الفصل العاشر

العاطفة والانتباه

تشير كافة الأدلة المتعلقة بوجود رسائل عاطفية في الإعلانات إلى دورها المحوري في جذب الانتباه.

إيريك دو بليسي
«العقل والإعلان» (٢٠٠٥)

آمل أن أكون قد تمكَّنتُ إلى الآن من تكوين قضية مقنِعة بخصوص فكرة أن الإعلانات قادرة على التأثير على عواطفنا عند مستوياتٍ منخفضة من الانتباه، وربط هذا التأثير بالعلامات التجارية. ولكننا نواجه مشكلةً في هذا الصدد؛ أفادتْ بعض الأبحاث بأن المستويات المرتفعة للرسائل العاطفية في التواصل «تزيد» من مقدار الانتباه الذي نُعيره إيَّاها.

إن كان هذا الأمر ينطبق على صناعة الإعلان كما يعتقد الكثير من الناس، فإن الشك يَعتَرِي فكرة أن الإعلانات تؤثِّر علينا عاطفيًّا عند مستويات منخفضة من الانتباه. ببساطة، إذا زادت العاطفة في التواصل من مستوى الانتباه، فإن الإعلانات التي تحمل للمُشاهد محتوًى عاطفيًّا كبيرًا تَحظَى على الأرجح بنسبة أكبر من الانتباه. وإنْ حدث هذا الأمر، فإن المحتوى العاطفي في الإعلانات ستتم معالجته على نحوٍ نَشِط وليس العكس. هذا يهدم الاعتقاد بأن العاطفة قادرة على العمل لا شعوريًّا، بمعنى أن المحتوى العاطفي لم يكن لِيَحظَى بهذا التأثير علينا عند مستوياتٍ منخفضة من الانتباه؛ لأنه لا يمكن أن يتلقَّى أبدًا مستويات منخفضة من الانتباه.

تتذكر من بحث كوفر الوارد في الفصل السابع أن الذين يَعمَلون في مجال الإعلان يعتقدون أن المحتوى العاطفي يَزِيد الانتباه، ومنطقُهم في هذا يتمثَّل في أن الإبداع هو ما يُمكِّن الإعلان من نَيْل الانتباه، ويتشكَّل الإبداع في الأساس من المحتوى العاطفي؛ ومِن ثَم يَحظَى المحتوى العاطفي بالانتباه. وكما هو الحال في أغلب الأحيان، هم مُحِقُّون في جانب ومخطئون في جانب أهم، وفي هذا الفصل سوف أُحاول أن أَصِل إلى عمق هذا التناقض الواضح.

الإثارة والانتباه

من المنطقي أن نبدأ في النظر إلى الأبحاث التي تم التوصُّل بناءً عليها إلى هذه النتيجة. ولمعرفة هذا، سنعود بالزمن إلى فترة ستينيات القرن العشرين حيث البحث الذي أجراه دانيال إليس بيرلين. كان الموضوع الأساسي لبحث بيرلين هو دَوْر العاطفة والتحفيز والتعلم، وقد استنتج أن التعلم قائمٌ في الأساس على الفضول الذي تحرِّكه الفروق بين الأشياء التي نتعلمها؛ ففي الأساس، عندما يكون شيء ما واضحًا وبديهيًّا، فإننا لا نضيع الكثير من الوقت في التفكير فيه، بل يكون الأمر غير الواضح هو ما يُثِير فضولَنا ويَأسِر انتباهنا.

تكمن أهمية بحث بيرلين بالنسبة إلى الموضوع الذي نناقشه في مسألة الإثارة؛ فقد عرَّف بيرلين الإثارة بقياس مستوى «اليقظة وجاهزية رد الفعل لدى الفرد» (بيرلين، ١٩٦٠). وباستخدام تجارب الدراسة اللفظية، اكتشف بيرلين أن العلاقة بين التعلم والإثارة علاقة عكسية، وأفاد بأنه:

يُعتَقَد أن درجةً ما من درجات الإثارة تكون حاسمة، حيث إن درجة الإثارة المنخفضة قد تستبعد التعلم، إلا أن تلك الدراسات اللفظية تُشِير بقوة إلى أن درجة الإثارة العالية قد تُعِيق التذكُّر أثناء المراحل الأولى للتعلم. (بيرلين، ١٩٦٤)

إذن وصولًا إلى ما يمكن أن نُطلِق عليه المستوى «الأمثل» من الإثارة، يزيد انتباهنا وتصبح قدراتنا المعرفية أقوى ويتحسن تعلُّمنا وتذكُّرنا. وإذا تجاوزنا هذا المستوى الأمثل للإثارة، تتناقص قدرتنا على التركيز والتعلُّم والتذكُّر.

