الفصل الخامس والعشرون

انسحاب روستوبتشين

حوالي التاسعة صباحًا، كانت القطعات قد شرعت تجتاز موسكو، فلم يعد يتقدَّم أحد لتلقِّي الأوامر، ولقد ذهب كل من استطاع أن يذهب مستعملًا وسائله الخاصة. أمَّا الذين بقوا في المدينة فكانوا يقرِّرون بأنفسهم ما عليهم أن يعملوه.

وكان الكونت قد أعطى أمرًا بإعداد عربة له تقلُّه إلى سوكولنيكي، وراح ينتظر في مكتبه مربدَّ الوجه صفراويه، متجهِّم الأسارير معقود الذراعين.

أثناء السلم، يعتقد كل إداري أن الفضل في سير كل المواطنين الذين عهد أمرهم إليه يرجع إلى قيادته زمام حركتهم، ويجد في إيمانه بأنه لا غِنى لهم عنه، المكافأةَ الرئيسية على عمله ومجهوده. وطوال الهدوء الذي يخيِّم على محيط التاريخ يعتمد ذلك الربَّان الإداري وهو على ظهر سابحته الهزيلة، بمحجنه على سفينة الدولة، ليتقدَّم هو نفسه، ويستطيع هذا الربَّان، وهذا أمر ملموس، أن يظنَّ أنه يدفع السفينة التي يرتكز عليها بقواه الشخصية، ولكن إذا ما ثارت العاصفة وأصبح البحر متلاطم الأمواج وجُرحت السفينة، فإن ذلك الوهم يصبح مستحيلًا؛ فالسفينة تتابع سيرها المهيب وحدها مستقلَّة، وربَّان السابحة يكتشف أنه ليس الرئيس مبعث كل قوة، بل رجل ضعيف غير ذي فائدة، تافهًا ومسكينًا.

وهذا ما كان يحس به روستوبتشين، وهو ما كان يثير حفيظته.

ولقد دخل رئيس الشرطة — ذلك الذي أوقفه الجمهور — على الكونت في اللحظة التي جاء مساعده يعلن أن الجياد جاهزة. كان كلاهما شاحب الوجه، فأعلن مدير الشرطة بعد أن كشف عن إنجازه مهمته، أن الفناء يعجُّ بجمهور ضخم يرغب في رؤية سعادته.

اجتاز روستوبتشين دون أن ينطق بكلمة البهو المشرق الفخم، واقترب من باب الشُّرفة، فأمسك بمقبضه ثم أفلته، وجاء إلى نافذة يمكن مشاهدة الجمهور كله منها. كان الفتى العملاق في الصف الأول صارم الوجه، يتابع أحاديثه وهو يلوِّح بيديه، وكان الحدَّاد ذو الوجه الدامي واقفًا إلى جانبه مربدَّ الأسارير، وزمجرة الأصوات تبلغ الأسماع من وراء النوافذ المغلقة.

سأل روستوبتشين وهو يغادر النافذة: «هل العربة جاهزة؟»

فقال المساعد: «هي جاهزة يا صاحب السعادة.»

اقترب روستوبتشين من الشرفة مرةً أخرى، ثم استدار نحو مدير الشرطة واستعلم: «ولكن، ماذا يريدون؟»

– «يا صاحب السعادة، إنهم يصرخون بأنهم اجتمعوا ليمشوا على الفرنسيين تبعًا لأوامركم، وأنهم خينوا. إنهم طائفة من اللغَّاطين يا صاحب السعادة، ولقد أفلتُّ منهم بصعوبة كبرى. يا صاحب السعادة، لو حق لي أن أعرض …»

زمجر روستوبتشين غاضبًا: «تفضَّل بالانسحاب. إنني أعرف ما يجب عليَّ أن أعمله بدونك.»

