يَسلَم مِن جفونِك عاشقٌ
وهي التي بالسِّحر تَفتن بابِلَا
يا عاذلي في حبِّه مهلًا فما
من عاشق قبلي أطاع العاذِلا
إني قتيلٌ في الغرام على رِضًى
وبمُهجَتي أخفيتُ ذاك القاتلا
أترى لِمَن أشكو الحبيبَ ولا أرى
لي مِن قُضاة الحب شخصًا عادِلَا

وقال الشيخ إبراهيم اليازجي:

ومصوَّرٌ بالشمس وهْو نظيرُها
أهدَتْه صورتَها برسمِ مثالهِ
ولوَ انَّ شمسًا صُوِّرَت بضيائها
ما صوَّروه بغير نورِ جمالهِ

وله أيضًا:

بخَصْر حِبِّي هِمتُ بل نَحرِهِ
بل خدِّه بل ثَغرِه الباردِ
بكلِّ شيءٍ فيه مُستحسَنٍ
لم أهوَهُ مِن سببٍ واحدِ

ولابن أبي حجلة:

قل للهلالِ وغَيمُ الأفقِ يَسترهُ
حكَيتَ طلعةَ مَن أهواه فابتهجِ
لك البِشارةُ فاخلَعْ ما عليك فقد
ذكرتُ ثَم على ما فيك مِن عِوَجِ

ولابن نُباتة:

سألتُه عن قومِه فانثنى
يَعجبُ مِن إفراطِ دمعي السَّخِي
وأبصرَ المسكَ وبدر الدجى
فقال: ذا خالي وهذا أخي

ولصالح بن إسماعيل العباسي:

غابوا فغاب الصبرُ مِن بعدهم
يَطويه عني بُعدُهم طيَّا
بأيِّ وجهٍ أتلَقَّاهمُ
إذا رأوني بعدَهم حيَّا؟
وا خَجْلتي منهم ومِن قولهم
ما فعَل البَينُ به شيَّا

ولي عند اطِّلاعي على هذه الأبيات:

خفِّف مِن الهم فإن أقبَلوا
ونِلْت مما قلته شيَّا
فقل عذيري أنَّني لم أمُت
بعض الذي أمَّلتُ مِن ذيَّا
بالوَجْد لولا ما أؤمِّلهُ
لكنت أُشْوَى بعدَكمْ شيَّا

ولآخر:

باح مجنونُ عامرٍ بهواهُ
وكتمتُ الهوى فمِتُّ بوَجْدي
فإذا كان في القيامة نودي
مَنْ قتيلُ الهوى؟ تقدَّمتُ وحْدي

ولابن الورديِّ فيمن طال شَعرُه إلى قدَمَيه:

كيف أنسى جَميل شَعرِ حبيبي
وهْو كان الشفيعَ فيَّ لدَيهِ؟
شَعَر الشَّعرُ أنه رام قتلي
فرمى نفسَه على قدَمَيهِ

وله أيضًا:

ذُؤابتهُ تقول لعاشقيهِ:
قفوا وتأمَّلوا قلبي وذُوبوا
فإني قد وصَلتُ إلى مكانٍ
عليه تَحسد الحدَقَ القلوبُ

ولآخرَ في أعمًى مَليح:

قد تعشَّقتُ فاتِنَ اللَّحظ أعمى
طَرْفهُ مِن حيائه ليس يُلْمَحْ
لا تَعيبنَّ نرجسَ اللَّحظِ منهُ
فهْو في الحسن نرجسٌ لم يُفتَّحْ

ولابن الرومي فيمَن أصابه جدري:

وقالوا: شانُه الجدريُّ فانظُرْ
إلى وجهٍ به أثرُ الكُلومِ
فقلتُ: مَلاحةٌ نُثِرَت عليهِ
وما حُسنُ السماء بلا نجومِ

وقال أبو بكر السراج في ابن ياسر المغنِّي، وقد أصابه الجدري:

لي قمرٌ جدَّر لما استوى
فزاده حُسنًا وزاد الهمومْ
كأنما غنَّى لشمسِ الضحى
فنقطَتْه طرَبًا بالنجومْ

ولآخر في محموم:

لا أحسد الناسَ على نعمةٍ
وإنما أحسد حُمَّاكا
فما كَفاها أنها عانقَت
قدَّك حتى قبَّلَت فاكا

ولابن الوردي في مَليحٍ يلعب بالنرد مع مَليحة:

مُهفهَفان لَعِبا
بالنَّرْد أنثى وذكَرْ
قالت: أنا قَمرْتُه
قلتُ: اسكُتي فهْو قمَرْ

ولآخر في مليح يَحرث:

لله حرَّاثٌ مليحٌ غدَا
في كفِّه المحراثُ ما أجملَهْ!
كأنه الزُّهرةُ قُدَّامَهُ
ثورٌ يُراعي مطلعَ السُّنبلَة

وللشريف البياضي:

لقد مدَّ الفراقُ إلى جفوني
أكُفَّ الدمع فاستلبَت رُقادي
كأنَّ العِيسَ تَشرب من دموعي
فتُنبِت أرضُها شوكَ القَتادِ

وقال عزتلو نقولا أفندي نقاش:

لِمَا يا وردُ لَم يُذْبِلك شوقٌ
لروضِك؟ قال: دعني يا حَسودي
ألم ترَني ورَوضُ الصُّدغِ ظلِّي
فعشتُ بجيرتي ورد الخدودِ

وله:

تَخاصم السيفُ والأجفانُ أيُّهما
أمْضى وأفتَكُ في قلبِ الصَّناديدِ؟
واشتدَّ بالخُود والأبطالِ غَيظُهما
فمجلسُ الحُسن أعطى الحقَّ للخودِ

وله ليكتب مطرزًا على عصابة مِنديل لإحدى السيدات:

هذي عِصابةُ ذات الحسن قد لمعَتْ
في ليلة الوَصل أم ترصيعُ إكليلِ؟
كلَّا ولكنَّما واشي الصَّباح بدا
من الجَبين فأخفَتْهُ بمنديلِ

وللنظَّام:

أتتني تؤنِّبني بالبُكا
فأهلًا بها وبتأنيبِها
تقول وقد هَمَلَت أدمُعي
أتبكي بعينٍ تَراني بها
فقلتُ إذا استَحسنَت غيرَكم
أمرتُ الدموع بتأديبِها

ولابن النكنك وقد عُلق صغيرًا:

قالوا: عَشِقت صغيرًا قلتُ: أرتعُ في
روض المحاسن حتى يَبلُغَ الثمرُ
ربيعُ حُسنٍ دعاني لافتتاحِ هوًى
لما تفتَّح فيه النَّورُ والزهَرُ

وللصَّنَوبَري:

ترَك الظاعِنون قلبي بلا قلْـ
ـبٍ وعَيني عينًا مِن الهمَلانِ
وإذا لم تَفِضْ سحائبُ أجفا
ني على إثرِهم فما أجْفاني
ووراء الحمول أحسنُ خلقِ الله
خلقًا عارٍ من الإحسانِ
حلَّ في ناظري فلو فتَّشوهُ
كان ذاك الإنسانُ في إنساني

ولعزتلو نقولا أفندي نقاش من قصيدة:

هذا الصباحُ بدا أم ذا محيَّاكِ؟
وذاك برقٌ أمِ افْترَّت ثناياكِ؟
أمِ الغزالةُ مِن بين الغصون بدَتْ؟
أم وجهُ هندٍ بدا مِن خلف شُبَّاكِ؟
مَصونة عن خيال الوهم قد حُجِبت
كأنَّ إدراكَها من فوقِ إدراكي
أيَا رعى الله وقتًا بالرُّبوع مضى
ولم يَرُق لي به إلاكِ إلاكِ
فكم به بِتُّ أرعى البدرَ عن شغَفٍ
كأنَّ في البدر نورًا من محيَّاكِ
وكم سَعِدتُ دجًى إذ كنتِ غافلةً
ولم يكن غيرَ عينِ الله تَرعاكِ
نزَّهتُ طرْفيَ في روضِ الجمال كما
سبَّحتُ مَن ببديع الحُسْن أغناكِ
معانقًا يدَكِ اليسرى ومتَّشحًا
بُردَ العفاف الذي حاكَتْه يُمناكِ
فلم أمُدَّ لمنديلِ الجبين يدًا
إذ خفتُ إشراقَ صبحٍ منه هتَّاكِ

ومنها:

يا أمة العُرْب هلَّا تُنقذون فتًى
همَّت على قتلهِ أجفانُ أتراكِ
ما تمَّ قوليَ إلا والخلاصُ دَنا
وطيفُ حنَّة وافى طرْفهُ باكي
فقلتُ: أهلًا فقالت: أين عهدُك لي
بدلتَ حُسنَ الوفا في قُبح إشراكِ
ما القلبُ إلا محلِّي ليس يَسكنُهُ
إلايَ قلتُ: وما في القلب إلاكِ
يا مهجةَ العمر بل يا مُنتهى أمَلي
أنتِ الشريكة في عمري وأملاكي
لولاكِ ما راق لي عيشٌ ولا سَعِدتْ
عيني بطعم الكَرى والله لولاكِ
قالت: أترقد مذْ غِبنا فقلتُ: نعم
لعَلَّني في الكَرى أحْظى بلُقياكِ
وهكذا تمَّ حُلمي وانتبَهتُ ولم
أفُزْ بشيءٍ سوى شوقي لِمَرآكِ

ولآخر:

أقول: لأهْيَفٍ وافى بكأسٍ
لها مِن مِسكِ نكهتِهِ خِتامُ
أمِن خدَّيك تَعصر؟ قال: كلَّا
متى عُصِرَت مِن الورد المُدامُ؟

ولآخر:

بين الأظاعنِ حاجةٌ خلَّفتُها
أودَعتُها يومَ الفراق مُودِّعي
وأظنُّها لا بل يَقيني أنها
قلبي لأني لم أجِدْ قلبي معي

وللمعلم بطرس كرامة:

أشكو إلى الله ما أُلاقي
من لوعةِ البَيْن والفِراقِ
يا مُفرَدًا بالجمال قَلْبي
مِن بعدِ بُعْدِك ذو احتراقِ
سُقيتَ يوم الوداع خيرًا
فأنت عندي أخو التلاقي
ففي اللِّقا والوداعِ كانت
وسيلةُ الضمِّ والعِناقِ

وله في مليح من دير القمر، وفيه نوعُ المذهب الكلامي:

ظبيٌ بلُبنان قد سلَّت مَحاجرُهُ
للعاشقين سيوفَ الغُنج والحوَرِ
بذمةِ الله ذاك الرِّيم إنَّ له
بين الجوانح عهدًا غيرَ مُندثِرِ
أَفْديه من قمرٍ كم بتُّ أرصدُهُ
شوقًا وقد حلَّ في سمعي وفي بصري
لو لم يكن قمرًا ضاءت مَحاسنُهُ
ما أصبحَت دارُه تُعْزَى إلى القمرِ

ولي في هدية ذهبية:

هذي هَديَّتُنا تُبرهِن بعضَ ما
مِن حبِّكم في القلب يَرويه الشجَنْ
ذهَب بلا غشٍّ مُصفًّى شاننا
في حفظ عهدِ وِدادكم طولَ الزمَنْ
والحبُّ أحسنُ ما يكون دوامُه
وكذاك بالذِّكرى يَدوم المؤتمَنْ

ولأبي عبد الله الأندلسي:

قِفْ بالقِباب وأين ذاك الموقفُ
واسأَلْهمُ بمأمِّهم أن يَعطفوا
وانشُد فؤادك إن عرَفتَ مكانهُ
بين القِباب وما إخالُك تَعرِفُ
عند التي رمَتِ الحجار عديَّةً
وبَنانُها بدَم القلوب مُطرَّفُ
نَفْسي الفداء لها وإن لم تُبقِ لي
نفسًا تُذكِّرني بها وتُعرِّفُ

ولشاكر أفندي شقير من قصيدة:

طال البِعادُ فطال فيه سُهادي
حتى حُرِمتُ أيا سناءُ رُقادي
يا مَنْ بلطفِكِ قد ملَكتِ حُشاشتي
وهواكِ غلَّ القلبَ بالأصفادِ
تَفْديكِ روحٌ بالفراق قتَلْتِها
أيجوز للمَفديِّ قتلُ الفادي؟
قسَمًا بحُبِّك إن صبري عنك في
وادٍ وقلبي هائمٌ في وادِ
شَمِت العذولُ ببُعْدنا لكنهُ
لم يَدرِ أن القلبَ في مرصادِ
فحُجِبْتِ عن عيني ولكنْ في الحشى
عينٌ تراك هناك في الإبعادِ
والله إن أبعَدتِ لستُ بمُبعِدٍ
قلبي عن الإلمام والتَّردادِ
إن لم ترَيْ جسمي بعَينك فانظُري
وهمًا بعين القلب معْكِ فؤادي
إن يحجبوكِ فإنَّ ذِكرَكِ في فمي
وهواكِ بين جوارح الأكبادِ
وخيال شخصك بين أجفاني ثوى
فلذاك ليس النَّومُ لي بمُرادِ
ومُنى فؤادي مِن جمالك نظرةٌ
وكفى بها لشفاءِ قلبي الصادي
شرَفي بحبِّكِ يا سناءُ وفي الهوى
شرفٌ إذا لم يَقترِنْ بفَسادِ
فانعَمْ بقلبٍ ظلَّ يَشغله الهوى
وسواه عندي عُدَّ مثلَ جَمادِ
وانعَمْ بمن بهَواه قد نال الهدى
ولمن أضلَّ إليه ما مِن هادِ
فأنا الهوى وأبو الهوى وابن الهوى
وأخو الهوى مع عفَّةٍ ورشادِ
علَّمْتِني نظْم القريض أرقَّهُ
من رقةِ الإلطاف والإرشاد
لكنَّما علَّمتِ قلبي رقةً
بهواك فادْريهِ رقيقَ ودادِ
واهًا لأيام اللقاء وآهِ مِن
جَور النَّوى وشماتة الحُسَّادِ
وألذُّ ملقًى يَشتفي قلبي به
ما فيه أطرحُ ثقلة الأوغادِ
أبدَلتِ لي لطف النسيم بصرصرٍ
ماذا ترَيْن بإلْفة الأضدادِ؟
والبحرُ يَقذف تارةً من درِّه
ويرى كثيرًا جاء بالأعوادِ
فالدَّهرُ بحرٌ والصِّحابُ ذخائرٌ
فيهِ وهذا الحبُّ كالصيَّادِ
وأنا أحبُّك والعواذل والحَوا
سد والرقيب قلوبهم كرمادِ

ولأسعد أفندي طراد:

سلَبتِ فؤادي الآن أيَّتها الحَسْنا
رهينةَ عهدٍ بيننا فاحفَظي الرَّهْنا
ولا تَحسبي أني سلَوتُكِ ساعةً
فلا أعرف السلوى ومَن أنزلَ المنَّا

وقال إلياس أفندي طراد في غادة ترتل:

عَجِب العواذلُ إذ رأَوني مُغمِضًا
عينَيَّ حين عدا الحبيبُ يُرتِّلُ
فأجَبتُهم أنِّي ألَذُّ بصوتهِ
ما دمتُ في هذي المحاسنِ أُشغَلُ؟

ولابن الخياط:

خُذا مِن صَبا نجدٍ أمانًا لقلبهِ
فقد كاد ريَّاها يطيرُ بلبِّه
وإياكما ذاك النَّسيمَ فإنهُ
إذا هبَّ كان الوَجدُ أيسرَ خَطبِهِ
وفي الحيِّ محنيُّ الضلوع على جوًى
متى يَدْعُه داعي الغرام يُلبِّهِ
إذا نفحَت من جانبِ الغَور نفحةٌ
تبيَّن منها داؤه دونَ صحبِهِ
خليليَّ لو أبصَرتُما لعَلمتُما
مكانَ الهوى مِن مُغرَم القلب صبِّهِ
غرامٌ على يأس الهوى ورجائهِ
وشوقٌ على بُعْدِ المزار وقُربِه
تذكَّر والذِّكرى تَشُوق وذو الهوى
يَتوق ومَن يَعلق به الحبُّ يُصْبهِ
ومحتجبٌ بين الأسنَّة والظُّبا
وفي القلب من إعراضه مثلُ حجبهِ
أغار إذا آنستُ في الحيِّ أنَّةً
حِذارًا عليهِ أن تكونَ لحبِّهِ

ولبولس أفندي زين:

رَنَتْ بطرْفٍ لقلب الصبِّ فتَّانِ
غزالةٌ تَرتعي في سَفح لُبنانِ
مرَّت وفي خدِّها وردٌ وفي يدها
وردٌ وفي صدرِها أثمارُ رُمَّانِ
فقلت: لم أدرِ أن الوردَ منبتهُ
والجُلَّنار سِوى روضٍ وبُستانِ
واستضحكَت ثم قالت: ليس مِن عجبٍ
فإنَّ خدِّي وصدري الرحبَ رَوضانِ
فقلتُ: هذا الذي ناوَلتِني كرمًا
من أي روض جَناه كفُّكِ الجاني؟
فجاوبَتْني وقد دارَت لَواحظها
لا تجهلنَّ فذا مِن ورد نَيْسانِ
فقلتُ: يا فتنةَ الألباب أذهلَني
عن رؤية الورد مَرْأى وجهِك القاني
الحسن أنتِ ومعناهُ وجوهرهُ
ومَن يُماري ففي عينَيْكِ بُرهاني

وله مشطَّرًا أبيات:

عيونٌ بها السِّحرُ المبين يَبينُ
وفيها شئونٌ للهوى وفنونُ
ولا عجَبٌ أنْ حرَّك الشوقَ ساكنٌ
لها عند تحريك الجفونِ سكونُ
مِراضٌ صِحاحٌ ناعساتٌ يَواقِظٌ
سيوفٌ غمودٌ أعيُنٌ وجفونُ
لقد مارسَت نقضَ الذِّمام فأصبحَت
تُسالِمُها العُشاق وهْي تَخونُ
إذا ما رأت قلبًا خَليًّا من الهوى
وليس به وجْدٌ بها وجنونُ
تُناجيه إيماءً إليه كأنها
تقول له كُن مغرمًا فيَكونُ

ولعمر بن أبي ربيعة:

أبرَزوها مِثل المَهاة تَهادى
بينَ خمسٍ كَواعبٍ أترابِ
ثم قالوا: تُحبُّها؟ قلتُ: بهرًا
عددَ القطْر والحصى والترابِ
وهْي مكنونةٌ تحدَّرَ منها
في أديم الخدَّين ماءُ الشبابِ

ولنجيب أفندي مشعلاني:

عجبًا متى يُرْوى الفؤادْ
من ميمِ ثَغرِك وهو صادْ
فلقد صَلي قلبي بنا
رِ جَوًى تلظَّت في السوادْ
فتكَتْ بهِ أيدي النَّوى
ظُلمًا وأحياه الودادْ
وأنا الذي لولا وُعو
دُكِ مِتُّ من داء البعادْ
وا حسرتاه فإنَّ لي
عينًا ألمَّ بها السُّهادْ
فإذا رقَدتُ فحيلةٌ
للطَّيف في سِنَة الرُّقادْ

وله، وأنشدَهما في محفلِ أُنس:

يا هذه الكاسُ إني بعدَما فتكَتْ
أيدي النوى فيكِ قد أمسيتُ أَبكيكِ
يا لله يا مَنْ سقاني الكأسَ واحدةً
ثَنِّ ولا تجعلَنْها بيضةَ الدِّيكِ

فأجبتُه بما يأتي:

يا مديرَ الكئوس قد قال قومٌ:
إنَّ مِن كأسك الهمومُ تبدَّدْ
قد سَكِرنا قبلًا بريقٍ لهذا
وحِّد الكأس فالحبيبُ موحَّدْ

ولعضد الدولة:

وقالوا: أفِقْ مِن لذة اللهوِ والصِّبا
فقد لاح شيبٌ في العذار عجيبُ
فقلت: أخلَّائي ذَروني ولذَّتي
فإن الكرى عند الصباح يَطيبُ

ولآخر في مليح على عذراه خال:

على لامِ العِذار رأيتُ خالًا
كنُقطة عنبَرٍ بالمسك أفرَطْ
فقلتُ لصاحبي: هذا عجيبٌ
متى قالوا بأن اللام تُنقَطْ

وللسلطان المنصور مُعمِّيًا باسم حَظيَّته نسيم:

يا هلالًا طلوعُه بين جَفْني
وغزالًا كُناسهُ بين جنبي
إن سهمًا رميتَ غادرَ همًّا
لو تناهى ما شكَّ آخَرُ قلبي

وحكى ابنُ رشيقٍ قال: كنتُ أجالس محمد بن حبيب، وكان كثيرًا ما يُجالسنا غلامٌ ذو خالٍ تحت حنَكه، فنظر إليَّ ابنُ حبيب يومًا وأشار إلى الخال، ففَهمتُ أنه يَصنع فيه شيئًا، فصنعتُ أنا بيتَين فلما رفَع رأسه قال لي: اسمع، وأنشَدني:

يقولون لي لِمْ تحت صفحةِ خدِّهِ
تنزَّل خالٌ كان مَنزِلَه الخدُّ
فقلتُ: رأى حُسنَ الجمال فهابهُ
فحطَّ خضوعًا مثلَما يَخضع العبدُ

فقلتُ له: أحسنتَ ولكن اسمع، وأنشدتُ:

حبَّذا الخالُ كامنًا منه بين الـ
ـخَدِّ والجيدِ رقْبةً وحِذارَا
رام تقبيلَه اختلاسًا ولكنْ
خاف مِن سيف لحْظِه فتوارى

فقال: فضَحتَني قطَع الله لسانك!

ولفرنسيس أفندي مراش الحلبي:

قد طلبتُ الوصلَ من قمرٍ
حُسنُه المعجِزُ آياتُ
قال لي: لا لا فقلتُ له:
إنَّ نفيَ النفي إثباتُ

ولي وقد قدَّمتُها إلى الأديب الذكيِّ سليم أفندي مسديه تَبرِكةً بِعيد:

ما القلب إلا رهنُ ذا الوجهِ الأغَر
سالٍ سواه وليس يأمُل مِن مفَر
روحي الفداءُ لغادةٍ فتكَت بنا
لما نضَت عضْبًا لِيَختطف البصَرْ
يا مَن يردُّ عليَّ قلبًا بالهوى
يفنى ولولا الصبرُ لم يأتِ الظفَرْ
ما لي سوى الملجا لذمَّةِ فرقِها
مستسلِمًا وبذاك أعرفُ ما الخبَرْ
حالَ النوى ما بيننا فغَدا الهوى
سهمًا يُصيب القلبَ مستقصِي الأثَرْ
دعَتِ الفؤادَ فسار يبغي ندوةً
رقصَت جيادُ الحسن فيها بالطرَرْ
دارت سُقاة الخمر مِن لحَظاتِها
فنفَتْ همومَ فتًى تولَّاه الضجَرْ
الله أكبر ما أشدَّ نِفارَها
يتلو على الأسماع آياتِ السوَرْ
دون المذلَّة في هواها رِفعةٌ
سادت بعاشقها إلى أوجِ المقَر
بحِمى العزيز جنابُه ورِحابهُ
إني ألوذ فليس بأسٌ يُنتظَرْ
فتًى ارتَقى أوج المعارف رِفعةً
وعَلا على أعلى عُلى عَلْيا القمَرْ
علَمٌ إذا ضامي البصيرةِ هزَّهُ
خضع الذي قد كان صعبًا ثمَّ خَر
طلقٌ بَشوش الوجه مِفتاح النُّهى
سامٍ سَموح منه يُسترجَى الوطَرْ
يا مَن يُحدِّث عن كِرام مَعالمٍ
إن السليمَ الأصلِ موضوعُ الفِكَرْ
يا ابن الكرام ومِن مكارمهم لقد
عظمت وقد كثرت فمَنْ يُحصي كفَر
ما أنت إلا هامةُ المجدِ الذي
عُقِدت لعُلْياه بألويةِ الظفَرْ
أهلُ العُلى جسمٌ وإنك هامُهُ
بل روحُ ذاك الجسمِ محمودُ الفِطَرْ
قد حِرْتُ أيكما أجيء مهنِّئًا
أنتم بِعيدٍ أم بكم عيدًا حضَرْ؟
هُنِّئتَ ألفًا ثم ألفًا مثلَها
بيدٍ مؤيَّدة وقولٍ معتبَرْ
وارْقَ المعاليَ يا سليمُ بأربعٍ
عزٌّ وجاه وافتخارٌ معْ ظفَرْ
باكورةٌ فردوسُ فِكري صاغَها
والحقُّ أورثَها النفيسَ المعتبَرْ
لا زلتَ مثل النجم تَرقى للعُلى
والشمس يُشرِق نورُها فيرى البشَرْ

وللخيرازي:

ولكنَّ أرواح المحبِّين تلتقي
إذا كانت الأجسادُ عنهنَّ نُوَّما
وأحسبُ رُوحَينا من الأصل واحدًا
ولكنه ما بينَنا قد تقسَّما
ولو لم يَكن هذا كذا ما تألَّمَت
له مُهجَتي بالغيب لما تألَّما

ويقال: إن جميلًا سرَّح إبله يومًا بوادي البَغيض، فأتت بثينة مع جَوارٍ يملأن الماء فبعثَت له بفصيل، فتَسابَّا، وكان هذا سببَ عشقه لها؛ بدليل قوله:

وأولُ ما قاد المودةَ بيننا
بوادي بَغيضٍ يا بُثينَ سِبابُ
وقلتُ لها قولًا فجاءت بمثلهِ
لكلِّ كلامٍ يا بثين جوابُ

