الفصل الرابع

استسلام سمولنسك

كانت ليسيا جوري واقعة على مسافة خمسة عشر ميلًا وراء سمولنسك وثلاثة أرباع الميل عن طريق موسكو.

مساء ذلك اليوم الذي أعطى فيه الأمير تعليماته إلى ألباتيتش سأل ديسال الأميرة ماري أن تمنحه مقابلةً عرض عليها خلالها أنَّ صحة الأميرة لا تسمح له بأن يتخذ التدابير لأمنهم، كما وأن رسالة الأمير آندريه من جهة ثانية تلمِّح إلى أن البقاء في ليسيا جوري يشكِّل خطرًا ما. وطلب إليها باحترام أن يستفسر لدى حاكم المقاطعة عن الموقف الحقيقي وعن الخطر الذي يتعرَّضون له ببقائهم في الريف. ولقد كتب ديسال الرسالة التي وقَّعتها ماري وأعطيت إلى ألباتيتش مشفوعة بأمر تسليمها إلى الحاكم بالذات، والعودة بأسرع ما يمكن إذا اقتضت الضرورة الإسراع.

راح ألباتيتش وعلى رأسه قبعة من جلد كلب الماء كانت هدية من سيدة، وبيده عصا، على غرار الأمير كلما أراد الخروج، يستعد مع نفر من العاملين في البيت لركوب عربة صغيرة ذات غطاء من الجلد يجرُّها ثلاثة جياد أقوياء.

ولقد ربطوا الجريس ولفُّوا الجلاجل بالورق؛ لأن الأمير ما كان يسمح لأحدٍ باستعمالها في أراضيه، وكان ألباتيتش يحب سماع أصواتها كلما ذهب برحلة طويلة، وكان مقرَّبوه: المحاسب والكاتب والطاهية ومساعدها وامرأتان عجوزان والقوقازي الصغير وسائقو العربة وبعض الخدم الآخرين، يرافقونه.

ووضعت ابنته على مقعدها ومسنده وسائدَ مختلفة ودسَّت أخت زوجه العجوز بينها رزمة خلسة، بينما ساعدها أحد السائقين على الصعود وهو يرفعها من تحت إبطها. زمجر ألباتيتش وهو يقلِّد لهجة سيده: «آه! آه من استعدادات النساء! آه! النساء، النساء!»

ثم اتخذ مكانه في العربة وهو ينفخ ويزمجر.

وبعد أن أرشد رئيس المكتب كما يجب إلى موضوع الأعمال الدارجة، نزع ألباتيتش قبعته عن رأسه الأصلع، ودون أن يقلِّد سيده هذه المرة رسم على صدره إشارة الصليب ثلاثًا.

هتفت به زوجته وهي قلقة من الشائعات الرائجة حول اقتراب العدو: «إذا وقع شيءٌ ما … ستعودون فورًا، أليس كذلك يا أياكوف ألباتيتش؟ … بحق السماء أشفق علينا.»

غمغم ألباتيتش بينما راحت العربة تدرج: «آه! النساء! إن المرء لا ينتهي أبدًا معهن.»

أخذ طوال الطريق يمنع الطرف تارة بالشيلم الآخذ بالنضوج، وطورًا بالخرطال الأخضر الكثيف، وبالحقول التي لا زالت سوداء لم تفلح إلا للمرة الثانية تارةً أخرى. كان يتأمَّل موسم حنطة الربيع المقبل، ويمعن النظر في خطوط الشيلم الذي حصد بعضه هنا وهناك، ويبدي ملاحظاته حول البذار والمواسم المقبلة، ويتساءل عما إذا لم ينسَ مطلبًا لسيده.

وبعد أن علف خيوله مرتين في الطريق، وصل إلى المدينة مساء الرابع من آب.