وراح ينظر إلى الجمهور من باب الشرفة، فكَّر والغضبة الهوجاء تغلي في أعماقه ضد ذلك الذي يمكن أن يُعزى إليه كل ما حصل فجأة: «ها هو ذا ما عملوه بروسيا! هذا هو الأسلوب الذي يعاملونني به!» وكما يحدث عادةً للأشخاص الغضوبين، كان الغضب يجتاحه لكنه ما زال يبحث عن الغرض. راح يحدِّث نفسه دون أن يبارح الجمهور بعينَيْه: «ها هم أولاء خمان الناس، حثالة الشعب، السُّوقة الذين ألَّبوهم بحماقتهم.» وأعقب وهو يتابع بعينَيْه الفتى العملاق وهو يلوِّح بيديه: «لا بدَّ لهم من ضحية.» ولقد راودته هذه الفكرة فجأةً؛ لأنه كان في حاجة إلى تلك الضحية لتجد غضبته سببًا. كرَّر: «هل العربة جاهزة؟»

فقال المساعد العسكري: «نعم يا صاحب السعادة، أية أوامر تعطيها بصدد فيريشتشاجين؟ إنه ينتظر قرب المرقاة.»

فزمجر روستوبتشين وكأن ذكرى فجائية طافت بخياله: «آه!»

وفتح باب الشرفة فجأةً وتقدَّم بخطًى ثابتة، فصمتت الأصوات، ورُفعت القلانس والقبَّعات، وشخَصت الأبصار كلها إلى روستوبتشين.

هتف دائريًّا وبصوتٍ مرتفع: «مرحى يا أبناء! وشكرًا إذا جئتم. سوف أنزل من فوري إلى صفوفكم، ولكن يجب قبل كل شيء تسوية حساب المجرم. يجب أن نعاقب المجرم الذي سبَّب ضياع موسكو. انتظروني!»

واختفى الكونت داخل حجراته بمثل السرعة التي ظهر فيها، وانصفق باب الشرفة بعنف.

وطافت بالجمهور همسة ارتياح وراح الناس يتحادثون وكأنهم يتبادلون الاعتذار لضعف إيمانهم: «هن! سوف يخلصنا من المجرمين! وأنت الذي كنت تقول إنه فرنسي … سوف يريك ما هو النظام!»

وبعد دقائق، خرج ضابط من مدخل الشرف مسرعًا، فأصدر أمرًا لم يلبث بعض الفرسان بعده أن وقفوا في وضعية «تنكَّبْ سلاحك»، فكفَّ الجمهور عن النظر إلى الشُّرفة وتقدَّم بنَهَم نحو المرقاة.

وكان روستوبتشين في تلك اللحظة قد وصل بخطوات سريعة حازمة، فجال بعينيه فيما حوله وكأنه يبحث عن شخص ما.

سأل الكونت: «أين هو؟»

وفي اللحظة التي قال فيها هذه الكلمات، شاهد شابًّا ذا عنق طويل رقيق ورأس حليق حتَّى وسطه، وقد بدأ شعره ينبت من جديد، آتيًا من ركن البيت يخفره اثنان من الجنود، كان مرتديًا «فروة» كانت فيما مضى أنيقة جدًّا ولا ريب، يغطِّيها جوخ أزرق على فراء ثعلب مهترئ من الاحتكاك. وكانت سراويله الخاصة بالسجناء المصنوعة من الكِتَّان ممزَّقة وقذِرة، وقد أُدْخِلت في ساقَيِ الحذاءَيْن الدقيقين القذرين المثنيين، وكانت السلاسل الثقيلة التي تعيق ساقَيْه الهزيلتين تجعل مشيته أشبه بالمتردِّدة.

صاح روستوبتشين الذي أشاح بسرعة عن الشاب وأشار إلى آخر درجة من المرقاة: «آه! ليأتوا به إلى هنا!»

فصعد الشاب على الدرجة المعينة وهو يتقدَّم بتثاقل مصحوبًا بصليل السلاسل، وأزاح بإصبعه ياقة معطف الفراء التي كانت تزعجه، وأدار مرتين عنقه الطويل، ثم عقد وهو يزفر يديه الناحلتين اللتين لم تمارسا عملًا؛ على بطنه.

ران الصمت بضع ثوانٍ، بينما كان الشاب يقف على الدرجة، باستثناء بعض النحنحات والأنَّات وبعض فورات الغضب العابرة، وقليل من الردي في الصفوف الخلفية.

