الفصل التاسع

فطنة ألباتيتش

قبل أن يقيم الأمير آندريه في ذلك الملك، ظلَّ فلَّاحو بوجوتشاروفو بعيدين عن عينَي سيدهم. كانوا يختلفون كل الاختلاف عن فلَّاحي ليسيا جوري الذين امتازوا عنهم باللغة والألبسة والعادات. كانوا يسمُّونهم «جماعة القفار»، وعندما كانوا يذهبون إلى ليسيا جوري لمساعدتهم في الحصاد أو لتنظيف المستنقعات والحفر، كان الأمير يمتدح كفاءتهم في العمل، لكنَّ وحشيتهم كانت تُنفِّره.

ولقد عملت إقامة الأمير آندريه الأخيرة بينهم وتجديداته التي أدخلها — مستشفيات، مدارس، تخفيف قيود حصة المالك — بعيدًا عن تلطيف عاداتهم، على إبراز هذه البادرة الظاهرة من عقليتهم التي كان الأمير العجوز يسمِّيها وحشية. كانت الشائعات المبهجة تروج بينهم دائمًا؛ فحينًا كانوا سيسجِّلونهم في عِداد القوقازيين، وحينًا آخر سيُدخلونهم في دينٍ جديد، وكانوا تارةً يتبادلون ما يزعمون أنه رسائل من القيصر، ويزعمون حينًا آخر أنَّ السادة عندما أقسموا يمين الولاء للإمبراطور بول، وعدوا بتحرير رقيق الأرض، لكنهم لم ينفِّذوا ما وعدوا به، بل إنهم تناقلوا مرةً مؤكِّدين أن «بول الثالث» سيعود ويحكم في غضون سبع سنين، وسيصبح كل الرقيق حرًّا على عهده، وسيجري كل شيء ببساطة زائدة، حتَّى إنه لن يكون ثمة حاجة إلى أية قوانين بهذا المعنى. وكان ما يروونه عن الحرب ونابليون والغزو يختلط عندهم بمبادئ غامضة عن المسيح الدجَّال ونهاية العالم والحرية العامة.

وكان إلى جوار بوجوتشاروفو قرًى كبيرة تعود إلى التاج أو إلى أشخاص خصوصيين، ولكنها جميعها آهلة بقرويين تابعين لنظام الإتاوة، وكان عدد قليل جدًّا من السادة يقيم بينهم؛ لذلك فإن عدد الملمِّين بقواعد القراءة بين الرقيق والخدم قليل جدًّا. وعلى ذلك فإن التيارات الخفيَّة في الحياة الشعبية بين سكان تلك القرى التي ظلت أسبابها ومرماها سرًّا مستغلقًا على المعاصرين، كانت أكثر قوةً منها في الأمكنة الأخرى. وكذلك على سبيل المثال، وقعت بينهم منذ عشرين عامًا خلت حركة هجرة إلى بعض الأنهار ذات المياه الساخنة، وباعت مئات الأسر فجأةً ماشيتها، ومن بينها عدد من عائلات بوجوتشاروفو، ونزحت إلى مكان ما في الجنوب الشرقي، فكانوا يتوجَّهون إلى تلك المناطق التي لم تطأها من قبل قدمُ أحدهم مصطحبين معهم نساءهم وأطفالهم أشبه بالعصافير المهاجرة التي تعبر البحار. وكان بعضهم يشتري حريته والبعض الآخر يفرُّ، ويذهبون جميعهم على أقدامهم أو في عربات قوافل إلى المياه الحارَّة. ولقد لحق ببعضهم فعُوقبوا وأُرسلوا إلى سيبريا، ونفق البعض الآخر خلال الطريق من البرد والجوع، وعاد الباقون طواعيةً إلى أمكنتهم الأولى، ثم انتهت الحركة من تلقاء نفسها كما بدأت دون سبب ظاهر. لكن التيارات العميقة استمرت تجري بين هذا الشعب الذي أخذ يستمدُّ منها قوة جديدة كانت ستظهر يومًا ما على شكل غاية في الغرابة وعدم التوقع، وبنفس الوقت غاية في البساطة الطبعية. وكان كل من عاش خلال تلك الفترة من عام ١٨١٢م مع هذا الشعب، يشعر بأنه إنما يُعَدُّ من قِبل هذه القوى البطيئة التي لا بدَّ وأن تظهر إلى الوجود ذات يوم.

