الفصل الرابع

المجلس العسكري

اجتمع المجلس العسكري في الساعة الثانية في كوخ القروي آندريه سافوستيانوف — ولقد ظل «كوخ كوتوزوف» قائمًا حتَّى عام ١٩١٧م — الرحيب المريح، وراح الرجال والنساء والأطفال وكل أعضاء هذه الأسرة الهامة مجتمعين في «السقيفة» في الجانب الآخر من الدهليز، فلم يبقَ في الغرفة إلا مالاشا حفيدة الفلاح آندريه البالغة من العمر ستة أعوام؛ إذ آنسها عظيم الرفعة بإعطائها قطعة سكر بينما كان يشرب شايه، فجثمت فوق موقد الحجرة الكبيرة وكانت الصغيرة تتأمل — جزِعة سعيدة — الوجوه من أعلى والألبسة والأوسمة التي على صدور الجنرالات الذين راحوا يدخلون الواحد أثر الآخر، ويجلسون على مقاعد عريضة في الركن الجميل — ركن الأيقونات إلى يمين المدخل — تحت الصورة المقدَّسة. وجلس الجد، كما راحت مالاشا تسمي كوتوزوف في سرها منفردًا في الزاوية المعتمة قرب الموقد. لقد تهاوى بتثاقل على مقعده القابل للثني، ولم يكفَّ عن الزفير وهو يسوِّي ياقة بزَّته التي ظلت تضايق عنقه رغم أنه حلَّ أزرارها. وكان الداخلون يتقدَّمون لتحيته، فكان يشدُّ على أيدي بعضهم ويومئ برأسه إلى البعض الآخر. وكانت قبالة كوتوزوف نافذةٌ أراد مساعده العسكري كائيساروف أن يجذب سترها فندَّت عن كوتوزوف حركة تدل على التبرُّم، أدرك كائيساروف منها أن عظيم الرفعة لا يريد أن يضيء النور وجهه.

وحول الطاولة الخشِنة المصنوعة من خشب الصنوبر التي انتشرت فوقها الخرائط والمخططات والأقلام والورق، دار عدد كبير من الأشخاص، حتى إن التابعين جاءوا بمقعد آخر جلس عليه آخر الداخلين: إيرمولوف، كائيساروف وتول. وتحت الصور المقدَّسة، في مكان الشرف، جلس باركلي دوتوللي وصليب القدِّيس جورج يتدلَّى من عنقه. كان ممتقع الوجه يزيد جبين عريض في إطالة صلعته، تعذِّبه الحمى منذ يومين اثنين، يشعر في تلك الأثناء أيضًا بالارتعاش والانكماش. وكان أوفاروف الجالس إلى جانبه يروي له بحركات عنيفة شيئًا ما بصوت خافت، أسوةً بكل المتحدثين الذين كانوا يتكلمون بخفوت. أما دوختوروف، وهو رجل قصير القامة سمين، فقد كان يصغي بانتباه وهو يرفع حاجبَيْه مستبقيًا يديه متقاطعتين فوق بطنه. ومن الجانب الآخر جلس الكونت أوسترمان-تولستوي، وقد اتكأ على الطاولة وأسند رأسه الضخم ذا التقاطيع النشيطة والعينين البرَّاقتين إلى يده كأنه مستغرق في أفكاره، وكان راييفسكي يصرف نفاد صبره بفَتْل خصلة من شعره الأسود العكف على صدغه بحركة مألوفة، وبالنظر إلى كوتوزوف تارة وإلى باب الدخول تارةً أخرى. وكان وجه كونوفيتشين الجميل الحازم يضيء بابتسامة حانية ماكرة، لقد التقت نظرته بنظرة مالاشا، فغمز لها بعينه، الأمر الذي جعل الصغيرة تضحك.

كانوا جميعًا ينتظرون بينيجسن الذي كان متأخرًا في طعامه الشهي بحجة إعادة فحص الموقع من جديد، وظلوا ينتظرون من الساعة الرابعة حتَّى السادسة دون أن يفتحوا باب النقاش، فراح كلٌّ من جانبه يدور في أحاديث خاصة بصوت خافت خلال ذلك الوقت.