بعبارة أخرى، حتى مستوًى معين، تدفعنا الإثارة إلى أن نكون أكثر تحفُّزًا ودافعيةً ويقظةً، وكذلك تجعلنا أكثر استعدادًا للفهم والتعلم. ولكنْ إنْ تعرضنا للإثارة الزائدة (الإثارة الزائدة عن الحد أو التحفيز المبالَغ فيه)، فإن منحنَى إدراكنا الحسي وتعلمنا يبدأ في الهبوط. ومثال على ذلك عندما تقود سيارتك بسرعةٍ، فكلما زادت السرعة زادت درجة إثارتك، وارتفع مستوى انتباهك، وأصبحتَ أكثر تركيزًا. ولكنْ إذا كنتَ تقود سيارتك بسرعةٍ زائدةٍ عن الحد، فإنك تُصبح مُثارًا إلى حدٍّ مُبالَغ فيه، وتبدأ قدْرتك على التعلم في الانهيار، وهو ما قد يدفعك إلى فقدان التحكم والتعرض لحادث، وبعد وقوع الحادث ستجد نفسك غير قادر على تذكر تفاصيل ما حدث.

تضمَّنت نظرية بيرلين فكرة أن الإثارة لا تحركها فحسب المتغيرات العاطفية السلبية (مثل الخوف أو الصدمة أو غيرهما)، ولكن التحفيز العاطفي الإيجابي والمثيرات التي تنطوي على نوع من الإثابة يزيدان من درجة الإثارة، وقد توصَّل إلى هذه النتيجة فيرنر كروبر ريل، أحد أساتذة التسويق البارزين في جامعة سارلاند. وانطلاقًا من نظرية بيرلين التي تُفيد بأن الإثارة الناتجة عن المثيرات تحدد مقدار الانتباه الذي يُمنَح لتلك المثيرات، افترض كروبر ريل أن المحتوى العاطفي في الإعلان من ضمن محفزات الانتباه. وتُفيد نظريته المعروفة باسم «نظرية التنشيط» بأن المحتوى العاطفي لمُثيرٍ ما يُحفِّز التنشيط «المرحلي» (الإثارة) ويعزز التنشيط معالجة المعلومات (كروبر ريل، ١٩٨٠).

ولاختبار تلك النظرية، اعتمد كروبر ريل على بحث دراسي لتتبُّع حركة العين يُقيِّم مستوى الانتباه للإعلانات المطبوعة التي تم تعديلها بحيث تُعطِي مستويات مختلفة من المحتوى العاطفي. وبحسب كروبر ريل، فإن «تركيز العين يعمل كمقياس سلوكي لمعالجة المعلومات» (كروبر ريل، ١٩٨٠). وكما أكَّدتُ في الفصل السادس، فإن أعيننا لا تتحرك بشكلٍ سلس في مجال الرؤية، ولكنها تثبت تركيزها على نقاط متتالية في مجموعة من الحركات السريعة تُعرف باسم «رمشات» (هيوي، ١٩٦٨). وأثناء حركة تثبيت التركيز هذه يمكننا التعرف على جميع التفاصيل في المنقطة المركزية فقط، وإذا أراد المخ التعرف على المزيد من المعلومات، فإنه يأمر العين على مستوى اللاوعي بجعل الرمشات أسرع وبجعل زمن تثبيت تركيز العين أقصر؛ ومن ثَمَّ فإن عدد مرات تثبيت التركيز في الثانية الواحدة يُعَدُّ مؤشرًا دقيقًا لكمية الجهد المعرفي الذي يتم بذله داخل أدمغتنا، وهو ما يعني أيضًا أن هذا العدد بمثابة مؤشر دقيق لمستوى الانتباه؛ فالعدد الأعلى من التثبيتات (الأقصر زمنًا) يشير إلى مستوًى أعلى من الانتباه والعدد الأدنى من التثبيتات (الأطول زمنًا) يدل على مستوًى منخفض من الانتباه (رينر، ١٩٩٨).

أكدت تجارب كروبر ريل أن الإعلانات المطبوعة التي تتضمن محتوًى عاطفيًّا أكبر تَحظَى بمستوًى أعلى من الانتباه، ويتم تذكُّرها على نحو أفضل من الإعلانات التي لا تتضمن محتوًى عاطفيًّا (كروبر ريل، ١٩٧٩). وكما أشرتُ سابقًا، فإن نتائجه تدعم الفكرة السائدة بين الشركات المعلنة والتي مفادها أن المستهلكين ليسوا بحاجة إلى مشاهدة الإعلانات وأن الجانب العاطفي من الإبداع هو ما يحفزهم لأن ينتبهوا ويتلقَّوا الرسالة.