كان قد تجاوز في طريقه بعض القوافل والقطعات، فلما اقترب من سمولنسك سمع طلقات بعيدة، لكنه لم يلقِ إليها بالًا. بيد أن ما أدهشه أكثر فأكثر كان رؤيته حقلًا بديعًا من الخرطال كان الجنود يعسكرون فيه ويحصدون زروعه لإطعام خيولهم ولا ريب. على أية حال لقد كانت مهمته تشغل جلَّ تفكيره؛ مما لم يجعله يتوقف عند هذه البادرة متأمِّلًا. كان ألباتيتش منذ ثلاثين عامًا لا يعرف إلا إرادة الأمير، فلم يكن أُفقه ليمتدَّ إلى أبعد من تلك الإرادة، فكان كل ما ليس له علاقة بتنفيذ أوامر سيده لا يثير اهتمامه، بل إنه ما كان موجودًا أصلًا بالنسبة إليه.

ذهب ألباتيتش تبعًا لعادة أصبحت ثلاثينية، ينام في ضاحية جاتشا على الجانب الآخر من الدنييبر في خان يديره من يُدعى فيرابونتوف. قبل ثلاثين عامًا مضت اشترى فيرابونتوف هذا — تبعًا لمشورة ألباتيتش — أخشابًا من الأمير راح يتَّجر بها، فأصبح يمتلك الآن بيتًا وخانًا ومخزنًا لبيع الدقيق، وكان رجلًا ضخم الجسم أحمر الوجه في نحو الخمسين من عمره ذا شعر أسود وشفتين غليظتين وأنف كأنه قطعة من البطاطا وحدبتين فوق حاجبَيْه الكثيفين الأشعثين وبطن عظيم.

كان ذلك المساء في دكانه يرتدي صدرة فوق ذراعَيْه من قماش هندي؛ فلمَّا شاهد ألباتيتش تقدَّم لاستقباله وقال له: «أهلًا وسهلًا بأياكوف ألباتيتش. إن الناس يغادرون المدينة بينما أنت تدخلها.»

– «يغادرونها؟ لماذا؟»

– «لسخفهم، ماذا؟! إنهم جميعًا خائفون من الفرنسيين.»

– «تُرَّهات نساء مسنَّات!»

– «وهذا ما أظنه يا أياكوف ألباتيتش، طالما أن الأمر ينص على عدم السماح لهم بالدخول، فليس هناك ما يخيف، أليس كذلك؟ … وها إن جماعتنا يندفعون في طلب ثلاثة روبلات لقاء العربة العادية، هؤلاء الملحدين، إنهم لا يخجلون!»

كان أياكوف ألباتيتش يصغي إليه بأُذنٍ ساهمة. طلب سماورًا وعلفًا لخيوله، وبعد أن شرب الشاي أوى إلى سريره.

ظلَّت قطعاتٌ تمر أمام الخان طيلة الليل. وفي الصباح، ارتدى ألباتيتش ثياب المدينة ومضى إلى أعماله، وكان الصباح مشمسًا والحرارة مرتفعة في الثامنة صباحًا. حدَّث ألباتيتش نفسه: «طقس جميل جدًّا للحصاد.»

تناهت إلى الأسماع طلقات بنادق كثيرة اتَّحد معها منذ الساعة الثامنة قصف المدفعية، وكانت الشوارع مليئة بالجنود والناس في حمى العجلة، لكن العربات كانت كعادتها تسير في الشوارع والدكاكين مفتوحة والقُدَّاس يُقام في الكنائس، دخل ألباتيتش إلى بعض الدكاكين والمكاتب، ومضى إلى إدارة البريد فكانوا يتحدثون عن الحرب وعن العدو الذي يهاجم المدينة، والناس كلهم يتساءلون عما يجب عمله، وكلٌّ يحاول بعث الطمأنينة في نفس جاره.

اصطدم ألباتيتش أمام مقر الحاكم بعدد كبير من الناس، وكانت فرقة من القوقازيين تحيط بعربة سفر ذلك الموظف الكبير. وعلى المرقاة التقى باثنين من أثرياء الريف؛ كان أحدهما — وقد عرف فيه ألباتيتش رئيس بوليس منطقتهم سابقًا — يتكلم بحرارة.

