الفصل السادس

آلية التواصل

حتى يتسنى لي كتابة هذه الجُمَل على جهاز الكمبيوتر، يتوجب عليَّ استرجاع الكلمات والقواعد النحوية التي تعلمتُها منذ أمَدٍ بعيد، ومع هذا فإني لا أمتلك أي ذكرى تتعلق «بتذكُّرها».

دانيال شاكتر
«البحث عن الذاكرة» (١٩٩٦)

حدَّدنا في الفصل الرابع ثلاثة أنواع للتعلُّم؛ النَّشِط: الذي يتطلَّب درجة انتباه عالية، والسلبي: الذي لا يستدعي سوى انتباه محدود، والضمني: الذي لا يتطلَّب أي انتباه. وأكَّدنا في الفصل السابق أنها تتفاعل مع مختلف أنواع أنظمة الذاكرة، كما اكتشفنا أن الذاكرة الضمنية — أي منظومة الذاكرة التي يتَّصل التعلُّم الضمني بها — قادرة على تخزين كلٍّ من الإدراكات الحسية والمفاهيم.

وإذا ما أردنا أن نفهم الآلية التي تتم بها معالجة التواصل من أي نوع فإن علينا أولًا التعرف على العمليات المختلفة التي تشكِّل هذه المعالجة. ربما يبدو هذا الكلام بلا معنًى، ولكنَّ ما أحاول قَوله هو أنه على الرغم من أن الأمر يبدو وكأننا نقوم بمعالجة التواصل ككلٍّ كحدث واحد، فإن هناك من الناحية العملية أنواعًا مختلفة من النشاط العقلي، وهي تتواصل مع أجزاء مختلفة من ذاكرتنا. وأول أنواع هذا النشاط العقلي هو الإدراك الحسي.

الإدراك الحسي

يرى شاكتر فيما يتعلَّق بنظام التمثيل الإدراكي أن أول فعل عقلي في أي معالَجة للتواصل هو إدراك الشيء حسيًّا، فنحن نُدرِك الظواهر التي تحيط بنا من خلال حواسنا، من خلال رؤيتها، والاستماع لها، وأيضًا عن طريق لَمْسها، وتذوُّقها، وشمِّها، أما الحاستان المتصلتان بالإعلان فهما البصر والسمع. ولاحظ أن كلمة «إدراك» لا يتم استخدامها بمعنى التحوُّط أو الحَذَر أو التيقُّظ، ولكن يُقصد بها أبسط معانيها، وهو «إدراك» الظواهر حسيًّا.

لتسليط الضوء على الإدراك الحسي دعني أتحدث عن قصة أخرى تتعلَّق بقيادة السيارة: تخيَّل أنك تقود سيارتك على الطريق السريع وأضاءت مصابيح الفرامل في السيارة التي أمامك، إن ملاحظة هذه المصابيح تعتبر إدراكًا حسيًّا. لاحِظْ أنني لم أقُلْ إن السيارة التي أمامك بصدد التوقُّف، حيث لا يمكنك أن ترى الفرامل وهي تعمل. أنت في الواقع تعجز عن تبيُّن نتيجة تشغيل الفرامل ما لم تُدرِك السيارةَ حسيًّا (أي تراها) وهي تتباطأ بسرعة أو تتوقف.

من المهم بالنسبة لك أن تفهم أن الإدراك الحسي على هذا الشكل عملية تلقائية ولحظية بالكامل؛ ولذلك يجب أن يتم من خلال التعلُّم الضمني. والأمر نفسه عندما تسمع صوتًا، مثل طائرة تحلِّق في السماء فوقك، فلستَ بحاجة إلى أن تنبِّه عقلك إلى إدراك أضواء الفرامل أو صوت طائرة، فهو يقوم بذلك وحسب.

فالأصل في الإدراك الحسي هو أنه تلقائي تمامًا لمنْعنا من الوقوع في مشكلات. فإذا كان الإدراك غير تلقائيٍّ لسقطْنَا في حفرة لا نراها في الرصيف، ولدهستْنا سيارات لم نسمعها وهي تمر، ولَكُنَّا عُرضةً لمختَلِف أنواع المآسي. وأي شخص ارتَطَم رأسه بعارضة منخفضة لأنه فشل في إدراكها حسيًّا (رؤيتها) وهو في منزل قديم سوف يعرف بالضبط ما أتحدث عنه هنا.