لاحظ ألباتيتش الذي وصل إلى بوجوتشاروفو قبل موت الأمير ببعض الوقت، حركةً ما بين الفلاحين؛ ذلك أن «رجال القفر»، على عكس ما كان يجري في منطقة ليسيا جوري أو في دائرة قطرها خمسة عشر ميلًا؛ حيث السكان يهجرون قراهم لينهبها القوقازيون؛ كانوا يعقدون الصلات مع الفرنسيين، ويتلقَّون منهم بعض الأوراق، ولا يفكرون قط في الرحيل. وعلم ألباتيتش عن طريق بعض الخدم الموالين له، أن المدعو «كارب» — وهو شخص قوي النفوذ في المنطقة، الذي عاد مؤخَّرًا من تسيير قافلة من العلف لحساب التاج — كان ينشر إشاعة مفادها أن القوقازيين ينهبون القرى التي يهجرها سكانها، في حين أن الفرنسيين يحترمون السكان. وأخبروه كذلك أن قرويًّا آخر حمل أمس من ضيعة فيسلوؤتخوفو التي يحتلها العدو نداءً يُخطِر فيه الجنرالُ الفرنسي السكانَ بأنه لن يقع لهم أي مكروه، وأنهم إذا ظلُّوا في أماكنهم فإنهم سيدفعون لهم عدًّا ونقدًا ثمن كل شيء يأخذونه منهم. وتأييدًا لهذا المزعم كان ذلك الفلاح الخشن يريهم ورقة مالية من ذات المائة روبل — ما كان يَعرف أنها زائفة — أُعطيت له عربونًا على علف اتفق معهم على تسليمه لهم.

بل هناك ما هو أكثر خطرًا؛ لقد علم ألباتيتش أنه في ذلك الصباح بالذات الذي أصدر فيه الأمر إلى شيخ الضيعة بإعداد العربات لنقل الأميرة، عُقِد اجتماع في القرية قرَّروا فيه عدم الذهاب وانتظار ما تأتي به الأحداث. مع ذلك، فقد كان الوقت مدركًا، وفي ١٥ آب، يوم وفاة الأمير، ألحَّ نقيب الأشراف على الأميرة ماري أن تذهب من فورها؛ لأن الموقف بات يثير القلق، وأنه إذا انقضى يوم ١٦ آب، فإنه لن يكون مسئولًا. ولقد ذهب ذلك المساء بالذات واعدًا أن يعود في اليوم التالي ليحضر الدفن، لكنه لم يفِ بوعده؛ لأن تقدُّمًا مفاجئًا من جانب العدو اضطره إلى ترحيل أسرته وما يملكه من ثمين، بأسرع ما يمكن.

كانت بوجوتشاروفو منذ حوالي ثلاثين عامًا تدار من قِبل المدعو درون؛ وهو واحد من أولئك القرويين المتينين جسديًّا وأخلاقيًّا، الذين تزداد كثافة لحاهم كلما تقدَّموا في السن، ولكنهم يبلغون الستين وأكثر دون أن يتبدَّل فيهم شيء آخر، أو أن تغزو شعرة بيضاء مفارقهم، أو أن تسقط واحدة من أسنانهم، بل يظلون منتصبي القامة في مثل قوة أبناء الثلاثين.

