الفصل السابع

إشكاليات جذب الانتباه

نحن نمتلك أجهزةَ حَجْبٍ وتنقيةٍ متطورةٍ للغاية لمنع المعلومات الجديدة من التكدُّس داخل ذاكرتنا.

ستيفن روز
«صناعة الذاكرة» (١٩٩٢)

لعلك تتذكر أننا أكَّدنا في الفصل الرابع أن الأشخاص لا يُولُون الإعلانات الكثيرَ من الانتباه، خاصةً الإعلانات التليفزيونية. وترى وكالات الإعلانات أن مهمتها الرئيسية تتمثل في «جذب» انتباه الأشخاص للإعلان عن طريق الإبداع، فكيف تقوم الوكالات بهذه المهمة على وجه التحديد؟ والأهم من ذلك، لماذا تبدو هذه المهمة غير فعالة؟

ربما يكون آرثر كوفر الأكاديمي الوحيد الذي أعرف أنه يمتلك الشجاعة الكافية للذهاب إلى وكالة إعلان وإجراء لقاء مع الفِرَق الإبداعية العاملة هناك. هؤلاء هم الأشخاص الذين ذكرناهم في الفصل الأول والذين يبتكرون تلك الأفكار البَلْهاء التي غالبًا ما لا تتصل كثيرًا على ما يبدو بالرسالة التي ترغب شركتهم في توصيلها. وبشكل عام يوجد نوعان من الأشخاص في الفريق الإبداعي: مؤلِّف الإعلان، الذي يتخيل الكلمات ويكتبها، والمخرج الفني الذي يهتم بالصور البصرية. أجرى كوفر لقاءً مع مؤلِّفي الإعلانات، لأنه عادةً ما يُنظر إليهم باعتبارهم أعضاء الفريق الأكثر تأثيرًا. (ومن واقع خبراتي أيضًا، عادةً ما يكونون أكثر وضوحًا واستعدادًا للتواصل من المخرجين الفنيين!)

ما أراد كوفر معرفته هو رأي الفريق الإبداعي فيما يتعلق بالإبداع وأهدافه. لم تكن نتائج هذا البحث، الذي نُشر مرة أخرى في إحدى المجلات الأكاديمية الرائدة في العالم، تحمل الكثير من المفاجأة لأي فرد يعمل في مجال الدعاية والإعلان؛ فقد أكد مؤلفو الإعلانات أن الدور الرئيسي الذي يقوم به الإبداع هو جذب الانتباه والدور الثانوي هو توصيل الرسالة.

كانت النظريات الضمنية للإعلان من وجهة نظر مؤلفي الإعلانات تقول إن هاتين الخطوتين متتابعتان؛ أولًا: عليهم النجاح في جذب الانتباه؛ ثانيًا: عليهم توصيل الرسالة (كوفر، ١٩٩٥). وكان الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو «الكيفية» التي يعتقدون أنهم يمكنهم جذب الانتباه بها، لا سيما الانتباه إلى الإعلانات التليفزيونية، باعتبارها نوعية الإعلانات السائدة في ذلك الوقت. ويذكر كوفر أنه كانت هناك طريقتان يعتقد مؤلفو الإعلانات أن بمقدورهم فعل ذلك من خلالهما.

بشكل عام ظهرتْ طريقتان لجذب الانتباه: التأثير العاطفي والإجبار. ويُقصد بالتأثير العاطفي عرض الأشياء المُربِكة أو الساحرة؛ الأشياء غير المتوقَّعة بما يكفي لاختراق حاجز عدم الاكتراث خلسة. ويُقصد بالإجبار دفع المشاهدين إلى منح بعض الاهتمام الأولي، بحيث لا يَرَى المشاهد الأشياء غير المتوقَّعة ولا يسمعها. (كوفر، ١٩٩٥)

الطريقة الأكثر شيوعًا من هاتين الطريقتين في الوقت الحالي هي طريقة التأثير العاطفي؛ فالمعلنون يستخدمون كلمات مثل «مُبهِج»، «ساحر»، «مُغْرٍ» لوصف إبداع التأثير العاطفي، الذي يقوي العلاقة بالمحتوى الانفعالي أو العاطفي. وتضم الأمثلة على الإعلان القائم على التأثير العاطفي، الحملات الدعائية الخاصة «بطفل» إطار ميشلان، وجرو قطونيل (علامة تجارية لأوراق التواليت) في الولايات المتحدة، و«الدعاية الغذائية» لسلسلة متاجر ماركس آند سبنسر في المملكة المتحدة. ولكن ربما يكون النهج الأكثر نجاحًا في لفت الانتباه هو الإجبار، حيث إن هناك نوعًا من الصدمة غالبًا ما يزيد من فُرَص جذْب انتباهنا، شئنا أم أبَيْنا. ومن الأمثلة على طريقة الإجبار إعلان شركة آبل الشهير عام ١٩٨٤؛ ففي سينما مليئة برجال أشباه موتى، تَجرِي لاعبة رياضية يُطاردها بعض الحُرَّاس ثم تقوم بقذْف مطرقة في وسط شاشة السينما الكبيرة لتحرِّر هؤلاء الرجال من قبضة الأشخاص الذين يسيطرون عليهم. وهناك مثال آخَر وهو صديقنا القديم جيو كومباريو.