لنعد إذن إلى المثال، فلقد أدرك المخ أضواء الفرامل في السيارة الأمامية، وما يحدث بعد ذلك تلقائي أيضًا وهو أننا نقوم «بالتصور». وبعبارة أخرى، نحن نربط معانيَ مختلفة عديدة بالإدراك الحسي.

التصوُّر

كذلك يتحقق التصوُّر تلقائيًّا، بالتوازي مع الإدراك الحسي. وكما ناقشنا في الفصل السابق، فإن المفاهيم تتواجد في الذاكرة الدلالية، ويمكن تعريفها بأنها أفكار تُضفِي المعنى على كلِّ ما يتم إدراكه حسيًّا، فلا بد من توليدها آنيًّا، وإلا فلن تكون هناك فائدة من الإدراك الحسي، فلا جدوى من إدراك وجود حفرة في الرصيف إن لم نكن — في الوقت نفسه — نتصوَّر وقوعنا فيها وإصابتنا.

إذن عندما ندرك أضواء الفرامل حسيًّا؛ أي نراها وهي تُضيء في السيارة التي أمامنا على الطريق السريع، ما المفاهيم التي تتولد لدينا؟ المفهوم الأول هو الخطر؛ فتلك الأضواء لم تُضِئ باللون الأحمر دون سبب. ونحن جميعًا نتصور اللون الأحمر على أنه بمثابة تحذير، فعندما نرى شيئًا أحمر ننتبه بشكل غريزي لا شعوريًّا إلى مشكلات محتملة.

أما المفهوم الآخر الذي يمكن أن يتولَّد من الإدراك الحسي (الرؤية) لأضواء الفرامل الحمراء في السيارة التي أمامنا فهو أنها إما «تتباطأ» وإما «تتوقف». أما حدوث هذا من عدمه فيعتمد على خبرتك في القيادة، فإذا كنتَ سائقًا خبيرًا فعندئذٍ يكون هذا التباطؤ فكرة ضمنية في ذاكرتك الدلالية مرتبطة بالإدراك الحسي لأضواء الفرامل الحمراء على سيارة تتحرك.

المهم هو أن هذا كله يحدث دون اتخاذ أي إجراء من جانبنا، فكلٌّ من الإدراك الحسي والتصور نموذج على التعلُّم الضمني الذي يحدث تلقائيًّا وعلى الفور، وليس لنا سيطرة عليهما ولا سبيل لنا لمنع حدوثهما؛ فهما يحدثان سواء أردنا أم لم نرد. على أن ما يحدث بعد ذلك «يكون» تحت سيطرتنا.

التحليل

مصطلح «التحليل» هو المصطلح الذي أستخدمه لأصف ما نسمِّيه عمومًا بالتفكير. وتعريف التحليل هو «فحص العناصر تفصيلًا» (معجم أكسفورد الموجز، ١٩٩٦). وهذا الفحص، بغضِّ النظر عن مدى كونه عابرًا أو سريعًا، يستلزم منَّا دائمًا توظيف نوع من الجهد الإدراكي مثل الذاكرة للتفكير فيما أدركناه ودراسة أي تصورات تشكَّلت؛ ومِن ثَمَّ فهو إدراك معرفي نبادر به ونتحكم فيه. فلا يمكنك «فحص» الشيء تلقائيًّا بالكامل (على الرغم من أنك تستطيع، كما سنرى أدناه، فحص الشيء على نحو شبه تلقائي).

لذلك أنت أدركتَ أضواء الفرامل الحمراء وربطتَها بمفهوم الخطر أو التباطؤ. وإذا أدركتَ، في الوقت نفسه، أن السيارة التي أمامك تبعد كثيرًا عنك، وربطتَ ذلك بمفهوم «عدم وجود تهديد فوري»، فإن تحليلك للوضْع قد يؤدي إلى ألَّا تفعل شيئًا، أو تزيد من سرعة سيارتك بقدْر ما، ويمكنك أن تفعل هذا بالقليل جدًّا من التفكير. والواقع يجعلك تظن أنك تفعل هذا من دون أي تفكير على الإطلاق. ولكنك على مستوًى ما تكون بحاجة إلى تحليل الوضع و«التفكير» في طبيعة الإجراءات التي يجب اتخاذها.