وإن أبا نُواس مرض، فدخل عليه بعضُ أصحابه يَعودونه، فوجَدوا به خِفَّة، وانبسط معهم وقال: مِن أين جئتم؟ قالوا: مِن عند عنان جارية الناطفي، فقال: أكانت عليلة؟ قالوا: نعم، وقد عُوفِيَت الآن، فقال: والله لقد أنكَرتُ عِلَّتي هذه ولم أعرف لها سببًا، غير أني توهَّمتُ أن ذلك لعلة نالت بعضَ مَن أُحب، ولقد وجدتُ في يومي هذا راحة، ففرحت طمعًا أن يكون الله عافاه منها قبلي، ثم دعا بدَواة وكتب:

إني حُمِمْتُ ولم أَشعُر بحمَّاكِ
حتى تحدَّث عُوَّادي بشكواكِ
فقلتُ ما كانت الحمَّى لِتَطرُقني
من غير ما سببٍ إلا بحُمَّاكِ
وخَصلةٍ كنتُ فيها غيرَ متهَمٍ
عافانيَ اللهُ منها حين عافاكِ
حتى إذا اتفقَت نفسي ونفسُكِ في
هذا وذاكِ وفي هذا وفي ذاكِ

ولي من قصيدة قدَّمتُها لسليل الملوك الكرام وفرع شجرة المعالي، سمو الدوك أوف أدنبرج، نجل جلالة ملكة إنكلترا، وأميرال أسطول البحر المتوسط، عند قدومه إلى بيروت يصحبه ابن أخيه البرنس جورج أوف ويلس:

هو البعاد ولا شيءٌ يُسلِّينا
في مثلِه غير ذِكْرى من محبِّينا
إن يَبخلوا همْ بذِكْرانا فذِكرُهمُ
دومًا نَجود به في الحق تَبْيينا
إذا تذكَّرتُ أيامي التي سلفَت
والدار تَجمعُنا والحظُّ داعينا
حيث الليالي صرَفْنا بالصفاء ولا
واشٍ يَشي أو عَذولٍ قد يُعادينا
حيث اختلَسْنا لقاءً بالحبيبِ ولم
نَسرق سوى ما لنا يا مَن يُداعينا
حيث اغتنَيْنا ولم نحتَجْ إلى أحدٍ
سوى المهيمنِ مُدْنينا ومُقْصينا

ومنها:

ومُذ مضى لي زمانٌ لا أفوزُ بما
رجَوتُ قصَّرتُ عن تَذْكار ماضينا
وقلتُ لي سلوةٌ عنه بمدح عُلى
نجل المليكة مَن بالبِشْر آتينا
قوموا انظُروا يا صِحابي البَحرَ كيف بدَتْ
فيه العمائرُ كالأبراج تُحصينا
لدولةٍ مِن ذَوات المجدِ قُدرتُها
ليست تُقدِّرها الأقوالُ تَخمينا
قامت مَليكتُها بالحزم قابضةً
سيفَ العدالة عنها الكونُ راوينا
لها ثواقبُ أفكار تُضيء على
أقصى البلاد وما فاتت مَغانينا
سَليلة المجد فرعُ الملك قابضةٌ
أزِمَّة الملك تُحْيي القومَ تأمينا
إن التقادير قادَت نحو بلدتِنا
شِبل المعالي وما قصَّرتُ تبيينا
هذا الذي طارت الأخبارُ عنه وكم
قامت له حِكَم في المدح تُغنينا
فرع المعالي أميرُ البحر سيِّده
تُغنيك شهرتُه عن سمعِ شادينا
أهلًا بكم وعلى الإكرام وفْدكمُ
ففي قُدومِكم الدنيا تُهنِّينا
ومعْكَ نجلُ أخيك الشهم خيرُ فتًى
مَنْ بات للمجد طَورًا والعُلى سينا
كأنَّما أنتما بدْرانِ في أفُقٍ
طلَعتُما منكما الأنوار تَهدينا
فها ألِكْسندرا في البحر قائمةٌ
فُلْك حكَتْ فلَكًا بالنور يَهدينا
تُقِلُّ روحَ العلا جسمُ النُّهى خلدَت
أعوامُ أفراحه في الأرض آمينا
وغيرُها سائراتٌ طوعَ خدمتِهِ
تَقي بذاك حقوقَ الملكِ تَحسينا

ولعزتلو خليل أفندي الخوري:

عتَبتِ عليَّ فاتِنتي لذنبٍ لستُ أعرفُهُ
ولكنْ قد حكَمتِ به ومَن للصبِّ يُنصفهُ
تحجَّب بالدلال وقد أشرتِ وما أبنتِ له
فراقَ مِن العتاب إلى صريع الحبِّ ألطفُهُ
دعيني مِن عتابِ جفًا وجودي فالزمان وفا
يُديرُ لنا زُلالَ صَفا وكأسًا طاب قَرْقَفُه
بربِّكِ ما ضلَلتُ وفي عيونكِ للعقول هُدًى
تَجود بهِ فتُرشِدها وإن أهدَتْه تخطَفُهُ
عيونُكِ غازياتٌ بالقلوب حِرابُها فتكَت
نِصالُ لَحاظِها عمدَت لطَرْف الصَّب تُطرِفُه
نصالٌ بالجفون لها غمودٌ زان رونقُها
من الأهداب إذ لعبَت نِجادٌ صال مُرهَفُه
رأيتُ بظلِّها سبلًا من الآكام مُنسبِلًا
به يجد الندى سُبلًا لوَردِ الخدِّ يألفهُ
ندًى مِن مدمعَيَّ هما على خدٍّ يموج دمًا
بكيت لورده ألَمًا لأنِّي لستُ أقطفهُ
وللثَّغر البهيِّ بدا اختلاجٌ في تبسُّمهِ
كوعدٍ للبروق زها وليس الغيثُ يُردِفُه
وبين مَعارجِ النهدَيْن في صدر الصباح جَرى
غديرٌ من مياه الحسن لكن لست أرشفُه
قوامكِ للعيونِ بدا قوامًا تستعزُّ بهِ
وعِطفُك مال عني حِرْتُ فيه كيف أعطفُه؟
لقد ألبَستِه زرَدًا كأنكِ قد خَشيتِ عدًى
فديتكِ مَن يمدُّ يدًا وسيفُ اللَّحظ يرجفُه
بدا للمِعْصم الزاهي شعاعٌ لاح يَسترُه
غشا شفَقٌ وأنفاسي تهبُّ به فتَكشِفُه
كأنَّ عموده خفَرٌ لروض الصَّدر يحرسُه
إذا مدَّ الهوى كفًّا له بالنار يَقذِفُه
محاسِنُكِ التي سفَرَت بها شمسُ الضحى استترَت
جمالُكِ شعلةٌ ظهرَت أمام البدر تَكسفُه
بآفاق البلاد غدا غرامي فيك مُشتهِرًا
أنا بين العباد أنا أسيرُ هواكِ مُدْنفُه
وظُلمكِ قد غَدا مَثلًا ومِثلي مَنْ تحمَّلَه
رضيتُ به خضعتُ له بطَوعٍ لست أُخلِفُه
ألفتُ الهَجْر مبتعِدًا لبست مِن السقام ردًى
وأورثني الصدودُ صدًى ولا وصلٌ يُلطِّفُه
شربتُ هواكِ قبل الماء يَروي كلَّ جارحةٍ
ويَحرق ما روى أبدًا بنارِ جوًى ويُتلِفُه
وقفتُ لديكِ منكسِرًا وجئتُ اليوم ملتجئًا
لكعبةِ حسنك الباهي بقلبٍ دمتُ أوقفُه
فعهدي ثابتٌ أبدًا كتَبتُ بحفظه سَندًا
حلفتُ به يمينَ هدًى لغيركِ لستُ أحلِفُه

وقال أحمد أفندي القباني:

لواوِ صُدغِك معنًى لو تأمَّلَه
أهلُ الهوى أذكَرَتهم نشوةَ الثَّملِ
ومذْ تظاهرَ لي في الحال عقربُه
أراحَت الروحَ مني شدةُ الوجَلِ

وله مشطرًا مع تغيير المعنى:

أمرُّ على الديار ديارِ ليلى
فأُسرِع عند رؤيتها الفِرارا
وكنتُ مِن الجهالة قبل هذا
أُقبِّل ذا الجدارَ وذا الجدارَا
وما حبُّ الديار شغَفْن قلبي
ولا ملَك الهوى قلبي اقتِدارَا
وإن لم يَكُ مذمومًا هواها
ولكنْ حبُّ مَن سكَنَ الديارا

وله مجاوبًا بيتَين للشيخ الساعاتي:

أسرِعْ لرشف اللَّمى يا صاحِ مغتنمًا
مِن ثَغر ريم الحمى إذ جاء يُحْيينا
وإن أردتَ التداوي من سقام هوًى
فامزج به راحةً مِن كفِّ ساقينا

أما البيتان فهما:

إذا جلا الشمسَ بدرٌ ثم طاف بها
على غيوم النَّدامى مشرقًا فينا
ولاح برقُ وصالٍ منه دون قِلًى
فما يراه سماءُ العلم مفتينا

ولي مِن غزلٍ قصيدةٌ رفعتها إلى مَن قدَّمت هذا الكتاب هدية برسم فضله؛ تهنئةً بدخول عام جديد:

حديثٌ لوَ ان الدرَّ منه تنَظَّما
لَباهى دراريَّ النجومِ وقد سَما
ووجهٌ كأنَّ البدر منهُ مُقلصٌ
لذاك نراه غار في كَبِد السَّما
وطرْفٌ غَزاني في حِمايَ ومُذْ رأى
بأنِّي صريعٌ مِن هواهُ تبَسَّما
وطارحَني من بعدِ طول بعادهِ
سلامَ مَشوقٍ طالَما حنَّ للحِمى
وثَغر خُميريٌّ سَكِرتُ برَشفِه
زمانَ لقًى مِن بعده ما تصرَّما
وعُنْق كأنَّ الظَّبْي مذْ شامَهُ جرى
يُسابقه في حَلْبة الحُسن ريثما
أحاديثُ لو مرَّت براهبِ معبدٍ
لآلى اتِّباعَ العشقِ والحبِّ كيفما
ولو قربَت مِن مالكٍ فوق عرشهِ
يخرُّ لها ذُلًّا ولو كان حيثما
رأيتُ سواد الخال في صَحن خدِّها
كبُلبل روضٍ فوق وردٍ ترنَّما
حكى فوقَ مُبيضِّ الخدود سَوادَهُ
كتابةَ عمِّي فوق قِرْطاسه وما
وإذ كان بين العمِّ والخال نسبةٌ
نهيتُ فؤادي للهوى حين أحجَما
وقلتُ عذيري سيدٌ ساد في العلى
وحاز ارتِفاع القول كيف تكلما

وللإمام الفارض:

خفِّف السير واتَّئِد يا حادي
إنما أنت سائقٌ بفؤادي
ما ترى العِيسَ بين سوقٍ وشَوقٍ
لربيع الربوع غَرْثى صَوادي
لم تُبقِّ لها المهامهُ جسمًا
غير جلدٍ على عظامٍ بَوادي
وتحفَّت أخفافُها فهْي تمشي
مِن جَواها في مثل جمرِ الرماد
وبراها الونَى فحلَّ براها
خلِّها تَرتوي ثِمالَ الوِهادِ
شفَّها الوَجدُ إن عَدِمتَ رِواها
فاسْقِها الوخْدَ من جِفار المهادِ
واستَبِقْها واستَبْقِها فهْي مما
تترامى بهِ إلى خير وادِ
عمْرَك الله إن مرَرتِ بوادي
يَنبُعٍ فالدَّهْنا فبدرٍ غادي
وسلكتَ النَّقا فأوْدانَ وَدَّا
نَ إلى رابغِ الرَّويِّ الثِّمادِ
وقطعتَ الحِرارَ عمدًا لِخَيما
تِ قديدٍ مَواطنِ الأمجادِ
وتدانَيتَ مِن خُلَيص فعُسْفا
نَ فمَرِّ الظَّهْران مَلْقى البَوادي
وورَدتَ الجُموم فالقَصر فالدَّكْـ
ـناءَ طرًّا مناهلَ الوُرَّادِ
وأتيتَ النعيمَ فالزاهر الزَّا
هرَ نورًا إلى ذُرى الأطوادِ
وعبَرتَ الحجونَ واجتزتَ فاخترْ
تَ ازديارًا مشاهدَ الأوتادِ
وبلغتَ الخيام فابْلِغ سَلامي
عن حِفاظ عُرَيب ذاك النادي
وتلَطَّفْ واذكُر لهم بعضَ ما بي
من غرامٍ ما إنْ لهُ مِن نفادِ
يا أخلَّايَ هل يَعود التداني
منكمُ بالحِمى بعَوْد رُقادي؟
ما أمرَّ الفراقَ يا جيرةَ الحيِّ
وأحلى التَّلاقِ بعدَ انفرادِ
كيف يَلْتذُّ بالحياةِ مُعنًّى
بين أحشائِه كوَرْيِ الزنادِ
عُمرهُ واصطبارهُ في انتقاصٍ
وجَواهُ ووَجْده في ازديادِ
في قُرى مِصرَ جسمُه والأُصَيحا
بُ شآمًا والقلبُ في أجيادِ
إن تَعُد وقفةٌ فُوَيق الصُّحَيرا
تِ رَواحًا سَعِدتُ بعدَ بعادي
يا رَعى الله يومَنا بالمصلَّى
حيث نُدْعى إلى سبيل الرشادِ
وقِبابُ الرِّكابِ بين العُلَيمَيـ
ـنِ سِراعًا للمَأزِمَين غَوادي
وسقى جَمْعنا بجمعٍ مُلثًّا
ولُيَيلات الخيف صَوب عهادي
مَن تمنَّى مالًا وحُسْن مآلٍ
فمُنائي مِنًى وأقصى مُرادي
يا أُهَيل الحجاز إنْ حكَم الدهـ
ـرُ بِبَينٍ قضاءَ حتمٍ إرادي
فغرامي القديمُ فيكم غَرامي
ووِدادي كما عَهِدتُم وِدادي
قد سكَنتُم مِن الفؤاد سُوَيدا
هُ ومِن مُقْلتي سواءَ السوادِ
يا سميري روِّح بمكةَ رُوحي
شاديًا إن رغبتَ في إسعادي
فذُراها سِرْبي وطِيبي ثَراها
وسَبيلُ المَسيل وِرْدي وزادي
كان فيها أُنسي ومِعْراجُ قُدسي
ومقامي المقامُ والفتحُ بادي
نقلَتْني عنها الحظوظُ فجذَّت
وارِداتي ولم تُدِم أورادي
آه لو يَسمحُ الزمان بِعَودٍ
فعسى أن تَعود لي أعيادي
قسَمًا بالحَطيم والركن والأسْـ
ـتارِ والمَرْوتَين مَسْعى العبادِ
وظِلال الجناب والحِجْر والميـ
ـزابِ والمستجابِ للقُصَّادِ
ما شَممتُ البشامَ إلا وأهدى
لفؤادي تحيةً مِن سُعادِ

وقال الصِّمَّة بن عبد الله وكان قد هَوِي ابنة عم له يُقال لها: ريَّا، فخطبها إلى عمه، فزوَّجه إياها على خمسين من الإبل، فجاء إلى أبيه فسأله ذلك، فساق عنه تسعًا وأربعين، وقال: عمك لا يُناظرنا بنُقصان ناقة، فساقها إلى عمه وذكر له ما قال أبوه، فأبى أن يَقبلها إلا كُمَّلًا، فلجَّ أبوه، ولجَّ عمه، فقال: والله ما رأيتُ ألْأمَ منكما جميعًا، وإني لأُلام إن أقمتُ معكما! فرحل بها إلى الشام:

حننتَ إلى ريَّا ونفسُك باعدَت
مَزارك مِن ريَّا وشِعْباكما معَا
فما حسَنٌ أن تأتيَ الأمر طائعًا
وتجزَعَ إن داعي الصبابة أسمَعَا
قفا ودِّعا نجدًا ومَن حلَّ بالحِمى
وقلَّ لنجدٍ عندنا أن يُودَّعا
بنَفسيَ تلك الأرضُ ما أطيبَ الرُّبا
وما أحسنَ المُصْطافَ والمتربَّعَا!
وليست عَشيَّات الحمى برَواجعٍ
عليك ولكن خَلِّ عينَيْك تَدمعَا
ولما رأيتُ البِشْرَ أعرضَ دوننا
وحالَت بناتُ الشوق يَحننَّ نزَّعا
بكَت عينيَ اليُسرى فلما زجَرتُها
عن الجهل بعدَ الحلم أسبَلَتا معَا
تلَفَّتُّ نحو الحي حتى وجَدتُني
وجعتُ من الإصغاء ليتًا وأخدعَا
وأذكر أيام الحِمى ثم أنثَني
على كبدي من خشيةٍ أن تصدَّعا

وللحسين بن مطير الأسدي:

لقد كنتُ جَلدًا قبل أن توقِد النَّوى
على كَبِدي جمرًا بطيئًا خُمودُها
وقد كنتُ أرجو أن تَموت صَبابتي
إذا قَدُمَت أيامُها وعهودُها
فقد جُعِلت في حبَّة القلب والحشا
عهاد الهوى تَنمو بشوقٍ يُعيدُها
بسودٍ نَواصيها وحُمر أكفُّها
وصُفرٍ تَراقيها وبِيضٍ خدودُها
فمُخضرَّة الأوساط زانَت قُدودَها
بأحسنَ مما زيَّنَتها عقودُها
يُمنِّينَنا حتى ترفَّ قلوبنا
رفيفَ الخُزامى بات طلٌّ يجودُها

ولآخر:

ومما شَجاني أنها يومَ أعرضَت
تولَّت وماءُ العين في الجَفنِ حائرُ
فلمَّا أعادَت مِن بعيد بنظرةٍ
إليَّ التفاتًا أسْلَمَته المحاجِرُ

ولآخر:

ولما رأيتُ الكاشِحين تتبَّعوا
هَوانًا وأبدَوْا دوننا نظَرًا شَزْرَا
جعلتُ وما بي من جفاءٍ ولا قِلًى
أزورُكمُ يومًا وأهجرُكمْ شهرَا

وخرج أبو بكر بن مَخرَمة إلى الشام، فلما كان ببعض الطريق ذكَر امرأته صالحةَ بنت أبي عُبيدة بن المنذر بن الزبير وكان شديدَ الحُبِّ لها، فضرَب وجوهَ رواحلِه إلى المدينة وقال:

بينما نحنُ بالبلاكثِ فالقا
عِ شِراعًا والعِيسُ تَهوي هَوِيَّا
خطرَت خَطْرةٌ على القلب مِن ذكْـ
ـرِ هواكِ وهْنًا فما استطَعْتُ مُضيَّا
قلتُ: لبَّيكِ إذ دعاني لكِ الشَّو
قُ وللْحادِيَين حثَّا المطيَّا

فلما رأت رجوعه من أجلها وسمعَت الشعر قالت: لا جَرَمَ والله لا أستأثر عليك بشيء! فشاطرَتْه مالَها، وكانت تَضِنُّ عليه بمالها.

ولإبراهيم أفندي الحوراني مُعمِّيًا في مريم:

لي في مَغاني الصَّفا هيفاءُ غانيَةٌ
غَيْداء قلبي وطَرْفي من مَغانيها
ما بين ذَيلَي نسيمٍ مِن خمائلها
ريَّا الخُزامى رمَتْ بالحبِّ هاويها

ولعمر بن أبي ربيعة:

ولما تفاوَضْنا الحديثَ وأسفرَت
وجوهٌ زَهاها الحُسن أن تتقنَّعا
تبالَهْنَ بالعِرفان لما عرَفْنَني
وقلنَ امرُؤٌ باغٍ أكلَّ وأوضَعا
وقرَّبنَ أسباب الهوى لمتيَّمٍ
يقيس ذِراعًا كلما قِسْن إصبَعا
وقلتُ لمطْريهنَّ: ويحَك إنما
ضرَرتَ فهل تَسْطيعُ نفعًا فتَنفعا؟

وقال عبد الله بن الدمنية الخثعمي:

ولما لَحِقنا بالحَمول ودونَها
قميصُ الحشا تُوهي القميصَ عواتقُهْ
قليلُ قَذى العينَين يَعلم أنهُ
هو الموتُ إن لم تُصْرَ عنَّا بوائقُهْ
عرَضْنا فسلَّمْنا فسلمَ كارهًا
علينا وتبريحٌ من الغيظ خانقُهْ
فسايَرتُه مِقدارَ ميلٍ وليتَني
بكُرهي له ما دام حيًّا أُرافقُهْ
فلما رأَت أنْ لا وصالَ وأنهُ
مدى الصَّرم مضروبٌ علينا سُرادِقُهْ
رمَتْني بطَرْف لو كُميتًا رمَت بهِ
لبلَّ نَجيعًا نحرُه وبَنائقُهْ
ولَمْح بعينَيْها كأنَّ وميضَهُ
وميضُ الحيَا تُهدى لنجدٍ شقائقُهْ

ولآخر:

تشكَّى المحبُّون الصبابةَ ليتَني
تحمَّلتُ ما يُلْقون من بينِهم وحْدي
فكانت لنفسي لذَّةُ الحبِّ كلُّها
فلم يَلْقها قبلي محبٌّ ولا بَعدي

ولابن ميادة:

كأنَّ فؤادي في يدٍ ضبَثَت به
مُحاذَرةً أن يَقضِب الحبلَ قاضِبُهْ
وأُشفِق مِن وشْكِ الفراق وإنني
أظنُّ لمحمولٌ عليه فراكِبُهْ
فوالله لا أدري أيَغلِبني الهوى
إذا قلَّ جدُّ البَين أم أنا غالِبُهْ؟
فإن أستَطِع أَغلِبْ وإن يَغلب الهوى
فمِثل الذي لاقيتُ يُغلَب صاحبُهْ

ولآخر:

فيا أهلَ ليلى كثَّر الله فيكمُ
بأمثالها حتى تَجودوا بها لِيَا
فما مسَّ جنبي الأرضَ إلا ذكَرتُها
وإلا وجدتُ ريحَها في ثيابِيَا

وقال حفصٌ العليمي:

أقول لحلمي: لا تزَعْني عن الصِّبا
وللشيب لا تُذعِرْ عليَّ الغوانيا
طلبتُ الهوى الغوريَّ حتى بلَغتُهُ
وسيرتُ في نَجديِّه ما كَفانيا
فيا ربِّ إن لم تَقضِها لي فلا تدَعْ
قذورَ لهم واقبِض قذورَ كما هيا
ويا ليتَ أنَّ الله إنْ لم أُلاقِها
قضى بين كلِّ اثنَيْن ألَّا تَلاقيا

وقال ابن الطثرية:

عُقَيليَّة أمَّا مُلاثُ إزارِها
فدِعْصٌ وأمَّا خَصرُها فبَتيلُ
تَقيَّظُ أكناف الحِمى ويُظلُّها
بنُعمانَ مِن وادي الأراكِ مُقيلُ
أليس قليلًا نظرةٌ إن نظَرتُها
إليكِ وكَلَّا ليس منكِ قليلُ
فيا خلَّةَ النفس التي ليس دونَها
لنا مِن أخلَّاءِ الصفاء خليلُ
ويا مَنْ كتَمْنا حُبَّه لم يُطَع بهِ
عدوٌّ ولم يُؤمَن عليه دَخيلُ
أمَا مِن مقامٍ أشتكي غربة النَّوى
وخوفَ العِدى فيهِ إليكِ سبيلُ
فديتُكِ أعدائي كثيرٌ وشُقَّتي
بعيدٌ وأشْياعي لديكِ قليلُ
وكنتُ إذا ما جئتُ جئتُ لعِلةٍ
فأفنيتُ علَّاتي فكيف أقولُ؟
فما كلَّ يوم لي بأرضِكِ حاجةٌ
ولا كلَّ يوم لي إليكِ رسولُ
صحائفُ عندي للعتاب طوَيتُها
ستُنشَر يومًا والعتابُ طويلُ
فلا تَحملي ذنبي وأنت ضعيفةٌ
فحَمل دمي يومَ الحساب ثقيلُ

ولآخر:

تحمَّل أصحابي ولم يَجِدوا وجْدي
وللناس أشجانٌ ولي شجَنٌ وحْدي
أحبُّكمُ ما دُمت حيًّا فإن أمُتْ
فوا كَبِدا ممَّن يُحبُّكمُ بَعدي

وللصفيِّ الحِلِّي:

قالت: كحَلتَ الجفونَ بالوسَنِ
قلتُ: ارتقابًا لطيفكِ الحسَنِ
قالت: تسلَّيتَ بعد فُرقتِنا
فقلتُ: عن مسكَني وعن سكَني
قالت: تشاغلتَ عن محبَّتِنا
قلتُ: بفرط البُكاء والحزَنِ
قالت: تناسيتَ قلتُ: عافيتي
قالت: تسلَّيتَ قلتُ: عن وطَني
قالت: تخلَّيتَ قلتُ: عن جلَدي
قالت: تغيرتَ قلتُ: في بدَني
قالت: أذعتَ الاسرارَ قلتُ لها:
صيَّر سرِّي هواكِ كالعلَنِ
قالت: فماذا تَروم؟ قلتُ لها:
ساعةَ سعدٍ بالوصل تُسعِدُني
قالت: فعينُ الرقيب تَرصدُنا
قلت: فإني للعين لم أبِنِ
أنحَلتِني بالصدود منكِ فلو
ترَصَّدَتني المنونُ لم ترَني

ولآخر:

صبرتُ على ما لو تحمَّل بعضَهُ
جبالُ شراةٍ أصبحَت تتصدَّعُ
ملَكْت دموع العين حتى ردَدتُها
إلى باطنٍ فالعين في القلب تدمعُ

وللشيخ عمر أفندي الأنسي يمدح الشيخ حسين أفندي بدران:

أدِّي الرسالةَ يا ريحَ الحجاز لنا
فقد وضَعتِ عن العاني الشجيِّ عنَا
ورَوِّحي القلبَ مِن ذكر الأحبَّة يا
ريحَ الصَّبا فمُنى قلبي ديارُ مِنى
وعن حِمى طَيبةٍ لي كرِّري خبرًا
إن المكرَّر أحلى الطيِّبات جنَى
حيَّا الحيَا ذلك المَغْنى الكريم ومَن
بهِ فإنَّ به للكائناتِ غِنَى
حيث المكارمُ والفضل الأعمُّ وما
تبغي الخلائقُ فيهِ من بلوغِ مُنى
لله مُهجة صَبٍّ قطُّ ما سكَنَت
يومًا لِتَذكار مَن أضحى لها سكَنا
ولا تألَّق برقُ الأبرَقين سنًا
إلا وحرَّم مِن أجفانيَ الوسَنا
ما بين قلبي ورَكْب الظاعنين أرى
عهدًا متى ظعَنَت أحبابُه ظعَنَا
لولا مدامعُ أجفانٍ بها خمدَت
نارُ الأسى ذاب مِن حرِّ الجوى شجَنا
رُدُّوا فؤادي فقد ردَّ الإلهُ لهُ
أحبابَهُ وأعيدوا منه ما وهَنا
واستطلِعوا خبرًا جاء البشيرُ به
حتى شُفِي ما به نال المحبَّ ضَنى
لم يَقنَعِ المجدُ أنْ سمَّاه بدرَ هُدًى
بل قال: بدْرانِ تكريمًا لهُ وثَنا

ولابن نُباتة:

هويتُ أعرابيَّةً ريقُها
عذْبٌ ولي منها عذابٌ مُذابْ
رأسي بها شَيبانُ والطَّرْف مِن
نبْهانَ والعُذَّال فيها كِلابْ

ولابن الغدوي في تاجر:

وتاجرٍ أبصَرتُ عُشَّاقَهُ
والحربُ فيما بينهم ثائرُ
قال: علامَ اقتَتلوا هَهنا؟
قلتُ: على عينِك يا تاجرُ

ولآخرَ كان أحولَ:

شكَرتُ إلهي إذْ بُليتُ بحبِّها
على نظَرٍ أغنى عن النظَرِ الشزْرِ
نظَرتُ إليها والرقيبُ يَخالُني
نظرتُ إليه فاسترَحتُ مِن العُذرِ

ولامرِئ القيس ويُرْوى لغيره:

سبقتُ بمِضْمار المحبَّةِ والهوى
وصارَت جُفوني عن دمٍ مثل عندَمِ
فثُلْثا حروفِ الدَّمع لا كلُّها دَمٌ
فما بالُ دَمعي كلِّه خالِص الدَّمِ؟

ويُرْوَى: سبقتُ بمِضْمار المطالب لا العُلا.