على الرغم من أن إبداع الإجبار يستطيع أن يجذب الانتباه، قال عنه بعض مؤلفي الإعلانات إنه يفقد تأثيره ويصعب تطويره بمرور الوقت، فكلما زاد استخدامك له، اعتاد المزيد من الأشخاص عليه وفقَدَ تأثيره. كتب هوفر يقول:

يدرك مؤلفو الإعلانات أن الإجبار يزداد صعوبةً، فعندما يستخدم الإعلان (أو أي رسالة إعلامية أخرى) طريقة إجبار المتلقِّي على أن ينتبه، يصبح الإعلان التالي أو الرسالة الإعلانية التالية أكثر صعوبة بكثير، سواء فيما يتعلق بالعلامة التجارية نفسها أو أي علامة تجارية أخرى. (كوفر، ١٩٩٥)

وبالطبع، بمجرد أن ينجح أسلوب «التأثير العاطفي» أو «الإجبار» في جذب انتباه مشاهد التليفزيون إلى الإعلان، يتعين توصيل الرسالة. ويعتقد مؤلفو الإعلانات أن أفضل طريقة لتوصيل الرسالة هي بدء نوع من الحوار مع المستهلك.

كي تصل الرسالة، يجب أن تكون مرتبطة بحياة المشاهدين واحتياجاتهم. ومن أجْل تحقيق هذا الارتباط، يصوغ المؤلف الرسالة بتخيُّل شخص مستهدَف يتحاوَرون معه بشأنها إلى أن تصبح الرسالة مقبولة لهذا الشخص الافتراضي. (كوفر، ١٩٩٥)

أعتقد أن اللغة المستخدمة هنا تكشف لنا الكثير من الأمور. لاحظ كيف يُنظَر إلى المستهلك باعتباره هدفًا قليل الحيلة، يتم جذب انتباهه ثم تُعرض عليه رسالة «ترتبط» بحياته. يوحي هذا التوجه إزاء المستهلك بأن مؤلفي الإعلانات ينظرون إلينا باعتبارنا — كما يصف جون فيليب جونز — فاتري الشعور وأغبياء نوعًا ما، وبأن المعلومات تُدَسُّ إلينا عن طريق استخدام الأساليب النفسية التي تدمر دفاعاتنا كمستهلكين.

لكننا كمستهلكين، مثل كل البشر، لسنا لعبة في أيدي المُعلِنين ليَفعلوا بنا ما يشاءون، فلدينا آليات دفاع متطورة جدًّا تحمينا من أن يتم استغلالنا عن طريق هذه الأساليب النفسية. وإحدى آليات الدفاع التي كانت معروفة قبل إجراء البحث الخاص بكوفر ببضع سنين هي المعارضة، أو كما يُطلق عليه في علم النفس: الحجة المضادة.

الحجة المضادة

في عام ١٩٨٤، وضع بروك وشافيت ما يُسمَّى بنموذج الاستجابة المعرفية للإقناع. وفي هذا النموذج افترضَا أن قدْرة التواصل على إقناع الفرد لا تكمن في مجرد تذكر الرسالة، ولكن في تفسيرها بأسلوبه الخاص وتكرارها في ذهنه ثم تذكُّره لما كرَّره. وتشير وجهة نظرهما إلى أن:

تأثير التواصل على الإقناع يعتمد على مدى قدرة الفرد على التعبير عن أفكاره بوضوح وتكرارها في ذهنه. (بروك وشافيت، ١٩٨٣)

وبعبارة أخرى، يُعتَبَر تكرار المرء لأفكاره الخاصة في ذهنه عنصرًا أكثر حسمًا في استمرار حالة الإقناع من مجرد استحضار الحجج الخاصة بالرسالة في ذهنه. وبالطبع يتطلب هذا الأمر توجيه الكثير من الانتباه للإعلان والفهم التام للرسالة والاستغراق فيها. والآن، قد تسأل أين هي آلية الدفاع في هذا الأمر؟

الجواب بسيط على نحوٍ يدعو للدهشة، فالمشكلة التي اكتشفها بروك وشافيت بخصوص هذا المستوى العالي جدًّا من الانتباه هي أنه يمكن أن يؤدي بسهولة جدًّا لظهور الحجة المضادة. ببساطة، كلما فكرتَ أكثر في الادِّعاء الذي يطرحه الإعلان بخصوص علامة تجارية معينة، سهُل عليك أكثر معارضة هذا الادعاء.

لنأخذ على سبيل المثال الادِّعاء بأن كريمات البشرة تخفِّف تجاعيد المرأة وتجعلها تبدو أكثر شبابًا. يقودُك التفكير لبضع دقائق إلى إدراك حقيقة أنه لو كان هذا الأمر صحيحًا، لتمَّتْ إذاعته في جميع وكالات الأنباء باعتباره إنجازًا علميًّا مذهلًا. ومن ناحية أخرى، فإن وضع المرأة أي كريم قديم على وجهها وفركه قد يجعل بشرتها أكثر مرونة وليونة، وقد يزيل التجاعيد مؤقتًا؛ لذلك، سواء كان الأمر صحيحًا أم لا، هناك سببان قويان للغاية لعدم تصديق ما يدَّعيه المعلنون.