ولأن الفكرة القائلة بأن «العاطفة تؤدي إلى الإثارة» وأن «الإثارة تؤدي إلى الانتباه» تبدو منطقية، فإنها تحولت من مجرد نظرية إلى فكرة شائعة جدًّا؛ فعلى سبيل المثال، يرى راي وباترا أن «الناس يوجِّهون انتباههم إلى الإعلان الذي ينطوي على مضمون عاطفي» وأن «العاطفة تعزز درجة المعالجة أو التأثر بالإعلان» (راي وباترا، ١٩٨٣). ويزعم بيل أن العاطفة بمثابة محفِّز لتكرار المشاهدة: «الاستجابة العاطفية للإعلان تحكم قرار التأثر به أكثر» (بيل، ١٩٩٠). تبنَّى بيتر دويل رؤية مشابهة لوجهة نظر بيل، وأكد أنه «إذا أثار الإعلان لدى المستهلكين مشاعر سلبية أو محايدة، فإنهم سيتجنبون مشاهدته» (دويل، ١٩٩٤). وربما كان أشهر مَن تبنَّى هذه الرؤية إيريك دو بليسي الذي افترض أن «العاطفة تحكم سلوكنا وتحدد ما يصير ضمن العقل الواعي»، وأفاد بأن «العاطفة تلعب دورًا محوريًّا في توجيه انتباهنا» (دو بليسي، ٢٠٠٥).

ولكن، هل كل هؤلاء على صواب؟ هل تحفِّز العاطفة الانتباه وتنشِّط الذاكرة فيما يخص الإعلان؟ أعتقد أن الإجابة هي «لا» لأن الأبحاث التي استندتْ إليها تلك النتائج لا تنطبق على صناعة الإعلان.

عيوب أبحاث الانتباه

إن تحديد مستويات الانتباه بشكل آنيٍّ تُعَدُّ مهمة صعبة، ليس فقط لأن مستويات الانتباه تختلف بسرعة هائلة، ولكن لأن الناس لا يلحظون بوعيٍ ما ينتبهون إليه. وبالطبع هناك أدلة موثَّقة على أن الناس في معظم الأحيان لا يُدرِكون ما ينتبهون إليه أو مقدار الانتباه الذي يعيرونه في لحظة من اللحظات (دينيت، ١٩٩٣). ولهذا السبب، استخدمت دراسات عديدة مقاييس غير دقيقة لتقييم مستويات الانتباه؛ فعلى سبيل المثال، أحد الكتب الأكاديمية الشهيرة استشهد ببحث يشير إلى أن «نسبة فقدان الانتباه تصل إلى ١٧٪»، في حين كانت الدراسة تقيس في واقع الأمر نسبة التذكر والإقناع (روسيتر وبيرسي، ١٩٩٨)، وأكدت دراسة أخرى في ثقة أن «الانتباه يُسهِم إسهامًا مباشرًا في زيادة الرغبة في الشراء»، في حين كانت الدراسة تحدد ما إذا كان الناس «يعتقدون» أن الإعلانات يمكن أن تجذب انتباههم (كرامفورن، ٢٠٠٦).

ومن أبرز العيوب أيضًا ذلك الافتراض بأن العلاقة بين الانتباه ونمط واحد من العاطفة تنطبق على كافة أنماط العاطفة، فقد أوضحتْ تجارب علم النفس أن الأحداث العاطفية الصادمة تَحظَى بنسبة تذكُّر مرتفعة، وتزيد الوجوه المخيفة مستوى الإدراك الحسي، وتستحوذ الوجوه الغاضبة على انتباهٍ أعلى من الوجوه السعيدة (كرييستيانسن، ١٩٩٢، هانسين وهانسين، ١٩٩٤، فيلبس وآخرون، ٢٠٠٥). ولكنَّ مِثْل تلك العواطف السلبية قلما تجده في إعلانات أخرى بخلاف إعلانات الخدمات العامة؛ فإعلانات العلامات التجارية تستخدم المحتوى العاطفي الإيجابي فقط.

هناك عيب مماثل في الافتراض مفاده أن العلاقة بين العاطفة والانتباه تظل كما هي بغض النظر عن مقدار المحتوى العاطفي. عزز كروبر ريل الذي استخدم في تجربته نظام تتبُّعٍ للعين على قدْرٍ عالٍ من الموثوقية لقياس الانتباه مثيراته باستخدام صور شهوانية شبه عارية، وهي شيء يؤدي إلى الإثارة على نحو شبه مؤكد. ولكن الإعلانات في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة ممنوعة من استخدام صور عارية وتتجنَّب استخدام محتوًى عاطفيٍّ مُفرِط أيضًا. تميل الإعلانات المعاصرة إلى استخدام عناصر معينة مثل بعض الشخصيات التي تعبر عن مسحة عاطفية خفيفة (حنو، إثارة، انفعال، ملل، فضول، ترفيه … إلخ) ومواقف هزلية ومؤثرة ومثيرة للمشاعر، ولقطات بصرية مصمَّمة بأسلوب جميل واحترافي، وموسيقى ترفع الروح المعنوية أو تُسعِد مَن يسمعها. بالتأكيد كل هذه وسائل لا تحفِّز الجمهور على التجاوب مع الإعلان بقدْر ما تحفِّزه الصور الشهوانية.

