الفصل الثاني

أصله المقدونيُّ

ثمة رأي يُنسَب إلى أبُقراط، الطبيب الشهير الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، يقول إن موضع نشأة الثقافة يحدد طبيعتها. ومن بين العدد الكبير من الكتابات المنسوبة إلى أبُقراط دراسةٌ تحمل عنوان «المدن والماء والهواء» تربط الصحةَ البشرية بغذاء الفرد وبيئته وطريقة حياته، ويؤكِّد المؤلف أن اختلاف سمات الشعوب الآسيوية والأوروبية مرتبطٌ بالمناخ، فانعدامُ الأحوال المناخية الشديدة التقلُّب في آسيا يتمخض عن شعب ليِّن، وأما مناخ أوروبا الأشد تطرُّفًا وتقلُّبًا فيُنتِج شعبًا صلبًا. وقال أرسطو مثل قوله في القرن الرابع (السياسة، الكتاب السابع، ٧، ١٣٢٧بي٢٠إف): الشعوب الآسيوية ذكية لكنها تفتقر إلى النشاط، أما الأوروبيون فنشيطون وإن كانوا يتَّسِمون بقدرٍ أقل من الذكاء الفطري. والمنازلُ التي بين هذين الطرفين هي الأوفر حظًّا؛ يرى أرسطو وأبقراط أن الإغريق يحتلون المنزلةَ الوسط؛ ومن ثَمَّ كانوا على درجة عالية من الذكاء والنشاط. لكنْ من نواحٍ كثيرة يستحق المقدونيون — بل يستحقون أكثر من الإغريق — وصْفَهم بأنهم أصحاب منزلة وسط وافرة الحظ. والحقيقة أن ثمة حكاية تقول إن أبقراط شخَّصَ حالةَ الملك بيرديكاس الثاني المقدوني (٤٥٤–٤١٣)، تدل — إنْ صدقَتْ — على أن أبقراط خبَرَ بيئةَ مقدونيا خبرةً مباشِرة. ويقينًا كان أرسطو على درايةٍ جيدة بمقدونيا والمقدونيين؛ إذ نشأ طفلًا صغيرًا في العاصمة بيلا، ثم اشتغل فيما بعدُ كمعلم للإسكندر الثالث الشاب. يسمح لنا استقصاءُ طبيعة مقدونيا المادية بأن ننظر كيف كان من شأن الأحوال الطبيعية هناك أن تحدد طريقةَ حياة سكانها؛ المقدونيين بوجه عام وأفراد الأسرة الأرغيَّة الحاكمة والإسكندر الثالث بوجه خاص. إذن ففي صحبة أبقراط وأرسطو، يمكننا تحرِّي الأشخاص الذين شكَّلَتْهم تلك البيئة.

مرت الأرض المعروفة باسم مقدونيا بالعديد من الهيئات على مر الزمن؛ إذ كان يتحدَّد مداها الإقليمي إلى حدٍّ كبير بقدرة إحدى جماعاتها البشرية الكثيرة على بَسْط السيطرة على الجماعات الأخرى. ومن أزمنة العصر الحجري القديم حتى وقتنا الحاضر، اجتذب موقع هذه المنطقة إليه بشرًا متنوعين، سواءٌ أكانوا مهاجرين عبره، أم مهاجرين إليه يلتمسون الاستقرار، أم تجارًا، أم غزاةً فاتحين. لكن الهيئة الجغرافية للمنطقة تَحُول دون الوحدة الواسعة النطاق، وتشجِّع بدلًا منها حدوثَ وحدة إقليمية أصغر نطاقًا بين سكانها؛ وما زالَتْ هذه النزعة الإقليمية قائمةً حتى في القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد.