راح روستوبتشين يمر يده على وجهه ويقطِّب حاجبَيْه منتظرًا أن يتخذ الشاب مكانه على درجة المرقاة، وفجأة، قال بصوت معدني رنَّان: «أيها الأولاد! هذا الرجل هو فيريشتشاجين، السافل الذي سبَّب ضياع موسكو.»

اتخذ الشاب ذو معطف فراء الثعلب وضعية متواضعة، عاقدًا يديه أمامه، مُحنِيًا جذعه قليلًا، وكان وجهه الفتيُّ الناحل ذو الأمارات اليائسة، الذي شوَّهه رأسه الحليق، منحنيًا بعناد، ولقد رفع جبهته ببطء عندما فاه الكونت بكلماته الأولى ونظر إليه من أسفل وكأنه يهمُّ أن يقول له شيئًا، أو أن يقابل نظرته على الأقل، لكن روستوبتشين ما كان ينظر إليه، وقرب الأذن، على طول عنق الفتى النحيل، ازرقَّ عرق أشبه بالحبل الممدود، وغدا وجهه فجأةً بلون الأرجوان.

شخَصَت العيون كلها إليه، فراح يتأمل الجمهور. ولعل تعابير الوجوه التي طالعته شجَّعته، فطافت على شفتَيْه ابتسامة حزينة مذعورة. ومن جديد أطرق برأسه، لكنه نصب قامته على الدرجة.

قال روستوبتشين بقسوة دون أن يرفع صوته وهو يحطُّ بنظرة على فيريشتشاجين: «لقد خان إمبراطوره ووطنه وباع نفسه لبونابرت، إنه وحده بين الروسيين الذي لوَّث شرف الاسم الروسي، وبسببه ضاعت موسكو.»

وكأن صغار موقف الشاب سبَّب في نفسه انفجارًا؛ إذ رفع يده وقال في شبه زمجرة وهو يخاطب الجمهور: «احكموا عليه بأنفسكم! إنني أهبُهُ لكم!»

ظل الجمهور صامتًا تتكاثف صفوفه، وكانوا جميعًا متراصِّين بعضهم إلى جانب البعض الآخر، وقد امتنع عليهم التنفس والحركة، ينتظرون حدوث شيء مجهول، شيء غامض رهيب.

وكان الذين في الصفوف الأولى، الذين يرون ويسمعون ما يحدث، مذهولين وقد جحظت عيونهم، وفَغَرُوا أفواههم، يقاومون بكل قواهم موجة الذين من ورائهم.

هتف روستوبتشين: «اضربوه! لينفق الخائن الذي لوَّث شرف الاسم الروسي! مزِّقوه! آمركم بذلك.»

ولدى سماع الجمهور لهجة روستوبتشين الغاضبة وليس كلماته، ندا عنه ما يشبه الزمجرة، وارتعش، لكنه عاد إلى جموده.

نطق فيريشتشاجين بصوتٍ وَجِل ومسرحي معًا في اللحظة التي ران فيها الصمت: «كونت! أيها الكونت، إن الله وحده قاضينا!»

ورفع رأسه فعاد الدم من جديد ينفخ العِرق الضخم في العنق الهزيل، بينما راح الدم يتصاعد إلى وجهه ويبارحه بسرعة، لكنه لم يستطِع أن يتابع الكلام؛ إذ زمجر روستوبتشين فجأةً وقد حاكى امتقاع وجهه امتقاع فيريشتشاجين: «مزِّقوه! آمُر بذلك!»

ونضا ضابط الحرس حسامه من غِمده وصاح: «أشهِروا السيوف!»

واستفزَّت الجمهور موجة أقوى من السابقة بلغت الصفوف الأولى، فجعلتها تندفع مترنِّحة حتَّى درجات المرقاة، وبات العملاق قرب فيريشتشاجين وقد بان الروع على وجهه وإن ظلت يده مشرعة، وقال الضابط بصوت لا يكاد يُسمع: «أثخنوه جراحًا!»