رابعًا: الافتراض بأن استجابة العاطفة-الانتباه ستظل على حالها بغض النظر عن السياق أو الموقف. ولقد أظهرتْ بعض التجارب أن وجود أهداف المعالجة «من العام إلى الخاص» تساهم في زيادة درجة الانتباه، ولكن بعض تجارب العاطفة-الانتباه تعتمد على ردود أفعال الناس على الأحداث المعروضة في نشرات الأخبار والأفلام الوثائقية، وهي مواد إعلامية تَحظَى بدرجة انتباه أعلى بكثير مما تَحظَى به الإعلانات.

في الواقع جميع الأبحاث النفسية التجريبية تقريبًا تحدث في أجواءٍ معملية معروف عنها أنها تثير درجة عالية من الانتباه والمعالجة من «العام إلى الخاص». ومن المتعارف عليه أيضًا أن الناس يُعِيرون قدرًا أكبر من الانتباه في حالة تحفيزهم للمشاركة في التجربة.

وعلى النقيض، تشاهد التليفزيون في منزلك بالأساس رغبةً في الاسترخاء والاستمتاع (باوايز وإرينبرج، ١٩٩٨). لا يَفرِض عليك أحد أن تنتبه، وبالتأكيد لا يفرض عليك أحد أن تُعِير انتباهك للإعلان. وهو ما يطرح في هذا الصدد سؤالًا مهمًّا: هل يُعِير مشاهدو التليفزيون قدرًا من الانتباه يكفي لأن تتم إثارتهم حتى من خلال الإعلانات التي تركز أيَّما تركيز على الجانب العاطفي؟ تشير دراسات حديثة إلى أنه «ليس هناك دليل على ضرورة ظهور تأثيرات منتظمة لمعالجة أهداف الانتباه للإعلانات في ظل ظروفٍ عادية» (بيترز وويدل، ٢٠٠٧).

وعندما تفتقر المعالجة لأي تحفيزٍ أو هدف، تصبح حرة (أي لا تدفعها أي مثيرات). وقد اتضح أن هذا الأمر يرتبط بمستويات انتباه «منخفضة» على نحو يفوق المشاهدة الموجهة بالهدف؛ ومن ثَمَّ إن لم تكن تعمل في صناعة الإعلان، فإن الطريقة التي تتعامل بها مع الإعلانات وخصوصًا المعروضة على التليفزيون ستكون على الأرجح مفتقرة لأي تحفيز، وستكون معالجة «حرة» مدفوعة بالمثير. ولكن لم يتم إجراء أي تجارب نفسية تبحث الطريقة التي يستجيب بها الناس للإعلانات التليفزيونية الواقعية التي تُعرض عليهم في برامج تليفزيونية واقعية في ظروف مشاهدة واقعية؛ ومن ثَمَّ فإن النظرية القائلة بأن المحتوى العاطفي للإعلانات يزيد نسبة الانتباه لم يتم اختبارها عمليًّا على الإطلاق.

لذا، قررتُ في عام ٢٠٠٣ أن أقوم بالتجربة بنفسي كجزء من رسالة الدكتوراه.

قياس تأثير المحتوى العاطفي على الانتباه

كانت الخطوة الأولى تتمثَّل في معرفة الكيفية التي يتم بها قياس الانتباه بدقة وعلى نحو فوري، وكان الحل متمثلًا في طريقة كروبر ريل باستخدام قياس تثبيت العين. الكاميرات الحديثة لتتبُّع حركة العين صغيرة الحجم وخفيفة الوزن بحيث يمكن إخفاؤها، وهي تسمح بتصوير وقياس عدد مرات تثبيت العين مع كل ثانية بدرجة كبيرة من الدقة.

السؤال الثاني الذي أودُّ طرحَه يتعلق بحقيقة وجود أي خلفية نظرية تشير إلى طبيعة العلاقة بين الانتباه والعاطفة في الإعلانات التليفزيونية. وكما أوضحتُ سابقًا، أفاد داماسيو أن العواطف تتم معالجتها قبل المعرفة لا شعوريًّا وهي مستقلة عن الذاكرة العاملة. وهناك آخَرون يدعمون تلك النتائج إلى حدٍّ كبير؛ فعلى سبيل المثال، هناك بحثٌ علمي أشرف عليه ١٢ من علماء النفس البارزين برئاسة جافان فيتزيمونز حدد ثلاثة أنماط للاستجابة العاطفية: التقييم والحالة المزاجية والعاطفة. ويضيف فيتزيمونز أن «هناك أدلة كثيرة على العمليات اللاشعورية ضمن كل فئة من الفئات الأساسية للاستجابات العاطفية» (فيتزيمونز وآخرون، ٢٠٠٢).