لماذا نعرف أن هذا يتضمن تفكيرًا؟ حسنًا، لنفترض أن السيارة قريبة جدًّا، أو لنفترض أن الطريق رطبة مبتلَّة، أو لنفترض أنك ترى صفًّا طويلًا من السيارات أمام سيارتك، أو لنفترض أن فرامل سيارتك ليستْ على قدْر عالٍ من الجودة، سيقودك تحليلك في تلك الحالات إلى مسار فعل مختلف تمامًا؛ فربما قمتَ بالضغط على دواسة الفرامل لتبدأ سلسلة من الاستجابات العقلية المماثلة لدى السائق خلفك. وإذا كانتِ السيارة أمامك قريبة جدًّا فربما تقرر الانحراف قليلًا لتفادي الاصطدام بها. وهذه جميعها أحكام تحتاج نوعًا من التفكير التحليلي حتى يتسنَّى تنفيذها.

لكن هذا لا يعني أن هذا التحليل يستدعي الكثير من الانتباه. يجري التفكير في أي نقطة على طيف الانتباه النشط-السلبي، فإذا كان الوضع لا ينطوي على تهديد، فعندئذٍ يجري التفكير من دون أي انتباه على الإطلاق. ومن ناحية أخرى، إذا كان الموقف يَحتمل أن ينطوي على خطورة فعندئذٍ قد يكون التفكير منتبهًا جدًّا، وكأنك تقول لنفسك: «يا إلهي! إنني على وشك أن أصطدم بمؤخرة السيارة التي أمامي.»

كما أن هذا التحليل لا يتم بالضرورة بوعي كامل، وهذا جانب معقَّد، وسوف أتناول في وقت لاحق مسألة الوعي برمَّتها بمزيد من التفاصيل. أما الآن فيمكنك افتراض أن التحليل يجري عند مستوًى من شبه الوعي على الأقل.

نظرية منقَّحة لآلية التواصل

إذن لدينا ثلاثة أنواع مختلفة من النشاط العقلي — الإدراك الحسي والتصور والتحليل — تتفاعل مع ثلاثة أنواع مختلفة من التعلُّم — النشِط والسلبي والضمني — وتتفاعل مع نوعين على الأقل من أنواع الذاكرة هما الصريحة والضمنية، فكيف يحدث تناغم بين كل هذا؟ دعنا نبدأ مع أنواع التعلُّم الثلاثة المختلفة، وحتى يسهُل عليك الرجوع إليها فقد أدرجتُها في الجدول ٦-١.
جدول ٦-١: موجز عن الانتباه والذاكرة والتعلُّم.
الوعي الانتباه نوع الذاكرة السعة التعلم الوظيفة الثبات
صريح عالٍ جدًّا عاملة صغيرة نشط التحليل لا يوجد
صريح عالٍ عرضية متوسطة نشط + سلبي التحليل ضعيف
صريح متدنٍّ دلالية كبيرة نشط + سلبي التحليل متوسط
ضمني منعدم دلالية ضخمة ضمني مفاهيم جيد جدًّا
ضمني منعدم إجرائية هائلة ضمني مفاهيم ممتاز
كما ترى في الجدول ٦-١، فإن التعلُّم الضمني تلقائيٌّ بالكامل ومستقلٌّ عن الانتباه، وهو ما يعني في الأساس أنه لا يستعين بمَلَكات «التفكير الواعي» لدينا؛ أي ما نسميه جهدنا الإدراكي (داماسيو، ٢٠٠٣). والتعلُّم الضمني يكون نَشِطًا طوال فترة يقظتنا، وإلى حدٍّ ما عندما نكون نائمين كذلك؛ لذا نتمكن من إدراك الأشياء حسيًّا في بيئتنا، كما أننا — تمشيًا مع أبحاث تولفينج وشاكتر — نربط هذه التصورات باستمرارٍ بالذاكرة الدلالية لدينا وتوليد المفاهيم منها. أما ما «لا» نقوم به باستمرار فهو التحليل؛ حيث يستدعي التحليل على الأقل درجة من الانتباه وجزءًا من الجهد الإدراكي، والتعلم الضمني مستقل عن هذا وذاك. ولا يُسهِم هذا النوع من التعلم الضمني، حسبما ترى صناعة الإعلان، في شيء ذي قيمة عند التعامل مع الرسالة الإعلانية.