ومع ذلك، فإن هذا لا يمنحنا — نحن المستهلكين المحاصرين — مستوًى كافيًا من الارتياح؛ حيث إنه، من أجْل استخدام الحجة المضادة لأحد الادِّعاءات، لا يتوجَّب علينا السماح لأنفسنا بتفصيل وتفسير جميع الرسائل المقدمة إلينا في الإعلان فحسب، ولكن يجب علينا بعد ذلك قضاء المزيد من الوقت في دراستها ورفضها. وبصراحة، لا يرغب الكثيرون من الأشخاص عدا أولئك الذين يعملون في صناعة الإعلان، في قضاء أوقاتهم في التفكير في الدعاية والإعلان بهذا القدْر الكبير من التفاصيل.

ولحُسن الحظ، زوَّدتْنا أدمغتنا دون عناء منها بآلية دفاعية أخرى تسمح لنا بتجنب القيام بذلك. هذه الآلية الدفاعية هي التصفية الإدراكية الحسية.

التصفية الإدراكية الحسية

كما علمنا سابقًا، فإن أعيننا وآذاننا وأنوفنا — خاصة في هذه المسألة — تصوِّر كل ما يجري من حولنا، فإذا كان لا بد وأن تغذي هذه المعلومات عقولنا الواعية دفعة واحدة فإن قدراتنا العقلية سرعان ما ستصاب بالإرهاق وتتوقف عن العمل على نحو ملائم. ولمنع حدوث ذلك يقوم العقل بالتصفية التلقائية لما يعتبره إدراكات حسية لا صلة لها بالموضوع ولا يسمح إلَّا بمرور عدد قليل منها لمزيد من التفكير فيها. ويتجاهل العقل الواعي أي شيء آخر.

ويتضح ذلك تمامًا من خلال ما يُعرَف باسم متلازِمة حفل المشروبات. ويصف ستيفن روز هذا الأمر وصفًا جيدًا بقوله:

التصفية الإدراكية الحسية تضمن أنه، من بين جميع المعلومات التي تصل إلى عينَيِ الفرد أو أذنيه في أي وقت من الأوقات، يتم فعليًّا تسجيل نسبة صغيرة فقط بل وتذكرها لفترة وجيزة أيضًا. ومن الأمثلة على ذلك بالطبع الظاهرة الشهيرة المعروفة باسم متلازِمة حفل المشروبات، فمن خلالها يمكن للفرد في غرفة مليئة بالثرثرة التركيز — بدرجة ما — على صوت شخص يتحدث إلى أحد الأشخاص، ولكنه يمكن أن يتحوَّل وفقَ إرادته إلى محادثة أخرى من المحادثات الدائرة من حوله. ولكن هذا لا يعني أننا صمَمْنا آذاننا عن المحادثات الأخرى، فمِن السهل أن يُقحَم شيء من هذه المحادثات على الفرد دون أن يُرِيد ذلك، كأنْ يسمع مثلًا أحد الأشخاص اسمه وهو يُذكر في أي مكان آخَر في الغرفة؛ ومِن ثَمَّ فإن المعلومات الواردة إلينا، سواء عن طريق السمع أم الرؤية، تدخل أدمغتنا وهناك يَجري تصفيتها حسب أهميتها بواسطة العمليات التي لا ندركها بوعينا إلى حدٍّ كبير. (روز، ١٩٩٢)

ما الذي يُثبِته هذا الأمر؟ أولًا: على الرغم من تركيزك على المحادثة التي تشارك فيها، لا بد أنك كنتَ تلاحظ في الوقت ذاته «جميع» المحادثات الأخرى التي تجري في الغرفة. ثانيًا: لأنك لم تكن تَعِي أنك كنتَ تتابع هذه المحادثات الأخرى، فبالتأكيد كنتَ تقوم بهذا الأمر بشكل ضمني (التعلم الضمني هو أن تتعلم دون أن تدري أنك تتعلم).

وبالمناسبة، نظرًا لأن التعلم الضمني يرتبط بالمفاهيم الواردة في الذاكرة الدلالية، فقد تكون أدركتَ حسيًّا نبرة الصوت التي كانت مستخدمة في هذه المحادثات الأخرى ووضعتَ تصوُّرًا لها؛ لذلك إذا لم تَفهَم أيًّا من الأحاديث التي كانتْ تدور حولك، فربما تمكنتَ من معرفة ما إذا كان اسمك قد تمَّ ذكره في سياق لطيف أو في سياق سيِّئ.

ما علاقة كل هذه الأمور بصناعة الإعلان؟ لكي نفهم هذا الموضوع، دعوني أذكِّركم أولًا بما ذكرتُه في بداية الفصل السابق؛ فعلى الرغم من أننا نتعامل على ما يبدو مع الإعلان باعتباره تجربة شمولية واحدة، فإنه يضم في الواقع عددًا من العناصر المختلفة التي تُدار في وقت واحد. على سبيل المثال، توجد دائمًا علامة تجارية، وعادةً ما تكون هناك رسالة تتعلق بهذه العلامة التجارية، وهذه الرسالة قد تكون رسالة منطوقة أو مكتوبة. وبعد ذلك قد يكون هناك قصة سردية مصاحبة للرسالة، وربما تقوم بعض الشخصيات الموجودة في الإعلان بتمثيل هذه القصة، كما قد يتضمن الإعلان زمكانًا أو مشاهِد. وبالطبع قد تكون هناك بعض الموسيقى المصاحبة.