بوجه عام نقول إن مقدونيا هي المنطقة الانتقالية بين شبه الجزيرة اليونانية والقارة الأوروبية. ومقارَنة بهاتين المنطقتين المجاورتين، نجد مناخها وهيئتها يشبهان القارة الشمالية لا البلدان المتوسطية؛ فالأمطارُ أغزر في شهور الشتاء، وأقل في الصيف، وفصولُ الشتاء أشدُّ وطأةً، مع جليدٍ يغطِّي الجبال، وأما فصولُ الصيف — وخصوصًا في السهول — فتشهد ارتفاعًا في درجات الحرارة يتجاوز ٤٠ درجة مئوية (١٠٤ درجات فهرنهايت). يحدُّ مقدونيا من الشرق الخليج الثيرمي، الذي يشكِّل جزءًا من بحر إيجة، ويوفر سهلًا ساحليًّا كبيرًا، لكن معظم المنطقة المعروفة عمومًا باسم مقدونيا ليس ساحليًّا. ومن السهل الساحلي، يمتد نهران كبيران (هالياكمون وأكسيوس وروافدهما) بمنزلة طريقين موصلين إلى المناطق الداخلية، فيمتد هالياكمون إلى الغرب، ثم ينعطف جنوبًا إلى الحدود مع ألبانيا الحديثة، ويمتد أكسيوس (فاردار حديثًا) شمالًا إلى سكوبيه وغربًا إلى الحدود الجنوبية لكوسوفو الحديثة.

يرسم النهران والساحل البحري حدودًا واضحة المعالم لهذا الإقليم من منظور جغرافي، إنْ لم يكن سياسيًّا. علاوة على ذلك، فالنهران بمنزلة موانع طبيعية أمام الدخلاء المحتملين؛ فممرُّ ريندينا مثلًا على نهر أكسيوس بالقرب من مدينة أمفيبوليس القديمة؛ حيث يبدأ في النزول إلى البحر، يتسم بالضيق الشديد؛ ومن ثَمَّ يسهل الدفاع عنه. وتوجد ممرات ضيقة مماثلة شقَّتْها الأنهار في أماكن أخرى، ممَّا يقلِّل أيضًا من العمل الدفاعي، لكنْ توجد ممرات يمكن استخدامها كنقاط دخول.

من الفوائد الإضافية للأنهار أنها أنهار دائمة، وهي في طريقها إلى البحر تملأ البحيرات، التي توفر بدورها الأسماك؛ وهي في بعض الأماكن — كما يروي هيرودوت عن بيونيا في الشمال — «وفيرة حتى إنه عندما يُفتَح باب الشَّرَك وتغوص السلال في قاع البحيرة المغطى بأعشاب الأسل، يسحبها المرء مليئة بالأسماك بعد انتظار قصير» (الكتاب الخامس، ١٦، ٤). وحتى في يومنا هذا، يحتوي نهر هالياكمون على ٣٣ نوعًا من الأسماك. وبالإضافة إلى ما تمده هذه الأنهار من كميات وفيرة من الأسماك تقتات بها الخيول ودواب الحمل الأخرى، فهي مصدر للمياه اللازمة للاستهلاك والري حتى أثناء شهور الصيف، وتتيح هذه المياه الوفيرة، مقرونةً بتراكُم الجليد على الجبال العالية، موسمَ زراعة أطول ممَّا يمكن أن يتوقَّعه جنوب اليونان. ويروي هيرودوت أن مياه نهر واحد فقط في المنطقة نضبت عندما حاوَلَ الجنود الفرس ريَّ ظَمَئِهم (الكتاب السابع، ١٢٧). ولإدراك حجم المياه المطلوب، من المهم أن نتذكر أن هيرودوت قدَّرَ عدد الجيش الفارسي بأكثر من خمسة ملايين، وإن كنا نرى أن الأعداد الفعلية كانت نحو ٢٥٠ ألف فرد لم يكن كلهم من المحاربين. علاوة على ذلك، تتمتع البلدات والمدن الواقعة على الروافد بطريقِ وصولٍ إلى البحر مع تمتُّعها في الوقت نفسه بميزة الأمن التي تتيحها المناطق الداخلية؛ فعلى سبيل المثال: كانت مدينة بيلا — العاصمة المقدونية أثناء حكم الإسكندر — تقع على أحد أفرع نهر لودياس، الذي كان صالحًا للملاحة بطول مسافته البالغة نحو عشرين ميلًا إلى البحر.