وتتسق نتائج داماسيو أيضًا مع نماذج استخدام الجهد المعرفي التي تتوقع أن تقييم العاطفة في الإعلان يمكن أن يحدث فقط في حال وجود مستوياتٍ منخفضةٍ إلى متوسطة من القدرة المعرفية (ماكينيس ويافورسكي، ١٩٨٩، مايرز-ليفي وبيراكيو، ١٩٩٢). هذا يوحي بأن المحتوى العاطفي في إعلانات العلامات التجارية المتلفزة والمعروضة في ظروف مشاهدة طبيعية هادئة يجب أن تتم معالجته دون استخدام الكثير من الجهد المعرف؛ أي بمستويات انتباه منخفضة.

وقد سمح هذا الأمر بتقديم تفسيرٍ بديل بناءً على نظرية مطابقة الجهد المعرفي (بيراكيو ومايرز-ليفي ١٩٩٧، تشو ومايرز-ليفي ٢٠٠٥). وقد تنبَّأ هذا التفسير بأنه ما لم يكن التحفيز ناتجًا عن عوامل أخرى (كعملك بصناعة الإعلان مثلًا)، فسيتم التعامل مع الإعلانات التليفزيونية باعتبارها مثيرات وبدون وجود توجُّه بهدف معين ذي مستوًى أعلى. وفي هذه الحالة، يقرر المخ أن الإعلان الذي تضمن الكثير من المحتوى العاطفي يحتاج إلى القليل من الجهد المعرفي كي يتعامل معه؛ ومن ثَمَّ يتم على الأرجح بذل مستويات منخفضة نسبيًّا من الجهد المعرفي (الانتباه). والموقف المعاكس هو أن يقرر المخ أن الإعلانات التي لا تنطوي على محتوًى عاطفي تحاول توصيل رسالة عقلانية ما؛ ومن ثم قد تكون هناك حاجة إلى بذل جهد معرفي أكبر نسبيًّا (الانتباه).

لذا، فإن الفرضيتين اللتين اختبرتُهما على النحو التالي:
  • إن كانتِ الرؤية التقليدية صحيحة، فستكون معالجة الإعلانات التليفزيونية منهجية وموجَّهة بالهدف؛ ومن ثَمَّ لا يُعير المشاهِدون درجة انتباه عالية للإعلان الذي يتضمن محتوًى عاطفيًّا أقلَّ، ويُعيرون انتباهًا أكبر للإعلانات التي تتضمن محتوًى عاطفيًّا أكبر على اعتبار أن الأخيرة تكون أكثر إبداعًا وأكثر «مشاهدة».

  • ولكن إن كانت الرؤية القائمة على أساس علم النفس — والتي تقضي بأن التعامل مع الإعلانات التليفزيونية عملية تلقائية في الأساس مدفوعة بالمثيرات — صحيحة، فإن مستويات الانتباه تتحدد بالجهد المعرفي اللازم لمعالجة المُثير أو التعامل معه. وفي هذه الحالة، فإن الإعلانات ذات المحتوى العاطفي الأعلى سوف تَحظَى بانتباه أقلَّ من الإعلانات الأدنى في محتواها العاطفي؛ ومن ثم يُنظر إليها باعتبارها تركز أكثر على التواصل العقلاني.

ولجعل التجربة ذات مصداقية، تعيَّن عليَّ تهيئة ظروف مشاهدة أقرب إلى الواقعية قدْر الإمكان؛ ومن ثَم اخترتُ حلقة من المسلسل الكوميدي الشهير «فريزر»، وقمتُ بإضافة ١٢ إعلانًا تليفزيونيًّا بطريقة حرفية في ثلاث فقراتٍ إعلانية ضمن المسلسل. تمَّ قياس المحتوى العاطفي للإعلانات في اختبارٍ منفصل، حيث تم عرض ٢٦ إعلانًا كانت تُذاع في تلك الفترة على عينة من بعض الطلاب الجامعيين، وتم قياس المحتوى العاطفي باستخدام مجموعة من المقاييس المأخوذة من دراسة أمريكية واسعة النطاق (هولبروك وباترا، ١٩٨٧). وأخيرًا تم اختيار الإعلانات الست ذات المحتوى العاطفي الأعلى والإعلانات الست ذات المحتوى العاطفي الأقل من أجْل بحثنا.