يمكن التعامل مع جميع هذه المكونات المختلفة للإعلان بمستويات مختلفة من الانتباه، باستخدام نوع مختلف من التعلم. على سبيل المثال، قد تتعامل مع القصة والشخصيات على نحو نشِط (عن طريق التعلم النشط)، بينما تتعامل مع مشهد الخلفية على نحو سلبي (عن طريق التعلم السلبي)؛ وقد تتعامل مع موسيقى الخلفية على نحو ضمني وتستخلص الرسالة بإدراك حسي. غالبًا ما يحدث هذا الأمر إذا كان للإعلان حبكة درامية مُثِيرة للاهتمام، كما كان الحال في حملة سيارات رينو كليو التي ناقشناها سابقًا. وبالطبع، إذا كنتَ شابًّا ومن محبِّي أغاني البوب فقد تتعامل مع الموسيقى على نحو نشِط والشخصيات على نحو سلبي، وهو الأمر الذي قد حدث مع إعلانات تلما نودلز. وقد تتعامل مع الإعلان بالكامل على نحو سلبي وتستخلص العلامة التجارية بواسطة الإدراك الحسي، كما كان الحال مع دراسة الحالة الخاصة بشركة أورانج التي ذكرناها في الفصل الثالث. وهناك مزاوجات مثل هذه لا حصر لها في هذا الصدد، ولكن الشيء المهم الذي يجب وضعه في الاعتبار أنه كلما زاد تأثير أحد العناصر المكوِّنة للإعلان في جذْب الانتباه، زاد انجذاب الانتباه إليه أكثر من العناصر الأخرى الأقل إثارة (مثل العلامة التجارية أو الرسالة).

بالطبع، إذا كنتَ تعمل في مجال الإعلان أو التسويق، فالأرجح أنك ستتعامل مع الإعلان بالكامل على نحو نشِط بما يشمل العلامة التجارية والرسالة والقصة والشخصيات والموسيقى. لماذا؟ لأن هذه هي الطريقة التي تكسب منها قوت يومك. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل الأشخاص العاملين في صناعة الإعلان يجدون أن فكرة التصفية الإدراكية الحسية هي فكرة يصعب تقبُّلها إلى حدٍّ ما. وهذا الأمر لا يهدد فقط نموذجهم الخاص بآلية الإعلان (على حد وصْف كوفر)، ولكنه ببساطة ليس شيئًا يفعلونه بأنفسهم عندما يتعاملون مع الإعلان.

لا يعني ذلك أن بعض المعلنين الذين يتمتَّعون بالذكاء لا يُدرِكون المَخَاطر التي تشكِّلها محاولة جذب الانتباه لإعلاناتهم بطريقة مصطنعة. في أوائل ستينيات القرن العشرين، ابتُكِرت طريقة بصرية للاستحواذ على الانتباه على حساب فهم الرسالة، حيث يتم التركيز على عنصر ثانوي من عناصر الإعلان. وقد ذاع عن جون كابلز قوله: «بدلًا من عرض صورة كبيرة للسيارة المعلن عنها، تَظهَر لك صورة كبيرة لمارلين مونرو وصورة صغيرة للسيارة، فإذا لم تُفلِح هذه الطريقة، يتم خلع بعض ملابسها.»

وبالمثل نقل ديفيد أوجيلفي تعليقًا كان قد أدلى به المخرج الفني الذي عمل معه، ويُدعَى ديفيد سكوت: «عندما أُريد تحقيق نتيجة جيدة فيما يتعلق بتذكُّر المشاهدين للإعلان، فإن كل ما عليَّ فعله هو إظهار غوريلا ترتدي حزامًا واقيًا للأعضاء التناسلية» (أوجيلفي، ١٩٨٣). ما يعرفه كلٌّ منهما، ولكنهما لم يذكراه، هو أنه إذا كنتَ تضم في إعلانك ممثِّلة فائقة الجمال شبه عارية أو غوريلا ترتدي حزامًا واقيًا للأعضاء التناسلية، فسوف تَلفِت الكثير من الانتباه، وسيتذكرهما المشاهدون، ولكن لن يتذكَّر أحدٌ أشياء أخرى كثيرة.

ومن بين دراسات الحالة التي توضح هذا الأمر جيدًا الإعلان عن إطلاق السيارة سيتروين زارا.