فضرب أحد الجنود وقد صعر وجهه فجأةً بالغضب، فيريشتشاجين بعرض سيفه على رأسه، فصرخ التاعس وقد فوجئ بالضربة: «آه!»

وبان الذعر في عينيه دون أن يبدو عليه أنه فهم ما يريدونه منه، وطافت بالجمهور زمجرة ذعر وذهول، وهتف بعضهم بحزن: «أوه! يا ربي!»

ولكن، بعد صيحة الذهول تلك، أطلق فيريشتشاجين صيحة أخرى من الألم هذه المرة، فكانت تلك الصرخة سبب ضياعه. لقد تحطَّم شعور الإشفاق الذي توتَّر إلى أقصى الدرجات، فاستوقف الجمهور، تحطَّم فجأةً فكانت الجريمة التي شُرِع بها واجبة الإنهاء، وضاعت أنَّة الرجل المتألِّمة وسط زمجرة الجمهور الحاقدة المتوعِّدة، وكما تبتلع موجة سابعة وأخيرة بأخرى غارقة، فإن الموجة الأخيرة التي لا تقاوم من الغضبة الشعبية انتقلت من الصفوف الخلفية إلى الأمامية فأغرقتها وابتلعت كلَّ شيء. أراد الجندي الذي ضرب أول مرة أن يضرب مرةً أخرى، فاندفع فيريشتشاجين نحو الجمهور مادًّا يدَيْه إلى الأمام وهو يطلق صرخات مذعورة، فغرس الفتى العملاق الذي اصطدم به، أظافره في عنقه النحيل، وتدحرج معه تحت أقدام الذين راحوا يندفعون إلى الأمام.

ولقد راح البعض يضربون فيريشتشاجين ويمزِّقون ثيابه، في حين راح الآخرون ينهالون على العملاق ضربًا. ولقد أبلغت صيحاتُ الذين كانوا على وشك الاختناق من الزحام والذين هرعوا لنجدة العملاق، الغضبةَ الجماهيرية إلى ذروتها، فلم يخلِّص الجنود العامل المدمى وهو على حال أقرب إلى الموت إلا بشقِّ الأنفس. ولقد ظل الأشخاص الذين راحوا يضربون فيريشتشاجين ويخنقونه ويمزِّقونه، فترة طويلة رغم الغضب اللاهب الذي حفَّز الجمهور على إنهاء الجريمة التي شرع فيها، وقتًا طويلًا عاجزين عن الإجهاز عليه. كانوا متدافعين من كل الجهات يترنَّحون ويتقاذفون يمينًا ويسارًا، لا يتوصَّلون إلى توجيه الضربة القاضية إليه ولا إلى الإبقاء عليه.

– «ضربة بلطة موفَّقة، هن؟ … هل نفق؟ … الخائن، يهوذا! كلا، لا زال يتنفَّس! … إن روحه مرنة! … لم يَلْقَ إلا ما يستحق! … ضربة بلطة! هل انتهى؟»

ولمَّا كفَّت الضحية عن التخبُّط، وحلَّت الحشرجة الطويلة محل صرخاتها، كفَّ الجمهور أخيرًا عن التدافع حول الجثة الدامية. راح كل شخص الآن يقترب ليُلقي نظرة فيأخذه الرَّوع والخزي والتبكيت، وينسحب وقد غدا شديد الصَّغار.

كانوا يردِّدون: «أوه! يا ربي! الشعب، يا لَلوحش الضاري! كيف كان يستطيع أن يعيش بعد كل هذا؟ ثم يا له من شابٍّ يافع! لا ريب أنه كان مُدلَّلًا! آه! الشعب! يقولون إن الفاعل ليس هذا … كيف ليس هو؟ … أوه! يا ربي! والآخر الذي ضربوه، يقولون إنه هو الآخر نصف ميت! … أوه! الشعب … الذي لا يخاف الخطيئة …» هذا ما كان يقوله الأشخاص أنفسهم الذين راحوا الآن يتأملون بحنان رءوف جثة فيريشتشاجين، الذي راح وجهه يزرقُّ وقد غطَّاه الدم والغبار، والذي كان عنقه النحيل نصف مفصول.