الجبال هي ثاني الملامح المميزة لمقدونيا؛ فغالبية الأرض التي تتكون منها المملكة التي أنشأها فيليب الثاني يزيد ارتفاعها عن ١٨٠٠ قدم (٦٠٠ متر)، ويشمل هذا المنطقة المنخفضة الواقعة شرق نهر إكيودوروس (جاليكو حديثًا). وكان مدى الأرض الواقعة أقصى الغرب التي ضُمَّتْ في النهاية إلى مملكة مقدونيا، تحدِّده سلسلةُ جبال بيندوس الطويلة المارة عبر منطقة البلقان وصولًا إلى خليج كورنثة. كثيرٌ من القمم الجبلية الفردية في مقدونيا شاهقُ الارتفاع، فينافس بعضها جبل الأوليمب البالغ ٩٤٦١ قدمًا (٢٩١٧ مترًا) لكن لا يفوقه؛ إذ تصل إحدى قمم سلسلة جبال برنوس (كايماكتسالان) إلى ٨٢٠٣ أقدام (٢٥٢٤ مترًا)، بينما تصل إحدى قمم سلسلة جبال بابونا إلى ٨٢٥٥ قدمًا (٢٥٤٠ مترًا). ومع أن الفروج الطبيعية في الجبال بمنزلة بوابات إلى السهول المنخفضة، فإنها توفر أيضًا وسيلةَ دفاعٍ طبيعيةً قوية؛ لأن بعض هذه الفروج — كما سبق أنْ نوَّهْنا — شديدُ الضيق على نحوٍ تسهل معه السيطرة عليها. وفي أجزاء من المنطقة، تعمل السلاسل الجبلية كساترٍ؛ إذ توفِّر جبالُ مقدونيا الدنيا غرب أكسيوس «دِرْعًا متصلًا» كما وصفها نيكولاس هاموند (١٩٧٢: ١٦٢).

fig2
شكل ٢-١: الضفة العليا من نهر هالياكمون. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.

كانت الغابات هبة الجبال، وفي الزمن القديم كانت مقدونيا تحتوي على الكثير من غابات الأشجار الدائمة الخضرة والنَّفضيَّة على السواء، ويُقدَّر أن نحو خُمْس المنطقة تكسوه الغابات حتى في وقتنا هذا. تسود نظم جبال الألب الإيكولوجية بالقرب من القمم الجبلية، وكانت أشجار الصنوبر تنمو فوق المنحدرات، أما أسفل منها فكانت تسود فيه أشجارُ البلوط والشوح والأَرز. لم يكن الخشب الذي توفره الغابات ثمينًا للاستخدامات المنزلية فحسب، بل كان أيضًا مرغوبًا من جانب دول اليونان الفقيرة بالخشب. واستُخدِمت الأنهار لتعويم أشجار الخشب المقطوعة إلى السهول، وفي النهاية كان الساحل يسهِّل نقلها إلى قلب المملكة، الذي كان يشهد معظمَ نشاطِ التبادُل التجاري مع الآخرين.

fig3
شكل ٢-٢: مقدونيا العليا. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.

توفر الأشجار أيضًا الغذاء والمأوى للحيوانات، ولم تكن الأشجار المقدونية استثناءً من هذا في الزمن القديم؛ إذ كانت تسكن الغابات طائفةٌ واسعةٌ من الحيوانات البرِّية. ويوجد في الآونة الأخيرة حوالي ٣٢ جنسًا من الثدييات و١٠٨ أجناس من الطيور تسكن الحديقة الوطنية فوق جبل الأوليمب، وتوجد تشكيلةٌ كبيرة من بينها مشهودٌ لها بالقِدَم أيضًا، كان بعضها — من قبيل الأيل واليحمور — لا يشكِّل خطورةً كبيرة على البشر، لكن كانت هناك حيوانات أخرى مُخِيفة بحقٍّ، كالخنازير البرِّية والدببة البنية والذئاب والأوشاق والفهود والنمور والأسود، وكلها كانت تسكن الغابات الجبلية. ويروي هيرودوت واقعةً غريبة تعرَّضَ لها الفرس وهم في طريقهم إلى مقدونيا سنة ٤٨٠ قبل الميلاد؛ حيث كانت الأُسُد «تترك عُرُنَها وتنزل دومًا أثناء الليل … تقتل الإبل دون غيرها، فلا تهاجِم أيَّ حيوان آخَر أو إنسان» (الكتاب السابع، ١٢٣، ٣).

fig4
شكل ٢-٣: ما زالت الأيائل تستوطن مقدونيا العليا. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.