إن التعلم السلبي تعلم ينطوي على قدْر من الانتباه كذلك، ولكن مستويات الانتباه فيه تكون منخفضة. فهذا النوع من التعلم شبه تلقائي، وهو الحالة الافتراضية التي تكون عليها حينما لا تكون منهمكًا في تعلُّم نشط. ونحن في وضع التعلم السلبي لا نستخدم الكثير من الجهد الإدراكي، وهو ما يعني أننا سننفِّذ قدْرًا من التحليل للإدراكات الحسية والمفاهيم الناجمة عن التعلم الضمني، ولكن ليس الكثير جدًّا منه. كما أن أي تحليل نقوم به لن يكون فعَّالًا، والأمر أشبه بالاستماع إلى محاضرة عندما تكون في حالة سُكْر؛ فأنت تعتقد أنك تفهم وتتذكر ما يُقال، ولكنك بعد ذلك لا تدري هل فهمتَ فعلًا كل شيء وعلى نحو صحيح أم لا.

قد يفسر هذا سبب نظرة صناعة الإعلان إلى المعالجة المحيطية (أي التعلم السلبي) على أنها ذات تأثير محدود طويل الأمد على التوجهات؛ ومِن ثَمَّ هي بمثابة وسيلة سيئة يتم التعامل من خلالها مع الإعلان (بيتي وكاتشوبو، ١٩٩٦). ولا يعني هذا أن التعلم السلبي لا يغير التوجهات؛ لأنه بالتأكيد قادر على تغييرها، ولكنْ نظرًا لأنه ضعيف في التحليل، فإنه على الأرجح لا يغيِّر تلك النوعية من الأفكار والتوجهات المعلنة التي ترتبط بالإقناع الذي يكون مدفوعًا بالرسالة الإعلانية.

غير أن التعلم السلبي «مفيد» في التعرف على العلامات التجارية. فالمعتاد في الإعلان أن تستعين العلامة التجارية برمز أو شعار معين لتمييز نفسها، وهذا يُسهِّل من عملية تحليلها والتعرف عليها نسبيًّا. بالطبع هذا أمر مهم جدًّا فيما يتعلق بالتعامل مع الإعلان، حيث لا يكون الإعلان فعالًا إلا عندما تكون مُدرِكًا عند مستوًى معين لماهية العلامة التجارية التي يتم الإعلان عنها.

أما التعلُّم النشط فيستدعي درجة عالية من الانتباه، وتحفزه الرغبة في جمع المعلومات؛ ولذلك يستغل مستويات عالية من الجهد الإدراكي، فنحن في حال التعلم النشط نقوم بتحليل ما ندركه حسيًّا، وكذلك المفاهيم بشكل مستفيض وبفعالية كبيرة. ولأن التعلم النشط يقتضي وجود إرادة التعلم فإنه لا يحدث كثيرًا، وعندما يحدث فإنه لا يستمر طويلًا عادةً.

أي إن التعلم النشط هو نوع المعالجة التي يعتبرها معظم العاملين في صناعة الإعلان ضرورة لفعالية الإعلان، ولكن الواقع يقول إن فُرَص تحقق ذلك محدودة. فما لم تكن تعمل في صناعة الإعلان، فإن التعلم النشط هو الطريقة الأقل استخدامًا عند تعاملنا مع الإعلانات. أما التعلم السلبي فهو الطريقة التي تُستخدم كثيرًا نوعًا ما، لأنه يحدث في كل مرة نشاهد أو نستمع فيها إلى أحد الإعلانات. وبالطبع فإن نوع التعلم الأكثر شيوعًا عند التعامل مع الإعلانات — النوع الذي يحدث دائمًا ومن دون توقف — هو التعلم الضمني.