– «لم يعد الموضوع يحتمل المزاح يا رجل! إن الأمر أكثر يسرًا بالنسبة إلى من ليس لديه إلا نفسه ينقذها؛ فلو حطَّ البلاء عليه لمَا تألَّم أحدٌ غيره، ولكن عندما يكون لدى المرء ثلاثة عشر شخصًا هم أعضاء أسرته، ويتوجب عليه كذلك أن ينقذ ما يستطيع إنقاذه! … هل سمع الناس برؤساء مماثلين؟ لقد اتخذوا احتياطاتهم بكل دقة، حتَّى إننا قُضي علينا جميعًا … كان يجب شنقهم هؤلاء الآثمين!»

وكان الآخر يقول: «هيا، هيا، استكن!»

– «إيه! ليسمعني من يشاء، لست أبالي! إننا لسنا كلابًا على أية حال!»

كان رئيس الشرطة السابق يتفوَّه بهذه الكلمات مستغرِبًا، وبينما هو يلتفت شاهد ألباتيتش فهتف: «آه ياه! أياكوف ألباتيتش! ماذا تفعل هنا؟»

أجاب ألباتيتش وهو منتفخ الأوداج وإحدى يديه في فتحة ثوبه الخارجي، وهي وضعية يلجأ إليها كلما كان الكلام يدور حول سيده: «لقد جئت بناءً على أمر سموه لرؤية سيدي الحاكم … لقد تفضَّل سموه فأرسلني لأستفسر عن الوضع.»

صرخ الثري الريفي: «الوضع؟ إنه جميل! لقد تصرَّفوا بشكل لم يبقَ معه عربات ولا أي شيء.»

ثم استرسل وهو يشير إلى الاتجاه الذي تنبعث منه طلقات البنادق: «خُذْ، ها هم أولاء، هل تسمع؟ وبفضل هؤلاء السادة الرائعين سوف نذهب كلنا إلى الجحيم! …»

وكرَّر وهو يهبط المرقاة: «عصابة سفَّاكين!»

هزَّ ألباتيتش رأسه وصعد السلم. كان في الردهة جماعة من التجار والنساء والموظفين يتبادلون النظر صامتين، وفُتح باب المكتب فنهض الموجودون كلهم وتقدَّموا. خرج موظف متعجِّلًا وتبادل كلمات مع تاجر، ثم استدعى مستخدِمًا ضخمًا كان يحمل وسامًا حول عنقه، وزاغ من فوره من دائرة نيران الأبصار المتقاطعة والأسئلة. دفع ألباتيتش نفسه إلى الصف الأول، ولمَّا بدا الموظف مرةً أخرى، مدَّ له يدًا بالرسالتين وهو يدفع بالثانية في شقِّ ثوبه الخارجي، وقال بصوت بلغ من جلاله وتسلُّطه حدًّا لم يرَ الموظف بدًّا من أن يأخذ منه رسالتَيْه: «إلى سيدي البارون آسش، مِن قِبل الجنرال الأعلى الأمير بولكونسكي.»

وفي غضون بضع دقائق، استقبل الحاكم ألباتيتش، وأعلن وهو يدندن: «قُلْ للأمير والأميرة إنني لم أكن على علم بشيء، وإنني تصرَّفت حسب أوامر عليا …»

وأضاف وهو يمدُّ إليه ورقة: «خُذْ هذا، على أية حال، إنني أشير على الأمير أن يمضي إلى موسكو طالما أنه مريض. إنني ذاهب بنفسي في هذه اللحظة. قُلْ له …»

ولم يستطِع الحاكم أن يُتمَّ جملته. دخل ضابط غارق في عرقه يغطِّيه الغبار، واندفع إلى الحجرة معلِنًا له بالفرنسية نبأً جعله يشحب من الفزع. قال لألباتيتش وهو يصرفه بإشارة من رأسه: «اذهب.»

وراح يستجوب الضابط.