استفادت الحيوانات المستأنسة أيضًا من السلاسل الجبلية، التي كانت توفر مراعي صيفية من الطراز الأول لقطعان الضأن والمَعْز. كان معظم سكان مقدونيا العليا — بمعنى المناطق الشمالية والغربية من البلاد — يشتغلون بالرعي منذ أزمنة ما قبل التاريخ وحتى القرن الرابع، وعندما وقف الإسكندر خطيبًا في محاربيه القدامى الغاضبين بعد العودة إلى بلادِ ما بين النهرين، وبَّخَهم لنكرانهم نعمةَ التغيُّرات الهائلة التي أحدَثَها أبوه في حياةِ كثيرٍ من المقدونيين. لقد ورثهم رعاةً رُحَّلًا أغلبهم لا تكسو أجسامهم إلا جلود الحيوانات، يرعون بضع شياه على الجبال، وبعد أن أنزلهم فيليب من الجبال إلى السهول، أبدَلَهم أرديةً كاسيةً بجلودهم وجعلهم خصومًا أندادًا لجيرانهم البرابرة (آريانوس، الكتاب السابع، ٩، ٢). وعلى الرغم من احتمال مبالغة الإسكندر في وصف الحالة السابقة، تعضِّد الشواهدُ الآثارية الحقيقةَ الأساسية لصفة حياة الكثيرين من ساكني الجبال، لا في الأزمنة القديمة فحسب، بل في الأزمنة الحديثة أيضًا نوعًا ما. وعندما نتذكَّر أن الغالبية العظمى من مقدونيا، وخصوصًا المناطق العليا أو الغربية، يزيد ارتفاعها عن ١٨٠٠ قدم (٦٠٠ متر)، يزداد إدراكنا دور الجبال في الحياة المقدونية.

كانت الثروة المعدنية أيضًا موجودة بوفرة، والمنطقةُ في الأزمنة الحديثة مصدرٌ للذهب والفضة والرصاص والقصدير والنحاس وركاز الحديد وكربونات المغنسيوم والزنك والأسبستوس والكروم والبيريت والموليبدنوم الذي يُستخدَم في صنْعِ سبائك الفولاذ. ومن غير المؤكد أنه كان يجري استخراج كلِّ هذه المعادن في الأزمنة القديمة، لكنَّ كلًّا من الذهب والفضة كان يُنتَج بنشاط في عهدَيْ فيليب والإسكندر، وأيضًا على أيدي خلفائهما. وتدل كمية ونوعية المشغولات التي كشفت عنها أعمالُ التنقيب والتي صُنِعت من معادن أقل قيمةً؛ على أن سكان مقدونيا كانوا يعرفون هذه الموارد وطوَّروا مهاراتٍ لاستغلالها. ومن الجائز تمامًا أن المعادن كانت عاملًا في الاتصال بين الميسينيين في يونان العصر البرونزي والشعوب المقدونية. علاوةً على ذلك، تُظهِر الكشوفات الحديثة في مدينة بدنا أن المستوطنين الإغريق اكتشفوا هذه الموارد المعدنية في أواخر العصرين المظلم والعتيق. ومن مكونات الجبال الأخرى التي كانت لها قيمةٌ كبيرة في الإنشاءِ الرخامُ الفاخر والحجرُ الجيري اللذان كانا يُستخدَمان في إقامة التحصينات والطرق والأبنية.