كان من المهم ألَّا يُدرك أيٌّ من العيِّنات المشاركة في الدراسة البحثية الرئيسية أننا مهتمون بالإعلان. كان المشاركون في الأبحاث الأخرى قد تم تعريفهم بهذا الاهتمام، وهذا التعريف يزيد في الغالب بشكل مصطنع نسبةَ الانتباه للإعلانات (شميت، ١٩٩٤). ولعدم تعريف المشاركين باهتمامنا بالإعلان، تم جمعهم عبر رسالة إلكترونية أرسلها إليهم قسم الصيدلة يطلب فيها منهم المشاركة في إحدى الدراسات لاختبار تأثير مشاهدة التليفزيون على العين.

تم تزويد كل فرد مشارك في التجربة بكاميرا تتبُّع للعين خفيفة الوزن تُركَّب على الرأس، وطُلب منهم الجلوس على مسافة من التليفزيون يَرَوْنها مناسِبة. لم يتم إعطاؤهم أي تعليمات أخرى، وكانت لديهم الحرية في تحريك الرأس والجسم كما يريدون. في الواقع، فضلًا عن ذلك طُلب منهم ارتداء قلنسوة ضيقة خفيفة الوزن وارتداء عدسة شفافة عاكسة في المحيط السفلي من العين اليسرى، وذلك لجعل المشاركين يشعرون وكأنهم في المنزل.

وبخلاف المحتوى العاطفي، كان هناك عددٌ من العوامل يُعتقد أنها تؤثر على مستوى الانتباه للإعلان:
  • مشاهدة الإعلان من قبلُ، وهي الأمر الذي كان من المتوقَّع أن يُقلِّل من مستوى الانتباه للإعلان عند مشاهدته مرة أخرى (كروجمان، ١٩٧٢، بيراكيو ومايرز-ليفي، ١٩٩٧).

  • استخدام المنتج أو العلامة التجارية المعلن عنها، وهو الأمر الذي كان من المتوقع أن يزيد مستوى التجاوب؛ ومِن ثَمَّ يزيد مستوى الانتباه للإعلان (بيتي وكاتشوبو، ١٩٨٦، ماكينيس يافورسكي، ١٩٨٩).

  • الإعجاب بإعلان محدد، وهو الأمر الذي كان من المتوقَّع أن يزيد مستوى الانتباه (بيل، ١٩٩٠، دو بليسي، ٢٠٠٥).

تعيَّن عليَّ التأكد من عدم تداخل هذه العوامل مع النتائج؛ ومِن ثمَّ تمَّ قياس العوامل الثلاثة (مشاهدة الإعلان من قبل، واستخدام نوعية المنتج المعلن عنه، والإعجاب بإعلان محدد) بعد مشاهدة المشاركين للبرنامج التليفزيوني وقياس تثبيتات العين مع كل ثانية. وأثناء هذه الخطوة أيضًا قمتُ بإعادة تقييم رأي المشاركين في المحتوى العاطفي لكل إعلان معروض.

ولكن كيف كانت النتائج؟ أوضحت التجربة أن هناك علاقة بين المستويات المرتفعة للمحتوى العاطفي وانخفاض لمستويات الانتباه يبلغ متوسطه ٢٠٪. بمعنًى آخَر، اتَّضَح أن الافتراض العام بأن المحتوى العاطفي يُساهِم في ارتفاع نسبة الانتباه للإعلانات التليفزيونية هو ببساطة افتراض خاطئ، بل على العكس، وكما تتنبأ نظرية علم النفس، فإن المحتوى العاطفي يقلل من نسبة الانتباه للإعلانات التليفزيونية (هيث وآخرون، ٢٠٠٩).

تسلِّط هذه النتائج الضوء على نقطة مهمة تتمثل في حالة العقل أثناء مشاهدة الإعلانات التليفزيونية بشكل طبيعي. اعتمد القائمون على صناعة الإعلانات لسنوات على الافتراض القائل بأن الجمهور المستهدَف (أنت وأنا) يتم تحفيزه من خلال حاجتنا للمشاهدة ومحاولة الفهم ولو لجزء بسيط مما نراه عندما نشاهد الإعلانات التليفزيونية. ولكن يبدو أنه في ظل ظروف المشاهدة العادية لم يكن لدى المشاركين هذا النوع من التحفيز فيما يتعلق بتلبية احتياجاتهم. أما بالنسبة للمتغيرات الأخرى، فلم يكن لديهم قدْر من الانتباه لإعلانات العلامات التجارية أو المنتجات التي يستخدمونها أكبر من الإعلانات التي تَعرِض العلامات التجارية أو المنتجات التي لا يستخدمونها. هم كانوا يُعيرون المستوى نفسه من الانتباه للإعلانات التي أعجبتْهم والتي لم تعجبهم. وعندما شاهدوا إعلانات كانوا قد شاهدوها من قبلُ، لم تنخفض درجة الانتباه كثيرًا. ولكن الأمر الأهم أنه عندما كانت الإعلانات إبداعية وتضمَّنتْ محتوًى عاطفيًّا، لم يُعِيروها انتباهًا أكبر بل أقلَّ.