ولقد عيِّن درون بعد حركة الهجرة إلى المياه الحارَّة بقليل — تلك الهجرة التي اشترك فيها — شيخَ بلد في بوجوتشاروفو؛ وهو مركز ظلَّ يشغله منذ ثلاثة وعشرين عامًا بشكل لا يتطرَّق إليه النقد، وكان الفلاحون يخافونه أكثر مما يخافون أسيادهم، أما سيادة الأمير العجوز والشاب، وكذلك الوكيل، فقد كانوا يحترمونه ويسمُّونه على سبيل الدعابة: الوزير. لم يُرَ طيلة مدة خدمته ثملًا أو مريضًا مرة واحدة، ولم يُظهِر قط، حتَّى في أعقاب ليالٍ بيضاء أو بعد أعمال شديدة الإعنات، أية بادرة من التعب، ولم يُخطئ قط رغم جهله القراءة والكتابة لا في حساباته النقدية ولا عدد مكاييل الدقيق الذي كان يبيع منه عربات ضخمة، ولا في عدد حزم الحشيش الذي تنتجه كل قصبة مربَّعة من مساحة الحقل.

وكان درون هذا، هو الذي استقدمه ألباتيتش الذي جاء من الأرض المخرَّبة المنهوبة: ليسيا جوري، يوم الدفن، وكلَّفه باستحضار حوالي اثني عشر جوادًا لعربات الأميرة، وثماني عشرة عربة صغيرة للأمتعة التي كان يجب نقلها. وعلى الرغم من أن القرويين كانوا خاضعين لنظام الحصة، فإن تنفيذ مثل هذا الأمر في نظر ألباتيتش ما كان يجب أن يلقى أية صعوبة؛ لأن بوجوتشاروفو كانت تعد مائتين وثلاثين بيتًا وسكانها كلها في يسر. مع ذلك، فإن شيخ القرية درون خفض عينيه لدى تلقِّيه الأمر دون أن ينبس ببنت شقة، ولقد عيَّن له ألباتيتش بعض القرويين من معارفه الذين يمكن أن يقوموا بعملية النقل، فقال درون إن خيول أولئك القرويين غير موجودة، فعيَّن له ألباتيتش غيرهم. غير أن درون زعم أن هؤلاء بالمثل لا يملكون جيادًا؛ فالبعض صودر لمصلحة التاج والبعض الآخر أُنهك، بل إن قسمًا من خيولهم نفقت من قلة الغذاء. ولقد اشتطَّ في مزاعمه إلى حدِّ تعذُّر إيجاد خيول للعربات.

تأمَّله ألباتيتش بانتباه وقطَّب حاجبَيْه. وإذا كان درون يُعتبر شيخ بلد مثاليًّا، فإن ألباتيتش الذي ظلَّ عشرين عامًا يدير أملاك الأمير، كان كذلك مسجِّلًا مثاليًّا بالمثل، ولقد كان يمتاز بحاسة خارقة تساعده على تفهُّم حاجات ومشاعر الأشخاص الذين يتعامل معهم تفهُّمًا رائعًا؛ لذلك فإن نظرة واحدة إلى درون كشفت له على الفور أن أجوبة درون لم تكن تعكس إمكانياته واستعداداته الشخصية، بل إمكانيات بوجوتشاروفو الذي كان متأثرًا بنفوذ أهلها. ولم يكن جاهلًا أن درون الفلاح الذي أَثْرى، والذي يكرهه القرويون الآخرون، لا بدَّ وأن يتردَّد بين اختيار واحد من المعسكرين: معسكر السادة، ومعسكر القرويين. ولقد قرأ ألباتيتش كل هذا على وجه الرجل البسيط؛ لذلك فقد مشى إليه مقطَّب الحاجبَيْن، وقال له: «اسمع يا درون، لا تروِ لي ترَّهات، لقد أعطاني صاحب السعادة الأمير آندريه نيكولايفيتش نفسُه الأمرَ بإجلاء كل الناس وعدم ترك أحد على اتصال مع العدو، وهناك أمرٌ من القيصر متعلِّق بهذا الموضوع، وكل مَن يبقى يُعتبر خائنًا. هل تسمعني؟»

أجاب درون دون أن يرفع إليه عينيه: «أسمع.»