يتناثر بين السلاسل الجبلية الكثيرُ من السهول الواسعة التي حُبِيت بنعمة الأنهار والأمطار مع التربة الخصيبة، وعندما يتجه المسافر غربًا من بحر إيجة، يصادف طبقاتٍ من الوديان التي تدعم — على الرغم من تفاوت أنواعها النباتية — الرعْيَ وتربيةَ المواشي أسهل ممَّا تدعمه السهولُ الجبلية الواقعة في جنوب اليونان. وتبيَّنَ أن مقدونيا شديدةُ الانفتاح على جهود المزارعين المستقبليين في زمن مبكر يعود إلى تاريخ نشأة الزراعة. والحقيقة أنه توجد مواقع في مقدونيا وفي جزيرة كريت من بين أولى مناطق القرى المستقرة في غرب بحر إيجة، وقد وُثِّقت زراعةُ نوعين من القمح فضلًا عن الشعير والعدس والحمص والدخن منذ العصر الحجري الحديث. ويقينًا كانت الأعناب منذ زمن فيليب والإسكندر، إنْ لم يكن قبلهما، أيضًا عنصرًا مهمًّا من عناصر الزراعة المقدونية. وتمكَّنت بعض أشجار الزيتون، إنْ لم يكن الكثير منها، من البقاء في المناطق الأقرب إلى الساحل من ذلك الإقليم. وتوجد في الأزمنة الحديثة أحواضٌ معينة يمكنها زراعة ثلاثة محاصيل سنويًّا. تضمَّنَتْ سبلُ عيش الفلاحين المقدونيين في السهول، ومَن يعيشون في الأعالي، تربيةَ الحيوانات كالمَعْز والضأن والخنازير والأبقار والخيول، وتوفِّر السهولُ الساحلية مراعي ممتازةً للأبقار والخيول ومراعي شتوية للمَعْز والضأن. وتمكَّنَتِ الخيول التي تركها الجيش الألماني في الأيام الأخيرة من احتلاله اليونان، من البقاء دون رعاية بشرية حتى يومنا هذا على ضفاف نهرَيْ أكسيوس وهالياكمون.

fig5
شكل ٢-٤: النظر غربًا عبر جبال بيندوس. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.
هذه السهول الفسيحة منفصلةٌ أحدها عن الآخَر بمعالم المنطقة الطبيعية الأخرى، وتمخَّض صعودُ سطح الأرض وهبوطه في الفترات السحيقة عن تغيُّرات في المناسيب داخل المناطق، وأيضًا فيما بينها. وكلُّ واحد من هذه السهول مقسَّم إلى أجزاء بفعلِ ما يجري فيه من أنهار أو روافدها؛ إذ يشتمل السهل الأوسط، الذي يلتف حول الخليج الثيرمي، على ثلاثة أجزاء من هذا القبيل، وكذلك الحال مع المناطق الواقعة في مقدونيا العليا. ويمكن لكلِّ منطقةٍ من هذه تحقيقُ الاكتفاء الذاتي بفضل مزيجٍ من الأحواض والبحيرات والغابات والأنهار والجبال؛ لكنْ على الرغم من الفواصل الطبيعية، نجد المناطق الأصغر مترابطةً من حيث اتصالها بالطرق الرئيسة التي تمتد من البحر إلى وسط البلقان وإلى البحر الأدرياتي. وإليكم الوصف الذي ذكَرَه هاموند لإحدى الطرق المؤدية من إبيروس إلى مقدونيا:

لا يشكِّل الطريق من إبيروس إلى كاستوريا، ثم شمالًا إلى أوخريد، أو شرقًا إلى مقدونيا؛ صعوباتٍ خطيرةً، وذلك بمجرد عبور نهر أوس عند ميسويفيرا، فيمضي المرء صاعدًا إلى ليسكوفيك، ثم يلتفُّ حول أنف الجبل وعبر الوديان ليدخل منطقة إرسيكا الخصبة على صغرها، ومنها يعبر جبل لوفكا عن طريق ممر تشارَّه، وينزل إلى سهل كستوريا [في منتصف الطريق تقريبًا بين البحر الأدرياتي والخليج الثيرمي ببحر إيجة]. (١٩٧٢: ١٠٢)

ما يبرهن أيضًا على إمكانية الربط طريق فيا إجناسيا الروماني، الذي شُقَّ قرْبَ نهاية القرن الثاني على امتدادِ مسارٍ تجاري كان مصدرًا رئيسًا للترحُّل في الأزمنة السابقة، وهو اليومَ الأساسُ الذي يقوم عليه إنشاء طريق سريع حديث.

fig6
شكل ٢-٥: ساحل بدنا المطلُّ على الخليج الثيرمي. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.