وللسرَّاج الورَّاق:

يا ساكنًا قلبي ذكَرتُك قبلَهُ
أرأيتَ قبلي مَن بدا بالساكنِ
وجعلتُه وقْفًا عليك وقد غَدا
متحرِّكًا بخلافِ قلب الآمنِ
وبذا جرى الإعرابُ في نحو الهوى
وإليك مَعذرتي فلستُ بِلاحنِ

ولآخر:

بأبي حبيبٌ زارَني متنكِّرًا
فبدا الوُشاةُ له فولَّى مُعرِضَا
فكأنَّني وكأنَّه وكأنَّهم
أمَلٌ ونيلٌ حالَ بينَهما القَضا

ولعليِّ بن الجَهْم، ومطلعها مشهور:

عيونُ المَها بين الرَّصافة والجَسرِ
جلَبْنَ الهوى مِن حيث أدري ولا أدري
أعَدْن ليَ الشوقَ القديمَ ولم أكن
سلَوتُ ولكنْ زِدْن جمرًا على جَمرِ
سَلِمن وأسلَمْن القلوبَ كأنَّما
تشكُّ بأطراف المثقَّفة السُّمرِ
خليليَّ ما أحلى الهوى وأمَرَّهُ
وأعرفَني بالحلوِ منه وبالمرِّ
كفى بالهوى شُغْلًا وبالشيب زاجرًا
لوَ انَّ الهوى ممَّا يُنَهنَهُ بالزَّجرِ
بما بَيننا مِن حُرمةٍ هل عَلمتُما
أرَقَّ مِن الشكوى وأقسى مِن الهجرِ؟
وأفضحَ مِن عين المحبِّ لسرِّهِ
ولا سيما إن أطلقَت عَبْرة تَجري
وما أنسَ مِ الأشياءِ لا أنسَ قولَها
لجارتها ما أوسعَ الحُبَّ بالحرِّ
فقالت لها الأخرى: فما لِصديقِنا
مُعنًّى وهل في قَتله لك مِن عُذرِ؟
صِليهِ لعلَّ الوَصل يُحْييه واعلَمي
بأنَّ أسير الحبِّ في أعظمِ الأسرِ
فقالت: أَذود الناسَ عنهُ وقَلَّما
يَطيب الهوى إلا لِمُنهتِك السرِّ
وأيقَنَتا أنْ قد سَمعنا فقالَتا:
مَنِ الطارقُ المصغي إلينا وما نَدري؟
فقلتُ: فتًى إن شِئتما كتمَ الهوى
وإلا فخلَّاعُ الأعِنَّة والعذرِ
على أنهُ يشكو ظَلومًا وبُخلَها
عليهِ بتسليم البَشاشة والبِشْرِ

وللصفي الحليِّ في غلام جميل قُلع ضرسه:

لَحى اللهُ الطبيبَ فقد تعدَّى
وجاء لِقَلع ضرسِك بالمحالِ
أعاق الظبْيَ عن كِلْتا يدَيهِ
وسلَّط كلبتَين على غَزالِ

وعن كُثيِّر قال: سألَني جميلٌ أخْذَ موعد عن بُثينة. فقلتُ: هل بينكما موعد؟ قال: بِوادي الدوم وهي تَغسل الثياب، فجئتُ أباها وهو جالس فحادَثتُه قليلًا، ثم أنشدته قولي:

وقلتُ لها: يا عَزَّ أُرسِل صاحبي
على نأْيِ دارٍ والموكِّل مرسِلُ
فإن تَجعَلي بيني وبينَكِ موعدًا
وإن تأمُريني بالذي فيهِ أفعلُ
وآخِر عهدٍ منكِ يوم لَقيتِني
بأسفلِ وادي الدوم والثوبُ يُغسَلُ

فضربت سجاف البيت وقالت: اخسَأ، فقال أبوها: ما هذا؟ فقالت: كلبٌ يأتينا من وراء هذه الرابية إذا نام الناس. فأخبرتُه، وكان اجتماعُهما.

وخرج كُثيِّر عزة يريد زيارتها يومًا، ومعه أداة ماء، فجفَّت من الحر، ورُفِعَت له نار، فأمَّها وإذا بعجوز، فناشدَتْه: مَن الرجل؟ فقال: صاحبُ عزة، فقالت له: أنت القائل:

إذا ما أتَينا خلَّة كي نَزيدها
أبَينَ وقُلن الحاجبيَّةُ أوَّلُ
سنُوليك عُرفًا إن أردتَ وِصالَنا
ونحن لتلك الحاجبيَّةِ أوصَلُ

قال: نعم، قالت: هلَّا قلتَ كما قال جميل:

يا رُبَّ عارضةٍ علينا وصْلَها
بالجِدِّ تَخلطه بقولِ الهازِلِ
فأجَبتُها بالقول بعد تأمُّلٍ
حُبي بُثينةَ عن وِصالِكِ شاغلي
لو كان في قلبي كقَدْر قُلامةٍ
فضلًا لغيرِك ما أتَتكِ رسائلي

والله لا سقَيتُك شيئًا! فتركَها وانصرف.

قلتُ: لو أدركتُ هذه العجوز لأنشَدتُها قولي:

وأُقسِم لو قالت بوَصلٍ أجبتُها
بهجرانها والحبُّ يُفسِده الوَصلُ
ثلاثُ حروفٍ لا أُحب استِماعَها
تركَّب منها الوَصل وَهْو لنا قتلُ
وأُقسِم بالخالِينَ لو ذكَرَت لنا
وِصالًا لمات الحبُّ إذ إنَّه الأصلُ

ودخلَت عزةُ على عبد الملك فقال لها: أتَروِين قولَ كُثيِّر:

لقد زعمَت أنِّي تغيرتُ بَعدها
ومَن ذا الذي يا عَزُّ لا يتغيرُ؟
تغيرَ جسمي والخليقةُ كالتي
عَهِدتِ ولم يُخبِر بسرِّك مخبِرُ

فقالت: لا أروي هذا، ولكن أروي قوله:

كأني أُنادي صخرةً حين أعرضَت
من الصمِّ لو تَمشي بها العصْمُ زلَّتِ
صَفوحًا فما تَلْقاك إلا بَخيلةً
فمَن ملَّ منها ذلك الوصلَ ملَّتِ

فضحك من ذلك وقال: عجبتُ منه، يهواكِ بمثل ما اشتهَر عنه، وأنتِ مُعرِضة هذا الإعراض! فكيف به لو كنتِ تُظهِرين له اللين عِوضَ القسوة؟!

وإن جميلًا لما حضرَتْه الوفاة قال: مَن يَنعاني إلى بثينة؟ قال رجل: أنا، فأعطاه حُلَّته، فسار حتى جاء الحيَّ فأنشد:

بكَر النعيُّ وما كَنى بجميلِ
وثوى بمِصرَ ثواءَ غيرِ قَفولِ
بكر النعيُّ بفارسٍ ذي همةٍ
بطَلٍ إذا حمَّ اللقاءُ مُذيلِ
قومي بُثينةُ واندبي بعويلِ
وابكي خليلَكِ دونَ كلِّ خليلِ

فسمعَت بثينةُ فخرجَت مكشوفةً تقول:

وإن سُلوِّي عن جميلٍ لِساعةٍ
من الدهر لا حانَت ولا حان حينُها
سواءٌ علينا يا جميلُ بنَ معمَرٍ
إذا متَّ بأْساءُ الحياةِ ولينُها

ثم قالت للناعي: يا هذا، إن كنتَ صادقًا فقد قتلتَني، وإن كنت كاذبًا فقد فضَحتني، فقال لها: والله إني لصادق، وأخرج الحُلَّة، فلما رأَتها صرخَت، وصكَّت وجها، وأقبل النساء يَبكين معها حتى خرَّت مغشيًّا عليها، ثم أفاقت وأنشدت: «وإن سُلوِّي … البيتَين» فلم يُسْمَع منها غيرُهما حتى قُبِضَت.

ولكُثيِّر قوله:

قضى كلُّ ذي دَيْن فوفَّى غريمَهُ
وعزةُ ممطولٌ مُعنًّى غَريمُها

وذكرتُ في أول هذا المجموع قصة رُوِيَت عن هذا البيت، والآن أذكر غيرها؛ ذلك أنه كان لكثير غلام يتَّجر على العرب، فأعطى النساء إلى أجَل، فلما قضى ما له منهنَّ ماطلَتْه عزة، فقال لها يومًا وقد حضرَت في نساء: أما آنَ أن تَفي بما عندك؟ فقالت: كرامة، لم يبقَ إلا الوفاء، فقال: صدق مولاي حيث يقول: «قضى كلُّ ذي دين … البيتَ»، فقُلن له: أتدري مَنْ غريمتُك؟ فقال: لا، قلن: هي والله عزة! فقال: أُشهِدكنَّ على أنها في حِلٍّ مما عندها. ومضى فأخبر مولاه بجلية الأمر، فقال له: وأنت حرٌّ وما عندك لك. وفي روضة الدولتين أن الذي وهبَه كُثير كان ألف دينار، وأنشد حين أعتق الغلام:

سيَهلِك في الدنيا شفيقٌ عليكمُ
إذا غالهُ مِن حادث الدهر غائِلُهْ
يوَدُّ بأن يُمسي سقيمًا لعلَّها
إذا سَمعَت عنه بشكوى تُراسلُهْ
ويهتزُّ للمعروف في طلب العُلا
لِتُحمَد يومًا عند عزَّ شمائلُهْ

فانظر إلى رقَّة هذه الأبيات، واعلم شرَفه في حبه عند قوله: «ويهتزُّ للمعروف … إلخ»؛ فإنه قدَح فيه فأورَى، وما أبقى لسواه من الشعراء غايةً يتطلَّبونها.

واعترضَتْه يومًا عجوز معها نار في رَوْثة، فقالت: مَن أنت؟ قال: صاحب عزة، فقالت: أنت القائل:

وما روضةٌ بالحَزْن طيبةُ الثرى
يمَجُّ الندى جَثْجاثُها وعَرارُها
بأطيبَ مِن أردانِ عزَّةَ مَوْهِنًا
إذا أُوقِدَت بالمَنْدلِ الرَّطْب نارُها

قال: نعم، قالت: ويحك! إذا أُوقِد المندَل الرَّطب على هذه الرَّوثة أو بُخِّرَت به أمك العجوز الشنعاء كانت كذلك، فهلا قلتَ كما قال امرُؤ القيس:

ألم ترَياني كلَّما جئتُ زائرًا
وجدتُ بها طِيبًا وإن لم تَطيَّبِ

فناولَها مطرفَ خزٍّ كان معه، وقال: استُري عليَّ ذلك. وعن التزيين أن قد ورد في تاريخ ابن خَلِّكان قولُ بعض مشايخ الأدب أنْ ليس على كُثيِّر شيء من الملامة والتقريع؛ فإن قوله: «إذا أُوقِدَت بالمندَل الرطبِ نارُها» نعتٌ للروضةِ المذكورة.

ولي وقد قدَّمتُها لجناب الفاضل الأديب عزتلو سليم بك تقلا صاحب جريدة الأهرام الغرَّاء؛ تهنئة بزفافه الميمون الطالع:

نَهاها عن مَحبَّتنا نُهاها
فتاهَ تعجبًا منها فَتاها
سرى أرجُ النَّسيم لذا أراهُ
كئيبًا حيث أنبَأ عن جَفاها
فتاةٌ زُيِّنَت بكمالِ خَلقٍ
وخُلْقٍ قُل: تبارَك مَن بَراها
أراقَت مِن دمايَ ومن دُموعي
فكان لغَدرِها نهرٌ سَقاها
لقد طال الوقوفُ على ربوعٍ
بها أبدًا أُسائِل عن رِضاها
سَقمتُ فلا أرى في الحب مَلْجا
ولا ألقى مُجيرًا من هواها
لقد علمَت بعِزَّتها وذُلِّي
حمائمُ رامةٍ ومَهى نَقاها
مضى زمَني ومذ أمَّلتُ منها انْـ
ـفِلاتًا لاحظَتْني مُقلَتاها
لذاك أتيتُ أبغي لي خلاصًا
بمدح سليمَ فهْو يرى دواها
عزيزٌ عندنا ولدى سِوانا
من العَلْياء قام على ذُراها
روى راوي فضائلِه علينا
مَحامِدَ شخصِه وبها تَباهى
وها الأهرام تخطب بين قومي
هي العلياء تدعوهُ أباها
همامٌ عارك الأيام جهدًا
فنال مراتبًا تَعلو سماها
فعُجْ بي نحوَ دارٍ زيَّنَتها
يدُ الرحمن مِن أبهى حُلاها
ترى أهرامَ مصرٍ حلَّ فيها
ولكنْ قد عَلا فضلًا عُلاها
أرى أرض الشآم به استنارَت
وإن تُنكِر عليها انظُر بَهاها
شريف حل مجدٌ حيث حلَّت
ركائبُه فإنَّ به رَجاها
بدا في أُفْق أرض الشام بدرًا
فقلت: الشمس قد زارت أخاها
رأت منه التقرُّب فاستفزَّت
لتَرويَ باللقا يومًا ظَماها
هي الدارُ التي فيها عجيبٌ
تجلَّى في سَماها نَيِّراها
زِفافك حافلٌ عقدَت عليه
مَجالي الأنس ألْويةً نراها
نُهنِّئكمْ على بُعْدٍ ونرجو
لِرَوضكم ارتواءً مِن نداها
تُساق إليكمُ أبيات شعرٍ
تؤمِّل في حِماكم ما حماها
فإن قامت بخِدمتها بصدقٍ
وإلا فاستُروا عيبًا عَراها
وإني لو بوُسعي كنتُ أسعى
لناديكم أقدِّمها شِفاها
مطرَّزةً بمدحِكمُ لهذا
ممنَّعة فلا تَخشى اشتِباها
إلى ربِّ القريض يزفُّ عبدٌ
مهاةً ترتجي منه انتباها
فلا زِلْتم بتوفيقٍ وحظٍّ
مدى العمر الطويل وذا مُناها
فمَطلعها التغزُّل في صفاتٍ
لكم وبمسكِ مَدحِكمُ انتِهاها

وأرسلت أم قيس ابن ذُريح إليه يومًا بناتٍ يَعِبنَ لُبنى ويُلهينه بالتعرُّض إلى وَصلهنَّ، فأنشد:

يقَرُّ لعيني قُربُها ويَزيدُني
بها عجَبًا مَن كان عندي يَعيبُها
وكم قائلٍ قد قال: تُب فعصَيتُه
وتلك لعَمري توبةٌ لا أتوبُها
فيا نفسُ صبرًا لستُ واللهِ فاعلَمي
بأولِ نفسٍ غاب عنها حبيبُها

فلم ينصرفن، ودمنَ على ما كنَّ فيه، فنادى: يا لبنى، فقلن: ما لك؟ قال: خَدرت رِجْلي «وكان من المعلوم عند العرب أنه إذا خدرت رِجْل الرَّجل وذكَر لها أحبَّ الناس إليه سكَنَت.» ثم قال:

إذا خَدِرَت رِجْلي تذكرتُ مَن لها
فناديتُ لبنى باسمها ودعوتُ
دعوتُ التي لو أنَّ نفسي تُطيعني
لفارَقتُها في حبِّها فقضيتُ
برَت نَبْلها للصيد لُبنى عشيَّةً
ورِشْتُ بأخرى مِثلها وبرَيتُ

ودخل عليه، وهو قد برَّح به الهَجرُ وآلمَه الفراق، طبيبٌ مع قَيْنات يَسألون عن حاله ويُلْهونه، فلما أطالوا عليه أنشد:

عند قيسٍ مِن حُبِّ لبنى ولُبنى
داءُ قيس والحبُّ صعبٌ شديدُ
فإذا عادَني العوائدُ يومًا
قالت العينُ: لا أرى مَن أريدُ
ليت لُبنى تعودني ثم أقضي
أنها لا تعودُ فيمن يعودُ

فقال له الطبيب: مِن كم هذه العلةُ بك؟ ومن كم وجَدتَ بهذه المرأة ما وجَدت؟ فقال:

تعلَّقَ روحي روحَها قبل خلقِنا
ومن بعدِ ما كنا نِطافًا وفي المهدِ
فزاد كما زِدنا وأصبح ناميًا
وليس إذا مِتْنا بمُنفصِم العقْدِ
ولكنه باقٍ على كلِّ حادثٍ
وزائرتي في ظُلمة القبر واللَّحدِ

وقال فرنسيس أفندي مراش الحلبي:

لِمَ الذلُّ لا حزتُ المعزةَ في جنسي
إذا بعتُ في سوق الهوى شرَفَ النفسِ
ألا يا لحَى اللهُ الجمالَ فكم به
يَذلُّ لذي ضعفٍ قويٌّ أخو بأسِ
سلوتُ وما السُّلوان إلا لأنني
أرى الرأسَ مني لا يَميل إلى النكْسِ
ولا عدتُ أهوى ربَّةَ الحسن طالَما
أبي الحُسنُ أن يُجدي المحبَّ سوى النحْسِ
إذا ما نأى عنك الغرامُ حذارِ مِن
مفاعيلِ ردِّ الفعل تنْجُ من البؤس
وإن أصبحَت مثلَ السيوف عُيون مَن
تحبُّ فغُضَّ الطَّرْف فالغضُّ كالتُّرسِ
هويتُ فتاةً والهوى شرُّ نقمةٍ
فرُحتُ عديمَ الرشد والعقلِ والحسِّ
ذللتُ لها ذلَّ الفقير لدى الغني
فيا ويح ذي عزٍّ غدا ناكِسَ الرأسِ
ولكنني والحمدُ لله ساليًا
غدوتُ وسُلوان الهوى راحةُ النفسِ
غرَستُ بقلبي نُصحَ أهلِ مودَّتي
فذقتُ ثمارَ الفوز مِن ذلك الغَرسِ
بسَجْن الهوى قد غادرَتْني كمُجرمٍ
حبيسًا وها إني خرَجتُ من الحبسِ
وقد أطلقَت عيني إلى النَّوح والبُكا
كما قيدَت عقلي عن العِلم والدرْسِ
عشقتُ احمِرار الخدِّ منها ولم أكُن
عليمًا بأنَّ الفضل للصَّبغ والدبسِ
ومَن وجههُ لم يَكسُه الطبعُ رونقًا
فموَّه ذا قبرٌ تبيَّض بالكلسِ
أرَتْني البَها بينَ الحواجب وانثنَتْ
تقولُ: أشَمْتَ الشمس في دارة القوسِ
فقلت: بلى لكنَّ ذاك تصنُّعُ
وما اليومُ قد عاينتُه لم يكن أمسِ
إذا لم يكن لونُ المحيَّا يَلوح عن
تشَعشُع أنوار الجمال فذو فكْسِ

وقال مكرمتلو رسول حقي أفندي النجاري:

زها في خدِّه الوضَّاحِ وَرْدي
وأضحى ثَغرُه الخمَّارُ وِرْدي
غزالٌ قد غزا مِن مُقلتَيهِ
أسُودَ الغاب منه بحَدِّ هِندي
وهزَّ بقدِّه رُمحًا فواهًا
لِأهيفَ قدَّ مُضْناه بقَدِّ
يَصيد بصادِ ناظرِه فؤادي
وفُوه بأولِ الأعراف قَصْدي
أشاهِدُه فيَجلو غبن عيني
ويَحلو لي به سُهْدي كشَهْدي
ووردُ الوجنَتَين جَناه دانٍ
ولكن دونه الألحاظ تُرْدي
له خدٌّ حَوى الضدَّين فاعجَبْ
لجناتٍ ونيران بخَدِّ
وأعجبُ منه أن الخدَّ نارٌ
ويطفئُ بالدنوِّ جَحيم وَجْدي
وأنحَلَ خَصْرَه ردفٌ ولكنْ
عليه قد استَعان بشدِّ بَنْدِ
فيَجذبني لدَيهِ بالتثنِّي
ويَثنيني به عن ذاتِ نَهدِ
ويحلو وعدُه فإلامَ يوفى
وصبر الصبِّ عِيلَ بمَطْل وعدِ
وإني مغرَمٌ مُغرًى وأنَّى
يُصدَّقُ وصلُه مِن بعد صدِّ
وإن أكُ ذا اشتغالٍ واشتعالٍ
ففي رَشْف اللَّمى راحي وبَرْدي
يحدِّثني فؤادي أنْ تَصابى
إليه ودَع هوى دعدٍ وهندِ
ومَرءٌ لم يُحرِّكهُ جمالٌ
جمادٌ ما له ذوقٌ كصَلدِ
ويُغريني غرامي بالتداني
ونَيل الوصل منه بالتصدِّي
وعُذَّالي تردُّ فحارَ عقلي
به ما بين إغراءٍ ورَدِّ

وقال مستعينًا باسمه على لحْظِ الأغيَدِ الفاتك بجسمِه:

رشَأٌ رشيقٌ جرَّ ذيلَ دلالِهِ
وغدا يُباهي الغِيدَ والغاداتِ
يَرنو فيَفتِك بالفتى ودُنوُّهُ
من كلِّ ذاتٍ أطيبُ اللذَّاتِ
وحياتُه ماءُ الحياة بثَغرهِ
لمن ابتُلِي مِن عشقِه بمَماتِ
قد قلتُ وهو ببأس سحر عيونهِ
يَسْطو على الآسادِ في الغاباتِ
إن كنتِ ذا سِحرِ العيون فإنني
حقًّا رسول الشِّعر ذو الآياتِ

ولأحد الشعراء قولُه في حبيبٍ ضرب بعود قصب السكَّر:

ضرَب الحبيب فقلتُ: لا تأسَف على
ما قد جرى فالأمر ليس بمنكَرِ
لو لم تكن حُلْو الشمائل يا رشا
ما كنتَ تُضرَب بالقضيب السكَّرِ

ولا بأس من ذِكر هذه القصيدة، وإن تكن ليست مِن موضوع الكتاب، فإن قدَر الممدوح يستلزم الرفع، وقد قدَّمتُها لجناب الشاب الذكيِّ فرع شجرة المعالي عزتلو حسن أفندي بيهم؛ تهنئةً بزفافه المسعود:

دع عنك ذِكْرى إنسِ ظبيٍ وغيدْ
ولا تسَلْ عن جَورِ حبٍّ بعيدْ
ولا تَرُم في موقفٍ حافلٍ
ذكرى المهى وما لها مِن عبيدْ
واهجُر مغانِيها وهيَّا بنا
نُدبِّج الشِّعر الثناءَ المجيدْ
وعُجْ بدار الفضلِ حيث بها
فرعٌ مَجيدٌ ما له من نديدْ
فإنما مِن بهجةٍ قد بَدَتْ
تَرفُل في ثوب الهناء الجديدْ
ترى كِرامَ الناس قد أقبَلوا
من كلِّ صَوبٍ نحو بيت العميدْ
كالزَّهرِ في أفق العلى أشرقَتْ
وحسنٌ كالبدرِ فيهم فريدْ
سليلُ مجدٍ فرعُ أصلٍ ذكي
في بيهم ساد برأيٍ سديدْ
أكرِمْ به من فاضلٍ كاملٍ
يَروي المعالي عن أبيهِ الرشيدْ
شهمٌ شهير مِن بني بيهمٍ
كأنه في المجد بيتُ القصيدْ
مَدائحٌ تَنقاد في عزِّها
إلى نَواديهِ بأحلى النشيدْ
مآثِرٌ في شخصه جُمِّعَت
فكان فيها مثل وُسْطى العقودْ
إنْ فاهَ في جمعٍ فكلٌّ بما
فاهَ كنشوانٍ تَراه يَميدْ
أُقدِّم اليوم القريضَ إلى
مَليكهِ فهْو لديه السعيدْ
أُبْدِي التهاني في زفافٍ له
في كلِّ قلبٍ برد أيَّ برودْ
يا ليلةَ العُرْس التي أصبحَت
عِقدًا بِجيد الدهر دُرًّا نَضيدْ
أشرَق في الآفاق مِنك سنَا
بدْرَيْن قاما بين أنسٍ وجودْ
ودارت الشمسُ على محورٍ
أثبَتَ في همتهِ مِن حديدْ
واجتمَع البدران فاعجَبْ لما
جرى فما خالفَ فيها الحدودْ
فيا سليلَ المجد دامَت لكم
هذي المعالي رغمَ أنفِ الحسودْ
لا زِلتَ محروسًا بحفظِ الذي
رَقَّاك حتى أنْ أَنِفتَ الصعودْ
شيَّد عبدُ الله فوق السُّهى
بيتًا له مِن كل فضلٍ عمودْ
وإن عبد القادر المنتمي
عند رجالِ الفخر مِلءُ الكبودْ
وإنَّ مُحيي الدين في آلهِ
نَجمُ الهدى وللظلام يُبيدْ
محمدٌ حقَّ المديحُ لهُ
فكَمْ له في الصعبِ رأيٌ حميدْ
وكلُّ آل حسَنٍ أشبَهوا
حلَقةً مُفرَغةً حولَ جيدْ
فلا بَرحتُم يا بَني بيهمٍ
تَخفق للمجد عليكم بنودْ
ما أسرعَ البحر السريعَ إلى
بحرِ عُلاكم منكمُ يَستزيدْ

وقال فرنسيس أفندي مراش الحلبي من قصيدة بعَث بها إلى الفاضل اللبيب جرجي أفندي ينِّي من أدباء مدينة طرابلس:

حمَى الله مَن حنَّت فزارَت بلا وعْدِ
حمى عاشقٍ لولا اللِّقا ذاب بالصدِّ
لقاءٌ أطارَ القلبَ مني سرورُهُ
فأنشَدتُه بين الترائب والنهْدِ
أما والهوى العذريِّ حَلْفةَ والِهٍ
تمنيتُ لو كانت خُطاها على خدِّي
مَهاةٌ شَكا قلبي تباعُدَها كما
شكا قُرطُها بُعْد المناطِ عن العِقدِ
ولما نضَت عن بدرِ بانٍ سحابةٌ
وشقَّت عقيقًا عن جُمانٍ وعن قَنْدِ
رنَت بكَحيل قد توارى به الحيَا
فأورى بقلبِ الصبِّ وَجدًا على وجدِ
سقَتنيَ مِن كأس الأقاحِ مُدامةً
مُنبَّذةً من سُكَّر الطلْع والوردِ
وقد شنَّفَت سمعي بنطقٍ كأنَّهُ
حديثُ ابنِ ينِّي فاخرِ الجِد والجَدِّ

وله:

لا تُكلِّفْنيَ القراءةَ إني
هائمٌ في هوى الغزالِ النَّفورِ
فإذا ما فتَحتُ يومًا كتابًا
طاف طيفُ الحبيبِ بين السطورِ

وله:

على مَزاياكِ قد دلَّت ثَناياكِ
فحُسن وجهِك يَحكي حُسنَ معناكِ
حُزتِ الجمال مُزانًا بالحياء فما
أحلى حيَاكِ وما أجْلى محيَّاكِ
مِن أين للبدر ذي الأنوارِ وجهُكِ أوْ
للغُصنِ قدُّكِ أو للظبيِ عيناكِ
مَنْ لي بها أعيُنًا إن غازلَت وغزَتْ
صالت على كل فتَّانٍ وفتَّاكِ
أَفْدي جمالَكِ بالنفس التي قُتِلت
بهِ فيا طالما عاشَت بمَرآكِ
صِلي إذا شئتِ أو صُدِّي فحَسبيَ أنْ
تَشي وحَسبُكِ في الحالَين أهواكِ
يَزيدني الهجرُ أشواقًا فأشكرهُ
ومِنه أشكو فيا للشاكرِ الشاكي
تيهي فكلُّ جميلٍ عن جمالكِ قدْ
روى وكلُّ لطيفٍ عن سَجاياكِ
ما للنَّسيم سرَت في الرَّوضِ عاطرةً
لعلها لثمَت لما سرَت فاكِ
وما لِزَنبَقِ ذاك الروض يَرفُلُ في
ثوب البَياض فهل ضمَّتْه نَهداكِ؟
لولاكِ لم يَشتمِل لفظُ الجمالِ على
مَعنًى ولم يَدرِ قلبي العشقَ لولاكِ
وكل وصفٍ أتى عن كلِّ غانيةٍ
بالحسن يولِغُ في معناهُ إلَّاكِ
في كلِّ جارحةٍ مني هواكِ ثوى
لذاك أرجف كُلِّي عند ذِكراكِ
وكلما لُحتِ قالت كلُّ كاعبةٍ:
سبحانَ مَن لجميعِ الحُسن أولاكِ
وإن تبسَّمتِ قال الدرُّ وهو شَجٍ
على مَزاياكِ قد دلَّت ثَناياكِ

وله:

خُنتمُ العهدَ ولم ترعَوْا ذِمامَا
فإلامَ القلبُ يرعاكُمْ إلَاما
أسفَت نفسي على دهرٍ مضى
بهواكم حيث لم تَبلُغ مَراما
إنْ غدا الغدرُ حلالًا عندكمْ
فهْو عند الكلِّ قد أضحى حَرامَا
ما عليكُمْ قطُّ مني عتَبٌ
بل على قلبٍ بكم ضجَّ وهاما
إنني ملَّكتُكم قلبي فلم
تَحرسوا الملكَ ولم ترعَوا مقامَا
كم سَهِرتُ الليل أرعى حبَّكمْ
ولكَم قاسيتُ وَجدًا وهُيامَا
ليت ذاك الحبَّ لا كان ويا
ليت حُسنَ الوجه لا يَسْبي الأناما
كم بدا الحسنُ على لؤمٍ فكَم
مِن كرامٍ يستَحبُّون لئامَا
عزةُ النفس دعَت قلبي إلى
تَركِكم إذ خُنتمُ ذاك الذِّماما
ففؤادي قد سَلاكم وعلى
رغمِ سلطان الهوى عفْتُ الغراما
كانت النفسُ لكم عاشقةً
حين كنتُم عُروةً تأبى انْفِصاما
فبِمَن عوَّضتُموني يا تُرى
هل تَخِذتُم عِوضَ النور ظلامَا؟
يا رُبوعًا قد رعى غيري بها
لا سقاكِ الله مِن بعدي الغَماما
كنتِ للآساد غاباتٍ وها
للكلاب اليومَ أصبَحتِ مقامَا
لا سقى الوَسْميُّ دارًا جاورَت
بنواحيها لئامًا لا كِراما
رحلَت عنها مطايا السعدِ مُذْ
ضربَت فيها ذَوو النَّحسِ الخياما
وقَف الحاسدُ فيها شامتًا
إذْ رأى الأحياءَ قد صارت رِماما

وقال الشيخ أحمد أفندي قباني:

يا غزالًا أحيا الفؤادَ وأولاهْ
نعَمًا من وصاله ودلالَا
مُذ تبدَّى جبينهُ ومحيَّاهْ
أخجل البدرَ في البها والهِلالَا
كم مُحبٍّ بطرَّةٍ منه قد تاهْ
فهَداه بصبحِ وجه تلالَا
وكئيبٍ غرامُه فيه أضناهْ
لا يرى للغرام عنه انفِصالَا
ذُبْت وَجدًا ولستُ أبرحُ أهواهْ
فالهوى قاتِلي به لا مَحالَا
كيف والحربُ قد أقامَتْه عيناهْ
وعلينا قد سلَّ منها نِصالا؟
وفؤادي مما أقامَته خدَّاهْ
في لهيبٍ يَزيد لُبِّي اشتعالَا
فإلامَ بالسِّحْر تَنفُث جَفْناهْ
سقَمًا وهْي رامياتٌ نِبالَا
يا خَليًّا دَعْني فحُبي مِن اللهْ
وعلى اللهِ قد جعَلتُ اتِّكالَا
لا تَلُمني فإن وعْدِيَ ألقاهْ
من حبيبٍ ليَ البعادَ أطالَا
فهْو إن جار أو سَطا لِمُعنَّاهْ
قابِلٌ بالرضى لدَيه الفِعالَا
يا غزالًا جعلتَ قلبيَ مرعاهْ
أفلا تمنَح المعنَّى الوِصالَا
إنَّ عهدي القديمَ لا زلتُ أرعاهْ
بفؤادي ما ضاء بدر وما لاح
وغزالًا بالأجرَعِ الفردِ مأواهْ
صال فتْكًا على الأسودِ وجالا
وعلى العاشق المعذَّب قد تاهْ
قلت: يا مُخجل القَنا تِهْ دَلالَا

وليوسف أفندي سنو من قصيدةٍ يمدح بها الشهم الفاضلَ السيد محمود أفندي الخجا من أعيان بيروت:

مُحيَّاكَ أم قَرن الغزالةِ أوضحُ
وقُربك أم صبرُ المتيَّم أنزَحُ؟
ورِدْفُك أم دِعْصٌ وقَدُّك أم نَقًا
عليهِ فؤادي طائرٌ يترنَّحُ
إلى الله شوقٌ لا يَزال رَسيسُهُ
جديدًا، عن الأحشاءِ لا يتزَحزحُ
أحاوِلُ قلبَ القلبِ عنه فيَنثني
وإن رُمتَ شحَّ العين بالدمع تَسمَحُ
فلو رقَّ بالأشجانِ قولُ متيَّمٍ
بترتيلِ لفظي في دُجى الليل أفصحوا
ولو يتداوى الناسُ من دمعِ مغرَمٍ
شفَت أدمُعي مَن سقمُه ليس يَبرَحُ
مَهاةَ الحمى هلَّا تألَّفتِ عاشقًا
متون هواهُ في الورى ليس تُشرَحُ
وحتَّامَ مِن أنهارِ قُربِك يَرتوي
سِوايَ وفي أبحار بُعدِك أسبَحُ
فإن كان حربٌ بين جفنَيكِ والحشى
ألا فاصلِحي بالوصل فالصلْحُ أصلَحُ
وإلا فإني عنك أرغَبُ مادحًا
فتًى باسمِه أهلُ الكمال تُسبِّحُ
فتى الحمدِ محمود الأيادي ومن حوى
حميدَ صفاتٍ مدْحَها الناسُ تَربحُ
فتًى سادَ بالمعروفِ والحلمِ والوفا
وحُسنِ السَّجايا والودادِ الموضَّحِ

ولي وقد قدَّمتُها لمعالي حضرة العالم العلَّامة والبحر الفهَّامة، الجِهبِذ النِّحْرير والوزير الخطير، صاحب الدولة جودت باشا؛ تهنئةً له بتسميته ناظرًا للعَدْلية:

هو الحبُّ منه الناسُ قد أصبَحوا سَكْرى
براخٍ من الألطاف إذْ نفخَت عِطرَا
فكم مِن عزيزٍ ذلَّ كُرهًا لبأسِهِ
ونفسي لنَيلِ الفخر ميَّالةٌ جهرًا
قضى كلُّ ذي لبٍّ برِفْعة شأنهِ
سوايَ فليس الحبُّ لي آيةً كبرى
هجَرتُ هوى الغاداتِ من أجل أنَّني
رأيتُ مديحي جودَتَ الشهمَ بي أحرى
وزيرٌ خطير حلَّ كلَّ معقَّدٍ
بآياتِ عدلٍ قد تبدَّت لنا تَتْرى
همامٌ إذا ما أمَّ يومًا بخاطرٍ
لشُمِّ جبالِ الغيِّ دُكَّت به قَسْرا
لبيب له في كل مَغنًى مآثِرٌ
تأثَّرَها كلٌّ من الناس في المسرى
سرى البرقُ من دارِ السعادة معلنًا
بطلعته في أفْقِ عدْليَّةٍ بدرَا
فكم مِن قلوبٍ أُفْعِمَت فرحًا وكم
نفوسٍ رأَت مِن بعد إعسارها يُسرَا
يُعيد بإكسيرِ العدالة والنُّهى
حديدَ الغوى والظلمِ مِن رأيه تِبْرا
إذا عَبِس الخطبُ الجليلُ رأيتهُ
بهمَّتِه غمْرَ الرداء ولا كِسْرى
هو المانعُ الضَّيم العزيزُ جنابُه
حريزُ حماة المستطيلُ به فخرَا
له هِممٌ تَعلو السِّماكَينِ رِفْعةً
له فِكَرٌ في الحُكْم كالغيث بل أجْرى
ويقدح عن زَنْد التبحُّر نَفثةً
سَكِرنا بها من قبل أن نَعرف الخمرا
إذا فاهَ فالدرُّ النظيمُ كلامُه
به خلَّب الألبابَ بل علَّم السِّحرَا
فلله فضلٌ فَي سفينتك التي
جرَت في بحار العلم باسمةً ثَغرَا
ويَكْفيك إمَّا قيل هذا مؤرِّخ
لأعظمِ آل الملك أرفَعُهم قدْرا
دخلتَ بيوت العلم للعلم فانْبَرى
ذَكاؤك مِن ذا البيتِ يَأخذُه ذُخرا
أمَا أنت مَن أرسلتَ ماء معارفٍ
لروضِ عقول الناس تَجري بها نَهْرا
لعَمْريَ أنت الحاملُ الإصْرَ عن فتًى
تحيَّر فاستهدى بأنوارِك الغَرَّا
يؤُمُّ لناديك القريضُ فإنْ بدا
جديرًا وإلا قُل لعلَّ له عُذرَا
يُكذِّب عشقَ النَّظْم حُسنُ صفاتِكم
أيَطمَع في التقبيل مَنْ عَشِق البدرا
أُشرِّف أبياتي بِلَثمِ يدٍ لها
بعالم علمٍ خير ما يَبتغي ذِكرَا
ولستُ لعَمري مادحًا لمقاصِدٍ
ولكنْ هَوى الأوطانِ والله بي أغْرى

وللشيخ محمد أفندي طبارة من قصيدة يُهنئ بها سليم أفندي البربير بزفافه:

وعلى وَجْنةِ بدرٍ عاطِني
شمسَ راحٍ عَرْفُها بي عُرِفا
وأدِرْ صِرفًا مُدامًا عُتِّقَت
نقْدُها عنِّي العَنا قد صرَفا
وعلى صوتِ المثاني هاتِها
وبمعناها لسمعي شَنِّفا
واغْنَم الأُنسَ بأوقاتٍ صفَت
حيث تلقى ما حَلا مُرتشفَا
ومَهاةُ الخِدْر في مَبسمِها
ما يُعاطي عاشقيها قَرْقَفا
حبَّذا ليلةَ حظٍّ رقَّ لي
عطْفُها بالقرب مِن بعد الجَفا
قد حكَت ليلة أنس أشرقَت
بزفافٍ لسليمٍ ذي الوفا

وله من أبيات:

يا مهاةً أودعَت قلبي شجًى
وغرامًا ساقَني للتلَفِ
إنَّ دمعي وسقامي شَهِدا
أنني صَبٌّ كثيرُ الشغَفِ
فبِروحي أفتَديها غادة
سلَبَت عقلي بريق القَرْقَفِ
وغدَتْ تَهزأُ في شمس الضُّحى
بجَبينٍ قال للبدر: اختَفِ

وقال مشطرًا:

تعشَّقتُها عمياءَ شابَ وليدُها
على حينِ ألهى الناسَ حورٌ كَواعبُ
وفي مذهبي حُبي لها خيرُ مذهَبٍ
وللناس فيما يَعشقون مَذاهبُ

ولي في حادثة:

جمَعْنا من المنثورِ ما احمرَّ لونُه
فطالبَنا ما ابيضَّ منه بثارِه
فقلنا: لقد كانت مُحاباتنا لهُ
لأنْ أحرقَتْنا منه جمرةُ نارهِ

ولي من قصيدة رفعتُها لمقام مَنْ قدَّمت هذا الكتاب هدية برسم فضله:

مذْ بليل الشِّعر تَهْنا
فبذا الفَرْق هدَتْنا
مذ ظَمِئنا مِن ضِرام الْـ
ـهَجرِ بالرِّيق روَتْنا
فبألحاظٍ حِدادٍ
وسهامٍ رشقَتْنا
وأدارَت كأسَ لحْظٍ
وبريقٍ أسكرَتْنا

ومنها:

ولَقِينا خير عُمرٍ
هُو في البلوى ثِقَتْنا
قالت الآدابُ فيهِ
قدرةُ الله برَتْنا
قال وجه الفخر حقًّا
شفَتاه قبَّلَتْنا
وبَنات المجد منهُ
أمُّنا قد زوَّجَتْنا

ولي من موشَّح بعثت به إلى عزتلو أحمد مهدي أفندي الأيوبي أحد أعيان الشام:

أترى في الحبِّ أشكو ألَمَا
مِن غزالٍ ذي عيونٍ نُعَّسِ
أسكرَتْني بعضُ جَرْعات اللَّمى
من ثغورهنَّ شِبْه الأكْؤُسِ

دور:

إنَّ قلبي في الهوى يا قوم حار
وبحبِّ الغيد أضحَت حَيرتي
وحبيبي اليومَ في ظُلميَ جار
يا لقومي قد غزَتْني جيرتي
وحديثي بين أهل العشق سار
أعجبَ الأقوامَ ما في سيرتي
رُمْت رشفًا من ثُغور للدُّمى
ريثما أُطْفي لهيب النفَسِ
فُلْك قلبي في البحار ارْتطَما
في بحار الحبِّ ذات القبَسِ

دور:

من جفونٍ ولحاظٍ بي سهامْ
وسيوفٌ قد أضاعَت هِمَمي
ما لِجُرح الهجر واللهِ الْتئامْ
سَئمَت نفسي لعيشٍ مؤلمِ
قد تداوَيتُ فلم ألْقَ المرامْ
وحبيبي مِن دمي ذي سلَمِ
ظَبيُ عُربٍ بلَحاظٍ قد رمَى
من عيونٍ هنَّ والله قسي
سرتُ أبغي لي خَلاصًا بحِمَى
أحمدَ المهديِّ بدْرِ الغلَسِ

ولي وقد قدَّمتها لمن جعلتُ هذا الكتاب هديةً برسم فضله في زفاف أحد الأدباء:

خليل المعالي منهُ كان فؤادُها
فكان لهُ في كل أمرٍ معادُها
وفد ذلَّل الأعناق منها بسُؤددٍ
فكان له في الفضلِ منها سوادُها
عماد العلى والفخر والعز والهدى
وهل تثبت الأشياء وليس عمادُها
هو البحرُ والأنهار نحن وإن سرَت
بعيدًا فنحوَ البحرِ كان ارتدادُها
عسى يَشهد الأقوامُ ما شَهدوا هنا
بِدارِك في يومٍ يُزفُّ فؤادُها

وقال مكرمتلو رسول حقي أفندي النجاري في مليح يُسمى بداود:

داودُ داوِ عليلًا علَّ فيك جوًى
بِرَشفِ فيك الذي تُشفى بهِ العللُ
هذا سَميُّك قد لان الحديد لهُ
وأنت للمَيْت تُحيي حينما تصلُ
كم راح حائرُ عقلٍ إذْ رآك هوى
كأنهُ شاربٌ كأسَ الطلا ثَمِلُ
والفكرُ مُشتغِلٌ والجوف مشتعلٌ
والقلب يَخفِق والعينانِ تَنهمِلُ
يَهزُّ سمرُ القَنا منك القوامَ كما
تَسلُّ بِيضَ الظُّبا من جَفنِك المُقَلُ
والوجهُ مثل هلالِ الأفْق دارَتهُ
والقدُّ مثل قضيب البان مُعتدِلُ
والخَصرُ لولا نطاقُ الخزِّ يُمسِكُه
لكان يَخفى ولكن رِدفُه جبَلُ
يَشيقُني برَشيق العِطْف وهو رَشا
باللَّحظ يَرشق سهمًا راشَه ثعَلُ
وكم فتًى فَتنَت ألحاظُه لِمَ لا
وسِحرُ هاروتَ مِن عينَيه مُنتحَلُ؟
بل ذا يُخيِّل أشْيا وهْي باطلةٌ
وسِحرُ عينَيه يَخشى بأسَه البطَلُ
يا طالما مرَّ صبري إذ أُشاهدهُ
ومِن لَمى فيهِ يحلو الشهدُ والعسلُ
لا تعجَبوا مِن ذهولي إذ يُقابلني
لأنَّ قلبي مُناه الرَّشْف والقُبَلُ

وله في غزل مؤنَّث:

حكمَت بسلبِ نُهى الأنام بأسرِها
وتحكَّمَت فيها بقبضةِ أسْرِها
خودٌ حكَت شمسَ الضحى بجمالها
والبدرَ حسنًا إذ بَدَتْ مِن خِدرِها
كم صبٍّ استَهدى بصُبح جبينِها
ولكَم أضلَّت في دَياجي شِعرها
نسجَت لنا شَركًا بغَزلِ جُفونِها
وغدَت تَصيد العاشقين بكَسرِها
وتهزُّ عِطفًا آهِ لو عطفَت بهِ
رِدفٌ ثقيلٌ مع نَحالة خَصرِها
فأنا العليلُ أكاد أن أَقضي شجًا
إن لم تُداويني برَشفةِ ثَغرِها

ولصاحب السعادة الأمير محيي الدين باشا بن الأمير عبد القادر الحسني الجزائري الشهير:

أبى الحُسن إلا نصْرَ بَندِ الكواعبِ
وأيَّد ملْكَ اللَّحظِ جيشُ الحواجبِ
رعى اللهُ أهلَ الحُسن أنَّى توجَّهوا
لأنهمُ شُهْبٌ بأعلى المراتبِ
لهم ذِمَّة عندي برَعْيِ ذِمامهم
فلا عاش مَن يَشْنو الحِسان حَبائبي
وحُبُّهمُ رُوحي ورَوْحي ودَيدَني
أموت وأحيا والغرامُ مُصاحِبي

وله:

لا تَعذِلاني وسيفُ اللحظ مسلولُ
وذا فؤادي بأسرِ الحبِّ مكْبولُ
الفكرُ في هرَجٍ والقلبُ في حرَجٍ
والعين في لعَجٍ والعقلُ مخبولُ
أَفْدي حبيبًا له كلُّ المِلاح غدَتْ
جُندًا وسُلطانه في الكلِّ مقبولُ
أهل الغرام عَبيدي مذْ غدَوتُ لهُ
عبدًا وما ليَ عن مولايَ تَحويلُ

وله في الافتتان:

دَعوني فالغرامُ أذابَ قلبي
وأحرقَ مُهجتي هِجرانُ حِبِّي
أيا أهلَ الهوى كرَمًا أعينوا
جريحَ لَواحِظٍ وقتيلَ حبِّ
أنا المفتونُ وا وَيْلاه حالي
غريبٌ في الهوى عن كلِّ صبِّ
حبيبي بالصُّدود أطَرْتَ نومي
فديتُك يا رشا ما كان ذنبي
مِلاحَ الشَّرق تيهوا قد أخَذتُم
أسيرًا في الغرامِ أميرَ غرْبِ
رويتُ الحرب عن آباءِ صِدقٍ
فها أنا ذا الأسيرُ بغير حربِ
لعَمرُك ما خشيتُ سوادَ جيشٍ
فما لي قد خشيتُ سوادَ هدْبِ

وله:

تأمَّل في بديعِ الحسن واعذرْ
به صبًّا لقد خلَع العِذارا
مِنَ احداق الورى قد صاغ حالًا
ومِن أجفانها جعَل العِذارا
له لَحظٌ ينادي من رآهُ
هلموا واتركوا عِشقَ العَذارى

وله مُورِّيًا باسم شفيقة:

وخُودٍ قد سَبَتْ عقلي بحُسنٍ
وألطافٍ مع الشِّيَم الرقيقَة
فقلتُ لها: اشفقي بالصبِّ لطفًا
فقالت: يا فتى إني شَفيقة

وله وفيه نوعُ الافتِتان:

فؤاديَ في حبِّ الحِسان تعذَّبا
وما أحسنَ التعذيبَ منهم وأعذَبا
ألا في سبيل الحبِّ روحي وهَبتُها
لبدرِ تمامٍ بالهلال تنقَّبا
سبا العقلَ مني بل جَميعيَ جُملةً
وفرَّق صبري مثلما افترَقَت سَبا
صَبا كلُّ قلبٍ في الأنام لقَدِّه
إذا ما انْثَنى كالغُصن حرَّكه صَبا
أيا ربَّةَ الحُسن الفريد ترَفَّقي
بصَبٍّ على جمر الغرامِ تقلَّبا
ولا تَسمعي قولَ الوُشاة فإنهُ
إلى غيرِ ذاك الحُسن في الحبِّ ما صَبا
أيا ويح مَنْ بالحبِّ ذاب فؤادُه
وعلَّق بدرًا في البروج محجَّبا
مَهاة أسود الحرب تَحرس خِدرَها
برى دونها سُمْر الأسِنَّة والظُّبَى
وما العيشُ إلا أن تكون ممتَّعًا
بوَصل حبيبٍ عن سِواك تحجَّبا
سأجهَد في نيل الوِصال وإن يكنْ
على وصل مَنْ أهواه حَتْفي ترتَّبَا
وإنْ لم أنَلْ صعبَ الأمور بهِمَّتي
فليس أميرُ الغَربِ والحَربِ لي أبَا