راحت نظرات متعطِّشة إلى الأنباء يُقلقها الفزع والعجز تستفسر ألباتيتش عند خروجه من المكتب. اندفع الرجل إلى الخان مسرعًا وهو يصيخ السمع رغمًا عنه إلى طلقات الرصاص القريبة الآخذة بازدياد. كانت الورقة التي يحملها من الحاكم تحوي على الأسطر التالية:

أستطيع أن أؤكد أن مدينة سمولنسك لا تتعرَّض لأي خطر، وإن من المشكوك فيه أن تُهدَّد أبدًا. إن الأمير باجراسيون من جهة وأنا من الجهة الأخرى نمشي لنربط قواتنا ببعضها أمام سمولنسك، وسيقوم الاتصال في الثاني والعشرين من الشهر الحالي، وسيدافع الجيشان بعد ضمِّ مجموع قواهما عن مواطنيهما في الإقليم الموكَّل إليك حتَّى تبعد جهودُهما العدو عن الوطن، أو تبيد صفوفه وفيرة العدد إلى آخر جندي، فأنت إذن كما ترى مطلَق الحق في طمأنة سكان سمولنسك؛ لأنهم عندما يكونون محميين من قِبل جيشين على هذا الجانب من البسالة، فإنهم يستطيعون أن يكونوا واثقين من النصر.

أمر يومي من باركلي دوتوللي إلى حامل سمولنسك المدني البارون آسش ١٨١٢م

كان الشعب يتزاحم في الشوارع وهو فريسة القلق.

وكانت عربات محمَّلة بالآنية والكراسي والصناديق تخرج في كل لحظة من أروقة المنازل، وأمام البيت الذي بالقرب من مسكن فيرابونتوف، وقفت عربات تحمل أثاثًا ونساءً يتوجَّعن وعبارات الوداع ترتفع مزمجرة، بينما راح كلبٌ ينبح بين قوائم الخيول.

دخل ألباتيتش بخطوات أسرع من المألوف إلى المرآب الذي أودع فيه عربته وجياده، وكان الحوذيُّ نائمًا فأيقظه وأمره بأن يجهِّز عربته، ثم مضى إلى البيت. تناهت إلى أسماعه من غرفة المدير أصوات بكاء أطفال ونحيب نساء يفتِّت الأكباد، وصوت فيرابونتوف الغاضب الأبح، وعندما دخل ألباتيتش كانت الطاهية تجري في الدهليز كالدجاجة المذعورة.

– «لقد ضربها، السيدة، لقد ضربها حتَّى الموت! … آه! المسكينة، كم ضربها وكم جرَّها!»

استفسرها ألباتيتش: «ولماذا؟»

– «لأنها سألته الذهاب. إنها امرأة وهذا يفهم تمامًا. «خذني، لا تدعني أموت مع أطفالي؛ لأن كل الناس يذهبون، فماذا تنتظر؟» هذا كل ما قالته له، فراح يضربها. آه! كم ضربها وكم جرَّها!»

هزَّ ألباتيتش رأسه بحركة نصف مؤيدة وتوجَّه نحو الغرفة المقابلة لغرفة المدير وهو قليل الرغبة في الاستزادة من المعلومات، وكان قد أودع مشترياته تلك الغرفة.

وفي اللحظة نفسها، أفلتت من الغرفة امرأة شاحبة ممتقعة تحمل طفلًا على يديها وقد تمزَّق شالها، واندفعت نحو السلم المؤدي إلى الفناء وهي تصيح: «سفَّاك! قاتل!»

وخرج فيرابونتوف بدوره، فلمَّا رأى ألباتيتش أعاد النظام إلى صدرته وشعره وتثاءب ثم راح يقفو أثره. سأله: «هل عزمت على الرحيل؟»

استفسره ألباتيتش دون أن يجيبه أو حتى أن ينظر إليه، عن المبلغ الذي يدين به إليه، واستمر يجمع مشترياته.

– «لن نختلف … ولكن قُلْ لي: هل رأيت الحاكم؟ ماذا قرَّروا؟»

أجاب ألباتيتش أن الحاكم لم يُجِبه إجابة صريحة.