دراسة حالة: سيارات سيتروين زارا

أطلقتْ سيتروين حملة إعلانية لسيارتها زارا عُرضتْ عبْرَ شاشات التليفزيون للمرة الأولى في بريطانيا عام ٢٠٠١. ويُظهِر الإعلان كلوديا شيفر، عارضة الأزياء الشهيرة، وهي ترتدي فستانًا أنيقًا ذهبي اللون وتهبط دَرَج السلم الحلزوني في منزل فخم في حركات كلها إغراء، وتصاحب هذه اللقطات موسيقى صاخبة، وبينما هي تهبط الدَّرَج تَخلَع عنها الجزء السفلي من الفستان، وتركل الحذاء عن قدمها، وتفكُّ عقدة شعرها، ثم تخلع الجزء المتبقِّي من الفستان، وتستكمل هبوط الدرج وهي لا ترتدي سوى ملابسها الداخلية. ثم ينتقل بنا المشهد إلى باب المنزل وهي تخرج منه وتتجه صوب السيارة، بينما يعلق صوت رجل: «سيارة سيتروين زارا كوبيه الجديدة، الشيء الوحيد الذي لا يمكنك أن تتخلَّى عنه.» وبينما يقول المعلق هذا نشاهد شيفر وهي تمسح بيدها على السيارة، ثم تفكُّ حمَّالة صدرها، ثم نشاهدها تمدُّ يدَها وهي داخل السيارة لتُلقِي سروالها الداخلي على الأرض عبر النافذة. ثم تنتقل الكاميرا إلى زاوية أخرى حيث نراها جالسة في السيارة، ونحن نفهم أنها قد صارتْ عارية تمامًا، وتتحدث إلى الكاميرا بلكنة ألمانية: «لماذا أرتدي أي شيء آخر؟»

لك أن تتخيَّل الاهتمام الكبير الذي حازه هذا الإعلان، وليس من المستغرب أنه حقق نِسَب تذكُّر عالية جدًّا بين المشاهدين. وأقصد بالتذكُّر هنا أنك لو سألتَ مجموعة من الناس في ذلك الوقت إذا ما كانوا شاهدوا إعلان سيتروين زارا، فإن نسبة كبيرة منهم ستُجيبك ﺑ «نَعَم». ولكن الأهم هنا، ما هو الذي يتذكَّرونه على وجْه التحديد؟ لقد أُتيحت لي فرصةُ تبيُّنِ هذه المسألة وقت أن قدَّمتُ ورقة بحثية إلى أحد المؤتمرات بُعَيْد إذاعة هذا الإعلان تليفزيونيًّا في بريطانيا.

كان المؤتمر يتمحور حول الأبحاث التسويقية؛ ومِن ثَمَّ كان حضوره — قرابة ٦٠٠ شخص — مهتمِّين بالإعلان إلى حدٍّ كبير. طلبتُ من الحضور خلال عرض ورقتي البحثية رفع أيديهم إنْ كانوا قد شاهدوا أيَّ إعلانات تخص سيتروين زارا مؤخَّرًا. وجدتُ أن ٥٥٠ شخصًا رفعوا أيديهم، فسألتُهم إذا ما كانوا يتذكرون الإعلان الذي ظهرتْ فيه كلوديا شيفر وهي تَهبِط الدرج وتخلع ملابسها، فوجدتُ أن نحو ٥٥٠ شخصًا رفعوا أيديهم من جديد، عندئذٍ سألتُهم إذا ما كانوا يعرفون سبب قيامها بخلع ملابسها، وهنا رُفعتْ ستُّ أيادٍ فقط.

ما حدث هنا أمر واضح وبديهي، فمثلما تمَّ في حملة السيارة رينو كليو الإعلانية، رُبطت قصة الإعلان بالجنس، وهو ما جعله مُثِيرًا للاهتمام بشدة، وهذه الحالة كانت أوضح مع الرجال الذين فحصوا الإعلان جيدًا للتأكُّد ممَّا إذا كانت كلوديا شيفر قد كشفتْ بالفعل عن أجزاء جسدها. وعندما سُئل الرجال، أقرُّوا صراحةً بأنهم، في المقطع قبل الأخير من الإعلان، عندما تجلس شيفر في السيارة عارية، تمكَّنوا من رؤية نهدَيْها العاريَيْن، وبالرغم من أنهما قد أُخفِيا بعناية خلف باب السيارة وبواسطة ذراعها، أقسم لي رجال كثيرون أنهم شاهدوهما. وهكذا أعتقد أن بإمكاننا أن نفترض أنهم كانوا يُعِيرون الإعلان مستويات انتباه مرتفعة للغاية.

على الجانب الآخر، وجدتِ السيدات نوعًا من الإساءة في فكرة أن تتخلَّى كلوديا شيفر عن ملابسها لأجْل أن تُساهِم في زيادة مبيعات سيارة. وقد أَعَرْنَ انتباههن للإعلان من واقع دهشتهن من الاستمرار في استخدام هذا الأسلوب القديم في القرن الحادي والعشرين.

لكن لم يُعَرْ أيٌّ من هذا الانتباه للسيارة ذاتها؛ ومِن ثَمَّ لم يُعَر أيٌّ منه للرسالة التي كان المعلنون يَسعَوْن لإيصالها، ومفادها أن السيارة أكثر جاذبية وتألُّقًا من ملابس عارضة الأزياء الأشهر.

ربما لا تندهش كثيرًا عندما تعلم أن حملة تدشين السيارة لم تحقِّق النجاح التجاري الذي كانت ترجوه سيتروين. أسرَّ لي أحد مديري الإبداع الدنماركيين أن سيتروين لم تفهم سبب تحقيق استغلال عنصر الجنس في بيع السيارة رينو كليو كل هذا النجاح، بينما لم يتحقق هذا القدْر من النجاح مع السيارة سيتروين بالرغم من استغلال العنصر نفسه. ومن المحزن بل والمستهجَن أن يعجز المسوِّقون عن تمييز الفارق في ردة فعل الجمهور بين حكاية خيالية لمغازلة راقية، وبين رؤية واحدة من المشاهير الحقيقيين وهي تتعرَّى قطعة قطعة بكل سخف.