وله:

سَلوا الظَّبي الذي قد راشَ نَبلًا
لعاشقِه الذي ألقى السِّلاحا
يَروم قتالَ صبٍّ في هواهُ
أسيرٌ والِهٌ يَرجو السَّراحا
غَدَا حبُّ الحِسَان له شِعارًا
وإن همْ حرَّموا الوَصل المباحا
يَهيم بهمْ وإن هزُّوا قُدودًا
تُطاعِنُه ولا يَخشى الرِّماحا
أيا وَيح المتيَّمِ كم يُقاسي
ولم يَبلُغ لشِقْوته نَجاحا
ولذَّ له التذلُّل بعد عزٍّ
فهل يَرجو بذِلَّته فَلاحا

وله:

اشرَبْ على البدرَيْن شمسَ مُدامةٍ
بدرَ السماء وبدْرَنا في المجلسِ
واغنَمْ زمانَ الأُنس لا تسمَعْ لمن
يَلْحو المتيَّم في ارتِشاف الأكؤُسِ
ما العيشُ إلا راحةٌ في راحةٍ
تجلى عليك مِن الغزال الألعَسِ
يا أيُّها الظبيُ الذي ملَك الحشا
وغدَا له شغلٌ بقتلِ الأنفُسِ
ارحَمْ أميرًا في هواك أهَنتَهُ
وبدا ذليلًا للعيون النُّعَّسِ
ما هاب مِن جيشٍ يَضيق به الفضا
وغدا طعينًا بالقدود الميَّسِ

ولآخر:

لِدَواعي الهوى وفَرْط الخلاعَة
ألف سمعٍ لا للوقارِ وطاعَة
سِيَّما والصَّبوح قد رفَع الكأ
سَ بأيدي السُّقاة فينا شِراعَهْ
في ليالٍ سُود الملابس قد أتْـ
ـقَن في نسجِها الشتاءُ الصِّناعَة
ونَدامايَ فِتْيةٌ يَطرَب الحا
ضِرُ منهم فُكاهةً وبَراعَة
معشرٌ عارَكوا صُروفَ الليالي
ودرَوْا أن لذَّة العُمر ساعَة
يا نَديميَّ عرِّجا بي جميعًا
نَشربُ الرَّاح كالصَّلاة جماعة
خمرةٌ لو رأَى العزيزُ بمصرٍ
لونَها في الكئوس أرْهَن صاعَهْ
وغلامٌ حُلو الشَّمائل قد ألْـ
ـقى على خدِّه الْمُدام شعاعَه
يتثَّنى كالخَيزُرانةِ بالرَّا
حِ فيُحيي بمُقلتَيه الجماعَة
أيُّ شيء ألَذُّ مِن صوتِ شادٍ
حسَنِ الوجهِ لا أمَلُّ سماعَهْ
لم أزَل مغرَمًا بحبِّك حتى
كشَف الوَجْد والغرامُ قِناعَهْ

ولآخر مخمسًا مع تشطير الأصل:

يا حُسن قصَّاب شُغِلتُ بمدحهِ
يَفْديه عاشقه الشجيُّ بروحهِ
نادَيتُ وهْو مقلَّدٌ بسلاحهِ
يا واضع السِّكين بعد ذَبيحهِ
في غِمده والفعلُ مِن لحَظاتهِ
ما بالُها إذْ أسلمَتْك قيادَها
لم تَبلغ المُهَجاتُ منك مرادَها
هل رُمتَ بالسكينِ منْعَ جهادِها
أفْديك ظبيًا إذ سَطا وأعادَها
في فيه يَسْقيها رُضابَ لَهاتهِ
ليس المنيَّةُ في هواكَ بمُرةٍ
يا مَن سلَبْتَ النيِّرَين بغرَّةٍ
سَكِرَت نِصالُك مِن لَماك بخَمرةٍ
ضَعْها على المذبوحِ ثانيَ مرَّةٍ
واكفُفْ حُسام اللَّحظِ عن فتَكاتهِ
كم صالَ لَحظُك في القلوب مُعربِدَا
فافتِكْ بها إن النفوس لها الفدَا
واجعَلْ لصَبِّك مِن رُضابِك مَورِدَا
ليقوم حيًّا بعد أنْ ذاق الرَّدى
وأنا الضَّمين لهُ بردِّ حياتهِ

ولآخر:

وإن كانت الأجسامُ منا تباعدَت
وحالت بنا الأيامُ عن منزل القربِ
فأنتَ بقلبي أينما كنتُ نازلًا
كأنك باسمِ الله في أوَّلِ الكتْبِ

ولآخر جوابًا على كتابٍ ورَد إليه من أحد خِلَّانه وكان طِيَّه شيءٌ من زَهر ذكيِّ الرائحة:

وافى الكتابُ مِن الحبيب مضمَّنًا
سِمةَ المحبة من زهور جِنانهِ
فغرَسْنها في القلب ثم أجبْنَهُ
غرَس المحبُّ وِدادَكم بجَنانهِ

ولابن معتوق من قصيدة:

هذا الحمى فانزل على جَرْعائهِ
واحذَرْ ظُبا لفَتاتِ عينِ ظِبائهِ
وانشدْ به قلبًا أضاعَتْه النَّوى
مِن أضلُعي فعَساه في وَعْسائهِ
وسَلِ الأراكَ الغضَّ عن روحٍ شكَت
حرَّ الجوى فلَجَت إلى أفيائهِ
واقصِد لبانات الهوى فلعلَّنا
نَقضي لباناتِ الفؤاد التائهِ
واضمُم إليك خُدودَ أغصان النَّقا
والْثِمْ ثُغور الدرِّ مِن حَصبائهِ
واسفَحْ بذاك السفحِ حولَ غديرهِ
دمعًا يُعَسجدُ ذوْبَ فِضَّة مائهِ
سُقيًا له من ملعبٍ بعقولنا
وقلوبنا لعبَتْ يدا أهوائهِ
مَغْنًى به تَهوي القلوب كأنما
بالطبع يَجذبها حَصى مَغْنائهِ
أرَجٌ حكى نفْسُ الحبيب نسيمَهُ
يُذْكي الهوى في الصبِّ برْدُ هوائهِ
نفَحاتُه تُبْري الضريرَ كأنما
ريحُ القميص تَهُب مِن تلقائهِ
فلتَحْذَر الجرحى به أن يَسلكوا
يومًا فيَشتاقوا ثرى أرجائه
عهدي به ونجومُ أطرافِ القَنا
والبيض مُشرِقة على أحيائهِ
والأُسْد تزأَرُ في سُروج جِيادهِ
والعينُ تَبْغم في حِجال نسائهِ
والطيف يَطرُقه فيَعثُر بالردى
تحت الدُّجى فيُصدُّ عن إسرائِهِ
والظلُّ تَقصره الصبا وتمدُّه
والطير يُعرِب فيه لحنَ غنائهِ
لا زال يَسقي الغيثُ غُرَّ مَعاشرٍ
تَسقي صوارمُهم ثَرى بطحائهِ
لا تُنكِرَنْ يا قلبُ أجْرَك فيهمُ
هم أهلُ بدرٍ أنت مِن شُهدائهِ
لولا جمودُ الدرِّ بين شفاههم
ما ذاب في طَرْفي عقيقُ بكائهِ
لله نفسُ أسًى يُصعِّدها الأسى
ويردُّها في العين كفُّ قذائهِ
حُبسَت بمقلتهِ فلا مِن عينهِ
تَجري ولم ترجع إلى أحشائهِ
مَن لي بخَشْف كُناسِ خِدرٍ دونَهُ
ما يحجم الضِّرْغام دون لِقائهِ
أحوي حوى إلْف الجآذرِ في الفَلا
والشيء مُنجذِبٌ إلى نُظرائهِ
حسنٌ إذا في ظُلمة الليل انْجلَى
تَعْشو الفراش إلى ضياءِ بَهائهِ
يُلقي شعاع الخدِّ منه على الدُّجى
شفقًا يُعصفِر طيْلَسان سمائهِ
فالبرقُ منه يلوح تحت لِثامهِ
والغصنُ منه يَميل تحت ردائهِ
لا غَرْو إن زار الهلالُ محلَّهُ
فشقيقُه الأسنى بِرَحْب سنائهِ

ولأحمد بن حسين الكيواني الدِّمَشقي:

عُد عن جنونِك أيها القلبُ
قد ملَّك الأحبابُ والصحبُ
كم ذا الدموع وكل نار جوًى
خُمِدت ونارُ جَواك لم تَخْبُ
وإلامَ يُحْييك المنى أبدًا
ويُميتُك الإعراضُ والعَتْبُ
طال الصدودُ وما له سبَبٌ
وقضى عليَّ الوَجْد والكرْبُ
لم آتِ ذنبًا يَقتضي تلَفي
أتُرى المحبةُ عنده ذنْبُ
وبمُهجَتي مَن صدَّ محتجبًا
عني فزاد الوجدُ والحبُّ
ازداد وجدًا كلما كثرَتْ
من دونه الأستارُ والحُجْبُ
لولا تَحجُّبُه لما حملَتْ
نفسي الهوانَ ولا صَبا القلبُ
وبمن يَصون جمالَه أبدًا
يَحلو الهُيامُ ويَحسن السَّكْبُ
والحرُّ لا يَسبيه مُبتذَلٌ
وإلى جمالِ الدُّون لا يَصْبو
قال الطبيب وقد رأى سقَمي:
هذا العليلُ متيَّمٌ صبُّ
ودواؤه قربُ الحبيبِ وإن
لم يشفِه فرُضابُه العَذْبُ
ولِسان حالي قال: وا أسَفي
عزَّ الدواء وأعوَز الطبُّ
هيهات أن يَبْرا عليلُ هوًى
إن المتيَّم داؤه صعْبُ
وإذا المحِبُّ صفَت سرائرُهُ
لم يَشفِه بُعدٌ ولا قُربُ

وله:

مَنْ لقلبٍ يَصْلى بنارٍ بخدَّيـ
ـكِ ويَبقى كأنه ياقوتُ
كلما ذابَ مِن صُدودِك أحيَتْـ
ـهُ الأماني كأنَّها لاهوتُ

وللقاضي الأرجاني:

كأنك بالأحباب قد جدَّدوا العهْدَا
وأنجزَتِ الأيامُ مِن وصْلِهم وعْدَا
وعادوا إلى ما عوَّدونا فأصبَحوا
وقد أنعمَت نُعْمٌ وقد أسعدَت سُعْدى
أمانيُّ لا تُدْني نوًى غيرَ أنها
تُعلِّل منا أنفُسًا مُلِئت وَجْدَا
وجمرة شوقٍ كلما لامَ لائمٌ
وردَّد من أنفاسِه زادَها وقْدا
أحنُّ إلى ليلى على قُربِ دارِها
حنينَ الذي يَشكو لآلافِه فقْدَا
ولي سلْك جسمٍ مِلئُه درُّ أدمُعٍ
فلولا العِدَى أمسيتُ في جيدها عِقْدا
أُكتِّم جهدي حبَّها وهْو قاتلي
وكامِنُ نار الزَّند لا يَحرق الزَّنْدَا
هلاليَّةٌ قَومًا وبُعْدَ منازلٍ
فهل مِن سَنًا منها إلى مُقلة تُهْدى؟
غزاليَّةٌ للناظرين إذا بَدَتْ
إن انتقَبَت عينًا وإن سَفَرَت خدَّا
إذا زُرتها جرَّ الرِّماحَ فَوارسٌ
لِتَقصيدها فيمن يزيغ لها فَصْدا
وحالوا بأطراف القنا دون ثَغرِها
كما ثار يَحمي النحلُ بالإبَرِ الشهْدا
وآخِرُ عهدي يومَ جرعاءِ مالكٍ
بمُنعرَج الوادي وإظعانهم تحْدَى
ولمَّا دنَت والسِّتر مُرخًى ودونها
غَيارى غدَت تَغلي صدورُهمُ حِقدَا
تقدَّمتُ أبغي أن أبيعَ بنظرةٍ
إلى سجْفِها روحي لقد رَخُصَت جِدَّا
أسِفتُ على ماضي عهودِ أحبَّتي
وهل يملك المحزونُ للفائت الردَّا؟
أبَوْا أن يَبيت الصبُّ إلا معذَّبًا
إذا بَعُدوا شوقًا وإن قَرُبوا صدَّا
متى ورَدوا بي مَنهلًا مِن وصالِهم
قضى هَجْرُهم أن يَسبِق الصدْرَ والوِرْدَا
فكم حادَ بي إن لم أجِدْ منهمُ منًى
وكم عاد بي إن لم أجِد منهمُ بُدَّا؟
وما قاتلي إلا لَواحِظُ شادِنٍ
من الرائعاتِ القلب لا البانَ والزَّنْدَا
لغيري دمي بالطَّرْف لكن أصابَني
ولا قوَدٌ في الحب ما لم يكن عَمْدا
عجبتُ للَيلى وهْي جدُّ فَروقةٍ
وقد صَرَعَت يوم النقا فارسًا جَلْدا

ولحسن العقاد:

بما بعَينَيْك من غُنجٍ ومِن حَوَرِ
وما بخدَّيكِ من وردٍ ومن خفَرِ
وما بثَغرِك مِن ريقٍ ومن شنَبٍ
وما به من رُضابٍ فائحٍ عَطِرِ
وطرَّةٍ حاربَتْني عند رؤيتِها
وغُرَّةٍ ترَكَت قلبي على غرَرِ
وحاجبٍ حجَب السُّلوان عن كبدي
وعارِضٍ عارَضَ الأجفانَ بالسهَرِ
وقامةٍ قد أقامَتْني على قدَمٍ
في معرك الوَجْد والأهوالِ والحذَرِ
هَبْ لي أمانًا مِن الأحداق إنَّ لها
ضرْبَ النِّبال فلم تُبقِ ولم تذَرِ
إن كنتُ أذنبتُ ذنبًا غير معتَمدٍ
يا مالِكي فاعفُ عني عفْوَ مقتدِرِ

وللقاضي الأرجاني:

خيالُك مِن قبل الكَرى طارقي ذِكرَا
ففيم الْتِزامي للكَرى منَّةً أخرى
غدَا شخصُكم في العين منيَ قائمًا
فمن نمَّة الواشي بكم أخَذ الحِذْرَا
فوالله ما ضمِّي الجفونَ لرقدِهِ
ولكن لأُلْقي منه دونَكمُ سِتْرا
ومَنْ لي بكِتمان الذي بي مِن الهوى
ومن تُهَم الأعداء إن رُمْت أن أبْرَا
ومن نار قلبي لو ترامَت شَرارةٌ
إلى الأفق ليلًا ردَّ فحْمتَه جَمْرا
أبِيتُ نَديمَ الليلِ مِن كلَفي بكُمْ
وإن لم أُعاقِرْ غيرَ كأس الهوى خَمْرا
وتَسْحرني سِحرَ المقنَّع مُقلَتي
فتَطلع لي بالليل مِن طيفِكم بدْرَا
فما رائعي والليلُ يقضي ذماءَهُ
من الصبح إلا نَفْثة تُبطِل السِّحْرا
ولله مِن عَلْيا عقيل عقيلةٍ
إذا رحلَت كان الفؤادُ لها خِدْرا
حكى ثَغْرُها عِقدًا فإنْ أخضَل النَّدى
قلائدَها صُبحًا حكى عِقدُها الثَّغرَا
وفتَّانة صاغَت سلاسلَ صُدغِها
قيودًا على أجْياد عُشَّاقها الأسرى
تبسَّم عن درٍّ تكلَّم مثلهُ
فلم أرَ أحلى منه نظمًا ولا نثْرَا
خليليَّ عُوجا اليوم نَسألُ وجْدةً
عن الظَّبْية العَفْراء كُثبانها العَفْرا
ولا تأْمَنا غيرانَ أصبحَ دونها
ببِيضٍ وسُمرٍ يَكْنف البيضَ والسُّمْرا
وما هيَ إلا طَوْفةٌ بفِنائها
فمِن ناظرٍ شذْرًا ومِن طاعنٍ شذْرَا
وفي الحيِّ إن زُرنا ذَوات غدائرٍ
تُغادر عُذرًا في الخدودِ لنا غَدْرا

ولحسن العقاد:

غَيْداءُ تَسري في غياهبِ شَعرِها
فتَغيب فيهِ وهو داجٍ أقتَمُ
فكأنَّها فيهِ صباحٌ مُشرِقٌ
وكأنه ليلٌ عليها أدهَمُ

وللقاضي الأرجاني:

حيث انتهيتَ مِن الهجرانِ بي فقِفِ
ومن وراء دمي سُمْر القَنا فخَفِ
يا عابثًا بعداة الوَصل يُخلِفُها
حتى إذا جاء ميعادُ الفِراق يَفي
اعدِلْ كفاتنِ قدٍّ منك مُعتدِلٍ
واعطِف كسائلِ صُدغٍ منك مُنعطِفِ
ويا عَذولي ومَن يُصغي إلى عذلٍ
إذا رَنا أهيفُ العينَين ذو هيَفِ
تَلوم قلبيَ إنْ أصْماه ناظِرُهُ
فيم اعتراضُك بين السهمِ والهدَفِ؟
سَلوا عَقائل هذا الحيِّ أيُّ دمٍ
للأعيُنِ النُّجْل عند الأعيُنِ الذرُفِ؟
يَستوصفون لساني عن محَبَّتِهم
وأنت أصدقُ يا دمعي لهم فصِفِ
ليست دموعي لنار الهمِّ مُطفِئةً
وكيف والماءُ بادٍ والحريقُ خَفي؟
لم أنسَ يومَ رحيل الحيِّ موقِفَنا
والعِيسُ تَطْلع أُولاها على شرَفِ
والعين من لفتة الغَيران ما حَظِيَت
والدمعُ من رُقْبة الواشين لم يَكِفِ
وفي الحدوج الغوادي كلُّ آنسةٍ
إن يَنكشِفْ سجْفُها للشمس تَنكسِفِ
تبين عن مِعصَمٍ بالوهم مُلتزمٍ
منها وعن مَبْسمٍ باللَّحظ مُرتشفِ
يا ذمَّة الله ذات الرهط إنهمُ
ساروا وفيهم حياةُ المغرَمِ الدَّنِفِ
فإن أعِشْ بَعدهم فردًا فيا عجبًا
وإن أمُتْ هكذا وجدًا فيا أسَفي

ولحسن العقاد:

يا غزالًا يدور في مرَحِ السعـ
ـد رفقًا بمن فيك يرجو انتصارَهْ
قِفْ لنا في الطريقِ إن لم تَزُرْنا
وقفةً في الطريق نصفَ زيارَةْ

وللأرجاني:

أعِدْ نظرةً تُبصِر صنيعَ هواكا
وزِدْ فكرةً تَنشُر صَريع نَواكا
ودَع عنك ذِكرى باللِّسان فإنني
أغارُ من اسمي أن يُقبِّل فاكا
صَعبتَ مرامًا أن تُرينِيك يقْظةً
فمَن لي بعَينٍ في المنام تَراكا
أراك ابنَ نعشٍ في سمائكِ رِفعةٍ
فلَيتَك ترضى أن أكون سُهاكا
بطَرْفِك تُهدي وهْو سيفٌ تحيَّتي
أأزمعت فتكًا بالمحبِّ عَساكا
أسيرُ هوًى تَهوي إليه مصادمٌ
فإن كان يُرضي قتلُه فهُناكا
لنَفسِك تَعدو ضائرًا إنْ قتَلْتَهُ
لأنك لو أبقيتَه لفَداكا
فحتَّامَ يا قلبي تَملُّ تغاضبًا
غريمَ غرامٍ لو يشاء قَضاكا
بروحيَ قلبي أصبح الرَّهْن عنده
فلستُ مطيقًا ما حَييت فِكاكا
أيا مالِكًا لم أدَّخر عنه غايةً
من الوُدِّ قل لي لِمْ حُرِمتُ رِضاكا؟
أتُنكر إعزازي مَكانك جاهدًا
وتَجحد إحساني إليك تُراكا
ذكَرتُك في مدح الوزير مشبِّبًا
فحَسبُك هذا مفخرًا وكَفاكا

ولآخر:

رأيتُ حبَّة قلبي حينَ لاح لها
محبوبُها نفَرَت من حُرِّ أفكاري
ثم استجارت بخدٍّ منه فهْي به
كالمستجيرِ من الرمضاء بالنارِ

ولسليم أفندي الغر مما يُكتَب على الجانب الواحد مِن دفاتر ورق السيكارات قوله:

أنا الورَقُ الذي ألقى حريقَا
بأفواهٍ وتَسقيني رَحيقَا
أقبِّلُ ياسَمينَ الثغرِ منها
وألْثِمُ مِن مباسمها شَقيقَا

وله أيضًا مما يُكتب على الجانب الآخر:

أنا الورَق الذي مِن بعدِ لفِّي
أُشبَّه بالأناملِ مِن حقيقِ
إذا لثَم الحبيبُ فمي تَراهُ
يُلبِّسني الخواتمَ مِن عَقيقِ

وقال إلياس أفندي صالح كنعان:

رآني ببيروتٍ أجولُ كحائرٍ
وأَخطِرُ في أسواقها متعجِّبَا
فقال وقد حيَّا إلى أين مِن هنا
فقلت: إلى المينا لأقضيَ مأْرَبَا
أجاب وقد أومى إلى الوجهِ باسمًا
إذا كان مينا الحُسنِ أهلًا ومرحبَا

وله:

قد رماني بالصدِّ والهجر عمدًا
ولَحاني إذ مِلتُ للسُّلْوانِ
ما رأى نفسَهُ فلا تَعذِلوهُ
لا ترى العينُ نفسَها بل تراني

ولحسن العقاد في خياط حسن:

وذي قوامٍ كَحيل الطَّرْف ذو هيَفٍ
يَصول عمْدًا على العُشَّاق بالتِّيهِ
يُفصِّل القلب خياطًا ويدرزهُ
مِن مُقلتَيه وبالهجران يَكويهِ
كم راح يَصنع أثوابًا مسجَّفةً
للناس من سُقْمِ أجفانٍ بتَمْويهِ
فاعْجَبْ له ولخيطٍ كيف يُتلِفهُ
في ثوبِ صبْرٍ تمزَّقْ مِن حواشيهِ
أو كيف يَفنى سريعًا وهو يُرشِفهُ
ماءَ الحياة على التَّكرار مِن فيهِ

ولآخر في راقص:

وراقصٍ مثل غُصنِ البان قامَتهُ
تَكاد تذهب روحي مِن تنقُّلهِ
لا يَستقرُّ لهُ في رقصهِ قدمٌ
كأنما نارُ قلبي تحتَ أرجُلهِ

ولفضيلتلو الشيخ إبراهيم أفندي الأحدب من قصيدة يمدح بها الحاج سعد الله أفندي حلابه:

أعرِبْ سروري بلحنِ النايِ والعودِ
وانشَقْ بروض التَّهاني نفْحةَ العودِ
وخُذْ من الأنس حظًّا بالسماعِ على
وردٍ من الخدِّ بالألحاظ مورودِ
يا حبَّذا العيشُ مع ريمٍ مَعاطفُه
ما البانُ إن بانَ منها عطف توكيدِ
وَسْنان طرْفٍ على جَفن المحبِّ قضى
أن لا يَزال به مُغرًى بتسهيدِ
وبرَّد الثَّغرُ صبري والمنام بهِ
فرا ونار الجوى تَذْكو بتبريدِ
يَلْوي على خدِّه صُدغًا عقارِبُهُ
قلبي سليم الهوى منها بتأكيدِ
ذو طرَّةٍ صفَّفَت سينا بغُرَّتهِ
طرَّت حِمَى كلِّ سامي القدر صِنْديدِ
فيها غراميَ عُذري أن أميلَ إلى
عذراءَ في ثَغرِها ماءُ العناقيدِ
غَيداءُ فترةُ جَفنَيها تُقيم على
جاني ورود المحيَّا حدَّ محدودِ
يا حُسنَها تَتثنَّى والحُليُّ على
أعطافها مُسمِعٌ صُمَّ الجلاميدِ
وِشاحها علَّم القلبَ الأنينَ كما
عن حَجْلها الطيرُ يَروي حُسنَ تغريدِ

ولآخر:

لله راقصةٌ تَميس كأنَّها
ظِلُّ القضيب إذا تمايلَ مُزهِرَا
تَخْطو وتَرجع كالخيالِ فلا تَرى
حرَكاتها إلا كطارقةِ الكَرى

ولغيره:

ظبيٌ مِن التُّرك يرمي قوسَ حاجبهِ
في قلبِ ناظرِه سهمًا من الحدَقِ
تُضيء في الحلَّة الحمراء طلعتُهُ
كأنه قمر قد لاح في الشفَقِ

ولصاحب كنز الناظم مورِّيًا:

وذات فرعٍ كعَرْف المِسك نفحَتُهُ
تخطو فتَرفع من أطرافِها ذَيلَا
لا بِدْع إن صرتُ قيسًا في محبَّتِها
ما دام تُبرِز لي مِن شعرها ليلَا

وللشهاب التلَّعْفري:

أبديتِ شعرَكِ فوق وجهكِ لي ضُحًى
فأريتِني في الوجه ليلًا مُقمِرَا
وجعلتِ حظِّي منك خالَكِ أسودًا
فأذَقْتِني موتًا كخدِّكِ أحمرَا

وللصلاح الصفدي:

في عذار الحبِّ خال
قد حكى عند النفوسِ
بلبلًا قد أودَعوه
قفصًا من آبَنوسِ

ولابن الوردي:

أخذتُ حبَّةَ قلبي
وصُغتُها لك خالَا
لقد كسَتْني نحولًا
كما كسَتْك جَمالَا

ولمحمد راغب أفندي البزري:

بروحي غزالًا أحوَرَ الطرْف أكحَلَا
بديعَ جمالٍ حُسنُه قد تكمَّلَا
أنيسٌ ولكنْ في فؤادي كُناسهُ
حفيظُ ودادٍ لا يحبُّ التبدُّلَا
له طرَّة تَحكي الظلامَ وغُرةٌ
رُوِينا حديثَ الصُّبح عنها مُسلسَلَا
إذا قام يسعى فالقوامُ مهفهفٌ
بغُصن النقا إن قِستَه كان أعدلَا
تعشَّقتُه طفلًا وإني بحبِّهِ
رهينُ لحاظٍ علَّمَتني التغزُّلا
حديثُ غرامي في هواه مؤبَّدٌ
ولستُ أرى السُّلوان عنه محلَّلَا

ولأبي الطيِّب المتنبي:

مِن الجآذرِ في زِيِّ الأعاريبِ
حُمْر الحُلى والمطايا والجلابيبِ
إن كنتَ تسألُ شكًّا في معارفها
فمَن بلاك بتسهيدٍ وتعذيبِ
لا تَجزِني بضنًى لي بعدها بقرٌ
تَجزي دُموعيَ مسكوبًا بمسكوبِ
سوائرٌ ربما سارَت هَوادِجُها
مَنيعةً بين مطعونٍ ومضروبِ
وربما وخدت أيدي المطيِّ بها
على نجيعٍ من الفُرسان مصبوبِ
كم زَورةٍ لك في الأعرابِ خافيةٍ
أدهى وقد رقَدوا من زَورة الذِّيبِ
أزورهم وسَوادُ الليل يَشفع بي
وأنثني وبياضُ الصُّبح يُغري بي
قد وافَقوا الوحش في سُكْنى مَراتعِها
وخالَفوها بتقويضٍ وتَطنيبِ
جيرانها وهُمُ شرُّ الجِوارِ لها
وصَحْبها وهمُ شرُّ الأصاحيبِ
فواد كل مُحبٍّ في بيوتِهمُ
ومال كل أَخيذِ المال مَحروبِ
ما أوجُه الحضَر المستحسَناتِ به
كأوجُه البدَويَّات الرَّعابيبِ
حُسن الحضارة مجلوبٌ بتطريَةٍ
وفي البداوة حُسنٌ غيرُ مجلوبِ
أين المعيز من الأرامِ ناظِرةً
وغيرَ ناظرةٍ في الحسن والطِّيبِ
أفْدي ظِباءَ فلاةٍ ما عرَفْن بها
مَضْغ الكلام ولا صبْغَ الأحاجيبِ
ولا برَزْن مِن الحمَّام مائلةً
أوراكُهنَّ صَقيلاتُ العراقيبِ
ومِن هوى كل مَن ليست مموَّهةً
تركتُ لونَ مشيبي غيرَ مخضوبِ

ولآخر:

قد أنقذَت من بحور العشق مُضْناها
سفينة الحُسن باسم الله مَجراها
وواصلَت بعد صدٍّ قد فَنيتُ بهِ
في رقدة الرُّقَبا والليل يَغشاها
بديعة الحُسن في الأحشاء مَسكنُها
مني وقد جعلَت في القلب مأواها
فلا نُشبِّهها بالشمس مُسفِرةً
فإنما الشمسُ جزءٌ من محيَّاها
تبرقَعَت بظلام الفرعِ عن نظري
لولا ضياءُ صباح الفرْقِ أخفاها
إنَّ المحاسن مِن أوصافها اقتسمَت
على البريَّة أعلاها وأدناها
وكنتُ أحسبُ أن البدرَ ذا شرفٍ
من البها قبْلَما أبصرتُ معناها
ومُنيَتي قد صفا وقتي بها ووفى
دهرٌ بخيلٌ إلى تقبيل ألْماها
لثَمتُ منها خُدودًا كالرياض بها
عقاربُ الصُّدغ تَحمي وَرد مَجْناها
أقسمتُ بالله ما إنْ آخذٌ بدلًا
عنها وما كنتُ أرضى العِشق لولاها
حُلو الزيارة لولا أن يُمازجَهُ
من الوداع فما أشهى وأحلاها
يا ليلةً مِن شتات الدهر فُزتُ بها
بمَن يُمثِّلها فكري ويَرعاها
فلم يَكن عَيبها إلا تَقاصُرها
وَدِدتُ أن لا ضياءَ الفجر وافاها

ولابن معتوق من قصيدة:

سل ضاحكَ البرق يومًا عن بَناياها
فقد حكاها فهل يَروي حَكاياها؟
وهل درى كيف ربُّ الحسن رتَّلَها
والجوهر الفردُ منه كيف جَزَّاها؟
وهل سُقاة الطَّلا تَدري إذا ابتسمَت
أي الحيا بان عند الشرب أشْهاها
وسَل أراكَ الحمى عن طَعم ريقتها
فليس يُدْرَى سِواه في محيَّاها
وهل رياض الرُّبا تَدري شَقائقُها
في خدِّها أي خالٍ في سُوَيداها؟
وإن رأَبْتَ بُدور الحيِّ وهْي بهمْ
فحَيِّ بالسرِّ عني وجهَ أَحْياها
واقصِد لباناتِ نُعمانٍ وجيرتَها
واذكر لُباناتِ قلبي عند لُبْناها
عرِّجْ عليها عن الألباب نَنشُدُها
فإننا منذ أيامٍ فقَدْناها
وقِفْ على منزلٍ بالخيف نسأله
عن أنفُسٍ وقلوبٍ ثَم مَثواها
مَعاهدٌ كلما أمسَيت عامِرها
ليلًا وأصبحت مجنونًا بلَيْلاها
ورُبَّ ليلٍ به خُضت الظلام كما
يخوض في مَفْرِق العذراء مِدْراها

ومنها:

مَن لي بوصلِ فتاةٍ دون مطلبها
طعنٌ يُصوِّر بالأجسام أفواها
عزيزةٌ هي شفعُ الكيمِياءِ لها
نَدْري وجودًا ولكنْ ما وجَدناها
فيها مِن الحُسن كنزٌ لا يُرى وكذا
تُخفي الكنوز المنايا في زَواياها
تكاد ترشح نورًا كلما خطرَت
بالمشيِ لا عرقًا من كلِّ أعضاها
كأنما الفجرُ ربَّاها فأرضَعَها
حليبَهُ وبقُرص الشمس غذَّاها
قد صاغها الله من نورٍ فأبرزَها
حتى تراها الورى يومًا وواراها
محجوبةٌ لا ينال الوهمُ رؤيتَها
ولا تَصيد شِراك النَّوم رؤياها
قد منعَتْها أسودٌ مثل أعيُنِها
سيوفهم لا تنال البُرءَ جَرْحاها
لو تُمسِك الريق كادوا حين تَقْطرُها
أن يَلعَقوها فلم ترحَل بريَّاها
إذا على حبِّهم مُزْن الحيا وقعَت
لفَّت على زفَرات الرعد أحْشاها
وإن تنفَّسَ صبحٌ عن لظى شفقٍ
قاموا غِضابًا وظنُّوا الصبح يَهواها
حرصًا عليهم نواح الورق يسخطُهم
توهُّمًا أن داء الحب أشْجاها
تَهْوي الفِراش إليها كلَّما سفَرَت
فيَسترون غَياراها محيَّاها
بين القلوب وعينَيْها مضى قسَمٌ
أنْ لا تصحَّ ولا تَصْحو سَكاراها
وبالجمال على أهل الهوى حلفَت
أن لا تموتَ ولا تحيا أُساراها
لله أيامُ لهوٍ بالعَقيق وإن
كانت قِصارًا وساءَتْني قُصاراها
أوقات أنسٍ كأنَّ الدهر أغفَلَها
أو مِن صروف الليالي ما عرَفْناها

ولي في النظارات من المعنى الجديد:

إن العُيَينات التي أوردَت
حُشاشتي موارِدَ الحتْفِ
معْ ما بها من ألَمٍ واضحٍ
ليس يَفي بحَصْره وصْفي
مِن سهَرِ الليل وطولِ البُكا
وضَعتُها رغمًا على أنْفي

ولإبراهيم أفندي الحوراني قوله في صباه من قصيدة:

سلْ عن سُلَيمى فؤادي فهْو مَغناها
أو مَطْلع الشمس فهْوَ مِن محيَّاها
واسأل سماءَك عن لَأْلاء أربُعِها
في ليل سُهدِك إن الزهر حَصْباها
مَنازلٌ لم تزَل منا القلوبُ بها
تَلْقى الضَّنى وخيام الوَجْد مأواها
لذاك مِن غيرِ نار الحب ما ظَمِئت
وغير دمع التَّصابي ما سقَيناها
لله كم ميِّتٍ أحياه شمْألُها
وكم قضى قيسَ أشواقٍ بلَيْلاها؟
وكم لَبِسْنا بها بُرْد السقام وكم
حِكْنا مَطارف وصلٍ ما لَبِسناها؟
وكم نظَمْنا عقودًا في خمائلها
للغيد لكنْ طَلاها ما لمَسْناها
هذي حدائقُ رِضْوانٍ بها سكنَت
حور الجنان ونور الله يَغشاها
ما حلَّها عاشقٌ إلا رأى عجبًا
في جنة الخلد نارًا ظلَّ يَصْلاها
في رَوْضها ظبَياتُ التُّرك ما تركَت
ليثًا من العُرْب إلا بين قَتْلاها
من كلِّ غَرْثى وِشاحٍ ما دنَت ورنَتْ
إلا رمَت بسهام الطرْف مُضْناها
تظل نيرانُ إبراهيم موقَدةً
منها كَليم الحشى في طُور سَيْناها
هيفاءُ تَرفل في بُرد السَّنا وأنا
أختال في مثلِ ما يَشكوه جَفْناها
بالوصل أبخلُ غاداتِ الورى خُلِقَت
وعند سفك دمِ العُشَّاق أسخاها
فقيهةٌ حرَّمَت تقبيلَ وجنَتِها
شرعًا وقد حلَّلَت قتلي بفَتْواها
ولم تُجِزْ لجريحٍ رشْفَ ريقتها
للبرْءِ والجارحُ الأحشاءِ عيناها
يا عاذل العاشق الوَلْهان في عذلي
جاوزتَ شرع الهوى فاستغفِرِ اللهَ
لمعشر الحبِّ أرواحٌ وأفئدةٌ
مِن نَسْمة الحب والأشواق سوَّاها
فلا تَلُمني بمن أهوى بها تلَفي
والموتُ وجْدًا بها من خير نُعْماها
حسبي إذا متُّ فيها قولُهم وأنا
في مدفن العشق: هذا كان يَهْواها
هذا وهَبْ عذْلَك الأسيافَ يوم وغًى
فإنَّ لَحْظ مَهاة الخِدْر أمضاها
ما بِتُّ في صَبوتي أدري الغرامَ كما
يَدْريه مَن شاب في التوليه لولاها
وأصبحَتْ علماءُ النجم تخدمني
إذ صرتُ بالساريات الأفْقِ أدراها
والنثر أمسى بدمعي مغرَمًا كَلِفًا
كالنَّظْم أضحى عَميدًا في ثناياها
يا قَسْورًا مُهجةُ العاني فريستُهُ
يا ظَبْيةً وسوادُ القلب مَرْعاها
حتَّامَ أُمسي غريقًا بالدموع على
جَمْر الغَضا ونجوم الليل أرعاها
ردَّ الإلهُ أُويْقاتًا لنا سلفَت
في ظلِّ أرض الصفا نُسْقَى حميَّاها
حيث الصبابةُ والأشواق جاريةٌ
تَسْقي رُباها وباسم الله مَجراها
والرِّيح تَعبث بالأغصان حاملةً
لنا عبيرَ الهوى من طيب ريَّاها
لله يومٌ به سارت ركائبُنا
تَطْوي إليها قِفارًا ما عَهِدناها
كأنَّ فيهنَّ ما في القلب مِن ولَهٍ
إذ كان يُطرِبُها الحادي بذِكْراها
سِرْنا عليها إلى أخت الصباح دُجًى
تُسابق البرقَ ما يُحْدى حُديَّاها
نُسقى رحيقَ الهوى مِن ذِكر طلعتِها
وكل نفسٍ من الرُّكبان سَكْراها
حتى بدَت جنةُ الخلد التي سكنَت
فيها الملائك والرحمنُ أعلاها
فلا تسَلْ عن قلوب الرَّكْب حين بدَت
إذ ضاع عقلي فلا أروي حَكاياها
جُزْنا إليها وقبَّلنا الثرى ولَهًا
ونازِلات الضَّنى حثَّت مَطاياها
وأقبلت راحة الأرواح تنشدنا
أهلًا بصَحْبٍ برَحْب القلب سُكناها
يا أهل ودِّي بكم ضاءت منازلُنا
بعد الظلام الذي في البُعْد غطَّاها
ثم انثنَت وأتت بالكأس قائلةً
من يومِ فارقتُمونا ما شَربناها
فقلتُ: والآن طابت فادْهقي قدَحي
واسقي سليمانَ شوق يا سُلَيماها
نحن الأولى بالنوى صَهْباؤنا عبرٌ
ممزوجة بدم الأحشاء نُسقاها
فغادرت بُرقعَ البدر المنير وقد
أمسى يُدير شموسَ الكاس خدَّاها
بِتْنا سكارى بلا راحٍ لبهجتها
حتى سقَتْنا فأصبحنا أُساراها
وما بَرِحنا بصفو العيش ننهبهُ
حتى أتى البَينُ أبكانا وأبكاها

ولي وهي مما نظمتُه عند قدوم حضرة العالم الفاضل إبراهيم أفندي الحوراني من مدينة طرابلس وكان قد ذهب إليها بدعوة خصوصية لتلاوة خطاب عِلمي في احتفال مدرسة عالية:

هبَّ النسيمُ عليَّ من لُبنانِ
فاهتاج شوقي فاستباح جَناني
وسرى بألْطَف نفحةٍ فروى لنا
بُشْرى قدوم شبيهةِ الغِزلانِ
فتَّانة ملكَت حَشاي وغادرت
قلبي صريعَ تذللٍ وهوانِ
أهوى النسيمَ وقد حكاها رِقةً
وإذا انثنَت أهوى غصون البانِ
ما شاقني ذِكرُ الربوع ووصفُها
لولاكمُ يا ساكني لُبنانِ
هزَمَت جيوشُ لُقى الحبيبة بغتةً
جيشَ البعاد فذلَّ بالأعوانِ
هي ربَّة الخالَين ما بَرِحَت على
مرِّ الزمان وجَورِه تَهواني
هيفاء في لُبنان أرعى وجهَها
بين النجوم وحبُّها يَرعاني
ما فاح نَشرُ المسك من أنفاسِها
إلا وأحيا مُهجة الوَلْهان
فكأنه ريَّا طرابُلسٍ بدَت
وقت الربيع برَوضة البستانِ
أو مثل أنفاس الرسول مبشِّري
بقدوم عالمِ عصرنا الحوراني
مَلِك الفصاحة والبلاغة مطلقًا
رب القَريضِ وكلِّ بِكْرِ مَعانِ
مَن بات روحًا للمكارم والعلى
بالفضل أصبحَ قدوةَ الأعيانِ
أسيافُه آراؤه، ورِماحهُ
أقلامُه بمِداد كلِّ بيانِ
مذ قام يَخطُب قصَّرَت عن سبْقهِ
طرًّا فوارسُ عبْسَ معْ ذُبْيانِ
فلَكَم تناثرَ منه درًّا صاغه
للأذْنِ شنفًا واضحَ البرهانِ

ولفضيلتلو الشيخ إبراهيم أفندي الأحدب يُهنئ بها الحاجَّ محمد أفندي الطيارة بختان نجلِه مصطفى:

نُور زُهْرٍ يَلوح أم نَوْر زَهرِ
بالتهاني يَفوح في رَوضِ نشْرِ؟
وسَنا البدر قد تجلَّى علينا
أم مَهاة الجمال في جُنح شعرِ؟
وبدا جيدُها به نقْطُ مسكٍ
أم هلالٌ مراقبٌ ضوءَ فجرِ؟
وأرى عقربًا من الصُّدغ يسعى
تحت قلبٍ لها على وقْدِ جمرِ
أم هي الواوُ لم تَجِئنا لعطفٍ
بل لنَصْب الأسى بقلبٍ وجَرِّ؟
وعلينا أحداقُها قد أدارَت
من مُدام الغرام أقداحَ خمرِ
أم غدَت بابلًا لهاروتَ حتى
حلَّ فيها بالنفس في عَقْد سِحرِ
من بَني التُّرك غادةٌ تركَتني
عينها عانيَ الغرام بأسْري
شبَّ شعري في حُب خدٍّ جلَتْهُ
شبَّ ناري به كما شاب شَعري
لستُ أسلو منها صباحَ جبينٍ
وليالٍ مِن الذوائب عشْرِ
حاسبَتْني منها سهامُ جفونٍ
لم تُقابِل بالجبر في الحبِّ كَسْري
وجلا وجهها لنا شمس حُسنٍ
دون بردٍ ثغرُها حرب بدرِ

ومنها:

بالعَذارى أهيمُ في كل وادٍ
من غرامي وفرط وجْديَ عُذري
وعيون الظِّبا وأعطاف غيدٍ
أوقعَتْني ما بين بِيضٍ وسُمرِ
غزَلي دائمٌ بغَزْل جفونٍ
للغواني يُجيد حلَّةَ شعري
وبها راقَ ورْدُ سُكري ولكنْ
بمعاني محمدٍ رقَّ شُكري

وله أيضًا من قصيدة يمدح بها سعد الله بك حلابه:

أدِرْ شمسَ أفراحي وقابِلْ بها البدْرَا
ولا تخشَ زيدًا في هواك ولا عَمْرا
وفرِّغْ لشمس الحُسن كيسَك طائعًا
إذا ملأَت كأسَ اللُّجَين لنا تِبرَا
ولا تصْحُ من خمر الصبابة والجوى
فما العيشُ إلا أن تعيش به سُكْرا
ودَع خبَرًا عمَّن مضى مِن أُولي الهوى
فإنك قد أدركتَ مِن عشقيَ الخُبْرا
وشم وجْنةً حمراءَ فتَّح وردُها
نسيم الحيا تُوري لظًى مهجتي الحَرَّى
لُهَيفاءَ بيضاءَ الترائبِ إنْ رنَتْ
وماسَت نَسينا عندها البِيض والسُّمرا
مِن الغيد عَيناها براحةِ عشقِها
تُدير على عُشاقِ طلعتِها خَمرَا
وفي ضِمن إغضاء الجفون وغَضِّها
يُطارحني معنًى يسمُّونه سِحرَا
نبذتُ وراء الظهر مَن لم يَهِمْ بها
غداةَ بها أصبحتُ منشرحًا صدْرَا
وأمسيتُ عُذْريَّ الصبابة موضِحًا
لمن لام أعذاري بغُرَّتها الغَرَّا
ومَن كان نَجْديَّ الغرام فإنني
إلى الغَور أصبو حينما أُبصِر الخَصْرا
تَسعَّرُ نيرانُ الغضا في جوانحي
ببَرْد ثَنايا نَظمِها أرخص الدُّرَّا
جلَت برقعًا أبدى لنا الشمس في الدجى
وقد بعثَت بالنشر من فَرعِها شِعرا
وقد شِمتُ قُربَ الجيد نقطةَ عنبرٍ
كأنَّ هلالًا قام يَنتظر الفَجرا

وللأمير نسيب أرسلان:

ولله يومَ البين عينايَ فاضتا
بماءٍ مَعينُ الماء في جنبِه ثمْدُ
يشدُّون أكوار الرَّحيل وودُّهمْ
نَزيل فؤادي لا رحيلٌ ولا شدُّ
وشادنةٍ في السِّرب لم يَرْم طرْفهُ
بها الحرُّ إلا وهْو مِن نظرةٍ عبْدُ
يهون لها في خِدْرها كلُّ فاتكٍ
يهون له في خِدْره الأسَد الورْدُ
لئن راعني منها الصدودُ فطالما
نَعِمتُ زمانًا لا يُروِّعُني الصدُّ

وله:

أَعاذِلُ قل للحب كم شفَّ مُغرَمَا
وسلْ غادة الجَرْعاءِ كم سفَكَت دمَا؟
أيا مُنتحي الأجزاع قولوا لزينبٍ
على البُعْد تُهديني خيالًا مُسلِّمَا
شكَوتُ لها برْحَ الفؤاد وإنما
يَهون عليها أن أبيتَ مُتيَّما
نزيفة دَلٍّ ما أغارت بقَدِّها
على القلب إلا كان نهبًا مُقسَّما

ومما آثرتُه من بنات الأفكار وأطايب الأشعار ما أجادت به ربَّةُ الخِدر والأدب عريقةُ الفضل وشرف النسب: الخاتون عائشة عصمت هانم ابنة المرحوم إسماعيل باشا تيمور، أبيات تمتزج لرقة مبانيها بالنفوس، وتُشرَب لطيب معانيها بالكئوس، وناهيك به من دُرِّ شعر يروي لنا حديث درِّ الثَّغر، ولها قصيدة فخرية رغبتُ في أن أجعلها فريدة في سَمْط عِقد دُررِها وهي:

بيَدِ العفاف أصون عزَّ حجابي
وبعِصْمتي أسمو على أترابي
وبفِكْرةٍ وقَّادة وقريحةٍ
نقَّادة قد كُمِّلَت آدابي
ولقد نظَمتُ الشعر شيمةَ معشرٍ
قبلي ذواتِ الخِدْر والأحسابِ
ما قُلتُه إلا فُكاهةَ ناطقٍ
يَهْوى بلاغةَ منطقٍ وكتابِ
فبُنيَّة المهدي وليلى قُدوتي
وبفِطْنتي أُعطِيتُ فصْلَ خطابي
لله دَرُّ كواعبٍ مِنْوالُها
نسْجُ العلا لعَوانسٍ وكِعابِ
وخُصِصتُ بالدرِّ الثمين وحامَتِ الْـ
ـخَنساء في صخرٍ وجوبَ صِعابِ
فجعَلتُ مِرآتي جبينَ دفاتري
وجعَلتُ من نقش المداد خِضابي
كم زخرفَت وجنات طُرْسي أنمُلي
بعذار خطٍّ أو إهابِ شبابِ؟
ولكَمْ زها شمعُ الذكا وتضوَّعَت
بعبير قولي روضةُ الأحبابِ
مَنْطَقتُ ربَّاتِ البَها بمناطقٍ
يَغبِطْنها في حَضرتي وغيابي
وحللتُ في نادي الشُّعور ذَوائبًا
عرَفَت شعائرَها ذَوو الأنسابِ
عوَّذتُ مِن فكري فنونَ بلاغتي
بتميمةٍ غرَّا وحِرْز حجابِ
ما ضرَّني أدبي وحُسنُ تعلُّمي
إلا بكَوني زهرةَ الألبابِ
ما ساءني خِدْري وعَقْدُ عِصابتي
وطرازُ ثوبي واعتزازُ رِحابي
ما عاقَني حَجْلي عن العَلْيا ولا
سدْلُ الخِمار بلِمَّتي ونِقابي
عن طيِّ مِضْمار الرِّهان إذا اشتكَت
صعْبَ السباقِ مَطامِحُ الركَّابِ
بل صولتي في راحتي وتفرُّسي
في حُسن ما أسعى لخير مآبِ
ناهيك من سرٍّ مَصون كنهُهُ
شاعت غرابتُه لدى الأغرابِ
كالمسك مختوم بدَرْج خزائنٍ
ويَضوع طيِّبُ طِيبه بمَلابِ
أو كالبِحار حَوَت جواهرَ لؤلؤٍ
عن مسِّها شُلَّت يدُ الطُّلابِ
درٌّ لشوقِ نوالها ومَنالها
كم كابدَ الغواصُ فصلَ عذابِ
والعَنبر المشهود وافقَ صَونَها
وشئونُه تُتلى بكلِّ كتابِ
فأنَرتُ مصباح البراعة وهْي لي
مِنَح الإله مَواهبُ الوهَّابِ

وقالت:

منشورُ حُسنِك في الحشا سطَّرتُه
ورقيمُ خطِّك طالَما كرَّرتُه
سطر العذار تلوتُه فوجدتُه
يُومي لسفك دمي وقد سلَّمتُه
أنا كلُّ ما يُرضي هواك رَضيتُهُ
أفنيتُ صبريَ في هواك متيَّمَا
وقضيتُ عمريَ في جمالك مُغرَمَا
وترَكت سرِّيَ بالتجلد مُبهَمَا
فأنَلْتني تِيهًا أباد وأعدَمَا
حتى استبانَ لدَيك ما واريتُه
جَفْني لبُعدِك بالصدودِ تأرَّقا
ومذاقُ عَيشي مرَّ والسُّهْد ارتقى
والقلب مِن نار الغرام تَحرَّقا
قل لي بحقِّك يا غزالُ متى اللِّقا
يَكْفي مِن التعذيب ما لاقيتُهُ
أفديك مِن غصنٍ وريقٍ بالحُلَى
تَزهو بوَجْنات وريقٍ قد حَلا
وتَغضُّ جَفنًا بالنُّعاس معسَّلَا
فاسمَحْ برَشْفٍ لي يَفوق السَّلْسَلا
للآن حتى في الكَرى ما ذُقتُهُ
يا ظبْيُ في قلبي عليك حرارَةُ
تُطْفي لَظاها إن سمَحت زيارةُ
حُلْوَ الرُّضاب أفي الوصال مرارةُ
أم في الْتفاتِك للشَّجيِّ خَسارةُ
وجميعُ رِبحي في الهوى أنفقتهُ
مَنْ ذا الذي أغواك حتى خُنتَني
ونبَذتَ عهدي بعدَما قاسمتَني؟
يا مالِكًا قلبي وما ملَّكتَني
أين الوعودُ وأين ما بشَّرتَني؟
قد خاب مِن جدواك ما أمَّلتُه
جَهِل العواذلُ حالتي فجلَوْتُها
خاضوا بسرِّ مَدامعٍ أطلَقْتُها
قالوا بمُهجتِه غرام قلتُ: ها
شكوى بسرِّ سريرتي أعلَنتُها
لولاك ما أعلنتُ ما أخفيتُهُ
قلبي بكلِّ مُشابهٍ لك قد صبا
حتى عَشِقتُ لحُسنِ لَفتتِك الظِّبا
ولكَم رأيتُ مِن الهوى مستغربَا
أشْدو لمن يغدو أمامي: مَرْحبَا
حتى الرقيب أقول إنْ قابَلتُه
خاصمتُ فيك عَشيرتي وترَكتُهمْ
ورضيتُ حالة وحدتي وهجرتُهمْ
وإلى السُّلوِّ دعَوْا فما لبَّيتُهم
نصَحوا فلم أعبَأْ بهم وعصَيتُهم
واخترتُ حبَّك مذهبي ورَضيتُه
تالله ما هذا غزالٌ بل ملَكْ
أخذ القلوبَ بوجنتَيْه بل امتلَكْ
يا بدرُ ثمَّ الحسنُ والإحسان لَكْ
عطفًا لصبِّك فالمتيَّمُ قد هلَكْ
والصبر فارقَني كما فارقتُه
ما بال قلبِك لا يرقُّ لحالتي
ولكَم رثى اللاحي ورقَّ لِلَوعتي
قل لي بحقِّك هل أتيتُ بزَلَّةِ
حتى أقاسيَ في الحياة مَنيَّتي؟
أو خنتُ عهدًا كنت قد راعيتُه
العبد يرجو في هَواك عنايةً
ويوَدُّ يومًا لو سَمعتَ شكايةً
ذهَب الزمانُ وما أتيتُ جنايةً
ووجَدتُ معْ هذا صُدودَك غايةً
هذا مُلخَّص قصتي أنهيتُهُ

وقالت في صدر رسالة، وهو غاية في الملاحة، وفيه تورية:

أرسلتُ في طيِّ النسيم رسالةً
فعسى تَزور ديارَهم وتَرُودُ
عطَّرتَ أرجاءَ النسيم كأنما
نُشِرَت عليه من الرياض وُرودُ
ولبثتُ أنتظر الجواب فما أتى
ولكَم لِكَتْبي في الديار وُرودُ
إني لأَحسُدها على نيل المنى
فأنا لِكَتبي ما حَييتُ حَسودُ
فرَسائلي البيضاءُ تَحظى باللقى
يا ليتَ سُودي باللقاء تَسودُ

وقالت في تشطير البيتَين المشهورَين:

وليلى ما كَفاها الهجرُ حتى
أذاعَت بعد كتمانٍ شُجوني
وحينَ تبيَّنَت آياتِ وَجْدي
أباحَت في الهوى عِرْضي وديني
فقلتُ لها: ارحَمي الأُمِّيَّ قالت:
جُنِنتُ وفي الهوى بعضُ الجنونِ
وهَبْني كنتُ أمَّك كيف أَحْنو
وهل في الحبِّ يا أمي ارحَميني؟!

وقالت مشطِّرةً لهذَين البيتَين وهما:

ومتَّصفٍ بالنحو أعرَب حسنُه
فأورد أشكالًا غدا عنه مَسئولَا
سقاميَ فعلٌ لازم وصدودُهُ
له فاعلٌ لِمْ صيَّر القلبَ مفعولَا

وهذا هو التشطير:

ومتَّصفٍ بالنحو أعرَب حسنُه
فأظهَر وجْدًا في الضمائر موصولَا
وفي مبتدا حالي بهِ جُبِل الهوى
فأورَد أشكالًا غدَا عنه مسئولَا
سقاميَ فعلٌ لازم وصدودهُ
تعدَّى فلم يُحسِن مع الحبِّ تعليلَا
فيا ليت شِعري ما جَزائي وشَرطهُ
له فاعلٌ لِمْ صيَّر القلبَ مفعولَا

وقالت:

مال الفؤادُ لغُصنٍ باللَّمى ثَمِلٍ
من مَيلِه لَعِبت أيدي النَّسيم بهِ
أمال جيدَ الظِّبى مِن لينه شغفًا
والميل في الظَّبْيِ مِن أقوى مَذاهبهِ
وارَتْ ذوائبُه شمسًا فغُرَّتهُ
تحتَ الشعور كليلٍ في غَياهبهِ
شبَّ الجوى بين أحشائي لرؤيتهِ
فقمتُ واللَّحْظ يُصْمي في مَضاربهِ
سأَلتُه رحمةً مِن لحْظِه فأبى
وزاد قلبيَ تبريحًا بحاجِبهِ
من سِحر أجفانه هاروتُ قابلَني
ومدَّ في صُدغِه إحدى عقاربهِ
وكنزُ مبسمه الزاهي ولؤلؤه
مُرصَّد بأفاعٍ من ذوائبهِ
لمَّا رأى حيرتي فيه انثنى عجبًا
وقال: إن الهوى يُودي بصاحبهِ
فقلت: يا هازئًا بالصبِّ تعرف ذا
ما بال قلبِك لا يَعْنو لواجبهِ؟

وقالت:

عقَدتُ عزمي وهُم حلُّوا عزائمَهمْ
وفي العزائم محلولٌ ومعقودُ
ما طابَقوا حين لم يُبْدوا مُجانسةً
ولا تَشابُهَ، معدومٌ وموجودُ
أُبدي ائتلافًا ويُبدون الخلافَ وقد
غدَا لهم في جيوش الهجر تجريدُ
وكم أقابِلُهم مستنجِزًا ولهم
لسوء حظيَ في الإعراض ترديدُ
لو للسعادةِ عينٌ في مُساعدتي
ما كان لي ساعِدٌ بالطوق مشدودُ

وأجابت عن قول بعض الأدباء وهو:

ماذا تقول إذا اجتمَعْنا في غدٍ
وأقول للرحمن: هذا قاتلي؟

فقالت:

إن كان موتُك مِن قِسِيِّ حواجبٍ
كالنون أو مِن سحر جَفنٍ ذابلِ
أو غُرَّة مثل النهار وطُرةٍ
كالليل أو مِن جَور قدٍّ عادلِ
أو مِن لَحاظٍ تَسحر الألباب إذ
تَروي لنا سلَبَ المهى عن بابلِ
فهي التي فعلَت ولم أشعُر بما
فعلَت فكيف تَلومُني يا سائلي؟
أنا ما قتلتُ وإنما أنا آلةٌ
في القتل فاطلُب إن تُرِدْ مِن قاتلِ
ومتى أريدُ قِصاصَ سيفٍ أو قَنا
هل مِن سميعٍ مثلَ ذا أو قائلِ؟
والله قد خلَق الجميلَ ولم يقل
هيموا بِلَيِّن قدِّه المتمايلِ
ما قال ربك قطُّ يا عبدي أطِلْ
نظَر المِلاح ويا جميلةُ واصِلي
فعلام نُطلَب بالدماءِ وتدَّعي
زورًا وتطمع في مُحالٍ باطلِ؟

ولها في فن المواليا:

أنصار عيونك علينا رافعة الأعلام
أعزَّها الله كم أبدت لنا أعلام
وغامز الطَّرْف شاهد للجوى علام
حرص على ورد وجناتك بلال الخال
كاتب بخط العذار للعاشقين ميم لام

ولها:

ما لي بعادل قوامك تايه الأفكار
أمسي وأصبح وتسهيد الجفون لي كار
وحق عينَيك ما لي في هواك إنكار
دعني أبوس الأنامل وأشتري روحي
وإن طال صدودك على عبدك تكون تذكار

ولها من المصري:

تعالى يا خيال بهجة جماله
وندخل عَ الرشيق اليوم بحيله
ونحكم ع الفؤاد يحمل دلاله
لأنه في الجمال واحد وحيله

دور

بتهجر ليه أسير حبك يا روحي
ولك أوصاف ترد الروح جميله
بشوقك في أيادي الوجد روحي
وحق الحب شف صبحت ذليلة

دور

أنا ما اسْلى غرامك لو سلوني
وروحي في رحاب حبك دخيله
يعاب عَ الثغر لو أبسم لدوني
وعين الحب عن عيبه كليله

هذا ما اخترته مختصَرًا من منظومات هذه الدرة الثمينة، ولها ديوان شعر مشهور «بحلية الطِّراز» لا تقل صفحاته عن المائة.

•••

وقال القس لويس صابنجي من قصيدة مما اقترحه عليه أحد أصدقائه في قصة جرَت له مع فتاة من المحصَنات، وهما مسافران بقطار في لندرا:

أسيلة خدٍّ أفتديها بمُهجتي
مَهاة تَصيد العاشقين بلحْظةِ
تبدَّى هلال العيد من بُرج فرْقِها
فلاح سَناه البدر من سينِ طرةِ
لها حاجبٌ كالقوس يَرشق أسهُمًا
تُمزِّق أحشاءَ المعنى برميةِ
ولو أفرغ النقَّاش جَعْبةَ فِكرهِ
لما خطَّ قوسًا شِبْه ذاك بريشةِ
ومن ذا رأى قوسًا تكسَّر قابها
تفوَّق سهمًا لا يُخِل برَشقةِ
على عرش باهي الخدِّ خالٌ قد استوى
يَسود على أهل الغرام بسَطوةِ
لها معصمٌ مثل اللُّجَين وأنمُلٌ
إذا مسها المسقومُ فاز بصحَّةِ
فباتت تُسلِّيني بلطف حديثها
وتسحر عقلًا متَّعتْه بلذَّةِ
وغنَّت بصوت هيَّج القلبَ قدُّهُ
كورقاءَ تَشدو فوق غُصنِ أريكةِ
إذا جَنَّ ليلي كنت لي خيرَ مؤنسٍ
ووجهك بدري في تمامٍ ورِفعةِ

وله:

نسيم الصبا يومًا تمر على الربى
تحمَّلْ شذى الأزهار واهْدِ حبيبتي
وقبِّل ورودَ الخدِّ عني نيابةً
يمينًا ويُسْرى في غرامٍ ولوعةِ
حباك هبوبُ الريح فوق سنابلٍ
يُحيِّي بلُطفٍ خدَّ زرعٍ بلَثْمةِ
وإياك مِن تخديش خدٍّ منعَّمٍ
يكاد بنور البدر يَدْمى ونَسمةِ
مَهاةٌ بَراها ربُّ لطفٍ من الهبا
لطافةُ نور البدر عنها تجلَّتِ
أخاف عليها مِن شعاع غزالةٍ
جفون عيوني ظلُّها كلَّ ساعةِ
ويَرجف قلبي حين يَلمس جِسمَها
زُلال مياهٍ لاغتسال ونكهةِ
وروحي إذا مسَّ القميصُ ضُلوعَها
تذوب هُيامًا في احتراقٍ وغَيرةِ
أموت إذا مسَّ الزجاجُ شِفاهَها
وساغ رحيق الماء رشفًا لغلَّةِ
وأحسد ظِلًّا قد غشَاها صيانةً
من الشمس والرمضاء تحت مظلَّةِ
فيا ليت أني كنتُ قرص مظلةٍ
أظل عليها مِن شعاع غزالةِ

واخترت من الديوان المشهور «بحديقة الورد» الأبياتَ الآتية، وهي من نَظْم حضرة السيدة الفاضلة: وردة كريمة المرحوم الشاعر اللغوي العالم العلامة الشيخ ناصيف اليازجي، وقد تمَّ بهذه الدرر الغوالِ هذا الديوان، فمِن ذلك قولها في رسالةٍ إلى إحدى صديقاتها:

منِّي السلامُ على ديار أحبَّتي
كالمسك تَحمله الصَّبا إذْ هبَّتِ
مني السلامُ على الذي هجَر الحِمى
وله خيالٌ لا يَزال بمُقلَتي
قسَمًا بذاك الرَّبْع قلبي ما صَبا
إلا لِرَبعٍ في رُباه جنَّتي
يا حبَّذا تلك الديارُ وإن تكنْ
ذابت عليها بالصَّبابة مُهجتي
بالله يا مَنْ زار أكنافَ الحمى
بلِّغ إليه ألفَ ألفِ تحيةِ
وسَلِ الحبيبَ متى اللقاءُ فإنني
في الحي حيٌّ ما بَرِحتُ كميِّتِ

ولها من قصيدة:

زارت بجُنح الدُّجى والليل مُعتكِرُ
فقالت الدارُ ها قد أشرق السحَرُ
خودٌ تَميس بقدٍّ كالقناةِ بدا
إذا رأتْهُ غصون البان تَنكسِرُ
قدٌّ يَقُدُّ قلوبَ العاشقين إذا
ما اهتز يومًا ترى الأكبادَ تَنفطِرُ
خطَّت لأهل الهوى سطرًا بوجنَتِها
إياكم النارَ لا يؤذيكم الشرَرُ
يَعود مِن وجهها ليلُ الظلام ضحًى
والصبحُ مِن فرعها ليلًا به قمرُ
رأيتُ عِقد اللآلي في مقلَّدِها
فخِلْتُه نظْمَ مَن في نظمِه العبرُ

وقالت معارِضةً قصيدةَ ابنِ زُريق البغدادي وقد اقترحَ عليها ذلك:

صبٌّ جرت كفؤادي السُّحْب أدمُعهُ
وجْدًا وذابت من الأشواق أضلُعهُ
له من الدمع بحرٌ والفؤاد به
أضحى غريقًا ونارُ الحب تَلْذعهُ
ما زال يَصْبو إلى رَبْعٍ أقام به
قلبٌ له، ساقَه شوقٌ يُشيِّعهُ
يُعلِّل النفسَ في آماله طمعًا
من البقاء ولكنْ خاب مطمَعُه
يَجني ثِمار البُكا والسُّهدِ من شجرٍ
للحبِّ في القلب لا في التُّرْب يزرعهُ
عجبتُ من أدمعٍ كالسُّحْب هاطلةً
على غليلِ فؤادٍ ليس تنقعُه
واعجَبْ لصبٍّ مَشوق لم يزَلْ أبدًا
يشكو نَوى شادنٍ في القلب مرتعُه
حدِّث ولا حرَجٌ عن حُسن طلعتهِ
فسورة النور فيها جلَّ مُبدِعهُ
يَميس غصنًا ويبدو وجهُه قمرًا
بالكَرْخ من فلَكِ الأزرار مَطلعُه

وغزَلها قليل جدًا؛ ولذلك قلَّ ما أوردناه لها.

تفصيل إيقاع هارون الرشيد بالبرامكة

وَعَدتُ في مقدمة هذا المجموع أن آتيَ على ذكر تفصيل إيقاع الرشيد بالبرامكة، والسبب الذي كان من أجله مأثورًا عن أشهر مؤرِّخي العرب، وهذا هو:

قال صاحب الأعلام: القصة في ذلك على ما رواه إبراهيم بن إسحاق عن أبي ثور زاهر بن صقلاب، قال:

بلغَني أنه كان لهارون الرشيد مجلسٌ بالليل مع جعفرٍ البرمَكي، فقال له يومًا: لا يَطيب لي ذلك إلا بمحضر أختي العبَّاسة، ولكن لا يجوز إلا إن كتبتُ لك عليها؛ لإباحة النظر مِن غير أن تَقرَبها، فاتفقا على ذلك وعقَد له عليها، ثم أحضرها، فكانت تحضر ذلك المجلس، إلا أنه زاد غرامها وعشقها فيه. وكان لجعفرٍ البرمكيِّ امرأةٌ تُزين له الجواري كلَّ ليلة، فجاءتها العباسة ورشَتْها بمال فزينَتْها له وأدخلَتها عليه، فظن أنها جارية، فلما أصبحوا قالت له: أنا العبَّاسة، وقد كنتُ أسألك أن تُساعدني على مودتك، فتأبى، فلما آيستُ منك احتَلْتُ عليك بما رأيتَ في هذه الليلة، وإن لم تواظب لأكوننَّ سببًا في سَلْب نعمتك، وهل أنت إلا زوجي؟ فقال لها جعفر: ويحَك! أهلكتِني وأهلكتِ نفسكِ. وكان كما قال، ولم يَزُرها حتى ظهر أمرُها للرشيد، فهذا كان سببَ قتل البرامكة. انتهى ما رواه إبراهيم بن إسحاق.

ورأيتُ في الجزء الثالث من الجملة الثالثة من تاريخ الطبري رواية أخرى، قال:

أما سبب غضبه على جعفر الذي قتلَه عنده فإنه مُختلَف فيه؛ فمِن ذلك ما ذكره بختيشوع بن جبريل عن أبيه أنه قال: إني لقاعدٌ في مجلس الرشيد إذ طلع يحيى بن خالد، وكان فيما مضى يَدخل بلا إذن، فلما دخل وصار بالقرب من الرشيد وسلَّم ردَّ عليه ردًّا ضعيفًا، فعلم يحيى أن أمرهم قد تغيَّر، قال: ثم أقبل على الرشيد فقال: يا جبريل، يدخل عليك وأنت في منزلك أحدٌ بلا إذنك؟ فقلت: لا، ولا يُطمَع في ذلك، قال: فما بالنا يُدخَل علينا بلا إذن؟! فقام يحيى فقال: يا أمير المؤمنين، قدَّمَني الله قبلك، والله ما ابتدأْتُ ذلك الساعة، وما هو إلا شيء كان خصَّني به أمير المؤمنين، ورفع به ذِكري حتى إذا كنتُ لأدخل وهو في فراشه مجرَّدًا حينًا، وحينًا في بعض إزاره، وما علمتُ أن أمير المؤمنين يَكره ما كان يحب، وإذا قد علمتُ فإني أكون عنده في الطبقة الثانية من أهل الإذن، أو الثالثة إنْ أمَرَني سيدي بذلك، قال: فاستحى. قال: وكان مِن أرقِّ الخلفاء وجهًا، وعيناه في الأرض ما يَرفع إليه طَرْفه، ثم قال: ما أردت ما تكره، ولكن الناس يقولون، فظننت أنه لم يسنَحْ له جوابٌ يرتضيه، فأجاب بهذا القول، ثم أمسك عنه، وخرج يحيى.

أما تفصيل نكبتهم فهي كما يأتي؛ قال المبرد: قال عبد الله المارستاني عن يحيى بن أكثَم: قال: سألت إسماعيل بن يحيى الهاشميَّ عن سبب زوال نعمة البرامكة، قال: نعم، أعرف صحة الخبر وباطن القصة، كان سبب ذلك أنِّي كنت مع الرشيد يومًا من الأيام راكبًا إلى الصيد، فبينما نحن نسير إذ نظرنا إلى موكب بالبعد اعترضَنا، فقال لي: يا إسماعيل، لمَن هذا؟ فقلت: هو لأخيك جعفر بن يحيى، فالتفت يمينًا وشمالًا إلى مَن معه في موكبه، فإذا هو شِرذمة يسيرة، ثم نظر إلى الموكب الذي فيه جعفرٌ فلم يره، فقال: يا إسماعيل، ما فعل جعفرٌ وموكبه؟ فقلت: يا سيدي، قد مضى أخوك في طريق، ولم يَعلم بموضعك، فقال: ما رآنا أهلًا أن يزينَنا بموكبه ويُجمِّلَنا بجيشه، فقلت: العفو يا أمير المؤمنين، لو عَلِم بمكانك ما تعدَّاك، وما سار إلا بين يدَيك، واعتذرتُ بما حضر لي من الكلام. ثم سِرْنا حتى انتهينا إلى ضيعةٍ عامرة ومَواشٍ كثيرة، وكان الطريق يدور عليها، فدُرنا حتى أتينا بابَ القرية، فنظر الرشيد إلى البيدر وإلى كثرة الغِلال فيه والمواشي ويسارَ أهلها، فالتفتَ إليَّ وقال: يا إسماعيل، لمن هذه الضَّيعة؟ قلت: لأخيك جعفرِ بن يحيى، فسكَت، ثم تنفَّس الصُّعَداء، ثم سِرْنا، ولم يزَل يمرُّ بكل ضيعةٍ أعمرَ مِن الأخرى، وكلَّما مرَّ وسألني عن ضيعة قلتُ: لجعفر بن يحيى، حتى سرنا ووصلنا إلى المدينة، فلما أردتُ وداعه والانصرافَ إلى منزلي نظر إلى مَن كان حواليه نظرة، فعلموا ما أراد، فتفرَّقوا، وبقيتُ أنا وهو، فقال: يا إسماعيل، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، فقال: انظر إلى البرامكة، أغنَيناهم، وأفقَرْنا أولادنا وأغفَلْنا أمرهم، فقلتُ في نفسي: بَليَّة والله! ثم قلتُ: لماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: نظرتُ لهؤلاء وغفلتُ عن هؤلاء؛ لأني لا أعرف لأحد مِن أولادي ضيعةً مِن ضياع البرامكة على طريق واحد قُرب هذه المدينة، فكيف بما هو لهم غير ذلك على غير هذا الطريق في سائر البلدان؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، إنما البرامكة عَبيدك وخدَمُك، والضِّيَع وأموالهم وكلُّ ما يملكونه لك، فنظر إليَّ نظرةَ جبار عنيد، ثم قال: ما عَدَّ البرامكةُ بني هاشم إلا عَبيدهم، وأنهم هم الدولة وأنْ لا نِعمة لبني العباس إلا والبرامكةُ أنعَموا عليهم بها، فقلتُ: أميرُ المؤمنين أبصَرُ مِن غيره بخدمه ومَواليه، فقال: والله يا إسماعيل، إنك لتَعلم أنِّي قلتُ هذا وكأني أراك أن تُعْلمهم بكلامي فتتَّخِذ لك عندهم يدًا، وإني آمُرك أن تَكتم هذا الأمر؛ فإنه ما عَلم به أحدٌ غيرك، ومتى بلَغَهم شيء مما جرى علمتُ أنه ما أفشاه إلا أنت، فقلت: يا أمير المؤمنين، أعوذ بالله أن يكون مثلي يُفْشي سرَّك! قال: وكان هذا القول أولَ ما ظهر مِن أمر البرامكة، ثم ودَّعتُه وانصرفت متفكِّرًا في إيقاع الحيلة عليهم، فلما كان من الغد بكَّرتُ إليه، وجلستُ بين يدَيه، وكان في محلٍّ يُشرِف على دجلة من شرق مدينة باب السلام، وبإزائه منزلُ جعفرٍ من الجانب الغربي، وكانت المواكب من جميع الأصناف من قائد وأمير وعامل يَرِدون في كل يوم إلى قصر جعفر، فالتفت إليَّ وقال: يا إسماعيل، هذا ما كنا فيه بالأمس، انظر كم على باب جعفرٍ من الجيوش والغِلمان والمواكب، وأنا ما على باب داري أحد، فقلت: يا أمير المؤمنين، ناشَدتُك الله أن لا تُعلِّق نفسك بفكرك هذا، وإن جعفرًا إنما هو عبدك وخادمك ووزيرك وصاحبُ جيوشك إذا لم يكن الجيش على بابه فعلى باب مَن يكون؟ وإنما بابُه بابٌ من أبوابك، فقال: يا إسماعيل، انظر إلى دوابهم، ألستَ ترى أعجازهم إلى قصري وتَروث بإزائنا ونحن ننظر إليها؟! والله هذا هو الاستخفاف بعينه، والله لا أصبرنَّ على ذلك. ثم غضب غضبًا شديدًا، وامتلأ غيظًا فأمسكتُ عن الكلام، وقلت: والله هذا قضاءٌ من الله سابق، وحُكْم لا محالةَ واقع، ثم استأذنتُه في الانصراف، ورجعتُ إلى منزلي، فلقيني جعفر في الطريق يريد الرشيد فتواريتُ عنه حتى مضى، فدخل إليه وسلَّم عليه، فأجلسَه عن يمينه وأكرمه غايةَ الإكرام، وبشَّ في وجهه وحادثَه ساعة، ووهَب له خادمًا من خاصة خدمِه وأنبلهم، وأوضحهم وجهًا، وأكمَلِهم ظرفًا، كاتبًا حاسبًا لبيبًا، فسُرَّ جعفرٌ سرورًا كاملًا، ووقع في قلبه أجلَّ موقع، وكان دسيسًا عليه وبليَّة لديه، يرفع أخباره إلى الرشيد، ويُحصي عليه أنفاسه ساعةً بساعة ووقتًا بوقت، فخلا به جعفرٌ يومه ذلك وليلته واحتجب مِن أجْلِه عن الناس، فلما كان بعدَ ثلاثة أيام سِرْتُ إلى جعفر، فسلَّمت عليه، فلما خلا مجلسه ولم يبقَ عنده غيري، وذلك الخادم واقف، فعلمتُ أن الخادم يُحصي علينا أخبارنا، فقلت: أيها الوزير، نصيحة أفتأذن لي في الكلام، وكان الرشيد ولَّاه كورة خراسان كلها وما يُضاف إليها، ويُنْسَب لها قبل هذا الكلام بأيام، وخلَع عليه وعقَد له لواءً وعسكرًا بالنهروان، وضرَب الناسُ مَضاربهم بها، وهم متأهبون للسفر، فقلت: يا سيدي، أنت عازم على الخروج إلى بلدة كثيرة الخير واسعة الأقطار عظيمة المملكة، فلو صيَّرتَ بعض ضِياعك لولد أمير المؤمنين لكان أحظى لمنزلتِك عنده، فلما قلتُ هذا نظر إليَّ مغضبًا وقال: والله يا إسماعيل ما أكل الخبزَ ابنُ عمك — أو قال: صاحبك — إلا بفضلي، ولا قامت هذه الدولة إلا بنا، أما كفى أنِّي تركتُه لا يهتم بأمر شيء من نفسه وولَدِه وحاشيته ورعيَّته، وقد ملأتُ بيوت أمواله أموالًا، ولا زلتُ للأمور الجليلة أُدبِّرها حتى يمدَّ عينه إلى ما ادَّخرته واخترته لولدي وعَقِبي مِن بعدي، وداخَلَه حسدُ بني هاشم ودبَّ فيه الطمع، والله لئن سألني شيئًا من ذلك ليكوننَّ وبالًا عليه سريعًا، فقلت: والله يا سيدي، ما كان مما ظننتَ شيء، ولا تكلَّم أمير المؤمنين بحرف، قال: فما هذا الفضول منك؟! فقعدتُ بعدها هُنَيهة، ثم قمتُ إلى منزلي، ولم أركب إليه ولا إلى الرشيد؛ لأني صرتُ بينهما في حال شُبهة، وقلت في نفسي: هذا الخليفة وهذا وزيره، وأي شيء لي بالدخول بينهما؟! ولا شك في زوال نعمة البرامكة، وأن أمورهم قد انثلَمَت. قال: وحدثني خادمُ أمِّ جعفر أن الخادم الذي وهبه الرشيد لجعفر كتب إلى الرشيد بما كان بيني وبينه، وما تكلَّم به من الكلام الغليظ.