– «هل يمكن نقل أشياء كأشيائي أنا؟ إنهم يسألون سبعة روبلات على كل عربة إلى دوروجوبوج فقط، يا للكفرة! لقد كان سيليفانوف مجدودًا، لقد باع منذ يوم الخميس دقيقه إلى الجيش لقاء تسعة روبلات للكيس الواحد … سوف تتناول الشاي على أية حال.»

وبينما كانوا يقطرون الخيول راح الصديقان يشربان الشاي وهما يحاضران عن أسعار الحنطة والحاصلات الزراعية والوقت المناسب للحصاد.

قال فيرابونتوف وقد نهض بعد أن احتسى أقداحه الثلاثة: «يعتقد أن الهدوء قد خيَّم، يظن أن الغلبة لرجالنا، لقد صَدَقونا القول عندما أكدوا أنهم لن يدعوهم يدخلون. إننا الأكثر قوَّةً، أليس كذلك؟ … يبدو لي أن ماتفي إيفانوفيتش بلاتوف قد ألقى بهم ذلك اليوم إلى مارينا، ولقد غرق على ما رووا ثمانية عشر ألفًا في يومٍ واحد.»

جمع ألباتيتش مشترياته وأعطاها إلى الحوذيِّ الذي دخل في تلك اللحظة، ثم سوَّى حسابه مع صاحب الخان، وأمام الباب الخارجي سمعت أصوات العجلات ووقْع الحوافر ودندنة الجلاجل؛ إذ كانت العربة حينذاك تخرج من الفناء.

كان بعد الظهر قد أوغل في التقدُّم والظل يغمر نصف الشارع، وبينما النصف الآخر تضيئه الشمس بقوة، ألقى ألباتيتش نظرةً من النافذة وخرج، وفجأةً سُمع على البعد صفيرٌ غريب لم يلبث بعده أن دوَّت زمجرة المدافع متطاولة حتَّى اهتزَّ لها الزجاج.

وبينما كان ألباتيتش يصل إلى الشارع مرَّ رجلان يركضان باتجاه الجسر، وراح الصفير ينبعث من نواحٍ مختلفة وصوت القذائف المكتوم وانفجار القنابل. بَيد أن هذا الضجيج ما كان يجتذب انتباه السكان بمثل ما يجتذبه قصف المدافع الذي بات مستشريًا حول المدينة. لقد شرعت مائة وثلاثون قطعة مدفعية بقصف مدينة سمولنسك بناءً على أمر نابليون منذ الساعة الخامسة، إلا أن سكان المدينة لم يدركوا للوهلة الأولى مدى الخطر.

أيقظ سقوط القنابل والقذائف بادئ الأمر فضول السكان، صمتت زوجة فيرابونتوف فجأةً وهي التي ظلَّت حتَّى تلك اللحظة تتوجَّع في المرآب، ومضت إلى الباب الخارجي وطفلها على ذراعَيْها، ووقفت هناك لا تحير ولا تنظر إلى الجمهور بعينين شاخصتين، وتصيخ السمع إلى الضجيج.

وجاء مستخدم الدكان والطاهية يلحقان بها، وراحوا جميعًا يحاولون رؤية المقذوفات التي كانت تمر فوق رءوسهم بفضول مفرِط، وعند زاوية الشارع ظهر بعض الأشخاص يتداولون بحميا. كان أحدهم يقول: «كم هو قوي! فالسطح والسقف كلٌّ منهما أصبح حطامًا.»

وكان الثاني يقول وهو يضحك: «إنه يحرث الأرض كالخنزير بخطمه، إنه عمل جميل يجعل القلب يهبط إلى البطن، لو أنك لم تقفز جانبًا لسوَّى أمرك!»

راح هؤلاء يروون لأشخاص استوقفوهم كيف أن القنابل سقطت على دُورهم قريبةً منهم. وفي تلك الأثناء استمرت المقذوفات بوشوشة مقتضبة محزنة والقذائف بصفير مقبول تطير فوق الرءوس دون أن تسقط إحداها في الأمكنة المجاورة. صعد ألباتيتش إلى عربته يشيِّعه مضيفه.