إن التفسير المنطقي الوحيد لتلك النتائج هو أن المشاهدين الذين يكونون في حالة استرخاء عند مشاهدتهم الإعلانات التليفزيونية يميلون على ما يبدو إلى المعالجة المدفوعة بالمثيرات، وليس المعالجة الموجهة بالأهداف. وبالطبع، لهذ الأمر تأثيرٌ مهم على الطريقة التي يتم بها التعامل مع الإعلانات. ولأننا نُعير انتباهًا أقل للإعلانات ذات المحتوى «الإبداعي» العاطفي، فإن قدرتنا تكون أقل على معارضتها، وهذا يعني أننا نكون أكثر استعدادًا لقبول جزء الرسالة الذي نتعامل معه بالفعل. وبالمثل فإن المحتوى العاطفي ذاته — الذي ستتم معالجته بأكمله (لأن المعالجة العاطفية تحدث تلقائيًّا وعلى الفور ودون الحاجة لأي انتباه) — سيدخل حيز اللاوعي دون أي معوقات، فالدور الذي يلعبه الإبداع لا يجعلنا يقظين ومنتبهين بل يجعلنا «أقل» انتباهًا و«أكثر» تأثرًا.

دراسة حالة: أوديسا ليفايز

ختامًا لهذا الفصل، أودُّ أن أُخبركم بتجربةٍ أخرى قمتُ بها تتعلق بقياس مدى انتباهنا للإعلانات. وفي هذه المرة، تمكنتُ من التوصل لعلاقةٍ مباشرةٍ بين انخفاض مستوى الانتباه والنجاح في العمل.

اشتُهرت وكالة الإعلان البريطانية بارتل بوجل هيجارتي بتصميمها إعلانًا مبدعًا للعلامة التجارية ليفايز لبنطلونات الجينز. فمع بداية الألفية الجديدة، أطلقتِ الشركة حملة إعلانية تعرض شابًّا وشابة يرتديان ملابس مهلهلة ويخترقان في صمتٍ الجدران والطوابق وفي النهاية يصعدان الأشجار، ويطيران، بينما تُسمَع مقطوعة موسيقية كلاسيكية في خلفية الإعلان. يبدو المشهد غريبًا، ولكنه يشبه مشهدًا في فيلم «ماتريكس» الذي عُرض منذ فترة. وقد حمل الإعلان شعارًا يَظهَر لبضع ثوانٍ فقط: «بنطال ليفايز … مصمَّم لحريَّتك.»

جدول ١٠-١: اختبار كاميرا تتبُّع العين لقياس مدى الانتباه للإعلانات التليفزيونية.
الحملة الإعلانية حالات تثبيت العين لكل ثانية النسبة المئوية إلى البرمجة
فيرست دايركت بنك ٢٫٤٠ ١٦٣٪
سيتروين سي ٣ ٢٫٤٠ ١٦٣٪
صلصة لويد جروسمان ١٫٩٦ ١٣٣٪
عدسات بوتس كونتاكت لينسيز ١٫٩٠ ١٢٩٪
مزيل العرق لينكس ١٫٨٨ ١٢٨٪
جينيس فولكانو ١٫٦٧ ١١٤٪
فولكس فاجن باسات ١٫٦٥ ١١٢٪
أودي ١٠٠ ١٫٦٥ ١١٢٪
فرازير (برنامج) ١٫٤٧ ١٠٠٪
أوديسا ليفايز ١٫١٢ ٧٦٪

أُخبرتُ أن هذه الحملة حققتْ نجاحًا كبيرًا وأدت إلى قفزة مهولة في نِسَب مبيعات العلامة التجارية ليفايز، وعندما عرضتُ هذا الإعلان على الطلاب، اتفقوا جميعًا على أن الإعلان مؤثر للغاية وممتع في مشاهدته. ويمكن للمرء أن يستنتج أن مثل هذا الإعلان يحظى بمستويات عالية من الانتباه.

حدث وأن اختبرتُ هذا الإعلان بنظام قياس تثبيتات العين كدليل لتجربة رسالة الدكتوراه التي أشرتُ إليها في هذا الفصل. وقد توقعتُ أن تكون نسبة الانتباه مرتفعة للغاية، بشكلٍ يفوق باقي الإعلانات، ولكني تفاجأتُ عندما اتضح أن العكس صحيح. الجدول ١٠-١ المبين أدناه يعرض النتائج.