قال: فلما قرأ الكتاب وفهم الخبر احتجب ثلاثة أيام متفكِّرًا في إيقاع الحيلة على البرامكة، فدخل في اليوم الرابع على زبيدة، فخلا بها، وشكا لها ما في قلبه، وأطلَعَها على الكتاب الذي رفعه إليه الخادم، وكان بين جعفر وزبيدة شرٌّ وعداوة قديمة، فلمَّا تملَّكَت الحجة عليه بالَغَت في المكر بهم، واجتهدَت في هلاكهم، وكان الرشيدُ يتبرَّك بمشورتها، فقال: أشيري عليَّ برأيك الموافق الرشيد؛ فإني خائفٌ أن يَخرج الأمر من يدي إن تمكَّنوا من خراسان وتغلَّبوا عليها، فقالت: يا أمير المؤمنين، مَثلُك مع البرامكة كمَثل رجل سكران غريق في بحر عميق، فإن كنت قد أفَقتَ من سَكْرتك وتخلَّصتَ من غرقتك أخبرتُك بما هو أصعب عليك وأعظم من هذا بكثير، وإن كنتَ على الحالة الأولى تركتُك، فقال لها: قد كان ما كان، والآن أسمعُ منك، فقالت: إن هذا الأمر أخفاه عنك وزيرك، وهو أصعب مما أنت فيه وأقبحُ وأشنَع، فقال لها: ويحَك! ما هو؟ فقالت: أنا أجَلُّ مِن أن أخاطبك به، ولكن تُحضر أرجوان الخادم، وتُشدِّد عليه وتوهنه ضربًا؛ فإنه يُعرِّفك الخبر، وكان الرشيد قد أحلَّ جعفرًا محلًا لم يَحُلَّه أخوه ولا أبوه، وأمَّره سوى امرأته زبيدة، فإنه لم يكن رآها ولا دخل عليها، ولا قضى لها حاجة، ولا هي تَستقضيه حاجة، فلما فسد قلبُ الرشيد، وعزم على هلاك البرامكة وجدَت عليهم سبيلًا، ومالت على جعفر، وكان جعفرٌ يَدخل إلى الحريم في غياب الرشيد يَقضي حوائجهنَّ؛ لأنهنَّ لا يَستتِرنَ منه، وكان ذلك بأمر الرشيد، ولم يَعلم الرشيد ما حدَث من جعفر.

وفي رواية أن العبَّاسة كانت الساعيةَ في التقرُّب من جعفر وهو غيرُ عالم؛ بدليل ما ورد في ابن خلِّكان. قال: ثم اتفق أنْ أحبَّت العباسةُ جعفرًا، وراودَتْه، فأبى وخاف، فلمَّا أعيَتْها الحيلة عدلَت إلى الخديعة، فبعثَت إلى عتَّابة أمِّ جعفر أن أرسِليني إلى جعفر كأني جاريةٌ من جواريك اللائي تُرسلين إليه، وكانت أمُّه ترسل إليه كلَّ يوم جمعة جاريةً بِكْرًا عذراء وهو ثَمِل بالخمر، فأبت عليها أمُّ جعفر، فقالت: لئن لم تَفعلي لأذكُرنَّ لأخي أنك خاطَبتِني بِكَيْت وكَيْت، ولئن اشتملتُ من ابنك على ولدٍ يكوننَّ لكم الشرف، وما عسى أخي يَفعل لو علم أمرَنا؟ فأجابتها أم جعفر، وجعلَت تَعِد ابنها أن سنُهدي إليه جاريةً عندها حسناء، من هيئتها ومن صفتها كَيت وكيت، وهو يُطالبها بالعِدَة المرةَ بعد المرة، فلما علمت أنه قد اشتاق إليها أرسلَت إلى العباسة أن تهيَّئي الليلة، ففعلَت العباسة، ودخلَت على جعفر وكان لم يتثبَّت صورتها؛ لأنه لم يكن رآها إلا عند الرشيد، وكان لا يَرفع طَرْفه إليها مخافة، فلما أصبح الصباح قالت له: كيف رأيتَ خديعة بنات الملوك؟ فقال: وأي بنت ملكٍ أنتِ؟ فقالت: أنا مولاتك العباسة! فطار السُّكْر من رأسه، وذهب إلى أمه وقال: يا أماه، بعتِني والله رخيصًا. اﻫ.

فلما بلغ الرشيدَ الخبرُ خرج واستدعى بأرجوان الخادم، وأحضر السيف والنِّطع، وقال: برئت من المنصور إن لم تَصدُقني حديث جعفر لأقتلنَّك، فقال: الأمان يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، لك الأمان، قال: أعلم أن جعفرًا قد خانك في أختك العباسة، وقد دخَل بها منذ سبع سنين، وولدَت منه ثلاثَ بنين: الأول له ست سنين، والآخر له خمس سنين، والثالث ثلاث سنين ومات قريبًا، والاثنان قد أنفَذَهما إلى مدينة الرسول وهي حامل بالرابع، وأنت أذنتَ له بالدخول على أهل بيتك، وأمرتَني أن لا أمنعه في أي وقت شاء ليلًا ونهارًا، قال: أمرتُك أن لا تحجبه، فحين حدثَت هذه الحادثة لِمَ لا أخبرتني أولَ مرة؟! ثم أمر بضرب عنقه، وقام مِن وقته على الفور ودخل على زبيدة، وقال لها: أرأيتِ ما عاملَني به جعفر، وما ارتكب من هَتْك ستري ونكس رأسي، وفضحني بين العرب والعجم؟ فقالت: هذه شهوتك وإرادتك، عَمِدتَ إلى شابٍّ جميل الوجه حسَن الثياب طيب الرائحة، جبَّار في نفسه، أدخلتَه على ابنة خليفة من خلفاء الله، وهي أحسنُ منه وجهًا وأنظف منه ثوبًا وأطيبُ منه رائحة، لكنها لم ترَ رجلًا قطُّ غيره، فهذا جزاءُ مَن جمع بين النار والحطب! فخرج مِن عندها مكروبًا، فدعا بخادمه مسرور، وكان قاسيَ القلب فظًّا غليظًا، قد نزع الله الرحمة من قلبه، فقال: يا مسرور، إذا كان الليلةَ بعد العتمة فأْتِني بعشَرةٍ من أقوياء الفعَلة ومعهم خادمان، قال: نعم. فلما كان بعد العتَمة جاء مسرورٌ ومعه الفعَلة والخادمان، فقام الرشيد وهُم بين يديه حتى أتى المقصورة التي فيها أخته، فنظر إليها وهي حامل فلم يُكلِّمها بشيء، ولم يُعاتبها على ما فعلَت، وأمر الخادمَين بإدخالها في صندوق كبير في مقصورتها بعد قتلها ووضعها بحيلها وثيابها كما هي، وقفل عليها، وقد علمَت أنها بعد قتل أرجوان لاحقةٌ به. فلما علم أنه استوثق بها دعا الفعَلة ومعهم المعاول والزنابيل، فحفَروا وسط تلك المقصورة حتى بلغوا الماء وهو قاعد على كرسي، ثم قال: حسبُكم هاتوا الصندوق فدَلُّوه إلى تلك الحفرة. ثم قال: ردُّوا التراب عليه، ففعلوا وسَدُّوا الموضع كما كان، ثم أخرجهم وقفل الباب، وأخذ المفتاح معه، وجلس في موضعه والفعلة والخادمان بين يديه، ثم قال: يا مسرور، خذ هؤلاء القوم وأعطِهم أجرتهم، فأخذهم مسرور وجعلهم في حدِّ السيف، وضبط عليهم بعد أن ثقَّلهم بالصخر والحصى، ورماهم في وسط دجلة، ورجع من وقته فوقف بين يديه، فقال: يا مسرور، فعلتَ ما أمرتُك به؟ قال: دفعت لهم أجورهم، فدفع إليه مفتاح البيت، وقال: احفظه حتى أسألَك عنه، وامض الآن، وانصِب في المحل القبةَ التركية، ففعل ذلك، ووافاه قبل الصبح، ولم يَعلم أحد ما يريد.

فلما جلس في مجلسه — وكان عصرَ الخميس يوم موكب جعفر — قال: يا مسرور، لا تتباعد عني، ودخل الناس فسلَّموا عليه، ووقفوا على مراتبهم، ودخل جعفر بن يحيى البرمكي، فسلَّم عليه، فردَّ عليه السلام أحسنَ رد، ورحَّب به، وضحك في وجهه، وجلس في مرتبته. وكانت مرتبتُه أقربَ المراتب إلى أمير المؤمنين، ثم حدَّثه ساعةً وضاحَكَه، فأخرج جعفرٌ الكتب الواردة عليه من النواحي، فقرأها عليه، وأمر ونهى، ومنع وأنفذ الأمور، وقضى حوائجَ الناس، ثم استأذنه جعفرٌ في الخروج إلى خراسان في يومه ذلك، فدعا الرشيد بالمنجِّم وهو جالسٌ بحضرته، فقال الرشيد: كم مضى من النهار؟ قال: ثلاث ساعات ونصف، وحسَب له الرشيد بنفسه ونظَر في نجمه، فقال: يا أخي، هذا يوم نحوسك، وهذه ساعة نحس، ولا أرى إلا أنه يَحدث فيها حادث، ولكن تصلي الجمعة، وتَرحل في سعودك، وتَبيت في النَّهروان، وتُبكر يوم السبت، وتستقبل الطريق بالنهار؛ فإنه أصلَحُ من اليوم، فما رضي جعفر بما قاله الرشيد حتى أخذ الأَصْطُرْلاب من يد المنجِّم، وقام فأخذ الطالَع وحسب الطالع لنفسه، وقال: والله صدقتَ يا أمير المؤمنين، إن هذه الساعة ساعةُ نحس، وما رأيت نجمًا أشدَّ احتراقًا ولا أضيقَ مجرًى من البروج في مثل هذا اليوم، ثم قام وانصرف إلى منزله، والناس والقُوَّاد والخاص والعام من كل جانب يُعظِّمونه ويُبجِّلونه، إلى أن وصل إلى قصره في جيش عظيم، وأمر ونهى، وانصرف الناس، فلم يَستقرَّ به المجلس حتى بعث إليه الرشيدُ مسرورًا، وقال له: امض إلى جعفر وأتِني به الساعة، وقل له: وردَت كتبُ خراسان، فإذا دخل الباب الأول أوقِف الجند، وإذا دخل الباب الثانيَ أوقف الغِلْمان، وإذا دخل الباب الثالث فلا تدَعْ أحدًا يدخل معه من غلمانه، بل يدخله وحده، فإذا دخل في صَحن الدار فمِلْ به إلى القبة التركية التي أمرتُك بنَصْبها فاضرِب عنقه وأْتني برأسه، ولا توقف أحدًا من خلق الله على ما أمرتُك به، ولا تُراجِعْني في أمره، وإن لم تفعل أمرتُ مَن يضرب عنقك، ويأتيني برأسك ورأسه جملة، وفي دون هذا كفايةٌ وأنت أعلم، وتبادر قبل أن يَبلغه الخبر مِن غيرك، فمضى مسرورٌ واستأذن على جعفر، فدخل عليه وقد نزع ثيابه وطرح نفسه ليستريح، فقال: سيدي، أجِب أمير المؤمنين، قال: فانزعج وارتاع منه، وقال: ويلك يا مسرور! أنا في هذه الساعة خرجتُ من عنده، فما الخبر؟ قال: وردَت كتبٌ من خراسان يحتاج تقرأها، فطابت نفسه، ودعا بثيابه فلبسها، وتقلَّد بسيفه وذهَب معه، فلما دخل من الباب الأول أوقف الجند، وفي الثاني أوقف الغلمان، فلما دخل في الباب الثالث الْتفَت فلم يرَ أحدًا من غلمانه ولا الخادم الفرد، فندم على ركوبه تلك الساعة، ولم يُمكنه الرجوع، فلما صار بإزاء تلك القبة المضروبة في صحن الدار مال به إليها وأنزله عن دابته، وأدخله القبة فلم يرَ فيها أحدًا.

وفي رواية: رأى فيها سيفًا ونِطعًا فاستحسَّ بالبلاء، وقال لمسرور: يا أخي، ما الخبر؟ فقال له مسرور: أنا الساعة أخوك، وفي منزلك، تقول لي: ويلك! أنت تدري ما القضية، وما كان الله ليُهمِلك ولا لينفعك، فقد أمرني أمير المؤمنين بضرب عنقك وحَمْل رأسك إليه الساعة، فبكى جعفرٌ وجعل يُقبِّل يدَي مسرور ورِجلَيه، ويقول: يا أخي يا مسرور، قد علمتَ كرامتي لك، دون جميع الغلمان والحاشية، وأن حوائجك عندي مقضيَّة في سائر الأوقات، وأنت تعرف موضعي ومحلي من أمير المؤمنين، وما يوحيه إليَّ من الأسرار، ولعل أن يكونوا بلَّغوه عني باطلًا وهذه مائة ألف دينار أحضرها لك الساعة قبل أن أقوم من موضعي هذا، ودعني أهيم على وجهي، فقال: لا سبيل إلى الحياة أبدًا! قال: توقَّف عني ساعة وارجع إليه، وقل له: قد فرَغتُ مما أمرتني به واسمع ما يقول، وعُدْ فافعل ما تريد، فإن فعلتَ ذلك وحصلَت لي السلامة فإني أُشهِد الله وملائكته أني أُشاطِرك في نعمتي مما ملَكَته يدي، وأجعلك أميرَ الجيش وأملِّكك أمر الدنيا، ولم يزل به وهو يبكي حتى طمع في الحياة، فقال له مسرور: ربما يكون ذلك، وحلَّ سيفه ومِنطقتَه وأخذهما، ووكل به أربعين غلامًا من السودان يحفظونه، ومضى مسرورٌ ووقف بين يدَي الرشيد وهو جالس يَقطر غضبًا، وفي يده قضيب الولع يَنكُت به في الأرض، فلما رآه قال له: ثكلتك أمك! ما فعلتَ في أمر جعفر؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قد أنفذتُ أمرك فيه، فقال: فأين رأسه؟ فقال: في القبة، قال: فأتني برأسه الساعة، فرجع مسرور وجعفر يصلي وقد ركع ركعة فلم يُمهِله أن يُصلِّيَ الثانية حتى سلَّ سيفه الذي أخذه منه وضرب عنقه، وأخذ رأسه بلحيته، فطرحه بين يدَي أمير المؤمنين وهو يَشْخب دمًا.

وفي رواية ابن خلِّكان أن الذي بعثه الرشيد لقتل جعفر كان ياسرًا المغنِّيَ، وأنه بعد أن عاد برأسه قال له: يا ياسر، جِئْني بفلان وفلان، فلما أتاه بهما قال لهما: اضربا عنق ياسر، فلا أقدر أن أرى قاتلَ جعفر. ثم تنفَّس الصُّعَداء، وبكى بكاءً شديدًا، وجعل يَنكُت في الأرض أثناء كل كلمة، ويقرع أسنانه بالقضيب ويخاطبه، ويقول: يا جعفر، ألم أُحِلَّك محلَّ نفسي؟ يا جعفر، ما كافأتَني ولا عرَفتَ حقي، ولا حفظتَ عهدي، ولا ذكَرتَ نعمتي، ولا نظرتَ في عواقب الأمور، ولا تفكَّرتَ في صروف الدهر، ولا حسبتَ تقلُّب الأيام واختلافَ أحوالها! يا جعفر، خنتَني في أهلي وفضحتني بين العرب والعجم، يا جعفر، أسأتَ إليَّ وإلى نفسك، وما تفكَّرتَ في عواقب أمرك. قال مسرور: وأنا واقف بين يديه وهو يَنكُت في الأرض إثرَ كل كلمة، ولم يزَل كذلك إلى أن أُذِّن لصلاة الظهر، فدعا بماء فتوضَّأ للصلاة، وخرج للجامع فصلَّى بالناس جماعة، ثم الْتفتَ بوجهه لقصور جعفر ودُوره، وأقبل على أبيه وأخيه، وجميع أولاد البرامكة ومَواليهم وغِلمانهم، واستباح ما لهم، ووجَّه مسرورًا إلى المعسكر، فأخذ جميعَ ما فيه من مَضارِبَ وخيام وسلاح وغير ذلك، فلما أصبح يوم السبت إذا هو قد قتل من البرامكة وحاشيتهم نحو ألفِ إنسان، وترك مَن بقي منهم لا يَرجع إلى وطنه، وشتَّت شملهم في البلاد، ولم يَقدِر أحدٌ منهم على كِسْرة خبز.

ثم وجَّه إلى مدينة الرسول فأتى بالصبيَّين ولدَيْ جعفرٍ من أخته العباسة، فأُدْخِلا عليه في بيته، فلما رآهما أُعجِب بهما، وكانا في نهايةٍ من الحسن والجمال، فاستنطقَهما فوجد لغتَهما مدَنيَّة، وفصاحتهما هاشمية، وفي ألفاظهما عذوبةٌ وبلاغة، فقال لكبيرهما: ما اسمُك يا قرة عيني؟ قال: الحسَن، وقال للصغير: ما اسمُك يا حبيبي؟ قال: الحُسين، فنظر إليهما، وبكى بكاءً شديدًا، ثم قال: يعز عليَّ حُسنُكما وجمالكما، لا رحم الله مَن ظلَمَكما! ولم يَدرِيا ما أراد بهما، ثم قال: يا مسرور، ما فُعِلَ بالمفتاح الذي دَفعتُه لك وأمرتُك بحفظه؟ قال: هو حاضرٌ يا أمير المؤمنين، قال: فأتني به، ثم دعا بجماعة من الغلمان والخدم، وأمرَهم أن يحفروا في البيت حفرة عميقة، ودعا مسرورًا وأمره بقتلهما ودفنهما مع أمهما في الحفرة رحمهم الله جميعًا، وهو مع ذلك يبكي بكاءً شديدًا، حتى ظننتُ أنه قد رحمهما، ثم مسح عينَيه من الدموع، وأمر أن لا تُذكَر البرامكة في مجلس.

وشاهد عِظَم مصيبتهم وما صاروا إليه من الذل ما قاله محمد بن غسَّان صاحب ولاية الكوفة وقاضيها، قال: دخلتُ على أمي في يوم عيد أضحى، فرأيتُ عندها عجوزًا في أطْمارٍ رثَّة، وإذا لها بيانٌ ولسان، فقلتُ لأمي: مَن هذه؟ قالت: هذه خالتك عتَّابة أم جعفرٍ البرمكيِّ ابن يحيى، فسلَّمتُ عليها وقلتُ لها: أصار بك الدهر إلى ما أرى؟ قالت: نعم، يا بني إن الذي كنا فيه كان عاريَّةً ارتجعَها الدهرُ منا، قال: فقلت: حدِّثيني ببعض شأنك؟ قالت: خُذْه جملة، لقد مضى عليَّ عيدُ أضحى مثلُ هذا منذ ثلاث سنوات، وعلى رأسي أربَعُمائة وصيفة، وأنا أزعم أن ابني عاقٌّ لي، وقد جئتُكم اليوم أطلب جِلدَي شاة أجعل أحدَهما شِعارًا والآخرَ دِثارًا. قال: فغمَّني ذلك وأبكاني، فوهبتُ لها بعضَ دنانيرَ كانت عندي، وقال يحيى بن خالد لابنه جعفر: يا بني، ما دام قلمك يرعف، فأمطِرْه معروفًا. اﻫ. وحسب الناس فِعل الرشيد غِلظةً وحماقةً فأكثر الشعراءُ من التورية في ذلك، منه قول أبي نواس:

ألا قل لأمينِ اللهِ
وابنِ القادةِ الساسَة
إذا ما ناكِثٌ سَرَّ
كَ أنْ تُفقِدَه راسَهْ
فلا تَقتُلْه بالسيفِ
وزوِّجْهُ بعبَّاسَة

وعن الطبري قال: ذكر أبو محمد اليَزيدي — وكان فيما قيل مِن أعلم الناس بأخبار القوم — قال: مَن قال: إن الرشيد قتل جعفرَ بن يحيى بغير سبب يحيى بن عبد الله بن حسن فلا تُصدِّقه؛ وذلك أن الرشيد دفَع يحيى إلى جعفر فحبسه، ثم دعا به ليلة من الليالي فسأله عن شيء من أمره، فأجابه، إلى أن قال: اتَّقِ الله في أمري، ولا تتعرَّض أن يكون خصمُك غدًا محمدًا ، فوالله ما أحدثتُ حدثًا ولا آوَيتُ مُحدِثًا! فرقَّ عليه وقال له: اذهب حيث شئتَ من بلاد الله، قال: وكيف أذهب ولا آمَنُ أن أُؤخَذ بعد قليل فأُرَدَّ إليك أو إلى غيركَ؟ فوجَّه معه مَن أدَّاه إلى مأمَنِه. وبلَغ الخبرُ الفضلَ بن الربيع من عبدةٍ كانت له عليه من خاصِّ خدَمِه، فدخل على الرشيد فأخبره، فأراه أنه لا يَعبأ بخبره، وقال: ما أنت وهذا لا أم لك! فلعلَّ ذلك عن أمري، فانكسَر الفضل، وجاءه جعفرٌ فدعا بالغذاء فأكلا، وجعل يُلقمه ويُحادثه، إلى أن كان آخر ما دار بينهما أنْ قال: ما فعل يحيى بن عبد الله؟ قال: باقٍ يا أمير المؤمنين في الحبس الضيق والأكبال، قال: بحياتي؟ فأحجم جعفرٌ وكان من أرقِّ الخلق ذهنًا وأصحِّهم فكرًا، فهجس في نفسه أنه قد عَلم بشيء من أمره، فقال: لا وحياتك يا سيدي، ولكن أطلقتُه، وعلمتُ أنه لا حياة له ولا مكروه عنده، قال: نِعمَ ما فعلت، ما عدَوتَ ما كان في نفسي. فلمَّا خرج أتْبعَه بصرَه حتى كاد أن يتوارى عن وجهه، ثم قال: قتلَني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتُلْك! فكان مِن أمره ما كان.

وأكثرَ الشعراءُ من المراثي فيهم بما لو جُمِعَ لأتى بمجلَّد ضخم، فمن ذلك قول الرقاشي، ويُرْوَى أنه لأبي نُواس:

ألانَ استرَحْنا واستراحَت رِكابُنا
وأمسكَ مَن يجذي ومَن كان يَجْتدي
فقُل للمَطايا: قد أمِنتِ مِن السُّرى
وطيِّ الفيافي فَدْفدًا بعد فَدفدِ
وقل للمنايا: قد ظَفِرتِ بجعفرٍ
ولن تَظفَري مِن بعده بمُسوَّدِ
وقل للعَطايا بعد فضلٍ تَعطَّلي
وقل للرَّزايا كلَّ يومٍ تجدَّدي
ودونَك سيفًا برمَكيًّا مهنَّدًا
أُصيبَ بسيف هاشميٍّ مهنَّدِ

وكان قتلُ جعفرِ بن يحيى في ليلة السبت أول ليلة من صفر سنة ١٨٧ وهو ابن سبع وثلاثين سنة وكانت الوزارة إليهم سبعَ عشْرةَ سنة.

١  يُكثِر الشعراء في التغزُّل ذكر أسماء متعددة في القصيدة الواحدة مثاله: قوله (أرسلَت أسماء) ثم قوله في استعطافها: (فاقبلي يا هند)، ولا ريب أن هذا القول صادرٌ عن مقاصدَ خصوصية، لا عن حاسات عشقية؛ إذ لم يَرِد مثلُ هذا في قول كثير أو جميل أو عروة أو مصعب، وهم من العشاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