صرخ هذا بالطاهية ذات «التنورة» الحمراء التي ذهبت إلى زاوية الشارع لتصغي إلى ما يقولون، وقد شمَّرت عن ساعدَيْها، وأثبتت قبضتَيْها على وركيها: «ألم تفرغي من «البصبصة»؟ ألم ترَي بعدُ شيئًا؟»

وكانت هذه تقول: «هل مثلُ هذه الأشياء ممكنة بالله؟»

لكنها عندما سمعت صوت سيدها عادت وهي تجرُّ «تنورتها» المشمرة.

ومن جديد، سُمع صفير قريب هذه المرة، ثم كالعصفور الذي يهوي فجأةً انبعث بريق وسط الشارع أعقبه زمجرة انفجار وزوبعة دخان حجبت كل ما يجاورها.

وصرخ صاحب الخان وهو يهرع لنجدة الطاهية: «ألن تنتهي؟! يا للإجرام!»

وبنفس اللحظة، ارتفعت صيحات نساء معولة من جهات مختلفة، وراح الطفل الصغير يبكي مروَّعًا، واجتمع حشدٌ من الناس الصامتين ممتقعي الوجوه حول الطاهية التي كانت زمجراتها وصيحاتها تطغى على كل ضجيج: «أوه! أوه! يا أصدقائي الطيبين، يا حماماتي لدى الرب الكريم! لا تدعوني أموت! أوه! أوه! يا أصدقائي الطيبين! …»

وفي غضون خمس دقائق، لم يبقَ أحدٌ في الشارع، ونقلت الطاهية التي حطَّمت شظيةُ القنبلة أحد أضلاعها إلى المطبخ، أما ألباتيتش وسائقه وزوجة فيرابونتوف وأولادها وخادم الإصطبل، فقد لجئوا إلى القبو وراحوا يصيخون السمع. وكانت صيحات الطاهية تطغى على دويِّ المدافع وصفير القنابل اللذين لم يتوقَّفا قط. وكانت زوجة صاحب المنزل تهدهد طفلها وتهدِّئه تارةً، وطورًا تسأل كل وافد بصوتِ مَن اعتاد الأنين، أنباءً عن زوجها الذي بقي في الخارج؛ فأبلغها مستخدم الدكان أن زوجها اتَّبع الجمهور الذي ذهب إلى الكاتدرائية؛ حيث عمدوا إلى رفع عذراء سمولنسك صاحبة المعجزات.

صمتت المدافع عند الغسَق، فخرج ألباتيتش من القبو ووقف على العتبة، كانت السماء المضيئة منذ حين قد أظلمت بفعل الدخان الكثيف الذي راح هلال القمر الجديد المرتفع عند الأفق يُلقي خلاله ضياءً غريبًا. أعقب صمت حزين ورعود فوَّهات النار، لم تعكِّره إلا أصوات خُطى مكتومة وزمجرات وصيحات بعيدة، والطقطقة التي تنجم عن الحرائق، وكفَّت الطاهية عن إرسال أنَّاتها، وراحت أعمدة من الدخان الأسود تعصف ذات اليمين وذات الشمال، والجنود التابعون لمختلف الأسلحة يفرُّون في مختلف الاتجاهات، حتَّى لَيُقال إنهم مملكة نمل مدمَّرة. دخل بعضهم فناء بيت فيرابونتوف في حين مضى ألباتيتش إلى الباب الخارجي، فإذا بفوجٍ كاملٍ يتقهقر في فوضى شاملة.

صاح به ضابط لَمَحَ شبحه وهو في طريقه: «اذهب، اذهب بأكثر سرعة؛ فالمدينة تستسلم.»

وأضاف مخاطبًا رجاله: «وأنتم، سأعلِّمكم كيف تدخلون الأفنية!»