الآن وقد أوضحتُ آلية عمل هذه الأنواع الثلاثة من التعلم، قد تعتقد أن الأمر كله بسيط ومباشر نسبيًّا، لكن المؤسف أنك على خطأ؛ فهناك عدد من الأمور التي تجعل العملية أكثر تعقيدًا، وأهمها مسألتان: مجرد التعرض (ويعرف أحيانًا باسم مجرد التعرض اللاشعوري) والتعرض المحيطي.

مجرد التعرض

صاغ بوب زايونتس (١٩٦٨) مصطلح مجرد التعرض للإشارة إلى فرضية مفادها أن مجرد التعرض للشيء قد يغيِّر من موقفك تجاهه، وبعد بضع سنوات توسعت هذه النظرية لتشمل التعرض عند مستويات لا يمكننا بعدها إدراك أي شيء حسيًّا. ووُصفت هذه المستويات، وهي عادةً ما تكون أقل من ٤٠ ملِّي ثانية، باللاشعورية.

في تجربة شهيرة، قام كونست ويلسون وزايونتس (١٩٨٠) بعرض أشكال غير منتظمة متعددة الأضلاع على مجموعة من الأشخاص لفترات زمنية إن قلت يمكن إدراك تلك الأشكال حسيًّا، وهو ما يعني أن أي معالجة جارية من شأنها أن تحدث في الأساس عند مستويات الصفر من الانتباه الواعي ومستويات الصفر من الوعي. ومن المدهش أن تلك التجربة أظهرتْ أن بمقدور المشاركين إبداء تفضيل لتلك الأشكال غير المنتظمة رغم أنهم من المفترض غير قادرين على إدراكها حسيًّا. ويعرف هذا التأثير باسم «التهيئة»، وهي الآلية نفسها التي استخدمها من قبلُ كلٌّ من شاكتر وتولفينج في التجارب التي تناولناها في الفصل السابق لإيضاح قوة الذاكرة الضمنية.

هل يعني هذا أن فانس باكارد ربما كان على صواب عندما حذَّر الجمهور الأمريكي من أخطار الإعلان اللاشعوري؟ إن الجواب هو بشكل قاطع لا؛ فلقد ظهر أن الإعلان الذي يعمل على مستوًى أقل من عتبة الفهم يكون ضعيفًا في أحسن الأحوال، وغير مؤثر بوجه عام (مور، ١٩٨٢)، وهذه خلاصة يدعمها التحليل الفوقي ﻟ ٢٣ دراسةً أجراها ترابي الذي بيَّن أن «تأثير المثيرات التسويقية اللاشعورية على سلوك المستهلكين في عملية الاختيار هو تأثير يمكن إهماله» (ترابي، ١٩٩٦). لكن هذا لا يعني أن التعرض اللاشعوري ليس له تأثير، فيبدو أن تجارب أُجرِيَت مؤخرًا أظهرتْ أن الكلمات التي تُعرَض بشكل لا شعوري، حتى إنْ لم يتم إدراكُها حسيًّا، يمكن تصوُّرها، ويمكن أن تَجعَلَنا نُبدي المشاعر نفسَها التي كنَّا سنُبدِيها إذا عُرضت على مستويات طبيعية؛ لذا، على سبيل المثال، إذا عُرضت علينا كلمة «مغتصِب» على مستوًى لا شعوري، فإنه يمكن أن يتبيَّن أننا نولد الاستجابة العاطفية ذاتها التي كنَّا سنشعر بها لو أن الكلمة كانت مرئية، إلا أن الاختلاف هو أن الاستجابات تكون ضعيفة جدًّا، مثلما كانت الاستجابة للتعرض اللاشعوري للإعلان.