وهكذا يمكن وصف المنطقة المعروفة باسم مقدونيا بأسرها كمنطقة وسط؛ فهي تقع عند تقاطع الطرق الواصلة بين المناطق الواقعة في الشمال والجنوب من ناحيةٍ، وإلى الغرب والشرق من ناحيةٍ أخرى. دخل البشر الأوائل اليونان قادمين من أوروبا ومن الأناضول، والواضح أن مسار هجرة السلالة الأوروبية كان بالبر من خلال البلقان إلى مقدونيا ثم جنوبًا. وعلى الرغم من أن معظم الهجرة الوافدة من الأناضول حدث عن طريق البحر، يبدو أن المستوطنات التي تعود إلى العصر الحجري الحديث في مقدونيا وتيساليا نشأت بالحركة التدريجية رحيلًا عن الأناضول وعبر شمال بحر إيجة. كانت تجارة الإغريق الميسينيين في العصر البرونزي ومنتجاتهم تتجه شمالًا إلى مقدونيا، وسارت على خطاها الجهودُ الاستيطانية من جانب إغريق البر الرئيس في القرنين التاسع والعاشر. ظلت غزوات الشعوب العدوانية غرب جبال بيندوس، التي كانت شائعة في أزمنة ما قبل التاريخ، على كثرتها في عصر فيليب والإسكندر.

fig7
شكل ٢-٦: عرش زيوس على قمة جبل الأوليمب. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.

أوحى موقع مقدونيا المغري للأجنبيين عنه بالتعاوُن لما قد ينتج عنه من قوة، وعندما وُحِّدت المناطق المجزَّأة تحسَّنَ الموقف الجماعي من حيث القدرة على صد الغزوات. وأفادت المداومةُ على حراسة طرق الدخول القليلة المفتوحة عن طريق البر وعلى امتداد الخط الساحلي للخليج الثيرمي؛ في الدفاع عن أمن المناطق المجزأة طبيعيًّا، وأفادت كذلك في تحسين فعالية الطرق المتشعبة إلى الخارج في جميع الاتجاهات.

خلاصة القول أن مقدونيا أتاحَتْ لسكانها تشكيلةً من الموارد:
  • تربة خصبة للزراعة ومراعٍ ممتازة للحيوانات المستأنسة، وهما ركيزتا الاقتصاد القديم.

  • ثروة وفيرة من الحيوانات البرِّية والأسماك.

  • موارد خشبية ومعدنية ممتازة للاستخدام الداخلي وللتجارة الخارجية.

  • درجة معقولة من الأمن بفضل شكل الجبال والأنهار.

  • إمكانية الوصول إلى البحر مقرونة بمنطقة داخلية شاسعة.

  • موقع جمع بين الخصائص المتوسطية والأحوال المناخية والطبوغرافية الأوروبية.

  • منطقة كانت على الأرجح مغرية للآخرين؛ ومن ثَمَّ ففي توحُّدها فائدةٌ.

ولو قبلنا ما قال به أبقراط وأرسطو عن دور البيئة في طبيعة سكانها، لجاز لنا أن نذهب إلى أن طبيعة مقدونيا نمَّت سمات معينة في أهلها. إنها يقينًا ليست بالبيئة «السهلة»؛ إذ لا بد أن يكون المقدونيون أهلَ جَلَدٍ وشدة لكي يستفيدوا من موارد الجبال؛ فيصطادوا الأيائل والأُسد، ويستخرجوا المعادن الخام، ويرتحلوا بالقطعان من المراعي الصيفية إلى المراعي الشتوية، ويحرسوا الممرات الجبلية الضيقة من الغزاة. وبما أن مقدونيا كانت محاطة بالغزاة المحتملين، كان الحفاظ على استقلالها سيفشل من دون تنسيق فعال للأمن. وكان لا بد لأي قائد مستقبلي لهذا الشعب أن يكون مدرَّبًا على إدارة إقليمٍ ينطوي على إمكانيات عظيمة وأخطار دائمة في الوقت نفسه.