لكن هذا الجواب لم يُرضِ ألباتيتش، فقال وهو يهزُّ رأسه: «آه! درون، سوف يفسد الأمر!»

فقال درون حزينًا: «كما تشاء!»

استرسل ألباتيتش، الذي أخرج يده من شق «قفطانه» وأشار إلى الأرض يلفت نظر درون بحركة مفخَّمة إلى مواطئ قدميه: «كفى، لا تتظاهر بالمكر! إنني لا أرى بوضوح ما في نفسك فحسب، بل كذلك أرى ما تحت قدميك إلى عمق ثلاثة أقدام.»

ألقى درون المضطرب نظرة مختلسة إلى ألباتيتش، لكنه ما لبث أن خفض عينيه على الفور.

– «دعك من هذه الحماقات واذهب إليهم وقُلْ لهم أن يستعدوا للرحيل غدًا إلى موسكو، وأن يأتوا منذ صباح الغد بالعربات لنقل أمتعة الأميرة، وعلى الأخص لا تظهر في الاجتماع. هل سمعتني؟»

تهالَك درون عند قدمي المسجِّل: «يا أياكوف ألباتيتش، اعزلني من مناصبي! استعِدْ مني المفاتيح بحقِّ السماء!»

فقال ألباتيتش بصرامة: «كفى!»

وأعاد قوله: «إنني أرى ما تحت قدميك إلى عمق ثلاثة أقدام.»

وكان يعرف أن براعته في العناية بالنحل وخبرته في مسائل البذار، وواقع أنه استطاع طيلة عشرين عامًا وأكثر أن يُرضي الأمير العجوز؛ كل ذلك أعطاه لقب ساحر، وإن السحرة يستطيعون رؤية ما تحت قدمَي رجل إلى عمق ثلاثة أقدام.

نهض درون وأراد أن يتكلَّم، لكن ألباتيتش قطع حديثه: «ما الذي يطوف برأسك، هن؟ هيا، ماذا دهاك؟»

– «ماذا أستطيع أن أعمل مع هؤلاء الناس؟ إنهم كلهم منقلبون رأسًا على عقب … لطالما قلت لهم …»

– «قلت لهم! قلت لهم! … إنهم سكارى، أهو هذا؟»

– «لم يعودوا مالكي أعصابهم يا أياكوف ألباتيتش، هذا هو البرميل الثاني الذي يأتون عليه.»

– «حسنًا، أصغِ إذن. سأُخطِر الحاكم، وأنت اذهب وقل لهم أن يتركوا كل هذه الأشياء، وأن يقدِّموا العربات.»

– «رهن أوامرك.»

لم يُلحُّ أياكوف ألباتيتش أكثر من ذلك، كان يعرف أن أفضل طريقة لجعل الناس يطيعونك هي ألَّا تضع طاعتهم موضع الشك، فلمَّا حصل من درون على جملة «رهن أوامرك» الخاضعة، فقد اكتفى بها رغم أنه تأكَّد أكثر من أي وقت أن العربات لن تقدُم دون تدخل القوات المسلحة.

والواقع أن المساء أقبل دون أن تصل عربة واحدة، ولقد تشكَّل اجتماع جديد أمام المشرب قرَّروا فيه طرد الخيول إلى الغابة وعدم تقديم شيء. ودون أن يقول شيئًا للأميرة أمر أن تحلَّ الخيول المقطورة إلى عرباته الشخصية التي جاء بها من ليسيا جوري، وأن تقطر تلك الخيول التي تصبح شاغرة بحكم إبقائه عرباته في مكانها، إلى عربات الأميرة، ثم مضى يستنجد بالسلطات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