ما يُبيِّنه هذا هو أنه بالإمكان التأثير علينا بسهولة شديدة من خلال ما يمكن تسميته تعرُّضًا «عرضيًّا». على سبيل المثال، في سلسلة من التجارب نوقشت بتفصيل أكثر في الفصل الخامس عشر، تمكَّن بيرجر وفيتزسيمونز من تبيان أن المواقف تجاه المنتجات ذات اللون البرتقالي مثل المشروبات الغازية البرتقالية تعزَّزت أثناء عيد القديسين، حيث ثمار القرع البرتقالية اللون تكون شائعة، والمشاركون الذين استعملوا قَلَمًا برتقاليًّا أو أخضر لإكمال استبيان اختاروا منتجات برتقالية أو خضراء أكثر من غيرهم (بيرجر وفيتزسيمونز، ٢٠٠٧).

استطاع عالِم النفس روبرت بورنستين تفسير نتائج مثل هذه، ونتائج مجرد التعرض، باستعمال ما سمَّاه نموذج الطلاقة الإدراكية الحسية. وعلى حد قوله: «يؤدي الإدراك الحسي الذي يحدث دون وعي إلى أُلْفة لا يُمكن تفسيرها، تزيد بدورها درجة الأفضلية» (بورنستين، ١٩٩٢).

لذا، على الرغم من أننا يمكن أن نقلِّل من أهمية التعرض اللاشعوري للإعلان، من الجدير بالملاحظة أن تفسير الطلاقة الإدراكية الحسية لبورنستين ينطبق أيضًا على مجرد التعرض «اللاشعوري». وأحد الأشكال الأكثر شيوعًا من التعرض اللاشعوري هو التعرض المحيطي.

التعرُّض المحيطي

التعرض المحيطي يدل على الطريقة التي تعمل بها عيوننا. أثناء لحظات تثبيت النظر، يمكن للعينين الوصول إلى ثلاث مناطق للنظر: المنطقة «النُّقْرِية»، وتُعرَف بأنها المنطقة التي تكون فيها التفاصيل مرئية، وهي دائرة حول نقطة التثبيت تقابل زاوية مقدارها نحو درجتين في العين. هذه المنطقة قادرة عادة على تمييز نحو ٦–٨ أحرف. والمنطقة «المجاورة للنقرة»، وهي منطقة تقابل زاوية مقدارها ٥ درجات تقريبًا، تكافئ ١٥–٢٠ حرفًا. ويمكن بسهولة تمييز الأجسام والكلمات في المنطقة المجاورة للنقرة والتعامل معها. وتعرف المنطقة التي تقع خارج المنطقة المجاورة للنقرة بالمنطقة المحيطية.

التعرف ممكن داخل المنطقة المحيطية، لكنه من الصعب إنْ لم يكن من المستحيل أن نُولِيَ انتباهًا نشطًا إلى أي شيء يُرَى محيطيًّا. يمكنك أن تجرِّب بنفسك بأن تمسك بصحيفة أمام وجهك، ثم تحركها بضعة سنتيمترات إلى الجانب دون تحريك عينيك؛ ستجد أنك إن حركتَها نحو ٥ سنتيمترات، سيظل بإمكانك التعرف على الأشكال فيها، لكن عند تحريكها أكثر من ١٠ سنتيمترات، لن يمكنك فعليًّا تمييز أي شيء. رغم ذلك ليس هناك شك في أنَّ إدراكًا حسيًّا من نوعٍ ما لا يزال يتم. مدى جودة هذا الإدراك الحسي تعتمد كثيرًا على كيفية تعامل دماغنا مع تلك المنطقة، كما يمكن بيانه بالقصة التالية:

قبل بضع سنوات، أَجرَيْتُ تجربةً لبحث الكيفية التي يَقرَأ بها الناس الصحف، ولكي أقوم بهذا، طلبتُ من المشاركين في البحث ارتداء آلة تصوير عينية خفيفة الوزن مثبتة على الرأس ومتصلة بشاشة تليفزيونية. ومن خلال متابعة الخطين المتعامدين الظاهرين على الشاشة والدالَّيْن على موضع تركيز كل مشارك، أمكن تحديد أي جزء من الصحيفة بالضبط يركزون عليه أبصارهم وهم يتصفحونها.