(١) السكان

أكَّدنا على الانقسامات الطبيعية داخل الإقليم الذي وُسِّعَ أثناء حكم الإسكندر الأول في القرن الخامس، بل ووُسِّع أكثر أثناء حكم فيليب الثاني، وأفضَتْ هذه الانقسامات إلى فروق بين التجمعات السكانية. تعود التجمعات السكانية المتنقلة إلى العصر البرونزي كما يتبين من الثقافة المادية، كطبيعة المواقع، وتقاليد دفن الموتى، وطرق صناعة الفخار. وأثناء العصر البرونزي سادت الشعوب الهندية-الأوروبية في الغرب والشمال الغربي، ويمكن أن تُعزَى التأثيراتُ الخارجية إلى التراقيِّين في الشرق، والميسينيين في الجنوب، وشعب يُعرَف باسم البريجيين (أو الفريجيين) تنمُّ أساليبه في صنع الخزف عن أصل أوروبي أوسط. وتشير الشواهد إلى استمرار الشعوب الأولى، على الرغم من هجرة جماعات جديدة صغيرة نسبيًّا في أعدادها الكلية إلى المنطقة. تمخَّضَتِ الغزوات عن تحرُّكات سكانية، لكنها لم تغيِّر هيكلَ الحياة الأساسي الذي تطوَّرَ من العصر الحجري الحديث؛ ومن ثَمَّ كانت مقدونيا العليا والدنيا تتمتَّع بإرث هندي-أوروبي في أزمنة ما قبل التاريخ وفي عصر فيليب والإسكندر. وُجِدت هذه الرابطة المشتركة ذاتها بين شعوب مقدونيا الأساسية ومعظم جيرانها؛ إذ كان التراقيُّون والبيونيون والإبيروسيون، بل الإليريون أيضًا، من أصل هندي-أوروبي.

ومع ذلك توجد فروق كبيرة بين مختلف الشعوب الهندية-الأوروبية؛ فعلى الرغم من انتمائها إلى لغة أساسية مشتركة، تفرَّعَتْ هذه اللغة التي كانت ذات يومٍ واحدةً لتصبح شجرةً متعددةَ الفروع على مدى ألف سنة من التطورات بين الأفراد الناطقين باللغة الهندية-الأوروبية. إن فروع هذه اللغة الاثنا عشر الرئيسة هي: الأناضولية، والبلطيقية، والجرمانية، واليونانية، واللاتينية (أو الرومانسية والإيطاليقية)، والإليرية (أو الألبانية)، والهندية، والإيرانية، والسلتية، والسلافية، والتراقيَّة، والطخارية. وانبثقَتْ من كلِّ واحد من هذه الفروع فروعٌ أصغر على هيئة فروق في اللهجة. ومن حيث اللغات المستخدمة حاليًّا، يصل عدد الفروع إلى ٧٧ فرعًا، ويوجد حوالي ٣٦ شكلًا من أشكال اللغة الهندية-الأوروبية لم يَعُدْ مستخدمًا استخدامًا عامًّا. وكما يكشف مدى هذه الفئات، ربما يكون تنوُّعُ أشكالِ اللغة الهندية-الأوروبية غيرَ واضح أو حتى غير مفهوم للناطقين بالأشكال الأخرى لهذه اللغة الأم. علاوةً على ذلك، تُنتِج البيئاتُ المختلفة أساليبَ حياةٍ مختلفة تتمخض بدورها عن مفردات جديدة لا توجد بالضرورة بين الشعوب الهندية-الأوروبية الأخرى.

