تمهيد

ينجذب المعلمون والكتَّاب المعنيون بتاريخ منطقة البحر المتوسط القديم إلى موضوع الإسكندر الثالث المقدوني؛ إن لم يكن بإرادتهم، فبفعل اهتمامات تلاميذهم وقرَّائهم؛ فرغبةُ الناس عارمةٌ في معرفة كل ما تَسَعهم معرفته عن هذا الرجل الذي غيَّرَ مسارَ التاريخ في عمره القصير. وقد احتلَّ الإسكندر مكانةً بارزة في المقررات التي درَّسْتُها، وأعترفُ أنني وضعت مؤلَّفَيْن صغيرين يتناولان جوانب معينة من سيرته، غير أنني لا أنتمي إلى كادر المتخصصين في الإسكندر الأكبر، ولم تكن نيتي وضع مؤلَّف يتناول سيرته وطبيعته. أعني أن هذا لم يكن حتى مجرد خطة دفينة، حتى لعبَتِ الصدفةُ السعيدة دورها.

فمنذ بضع سنين تعرَّفْتُ على آل برتراند — الذي يشغل الآن منصب محرر التكليف في دار نشر بلاكويل ببلشنج — في إطار تقييم عدد من المقترحات تمهيدًا لنشرها المحتمل، وكان بعضها يتناول مسائل مقدونية؛ مما أثار في النهاية سؤالًا طرحه آل عليَّ: أيمكنني التفكير في نهجٍ جديدٍ لوضع سيرةٍ للإسكندر تُضَمُّ إلى سلسلة سِيَر بلاكويل؟ كان سؤاله يلتمس اقتراحات لا مؤلَّفَيْن. أحدُ التوجهات المغرية أن تُتناوَل سيرةُ الإسكندر من المنظور الفارسي، لكننا لم نمضِ في هذا الطريق لأن المصادر اللازمة لهذا النهج أقل حتى من المصادر الإغريقية والرومانية التي تتناول الإسكندر.

بعد استنفاد كل الاحتمالات التقليدية، ذكرتُ اتجاهًا أتَّبِعه دومًا في مجالي البحثي، وهو اليونان فيما قبل التاريخ وفي فجر التاريخ؛ إذ تستلزم طبيعة الشواهد فَهْم السياق الأكبر. فهل من شأن تناوُل العالَم الذي وُلِد فيه الإسكندر وترعرَعَ أن يقدِّم لمحةً عن طبيعة هذا الشخص ذاته؟ سبق أن اتبعت هذا المسار في حلقاتي الدراسية المعنونة «فتوحات الإسكندر: لماذا؟» التي كان الطلاب يستقصون فيها مجموعة منوعة من «تفسيرات» نجاح الإسكندر، كهُوِيَّته المقدونية، وطبيعة مقدونيا ذاتها، وانتمائه إلى السلالة الملكية، وبنوَّته لفيليب وأوليمبياس، وعلاقاته مع الشعوب المجاورة، وحالة الإمبراطورية الفارسية أثناء حياته. فطرحتُ على آل إمكانية أن يوظِّف أحدُ المؤلفين هذا النهجَ لوضع سيرةٍ من إصدار بلاكويل.

بعد ذلك بنحو أسبوعين دعاني آل إلى كتابة سيرة مختصرة للإسكندر تتمحور حول موضوعِ مقرَّرِي الدراسي. وبالرغم مما في هذه الدعوة من إطراء، فإنني اعترضتُ محتجةً بأنني لستُ «متخصصة في الإسكندر»، فردَّ عليَّ آل بقوله إن تناول الموضوع دون وجود فكرة محددة عن دوافع الإسكندر وشخصيته وأمانيه وأحلامه ربما يكون نقطةً إيجابيةً.