ربما يكون إعلان سيتروين زارا استثناءً، خاصة وأن مشهد خلع النساء ملابسهن ليس شائعًا في الإعلانات التليفزيونية البريطانية، وغير مسبوق في الإعلانات الأمريكية. ومن الأمثلة اللافتة أيضًا حملة إعلانات الخطوط الجوية البريطانية في الفترة ما بين عامي ١٩٩٢ و٢٠٠٦. هذه الحملة، وفي اختلاف واضح للغاية عن إعلانات سيتروين زارا، استغلت الإدراك الحسي لصالحها.

دراسة حالة: الخطوط الجوية البريطانية

في عام ١٩٨٤، قدَّمت شركة الخطوط الجوية البريطانية حملة إعلانية تليفزيونية جديدة لإطلاق خدمة درجة «سوبر كلوب كلاس» على طائراتها. كانت الحملة الإعلانية من تنفيذ ساتشي آند ساتشي وإخراج المخرج الشهير توني سكوت، وفي هذه الحملة تم تصوير طائرة من طراز جامبو النفاثة التابعة لشركة الخطوط الجوية البريطانية من الداخل، وهذه الطائرة كان من المزمع تركيب مقاعد درجة «سوبر كلوب كلاس» الجديدة فيها، فهي أوسع المقاعد في العالم.

جَرَتْ مَشَاهِد الإعلان داخل كابينة الطائرة الجامبو. كما شاهدنا، ينفتح سقف الجامبو على نحو يُثِير الدهشة، وتبدأ مجموعة من المقاعد المزدوجة تدريجيًّا في الهبوط إلى داخل الكابينة. وفي تلك الأثناء يعلِّق صوت رجل قائلًا: «هذه هي مقاعد درجة «سوبر كلوب كلاس»، أوسع مقاعد على أي طائرة. ولكونها الأوسع على الإطلاق، لم يكن من السهل إدخالها من الباب. بدءًا من الأول من مايو على متْن جميع رحلاتنا الطويلة، ستكون هذه المقاعد هي الأوسع في العالم.»

عندئذٍ ينغلق السقف ونرى أن طائرًا صغيرًا قد طار إلى داخل الكابينة، فينفتح السقف مجددًا ليسمح للطائر بالخروج، بينما يتابع المعلِّق قائلًا: «من شركة الطيران التي ترعى جميع المسافرين جوًّا وكل ما يَطِير. الخطوط الجوية البريطانية المفضلة في العالم.»

ربما يكون قد تم التعامل مع هذا الإعلان بطُرُق شتَّى. فربما جذب انكشاف سقف الكابينة الانتباه، ولكن إذا تم استخدام الانتباه النشط، فإن هذا قد يؤدي إلى جدل مضاد مفاده أنه إذا كان من الممكن إزالة السقف بهذه الطريقة، فإن هذا يمكن أن يُعرِّض هيكل الطائرة للخطر، ما يؤدي إلى تحطمها في الهواء. وقد تكون مقاعد درجة «سوبر كلوب كلاس» عرضةً لتدقيق يَقِظ من المسافرين الذين اعتادوا السفر على درجة «كلوب كلاس»، ولكنها في ذات الوقت لم تكن لتحظى على الأرجح إلَّا بنظرة سريعة غير مدققة من الغالبية العظمى من المشاهدين الذين يعتبر السفر على درجة «كلوب» بالنسبة لهم حلمًا بعيد المنال. ربما حَظِي تعليق «أوسع مقعد على متن أي طائرة» ببعض الانتباه، ولكن من المؤكد أن هذا الادِّعاء قوبل بجدل مضاد يستند إلى أنه من غير المعلوم هل كان هذا الادِّعاء صحيحًا أم لا. ومن المؤكد أن ذلك الطائر الصغير هو الذي سوف يستحوذ على أعلى درجة من الانتباه، حتى مع حقيقة أن تفكير المشاهد بعمق فيما يراه سيؤدي به إلى أن يُدرِك أنه قد كان من الممكن وبسهولة إخراج الطائر من باب الطائرة.

وفي المجمل، يبدو من المستبعَد جدًّا أن يكون المشاهد قد اعتبر هذا السرد دليلًا على أن الخطوط الجوية البريطانية «تَرعَى جميع المسافرين جوًّا» بحق؛ حيث إن المنطق يقول إن المشاهد سيشعر بأن الشركة ترعى رجال الأعمال الذين يدفعون مبالغ باهظة للسفر على درجة «كلوب كلاس». غير أن الإعلان نجح بدرجة كبيرة على ما يبدو، وأسهم في زيادة شعبية الشركة بين الجميع.

في اعتقادي، سِرُّ هذا النجاح يعود إلى عنصرٍ لم أذكره بعدُ، وهو عنصر نَمِيل جميعنا إلى استبعاده من ناحية الإدراك الحسي، وذلك عندما نُشاهِد إعلانات التليفزيون، وهذا العنصر هو الموسيقى التصويرية؛ فقد قامت وكالة الإعلان في مرحلة لاحقة — حدث هذا في الواقع قبل بثِّ الإعلان بثلاثة أسابيع — بإضافة خلفية موسيقية، وكانت الموسيقى التي اختارتْها الوكالة عبارة عن دويتو إيقاعي جميل من أوبرا «لاكمي» لدليباس، وما كان لأحد من المشاهدين أن يُولِيَ الكثير من الانتباه النشط لهذه الموسيقى؛ وذلك لأن محور الإعلان هو المقاعد الجديدة، ولكن من الممكن أن يكون قد حدث تأثُّر ضمني لا واعٍ بها، تمامًا مثل كل المناقشات في متلازِمة حفل المشروبات.