وأراد شرطي أن يبدي غيرة بعد أن وجد أنَّ بقاء تلك الجثَّة في فناء سعادته أمر غير لائق، فأمر الجنود بجرِّها إلى الشارع، فأمسك جنديَّان بساقَي فيريشتشاجين المحطَّمتين وجرَّاه خارجًا، فكان الرأس الحليق الملوَّث بالدم والغبار في نهاية العنق الدقيق الطويل، يقفز على الأرض ويصطدم بها، وابتعد عن الجثة.

عندما سقط فيريشتشاجين، وبينما راح الجمهور الثائر يتدافع ويصطخب حوله وفوقه، شحب وجه روستوبتشين فجأةً، وبدلًا من الذهاب إلى المرقاة الخلفية، حيث كانت عربته تنتظره، راح بخطوات آلية يمشي مطرق الرأس مسرعًا في الممشى المؤدي إلى حجرات الدور الأرضي. كان ممتقع الوجه، لا يستطيع ضبط فكِّه الأسفل عن الارتعاد كالمصاب بالحمَّى، وكان صوت مذعور مرتعد يردَّد خلفه: «من هنا يا صاحب السعادة. إلى أين ترغب في الذهاب؟ من هنا إذا أمرت.»

لم يكن الكونت روستوبتشين بحالة تمكِّنه من الإجابة، لكنه عاد بخضوع على أعقابه، فسار في الاتجاه الذي أشير به عليه، وكانت عربته تنتظر عند المرقاة الخلفية، وزمجرة الجمهور الصاخب تصل إلى هناك. صعد الكونت روستوبتشين إلى عربته وأصدر أمره بالذهاب إلى بيته الريفي في سوكولنيكي.

عندما بلغ مياسنيتسكايا، ولم يعُد يتناهى إلى مسامعه صراخ الجمهور، اجتاح الأسف الكونت روستوبتشين. تذكَّر فجأةً الاضطراب والخوف اللذين ترك مرءوسيه يرونهما عليه، فحدَّث نفسه بالفرنسية وهو ساخط على نفسه: «إن الرعاع مخيفون، إنهم كريهون، إنهم كالذئاب الذين لا يمكن تهدئتهم إلا باللحم!» وعادت إلى ذاكرته كلمات فيريشتشاجين: «كونت! إن الله وحده قاضينا!» فاجتازت ظهره قشعريرة باردة بغيضة، لكن هذا الشعور كان مؤقَّتًا؛ إذ لم يلبث الكونت روستوبتشين أن ابتسم لنفسه ابتسامة محتقرة. فكَّر: «كانت لديَّ واجبات أخرى. كان يجب أن أهدِّئ الجمهور. إن ضحايا كثيرة أخرى قضت وتقضي للصالح العام.» وحينئذٍ راح يفكِّر في الالتزامات المتطلَّبة منه حيال أسرته وحيال المدينة (المعهود أمرها إليه) وحيال نفسه، ليس حيال شخص فيدور فاسيلييفيتش روستوبتشين (وكان يرى أن هذا يضحِّي بنفسه من أجل الصالح العام)، ولكن حيال الحاكم، مسلِّم السلطة وممثل الإمبراطور. «لو أنني لم أكن إلا فيدور فاسيلييفيتش، لارتسم خط سلوكي على نحوٍ آخر، لكنني كنت مضطرًّا على أن أصون حياة الحاكم وكرامته.»

راح يتأرجح بليونة فوق نوابض عربته المرِنة بعيدًا عن الزمجرات الجماهيرية الكريهة، ويتذوَّق طعم الراحة الجسدية، ولقد أتت الراحة الجسدية كالعادة بالهدوء الفكري. لم تكن الفكرة التي هدَّأته جديدة، فمنذ أن وُجِد العالم وراح الرجال يقتتلون، لم تقع جريمة ما دون أن يجد فاعلُها لنفسه مبرِّرًا في قوله لنفسه إنها ارتُكبت للصالح العام أو لسعادة الآخرين المزعومة.