وهكذا أقدِّم هذه الدراسة مصحوبةً باعتذار أَسُوقُه إلى كل «المتخصصين في الإسكندر»، الذين لا غنى عن أبحاثهم ومنشوراتهم للتوصُّل إلى أيِّ فَهْمٍ للإسكندر الثالث المقدوني. تسعى الدراسة إلى النظر بعمق في ظروف عالَمه، إيمانًا بعدم إمكانية فهم الأفراد بمعزل عن الثقافات التي تشكِّل حياتهم، دون الدخول في نقد المصادر، أو محاولة حل قضايا محددة تتعلق بالحقائق أو التفسيرات.

سيرًا على خُطَى الكتب الأخرى في هذه السلسلة، لا يحتوي هذا الكتاب على حواشٍ سفلية، وكل الأعمال المذكورة في المتن متضمَّنة في ثبت المراجع. وتشير الاستشهادات من قبيل «الكتاب السابع، ٥٦» من «تاريخ هيرودوت»، إلى مؤلفين قدامى لا يلزم ذِكْر طبعةٍ معينة عند النقل عنهم؛ بما أن الاستشهاد يقدِّم للقراء معلوماتٍ للعثور على مصدر الاقتباسات في أيِّ طبعة. أما الإسنادات إلى مجموعات الشواهد الأكاديمية من قبيل «النقوش الإغريقية، المجلد الثاني، الجزء الثاني» فيتم نقلها بصيغةٍ أتم بين قوسين في قلب المتن.

كانت قراءتي الشواهدَ وفي نفسي هدفٌ مختلف، واستكشافي الأرضَ التي وُلِد فيها الإسكندر من سلسلة جبال بيندوس في الغرب إلى الخليج الثيرمي وما وراءه شرقًا؛ مغامرةً مثيرة؛ إذ تمخضت تنقُّلاتي بإرشاد من الخبيرين ثيو أنتيكاس ولورا وين أنتيكاس عن أفكار جديدة أساسية عن مقدونيا، وكيف كانت أرضها هدفًا للفتوحات ونقطةَ انطلاقٍ للفتوحات في آنٍ واحد، ففتحَتْ معرفتهما بالمنطقة وبالباحثين الذين يعكفون على تعزيز الشواهد التاريخية على ماضي مقدونيا أبوابًا كثيرة، فكريةً وماديةً على السواء. ويعود الفضل في أكثر الأشكال التوضيحية إلى صداقاتهما مع سكان أرض الإسكندر الحاليين، وذلك على نحو ما ستكشفه مصادرُ هذه الأشكال.

ساهَمَ أشخاص كُثر بمساعدات لا غنى عنها في هذا العمل، فقرأ ثيو أنتيكاس مخطوطة الكتاب ثلاث مرات، مقدِّمًا اقتراحات وتصحيحات مشكورة؛ وقام زوجي وزميلي ريتشارد ريجبي جونسون بدور المصور الفوتوغرافي أثناء مغامرتنا المقدونية؛ وأدى لانس جينوت، طالب الدكتوراه بجامعة برنستون حاليًّا، مهمةَ إنشاء الخرائط؛ وأجرى ريان بوهلر، طالب الدكتوراه في التاريخ القديم، تعديلات على هذه الخرائط وأعَدَّ الكثير من الأشكال؛ وتبرَّعَ زميلي وصديقي دانيال وا بخبرته ووقته الثمينَيْن لتحرير غالبية هذه الأشكال؛ وأتاحَتْ منحةٌ قدَّمها لي صندوقُ العوائد للبحوث التابع لجامعة واشنطن إعفائي من مهام التدريس لمدة ثلاثة أشهر قضيتُها في استقصاء أرض مقدونيا، وتخصيص الوقت اللازم للبحث والكتابة. ومن جديدٍ أعربُ لشريكي في تأليف كتابَيْن آخَرين عن شكري على إعداد الفهرس، وهو عملٌ يستمتع به ويتقنه بحق. وأشكرُ آل برتراند وآخرين في بلاكويل ببلشنج لتعاونهم وتسامحهم طوال العملية برمَّتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