كانتْ إحدى المشارِكات في أوائل الأربعينيات من عمرها، وقد لاحظتُ شيئًا غريبًا جدًّا في سلوك قراءتها؛ كانتْ تركِّز على عنوان المقالة، ثم تنظر نحو ٦ بوصات إلى اليسار وتبدأ في التتبع إلى أسفل كما لو كانت تقرأ المقالة. المشكلة الوحيدة تمثَّلتْ في أنه لم يكن هناك شيء تقرأه حيث كانت تنظر.

استمرت في فعْل هذا حتى انتهتْ من قراءة الصحيفة، ثم سألتُها عما إذا كانتْ تُعانِي من أي مشكلة في عينيها. أجابتْ أنها أُصيبتْ في وقت مبكِّر بشكْل من أشكال التنكس البقعي، حيث المستقبلات في المنطقتين النُّقْرِية والمجاورة للنقرة (أي أجزاء العين القادرة على رؤية التفاصيل) توقَّفتْ عن العمل. وكان معناه أنه يمكنها تبيُّن الكلمات الكبيرة بالنظر إليها مباشرة فقط، فكان عليها أن تُعلِّم نفسَها قراءة الكلمات الصغيرة باستخدام الرؤية المحيطية.

ما يَعنِيه هذا أمر مدهش جدًّا؛ فعلى الرغم من أننا «نعتقد» أن قدرة الرؤية المحيطية على المعالجة ضعيفة، يتضح على ما يبدو مما استطاعت هذه المرأة فعله أن هذا مجرد شيء تخبرنا به أدمغتنا، فمن المحتمل جدًّا أننا قادرون على إدراك الأشياء حسيًّا على نحو جيد جدًّا في نطاق رؤيتنا المحيطية، لكن أدمغتنا تُوهِمنا بأننا عاجزون عن ذلك لكي تمكِّننا من أن نُحسِّن من درجة تركيزنا على التفاصيل في المنطقتين النُّقْرِية والمجاورة للنقرة.

وبالمناسبة، هذه واحدة فقط من عدد من الخدع والأوهام التي تمارسها أدمغتنا علينا. على سبيل المثال، كما سنناقش لاحقًا، تتحرك عيوننا عبر مجال رؤيتنا في حركات سريعة تسمى رمشات، لكن أدمغتنا تعوض هذه القفزات وتجعل الأمر يبدو وكأننا نحركهما بسلاسة. كذلك تُظهِر عيوننا كل شيء أيضًا على شبكية أعيننا مقلوبًا، ويعكس الدماغ الصورة تلقائيًّا لتظهر في وضعها الصحيح.

على أية حال، سبب أهمية ذلك التعرض المحيطي هو أنه يُبيِّن أنَّ بمقدورنا معالجة الإدراك الحسي في رؤيتنا المحيطية أفضل بكثير ممَّا نعتقد أننا قادرون عليه. وكما ذكرتُ في الفصل الثاني، لاحظ هيرب كروجمان أهمية التعرض المحيطي عندما أشار أننا لا نعي بالضرورة تلك الأشياء التي نراها في نطاق رؤيتنا المحيطية، وأن كثيرًا ممَّا يدعوه الناس إدراكًا حسيًّا لا شعوريًّا هو في الحقيقة مجرد رؤية محيطية.

ولمساعدتك على فهم سبب كون هذا الأمر مهمًّا للغاية، إليك وصفًا لتجربة مثيرة.

قوة التعرُّض المحيطي

في عام ١٩٩٧، قرَّر فريقٌ تحت قيادة ستيوارت شابيرو بحث تأثير التعرض العرضي للإعلان على اختيار المنتج (شابيرو وآخرون، ١٩٩٧). تضمَّن الإعلان الذي تضمنتْه التجربة صورةً خطية لجزرة، مصحوبة بالشعار «زُرعت بطريقة طبيعية وعضوية لتكون ثمرة لذيذة وآمنة.» كذلك أُعِدَّ إعلانٌ مشابِهٌ لفتَّاحة علب. أُعِدَّت مقالة من عمودين مأخوذة من إحدى المجلات على شاشة حاسوب ووُضع الإعلانان السابقان في عمود ثالث على يسار المقالة المذكورة.