إن سعادة الغير هذه تظل أبدًا مجهولة من الرجل الذي لا يعميه هواه، لكن الرجل الذي يندفع حتَّى يبلغ الجريمة، يعرف دائمًا وبكل تأكيد، ممَّ تتألَّف، وكان روستوبتشين الآن يعرف هذه السعادة.

لم يكن ضميره لا يأخذ عليه ذلك الفعل الذي أتى به فحسب، بل إنه كان كذلك يجد المبررات ليكون راضيًا عما فعل؛ لأنه استخدم هذه المناسبة لمعاقبة مجرم وتهدئة الجمهور بآنٍ واحد.

فكَّر روستوبتشين: «لقد حُوكِم فيريشتشاجين وحُكِم عليه بالموت — في حين أنَّ مجلس الشيوخ لم يحكم عليه إلا بالأشغال الشاقَّة — لقد كان ماكرًا وخائنًا، فما كنت أستطيع أن أتركه دون عقاب، وبذلك اصطدتُ عصفورين بحجرٍ واحد. لقد أعطيتُ ضحيةً للشعب لأهدِّئه وعاقبت سافلًا.»

ولمَّا بلغ منزله الريفي، أصدر الكونت — الذي هدَأت أعصابه نهائيًّا — أوامره بالإقامة هناك.

وبعد نصف ساعة، كان يجتاز سهل سوكولنيكي جريًا بقوة الجياد البطرة، دون أن يعود إلى التفكير فيما جرى منذ حين، مقتصرًا بتفكيره على المستقبل، قاصدًا جسر إياووزا الآن؛ حيث قيل له إنه سيجد كوتوزوف.

كان الكونت روستوبتشين يعدُّ خياله في التعنيف القاسي الغاضب الذي سيوجِّهه إلى كوتوزوف جزاء مكره. سوف يجعل هذا الثعلب العجوز الملَّاق يشعر بأن مسئولية كل المصائب الناجمة عن ترك موسكو، المصائب التي سينجم عنها ضياع روسيا (حسب تنبؤات الكونت)، تقع على رأسه العجوز ضعيف الذكاء بكليَّتها. وراح روستوبتشين وهو يفكِّر فيما سيقوله لا يستقر في عربته من الغضب، ويُلقي حوله نظرات حانقة.

كان سهل سوكولنيكي قاحلًا، وعند أقصاه قام المستشفى ومأوى العجزة، فكانت تُرى جماعات بثياب بيضاء، وبعض الأشخاص المنعزلين الذين يبدون كأنهم يهيمون على وجوههم وهم يلوِّحون بأذرعهم ويزمجرون.

كان أحد أولئك الأشخاص قادمًا لاستقبال العربة، فراح الكونت روستوبتشين نفسه وسائق عربته وحرَّاسه من الفرسان، راحوا جميعهم ينظرون بتطلُّع ممزوج بالذعر إلى أولئك المجانين الذين حُرِّروا منذ حين، وبصورة خاصة إلى ذلك الذي يقترب منهم.

راح المجنون يترنَّح على ساقَيْه الطويلتين الهزيلتين في ثوب منزلي فضفاض، وعيناه شاخصتان إلى روستوبتشين، وأخذ يصرخ له بقولٍ بصوتٍ صدئ وهو يشير إليه بالوقوف. وكانت لحيته غير الكاملة تشكِّل خصلات غير منتظمة حول وجهه النحيل الأصفر، ووجهه الكالح المكتئب خطير وصارم، وحدقتاه بلون الزجاج الأسود تتراقصان في أعماق عينيه الكئيبتين زعفرانيتَي اللون. أخذ يصرخ بصوت مدوٍّ: «قف! قف! آمرك أن تقف!»

ثم عاد يهدِّد لاهث الأنفاس ويشيح بيديه بحركات واسعة.

وعندما أضحى بحذاء العربة راح يجري بجانبها. صاح وصوته يعلو أكثر فأكثر: «ثلاث مرات، لقد قتلوني ثلاث مرات، ونُشِرت من بين الموتى! … لقد مزَّقوني وصلبوني … وسوف أُبعث … سأُنشَر … لقد مزَّقوني إربًا. سوف ينهار ملكوت الله، سوف أَهدمه ثلاث مرات ثم سأقيمه ثلاث مرات!»