أما الآن فعندي دليل على أن لهذه الموسيقى تأثيرًا كبيرًا على شعور المشاهدين إزاء السفر على متن الخطوط الجوية البريطانية، وهذا الدليل مستمَدٌّ من أكثر من مائة جلسة وندوة قمتُ خلالَها بتشغيل الموسيقى التصويرية لهذا الإعلان، وكنتُ أطلب من الحاضرين أن يُخبروني بشعورهم تجاه تلك الموسيقى. وفي كل مرة كان الحاضرون يخبرونني بأنها تجعلهم يشعرون بالارتياح والاسترخاء، كما لو أنهم يحلِّقون في الهواء بكل حرية وأن هناك مَن يرعاهم ويعتني بهم.

نحن عندما نشاهد الإعلان لا نسجل تلك المشاعر عن وعي؛ وهذا لأن الموسيقى تولِّدها تلقائيًّا من مفاهيم مختزنة في ذاكرتنا الدلالية، وهذا بالطبع يعني أنه من غير الممكن معارضتها، بل على العكس، فبعد التعرُّض للإعلان عدة مرات سيصبح الإدراك الحسي للموسيقى مرتبطًا لا شعوريًّا بالخطوط الجوية البريطانية، والقِيَم المفاهيمية التي يحفِّزها ستتحول إلى الشركة من خلال عملية تسمَّى «التهيئة» التي سوف أتناولها بمزيد من التفصيل في الفصل التالي، ولكن الآن دعونا نقبل فقط بأن المشاهدين قد ترسَّخ لديهم إحساس بأن الخطوط الجوية البريطانية وسيلة رائعة ومريحة للطيران، ولكن دونما أدنى فكرة عن سبب هذا الشعور.

استخدمت الخطوط الجوية البريطانية هذه المقطوعة الموسيقية في إعلاناتها لنحو ٢٠ عامًا، بل قامت حتى ببثِّها في كبائنها أثناء صعود الركاب الطائرة. ومع مرور الوقت، ربط الجميع بين أوبرا «لاكمي» والشركة، وبهذه الطريقة صارت مثالًا ممتازًا على ما سوف نسمِّيه لاحقًا «الارتباط العاطفي بالعلامة التجارية». ومع ذلك، لم تعترف الوكالة الإعلانية أبدًا بمقدرة هذه الموسيقى على تشكيل رأي عام تجاه شركة الطيران، حتى إن كلمة «موسيقى» لم تَرِد ولو مرة واحدة في المرتين اللتين رُشِّحت فيهما الوكالة للفوز بجائزة فعالية الدعاية والإعلان التي يمنحها معهد ممارسي الإعلان (ماكجيل ونودل، ١٩٩٥؛ داي وآخرون، ٢٠٠٥). فالوكالة لم يَخطُر ببالها أن موسيقى الإعلان تمتلك هذا القدْر من التأثير.

فما السبب؟ أحد الأسباب هو أن الموسيقى لم تَحظَ بأي انتباه نشِط، وهو ما يعني أنها لم يتذكرها أحد أثناء البحث؛ لذلك كان من شبه المستحيل «إثبات» دورها في تغيير الآراء، وكان من السهل نسيانها تمامًا. ولكنني أرى أن هناك سببًا أكثر وجاهة، فإذا لم يعترف أحد بمَدَى فعالية عنصر لا يتذكره أحد في تغيير الموقف تجاه شركة الطيران، فإنه يجعل نفسه عرضة لأن يُتَّهم بالتأثير على مشاعر الناس من دون دراية منهم. وهذا، بطبيعة الحال، آخِر ما ترغب صناعة الإعلان في أن يعرفه أحد عنها.

لذلك، من وجهة نظر صناعة الإعلان، يظل دور هذه الموسيقى الساحرة في تحقيق شركة الخطوط الجوية البريطانية هذا النجاح المستمر محض تكهُّنات، ولكن عندما قررت الشركة التوقف عن استخدام هذه الموسيقى في عام ٢٠٠٧، بعد ١٥ عامًا من كونها الناقل الوطني الوحيد الذي يحقق ربحًا مستمرًّا ويتميز على خطوط الطيران الاقتصادية الأخرى، بدأت سمعتها تتراجع؛ ممَّا يدفع المرء إلى أن يتساءل إذا ما كان هذا قد حدث بالمصادفة البحتة.

ولكن الطريقة الوحيدة التي يمكن بها بناء رؤية مقنِعة عن دور الموسيقى في صعود وتراجع الخطوط الجوية البريطانية هي تحديد الكيفية التي يتم بها التعامل مع العناصر العاطفية التي تشمل الموسيقى؛ ومن ثَمَّ إظهار مَدَى قدرتها على التأثير فينا. وهذا هو الجزء التالي من القصة.

موجز: سيكولوجية التواصل

كما نرى في الشكل ٧-١ فإن النموذج أصبح أكثر تعقيدًا.