لم يتحرَّك كوتوزوف من ركنه ليقترب من المائدة إلا عندما دخل بينيجسن، لكنه اقترب بشكل لم يسمح للشموع الموقدة أن تضيء وجهه.

فتح بينيجسن الجلسة بالسؤال التالي: «هل ستترك عاصمة روسيا العريقة المقدَّسة دون قتال؟ أم هل سيُدافَع عنها؟» وأعقب السؤال صمت عميق. أصبحت الوجوه كلها مكتئبة، وسُمع كوتوزوف يسعل وهو يغمغم بين أسنانه، فشخصت العيون كلها إليه، ونظرت مالاشا بدورها إلى «الجد». لقد كانت أقرب إليه من كل الآخرين، فرأت وجهه يتقلَّص وكأنه على وشك البكاء، لكن ذلك لم يدُم أكثر من لحظة، وفجأةً هتف بغضب كلمات بينيجسن وهو يبرز النغمة الزائفة: «عاصمة روسيا العريقة المقدسة! اسمح لي أن أقول لك يا صاحب السعادة إن هذا السؤال ليس له أي معنى بالنسبة إلى روسي (وأحنَى جسمه الضخم إلى الأمام)، لا جدوى من طرح هذا السؤال؛ لأنه محروم من كل المعاني. إن المسألة التي رجوت هؤلاء السادة أن يجتمعوا من أجلها مسألة عسكرية، هي التالية: «إن خلاص روسيا في جيشها، فهل من الأفضل المغامَرة بإضاعة الجيش بما في ذلك خسارة موسكو بالتحام في معركة؟ أم أن تسلِّم موسكو دون قتال؟» هذا هو ما أريد أن أحصل على رأيكم بصدده.»

وعاد يلقي بظهره إلى مسند مقعده.

ودار النقاش. لم يعتقد بينيجسن أنه خسر معركته؛ لذلك فقد راح يؤيد رأي باركلي وآخرين حول استحالة الالتحام في معركة دفاعية في فيلي، ويعرض — وهو الذي يملأ حب موسكو الوطني قلبه كما كان يزعم — أن تمرَّر خلال الميل قطعات الجناح الأيمن إلى الجناح الأيسر، وأن يُهاجَم بها غداة اليوم التالي الجناح الأيمن الفرنسي. وانقسمت الآراء وراحوا يناقشون ما لها وما عليها. انحاز إيرمولوف ودوختوروف وراييفسكي إلى جانب رأي بينيجسن. فهل تُرى كانوا مدفوعين بعاطفة وجوب تقديم تضحية لا مرد لها قبل ترك المدينة؟ أم كانوا يخضعون لاعتبارات شخصية؟ مهما كان الأمر، فإن هؤلاء السادة بدوا وكأنهم غير مدركين أن مجلسًا عسكريًّا لا يمكنه أن يغير سير الأمور الذي لا بدَّ منه، وأن موسكو قد سُلِّمت بالفعل. أما الجنرالات الآخرون، فقد كانوا مدركين ذلك، فتركوا جانبًا قضية تسليم موسكو، وراحوا يتناقشون حول الاتجاه الذي يجب أن تسير فيه الجيوش. أما مالاشا التي تنظر بعينين جاحظتين إلى كل ما يحدث أمامها، فقد فهمت معنى المجلس العسكري على لون آخر؛ خُيِّل إليها أنها عبارة فقط عن صراع شخصي بين «الجد» و«ذي الذيول الطويلة» كما سمَّت بينيجسن. كانت تراهما يغضبان عندما يتحدَّثان، فكانت في أعماق قلبها الصغير تنحاز إلى صفِّ الجد. وفي وسط النقاش لاحظت النظرة السريعة الماكرة التي ألقاها كوتوزوف على بينيجسن، فلم تلبث أن أدركت — لعظيم بهجتها — أنَّ الجدَّ قد قال شيئًا لذي الذيول الطويلة فأسقطه، وراح بينيجسن الذي تضرَّج وجهه فجأةً يذرع الحجرة جيئة وذهابًا. كانت الكلمات التي أحدثت فيه هذا الأثر القوي هي التي استعملها كوتوزوف، بصوت هادئ ساكن، ليعبِّر عن رأيه في الميزات والأخطار التي يقدِّمها مشروع بينيجسن حول تحرير الجناح الأيسر إلى الجناح الأيمن خلال الليل بغية مهاجمة الجناح الأيمن الفرنسي. قال كوتوزوف: «أيها السادة، إنني لا أستطيع إقرار خطة الكونت؛ لأن حركات الجنود على مقربة من العدو خطيرة دائمًا، والتاريخ العسكري يؤيد هذا الرأي؛ فعلى سبيل المثال … (واتخذ كوتوزوف أمارات التفكير ليبحث عن جملته وهو يُلقي نظرة ساذجة وواضحة على بينيجسن) فمثلًا معركة فردلاند التي آمل أن يكون سيدي الكونت قويَّ التذكُّر لها … إنها لم تنجح كلَّ النجاح؛ لأن قواتنا تجمَّعت على مقربة من العدو …»