وفجأةً امتقع وجه الكونت روستوبتشين كما حدث في اللحظة التي ألقت الجماهير بنفسها على فيريشتشاجين، فأشاح بوجهه وصرخ بالحوذي بصوت مرتعد: «بسرعة … بسرعة أكثر!»

فانطلقت العربة بأقصى سرعة، لكن الكونت روستوبتشين ظل فترة طويلة يسمع صيحة المجنون اليائسة الآخذة بالخفوت تدريجيًّا في البُعْد، في حين راحت تظهر أمام عينَيْه تقاطيع وجه الخائن في معطفه الفراء، ذلك الوجه المذهول المأخوذ الدامي.

كانت هذه الذكرى لا تزال قريبة، لكن روستوبتشين شعر بها الآن مغروسة في أعماق نفسه. كان يشعر أن أثرها الدامي لن يُمحى، وأنه على العكس كلما تقدَّمت به السنوات كلما عاشت هذه الذكرى في قلبه قاسية معذِّبة. كان يسمع ويظن أنه يسمع صدى كلماته الشخصية: «فرِّقوه بسيوفكم. أنتم مسئولون عنه بحيواتكم.» وفكَّر: «لماذا قلت هذه الكلمات؟ لقد نطقت بكل هذا دون أن أفكِّر فيه تقريبًا. كنت أستطيع ألَّا أقوله وما كان شيء ليحدث.» عاد يرى الوجه المروَّع الذي غدا فجأةً غاضبًا، وجه الجندي الذي كان أول من ضرب، والنظرة الصامتة المفعمة باللوم التي ألقاها عليه ذلك الغلام في ردائه المصنوع من فراء الثعلب، فراح يكرِّر لنفسه: «لكني لم أفعل هذا من أجل نفسي. لقد كنت مُرغَمًا عليه. الرعاع، الخائن … الصالح العام.»

وكان الجيش يتزاحم على جسر إياووزا والحرارة شديدة، وكان كوتوزوف جالسًا حزينًا على مقعد قرب الجسر مقطَّب الحاجبَيْن يَنكُت الرمال بطرف سوطه، عندما اقتربت منه عربة في جلَبة صاخبة، وتقدَّم إليه رجل في بزَّة جنرال يضع على رأسه قبَّعة ذات ريش، له نظرة تائهة تجمع بين الانفعال والخوف، وراح يحدِّثه باللغة الفرنسية. ذلك كان الكونت روستوبتشين. قال لكوتوزوف إنه جاء يلحق به؛ لأن موسكو والعاصمة لم يعُد لهما وجود، ولأنه لم يبقَ إلا الجيش. وأكَّد: «وكان يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك لو أن سموَّكم لم تؤكِّدوا لي أن موسكو لن تُسلَّم على الأقل دون قتال. إن كل هذا ما كان ليحدث!»

تأمَّل كوتوزوف روستوبتشين وكأنه لم يفقه معنى كلماته، وبدا كمن يحاول بكل قواه ليقرأ شيئًا ما خاصًّا كان ينمُّ عنه وجه الرجل الذي يحدِّثه في تلك اللحظة. وانتهى الأمر بروستوبتشين المضطرب إلى الصمت، هزَّ كوتوزوف رأسه ببطء وقال بلهجة هادئة دون أن يحوِّل عنه نظرته الفاحصة: «لكنني لا أُزمع تسليم موسكو دون قتال.»

فهل كان كوتوزوف يفكِّر في شيء آخر وهو ينطق بتلك الكلمات؟ أم تراه نطق بها لغايةٍ في نفسه وهو عارف أنها خالية من المعنى؟ مهما كان الأمر، فإن روستوبتشين ابتعد دون أن يجيب، ثم — وهو أمر عجيب — راح حاكم موسكو العام روستوبتشين المتجبِّر وفي يده سوط، يقترب من الجسر ليفرِّق العربات التي ازدحم بها بصيحات عالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