كما تَرَوْن، عدد مرات تثبيت العين لكل ثانية أو مقدار الانتباه الممنوح لإعلان ليفايز كان «الأدنى» بين كل الإعلانات التي خضعت للاختبار؛ حيث بلغ نصفَ مقدار الانتباه الذي حصل عليه إعلان فيرست دايركت بنك، وثلاثةَ أرباع الانتباه الذي حصل عليه البرنامج التليفزيوني. ولكن ما معنى هذه النتائج؟ كما أشرتُ سابقًا، يقيس عدد مرات تثبيت العين لكل ثانية مقدار الجهد المعرفي المبذول، وهو ما يعادل مستوى الانتباه الممنوح. وفي حالة إعلان ليفايز، لم تكن هناك حاجة إلى تفكير نشط لمشاهدة الإعلان؛ فلم تكن هناك أي حوارات أو تعليقات أو أسعار ولا حتى تحديد للمنتج المعروض إلا بنهاية الإعلان. ولأنه لم يكن من «الضروري» بذل الكثير من الجهد المعرفي، لم يفعل أحد ذلك. وانسجامًا مع نظرية مطابقة الجهد المعرفي، احتفظ المشاهدون بجهدهم المعرفي، ولم يُعِيروا أي انتباه. كل ما هنالك أنهم استرخَوْا واستمتعوا بالإعلان.

بطبيعة الحال، هذا لم يجعل الإعلان أقل فعالية، بل على العكس تمامًا؛ فمن خلال الانتباه الاتجاهي (أي النظر إلى الشاشة) ولكن بمستوًى «منخفض» من الانتباه، تمت معالجة المحتوى العاطفي للإعلان على نحو أكثر فعالية وبقدْر أقل من المعارضة، وهو ما جعل المحتوى العاطفي أكبر تأثيرًا بكثير.

وهذا يوصلنا إلى المرحلة الثانية من رحلتنا. قلنا إن الإبداع العاطفي يمكن بسهولة — وعادة ما تتم — معالجته بمستوياتٍ منخفضةٍ من الانتباه. وبفرض أن تلك القِيَم العاطفية يمكن نقلها إلى العلامات التجارية و«تكييفها»، كيف يقنعنا هذا بشراء المنتج؟ هذا ما سيتم عرضه في الجزء الرابع.

موجز: العاطفة والوعي

تأكدنا من أن المعالجة العاطفية تحدث ضمنًا وقبل المعالجة النشطة والخاملة. وهذا يعني أننا حددنا الآن دور المعالجة التلقائية والتعلم الضمني؛ فهذان هما المسئولان عن معالجة العاطفة في الإعلان والتأثير على مشاعرنا تجاه الإعلان. ونمثل هذا بالخط المنقط في الشكل ١٠-١.
fig3
شكل ١٠-١: رسم تخطيطي موجز لسيكولوجية التواصل.

كذلك نستطيع أن نُظهِر الكيفية التي يتفاعل بها الوعي مع التعلم، فمن خلال نظرية «المسودات المتعددة» لدينيت يمكننا الآن تصور طيف الانتباه والوعي الذي يمتد من أعلى الرسم البياني إلى أسفله.

  • في الجزء العلوي لدينا المعالجة الواعية تمامًا والمنتبهة على نحو كبير، والتي من الصعب الحفاظ على استمراريتها، ونادرًا ما تتم مع الإعلان.

  • في الجزء السفلي لدينا معالجة اللاوعي التلقائية تمامًا، والتي تعمل بشكل مستمر ومن دون توقف. وهي لا تعالج إلا الإدراكات الحسية وترتبط بالتصور.

  • لدينا الآن في منتصف الرسم البياني منطقة تقابل شبه الوعي، حيث التعلم السلبي. ويمكننا الآن إعادة تفسير هذا بكونه «وعيًا متقلبًا مع نسيان سريع» وهو ما يفسر لنا منطقيًّا عدم قدرة التعلم السلبي على التحليل الفعال.

لأن معالجة العاطفة تحدث تلقائيًّا فإنها لا تتأثر بالتصفية الإدراكية الحسية والجدل المضاد. حيث تؤدي المعالجة العاطفية أحيانًا إلى إثارة مشاعر لا يمكن استبعادها أو رفضها (على الرغم من إمكانية كبْت التعبير عن هذه المشاعر). ولكن ما لم نتمكن من التثبُّت منه حتى الآن هو وجود أي رابط بين العواطف والمشاعر وتغيير المواقف وتغيير السلوك. وهو ما سوف نتناوله في الجزء الرابع، الذي يتناول صنع القرار والعلاقات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