ولقد بدا الصمت الذي أعقب هذا الكلام خلال دقيقة واحدة، طويلًا جدًّا في نظر الجميع.

وعادت المناقشة تُقاطَع بكثرة بفترات صمت؛ إذ كان كلٌّ من الموجودين يشعر بأنه لا يجد ما يضيفه إلى أقواله.

تنهَّد كوتوزوف تنهُّدة عميقة خلال إحدى تلك الفترات وكأنه يستعد للكلام، فاستدارت العيون كلها إليه. قال: «حسنًا أيها السادة! إنني أرى أنني وحدي من سيدفع الغرم.»

ثم نهض بجهد واقترب من المائدة: «أيها السادة، لقد أصغيت إلى آرائكم. إن بعضكم على غير وفاقٍ معي — وتريَّث بُرهةً — ولكن أنا، استنادًا إلى السلطة التي مُنحت إليَّ من قِبل مليكي ووطني، أنا، آمر بالانسحاب.»

لم يلبث الجنرالات بعد ذلك أن تفرَّقوا في صمت وعلى وجوههم تلك الأمارات الجليلة التي تنطبع على الوجوه عند الفراغ من حفلة مأتم.

تبادل بعضهم بصوت خافت وبلهجة تختلف كل الاختلاف عن لهجتهم خلال المؤتمر، بضع كلمات مع القائد العام.

أما مالاشا التي كان ذووها ينتظرونها منذ وقت طويل للعشاء، فقد انزلقت برفق على ظهرها فوق المنحنى، وقد تشبَّثت بقدميها العاريتين بنتوءات الموقد، وتسلَّلت عبر سيقان العسكريين، ثم اختفت وراء الباب.

وبعد أن استأذن كوتوزوف من الجنرالات، ظل طويلًا جالسًا ومرفقاه إلى الطاولة، يفكِّر في السؤال الملح نفسه: «ولكن متى؟ متى تقرَّر الجلاء عن موسكو؟ كيف حدث أن بلغوا هذا الحد وأن أصبح هو المسئول عنه؟»

قال لمساعده العسكري شنيدر، الذي جاء يلحق به بعد أن أوغل الليل: «كلا، كلا، ما كنت أتوقع هذا، ما كنت أتوقعه! بل إنني ما كنت لأصدقه.»

فقال شنيدر: «يجب أن تستريح يا صاحب السمو.»

لكن كوتوزوف بدلًا من أن يجيب مساعده العسكري صاح: «كلا، إن ذلك لن يسير على هواه بالنسبة إليهم، لسوف يأكلون لحم الحصان كالأتراك.»

وضرب المائدة بقبضته العريضة وكرَّر: «نعم، لسوف يأكلون هم كذلك، شريطة أن …»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