عاد ألباتيتش إلى النُّزل وصرخ بحوذيِّه أن يتأهب للرحيل. ولقد غامر عدد من آل فيرابونتوف ومستخدميه فخرجوا في أعقاب الرجلين، ولمَّا رأت النساء الدخان وألسنة اللهب التي باتت أكثر ظهورًا في الليل، رُحنَ يُطلقن شكاواهنَّ بعد أن لبثن صامتات حتَّى ذلك الحين، فردَّت نساء أخريات بالمثل من طرفَي الشارع. وكان ألباتيتش وحوذيِّه يحاولان تحت الطنف أن يخلِّصا بأيديهما المرتعدة الصروع والمجار المتشابكة.

ولمَّا خرجت العربة إلى الشارع، شاهد ألباتيتش في دكان فيرابونتوف المفتوحة حوالي عشرة جنود يتنادَوْن بصوت مرتفع، ويملئون أكياسهم بالدقيق وحَب دوَّار القمر. وفي تلك اللحظة بالذات عاد فيرابونتوف من الخارج، ولمَّا شاهد الجنود كاد أن يُطلق صرخات، لولا أنه فجأةً أمسك بشعره بقبضتَيْه وراح يُطلق ضحكة مشفوعة بالنحيب.

زمجر وهو يمسك بنفسه الأكياس ليلقي بها إلى الشارع: «خذوا كل شيء أيها الفتيان! لا تتركوا شيئًا لهؤلاء الشياطين!»

لاذَ بعض الجنود المذعورين بالفرار، بينما استمرَّ الآخرون يملئون أكياسهم، ولمَّا شاهد ألباتيتش صاح فيرابونتوف: «ضاعت روسيا، ضاعت! … سأُضرم النار في كل مكان …»

وأخذ يُردِّد وهو يندفع في الفناء: «ضاعت روسيا! …»

سَدَّت موجات الجنود المستمرة الشارع في وجه ألباتيتش، فلم يستطِع التقدُّم، وكانت زوجة فيرابونتوف محمولة فوق عربة مع أطفالها تنتظر أن يتسنَّى لها المرور.

كان الظلام قد خيَّم تمامًا، وهلال القمر يُرى في السماء ذات النجوم خلال سِتر من الدخان، وفي المنحدر إلى الدنييبر اضطرت العربتان اللتان كانتا تتبعان رتل العربات والجنود بمشية بطيئة؛ إلى التوقف من جديد. كانوا في ضاحية اشتعلت النيران في بيت ودكاكين غير بعيدة وراحت تحترق، وكان اللهب يخبو تارةً ويضيع في سحابة سوداء من الدخان، وطورًا يلمع من جديد فيضيء وجوه الأشخاص المتدافعين عند الناصية بوضوح خيالي. وراحت أشباح سوداء تمر أمام المحرق وصيحات وخطى وأصوات ترتفع خلال طقطقة الحريق المتواصلة. ترجَّل ألباتيتش، ولمَّا رأى أنَّ الطريق لن يخلو في برهة وجيزة؛ تسلَّل إلى الشارع ليتأمَّل الكارثة عن قرب. وكان الجنود يغدون ويروحون أمام المحرق، فشاهد اثنين منهم يساعدهم رجل ذو معطف من نسيج خشن، يجرُّون أعمدةً محترقة إلى فناء مجاور، في حين راح آخرون يأتون «بأغمار» من القش.

اقترب ألباتيتش من جمهرة كبيرة وقفت أمام مستودع ضخم كانت النار فيه على أشدِّها، والجدران كلها تحترق، في حين أخذ الجدار الخلفي ينهار، وتهاوى السقف ذو الألواح الخشبية الرقيقة، وراحت الأخشاب تلتهب، بينما بدت الجماهير كأنها تنتظر أن يشمل الانهيار كل شيء، فانضم ألباتيتش إليها.

صاح به فجأةً صوتٌ معروف: «ألباتيتش!»

أجاب وقد عرف فجأةً صوت سيده الشاب: «يا صاحب السعادة!»