النصف العلوي من الرسم التخطيطي هو منطقة المُعالَجة المنتبِهة الواعية، والنصف السفلي هو منطقة المعالجة غير المنتبهة التلقائية. وما بين هاتين المنطقتين توجد ثلاث طرق تعلُّم مختلفة.

fig2
شكل ٧-١: رسم تخطيطي موجز لسيكولوجية التواصل.

الحد الأعلى للمعالجة المنتبِهة هو التعلم النشط، وهو فاعل عند مستويات عالية من الانتباه، ويستغل مستويات عالية من الجهد الإدراكي، وهو جيد جدًّا في تحليل وتفسير الأشياء. ومع ذلك، فإنه يتطلب إرادة لتحقيقه؛ ومِن ثَمَّ فهو لا يُستخدم كثيرًا في التعامل مع الإعلانات.

في الطرف الآخر من طيف التعلم المنتبه، في منتصف الشكل ٧-١، يوجد التعلُّم السلبي، وهو فاعل عند مستويات منخفضة من الانتباه، ويستغل مستويات منخفضة من الجهد الإدراكي، وهو ليس جيدًا إلى حدٍّ كبير في تحليل الأشياء؛ ولذلك لا يبدو أنه يُفيد كثيرًا في تغيير المواقف على المدى الطويل. وهو في واقع الأمر لا يُفيد كثيرًا في تحليل نوعية المعتقدات والمواقف التي ترتبط بالإقناع القائم على الرسالة الإعلانية.

التعلم السلبي هو الحالة الافتراضية التي نكون عليها ما دُمْنا واعين؛ لذلك فهذا النوع من التعلم غالبًا ما يكون بمثابة الطريقة التي نتعامل بها مع الإعلانات دون أن نُبدِي «أي انتباه على الإطلاق». ويكون التعلم الضمني فاعلًا بغضِّ النظر عن الانتباه، ولا يتوقف أبدًا. ولكن نقطة ضعفه هي أنه غير متصل بالذاكرة العاملة؛ ومِن ثَمَّ لا يمكنه تفسير أو تحليل أي شيء.

هناك أيضًا ثلاثة أنواع مختلفة من النشاط العقلي تحدث عندما نتعلم، فهناك الإدراك الحسي الذي يسجِّل كل الظواهر التي ندركها حسيًّا، وهناك التصور، الذي يربط هذه الظواهر بالقِيَم المختزنة في أذهاننا خلال حياتنا، وهناك التحليل، حيث يمكننا تفسير وتحليل هذه الظواهر. والتعلم الضمني يتضمن إدراكًا حسيًّا وتصورًا، ولكنه لا يتضمن أي تحليل.

ومن أجْل أن يكون الإعلان فعالًا على نحو مقنِع يلزم أن يكون التحليل شاملًا، وهو ما يتطلب الكثير من الجهد الإدراكي؛ مما يعني أن يتم التعامل مع رسالة الإعلان بالاستعانة على الأقل بشيء من التعلم النشط. ويُشار إلى الإقناع بالخط المتصل في الأعلى.

من ناحية أخرى، فإن التعرف على نوعية العلامة التجارية مهمة ذهنية بسيطة نسبيًّا؛ ولذلك يمكن أن يتم باستخدام التعلم السلبي فقط. ويشار إلى هذا بخط متقطع في الوسط.

ويتصف هذان النشاطان — تفسير الرسالة وتحديد العلامة التجارية — بكونهما عرضة للتصفية الإدراكية. وعندما تحدث التصفية الإدراكية من الممكن أن تبطل فعالية الإقناع أو تتسبب في عدم تسجيل العلامة التجارية التي يتم الإعلان عنها. وكثيرًا ما يحدث الأمران معًا.

وبافتراض عدم حدوث التصفية الإدراكية، فإن الإعلان يكون حينئذٍ قادرًا على التأثير في أفكار المُشاهِد وقناعاته الخاصة بالعلامة التجارية، وهو ما يؤثر بدوره على موقفه منها. ومع ذلك، يمكن للإعلان أن يؤثر أيضًا على المواقف مباشرة، كما يبين الخط المتقطع.

ولكن، حتى لو تغلب التواصل على كل هذه العقبات، فإن هناك آلية دفاع أخيرة يمكننا أن نستخدمها، ألَا وهي تقديم الحجة المضادة. فمثل التصفية الإدراكية، تبطل الحجة المضادة فعالية الإقناع. إلا أن هذا يستلزم قدْرًا كبيرًا نسبيًّا من الانتباه لمعارضة رسالة ما؛ ومِن ثَمَّ فإن الحجة المضادة نادرًا ما تعوق تأثيرات تغيير التوجه القائم على مستوى الانتباه المتدنِّي.

يُشار إلى التعلم الضمني بخطٍّ منقَّط. والتعلم الضمني متواصل بلا انقطاع؛ ومِن ثَمَّ لا يمكن أن يخضع للتصفية الإدراكية، ولأنه لا واعٍ لا يمكننا معارضته بحجة مضادة، ولكننا لم نتحقق بعدُ من الكيفية التي يؤثِّر بها على المواقف والسلوك، كما أننا، في هذه المسألة، لم نتمكن من تحديد آلية تفاعل هذه المعالجة مع الوعي. وهذان موضوعان مطروحان للنقاش في الجزء الثالث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