كانت الخطوة التالية هي إحضار مجموعة من المتطوعين وإبلاغهم بأن يؤدوا اختبارًا معينًا. طُلب من هذه المجموعة قراءة العمود الأوسط والإجابة عن بعض الأسئلة المتعلقة به. ولضمان قيامهم بهذا، تمَّتْ مساعدتهم بمؤشر ينتقل عبر العمود الأوسط بحيث يتيح لهم قراءته بالسرعة المناسبة لهم. تعاملت المجموعة التجريبية مع العمود الذي يحتوي على إعلانات بينما تعاملت مجموعة ضابطة مع العمود الذي لا يحتوي على إعلانات. وقامت كلتا المجموعتين بمهمةٍ لتشتيت الانتباه مدتها ٥ دقائق قبل الإجابة عن عدد من الأسئلة حول مدى احتمال شرائهم لمجموعة من المنتجات المختلفة.

كانت النتائج مذهلة. وجد الباحثون أنه في المجموعة التي تعاملت مع العمود الذي يحتوي على إعلانات، كان احتمال شراء الجزر وفتَّاحة العلب أعلى بكثير، على الرغم من أن الإعلانات عُرضت في نطاق رؤيتهم المحيطية فقط.

وللتأكُّد من أن هؤلاء المشاركين لم يختلسوا النظر إلى الإعلانات، تم عرضها عليهم فيما بعدُ وتمَّ التأكُّد من مستوى التعرُّف عليها من خلال الاستعانة بالمجموعة التي لم تُعرض عليها الإعلانات ومقارنتهم بها. لم يكن هناك اختلاف، وكانت الخلاصة حسب تعبير الباحثين أنفسهم على النحو التالي:

تشير نتائجنا إلى أن الإعلان له إمكانية التأثير على قرارات الشراء المستقبلية حتى وإن لم يتعامل الأشخاص، المشغولون بمهمة أخرى، مع الإعلان بيقظة، وبهذا لا يتذكرون قط أنهم رأَوا الإعلان. (شابيرو وآخرون، ١٩٩٧)

ما الذي يفسر هذه النتائج الاستثنائية؟ هل أن المواد أُدركت حسيًّا على سبيل المصادفة في نطاق الرؤية المحيطية، كما في اختبار مجرد التعرض، وأن هذا الإدراك الحسي زاد أُلْفَتَهم، التي بدورها زادت درجة التفضيل لديهم؟ أم أنه تم التركيز على الإعلانات والتعامل معها، لكن التعرض كان خاطفًا إلى حدِّ أنها نُسيت بالكامل؟ من المحتمل أن الإجابة مزيج من الاثنين، لكنْ أيًّا كان التفسير، هذا الاختبار يبيِّن أن ما يمكن أن يؤثر على سلوكك لا يقتصر على الأشياء التي تنظر إليها «مباشرة» في إعلان ما.

أختتم هذا الفصل باقتباس السطر الأول من خلاصة هذا البحث، فقد قال الباحثون: «لا بد أن تكون نتائج هذه الدراسة مشجِّعة جدًّا لشركات الإعلانات.» (شابيرو وآخرون، ١٩٩٧) ونحن نتوقع هذا. لكن هذه التجربة، التي نُشرت في مجلة عالمية شهيرة، لم يُعلِنْها القائمون على صناعة الإعلان قط، وعلى حسب علمي لم يتم تكرارها أبدًا. لماذا؟ لأن صناعة الإعلان تتمسك باعتقادها أن النوع الأكثر يقظة فقط من أنواع التواصل الثلاثة — النوع الخاص بالتعلم النشط — هو الذي يتمتع بأهمية فعلية. وأحد أسباب تمسكهم بهذا الخط هو أن وكالات الإعلانات بَنَتْ سمعتَها على كونها قادرة على تشجيعنا على إيلاء المستويات العالية من الانتباه الضرورية لتسهيل التعلم النشط. وهم يفعلون هذا باستخدام قدرتهم الإبداعية، وفي الفصل القادم أوضِّح لماذا هم ليسوا ناجحين بالقدر الذي يعتقدونه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