كان الأمير آندريه متَّشحًا بمعطف ممتطيًا صهوة جواد أدهم، ينظر إليه من فوق رءوس الجماهير.

سأله: «ماذا تعمل هنا؟»

– «صاحب … صاحب … السعادة …»

وانخرط ألباتيتش في البكاء: «يا صاحب … يا صاحب … هل ضعنا حقًّا؟ آه! أبانا …»

كرَّر الأمير آندريه: «ماذا تفعل هنا؟!»

كشف التماع مفاجئ من اللهب لعينَي ألباتيتش وجه الأمير الشاب الشاحب المتقلِّص. روى له كيف أُرسل إلى سمولنسك والعقبات التي صادفها في طريق العودة، ثم سأله مرةً أخرى: «قل لي يا صاحب السعادة، هل ضعنا حقًّا؟»

ودون أن يجيبه أخرج الأمير آندريه دُفيتره، فانتزع منه صفحة، وكتب مستندًا إلى ركبته الكلماتِ التاليةَ بالقلم الرصاص موجَّهة إلى أخته:

إن سمولنسك تستسلم، سوف يحتلُّ العدوُّ ليسيا جوري قبل ثمانية أيام. اذهبوا من فوركم إلى موسكو. أعلِميني عن تاريخ رحيلكم بإرسال رسول سريع إلى «أوسفياج» فور استلامك هذه الأسطر.

وبعد أن سلَّم الرقعة إلى ألباتيتش أنهى إليه تعليماته شفهيًّا حول سفر الأمير وأخته وابنه والمدرِّس والطريقة التي ينهون إليه فيها جوابًا سريعًا. ولم يكد يفرغ من حديثه حتَّى اندفع نحوه ضابط من الأركان تصحبه حاشية، هتف القادم الذي عرفه آندريه من لهجته الألمانية: «أنت زعيم؟! إنهم يشعلون الحرائق بحضورك وتدعهم يفعلون! ما معنى هذا؟ سوف تُسأل عن هذا …»

كان ذاك هو بيرج، نائب القائد الأعلى للجناح الأيسر لمدفعية الجيش الأول، وهو «مركز مستحب جدًّا ومرموق» كما كان يقول.

نظر إليه الأمير، ودون أن يتنازل بالرد عليه، أنهى حديثه إلى ألباتيتش: «وهكذا إذن ستقول إنني أنتظر ردًّا حتَّى غاية العاشر من هذا الشهر، فإذا لم أتلقَّ حتَّى ذلك التاريخ جوابًا يُشعِر بأن كلَّ مَن في ليسيا جوري قد ارتحلوا؛ فإنني سأترك كل شيء وأحضر بنفسي إلى هناك.»

قال بيرج، الذي عرفه حينذاك: «إذا كنت أحدِّثك على هذا النحو يا أمير، فما ذلك إلا لأن عليَّ أن أنفِّذ الأوامر، وأنا أنفِّذها دائمًا بكل دقة … اعذرني أرجوك.»

ارتفع صوت أشياء تتحطَّم بين اللهب الذي بدا وكأنه خبا، وراحت عواصف من الدخان الأسود من السقف، وبعد دويٍّ فظيع انهار جانب كبير من البناء.

زمجر الجماهير مستقبلة انهيار سقف المخزن: «بو … وم! …»

وانتشرت رائحة خبز محروق، ثم انبعث اللهب فأضاء وجوه النظارة المنهكة ولكن القريرة.

هتف الرجل ذو المعطف الخشن وهو يرفع ذراعَيْه في الهواء: «مرحى، إنه يزداد اشتعالًا. مرحى أيها الفتيان!»

وقالت الأصوات: «إنه المالك نفسه.»

سأل الأمير آندريه ألباتيتش: «إذن، مفهوم؟ كرِّر لهم هذا القول كما رويته لك …»

ودون أن يُعير بيرج الواقف إلى جانبه صامتًا، التفاتًا، دفع حصانه واختفى في الشارع الضيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