خلاصة القول أن توحيد الشعوب الهندية-الأوروبية العديدة في منطقة جنوب البلقان، على نحوٍ يعزِّزه إحساسٌ بالإرث واللغة المشتركين؛ كان مستبعدًا؛ لأن التنوع اللغوي كان جاريًا منذ ما يتراوح بين ثمانية وتسعة آلاف سنة بحلول القرن الخامس قبل الميلاد. والحقيقة أنه لم تكن الشعوب كلها على الأرجح ناطقةً بالهندية-الأوروبية؛ إذ إن هويات بعض التجمعات القبلية على امتداد جانبَيْ جبال بيندوس ليست مؤكدة. كتب تشارلز إدسون، الباحث المتخصص في التاريخ المقدوني، في ملخصه المتزن المعنون «مقدونيا المبكرة»، عن «مجموعات من القبائل البربرية» في الأجزاء الشرقية والوسطى ممَّا سيصبح مملكةَ مقدونيا الموحدة تحت قيادة فيليب الثاني. ربما كانت العناصر الثقافية المشتركة عاملًا يسَّرَ التعاون، لكن ربما كان الأهم من ذلك حتى هو التهديدات المشتركة.

كذلك لن يفيد الأصل المشترك في ربط المقدونيين بجيرانهم الهنود-الأوروبيين الموجودين جنوبًا على الخليج الثيرمي، وتحديدًا الفرع الإغريقي من الأصل الهندي-الأوروبي. والحقيقة أن الآراء التي وصلت إلينا وقال بها بعض إغريق القرن الرابع قبل الميلاد، تكشف عن ضعف الآصِرة المشتركة بين الإغريق والمقدونيين؛ فوفقًا للخطيب الأثيني ديموستيني، لم يكن فيليب إغريقيًّا ولا حتى تربطه صلةُ قرابة بالإغريق، بل كان رجلًا من أسوأ البرابرة، ينتمي إلى مكانٍ يستحيل حتى شراء عبدٍ صالحٍ منه (الخطب الفيليبية، الخطبة الأولى، ٤).

لم تكن مسألة الإثنية مسألةً جدلية في الأزمنة القديمة فحسب، بل ظلت هكذا إلى اليوم، وليس بين الباحثين فحسب، بل في أعين بعض اليونانيين المحدَثين. ترجع معظم الصعوبة في معرفة طبيعة العلاقة إلى غياب أنواع معينة ضرورية من الشواهد؛ فعلى سبيل المثال: اللغة مفتاح أساسي من مفاتيح الهوية (معرفةُ هل كانت لغةُ شعبٍ ما — ساميَّةً أو هندية-أوروبية أو آسيوية — مؤشرًا مهمًّا على الإثنية)، لكن هذه الشواهد تكاد تنعدم فيما يخص التاريخ المقدوني المبكر. وعندما تبدأ النقوش في الظهور في السجل الأثري، نجد روابط تجمع سكان مقدونيا باليونان، وتتجلى في كتابة النقوش بالألفبائية الإغريقية. غير أن استخدام الحروف الإغريقية ربما لم يكن أكثر من طريقةٍ ملائمةٍ لهذه النقوش المعينة، أو ربما استُخدمت هذه الحروف، كما في حالة النقوش الألفبائية الإغريقية في تراقيا، لأنه لم يكن هناك بعدُ نظامُ كتابةٍ أصلي. وهناك احتمال آخر، وهو أن اللغة الإغريقية كانت آخذة في التحول إلى نظام الكتابة السائد أو المشترك في مناطق تتجاوز حدود المناطق الإغريقية الأولية قبل مجيء الفترة الهلنستية. بل إن المعلومات عن لغة المقدونيين المنطوقة أشحُّ؛ حيث وُجِد «لوح لعنة» وحيد في بيلا ربما يكون مكتوبًا بلهجة «مقدونية» من لهجات اللغة الإغريقية. الاستنتاج الوحيد اليقيني هو أن المقدونية المنطوقة تختلف أحيانًا عن الإغريقية.

من ناحيةٍ أخرى، تدعم أسماءُ الأعلام المقدونية التي توجد في القصائد الهوميرية الرابطَ بين المقدونية والإغريقية، ومن بينها اسم السلالة الملكية «الأرغيَّة». وتشير مصادر متأخرة إلى أن فيليب والإسكندر، بل ملوك أرغيُّون أبكر منهما أيضًا، كانوا يتحدثون بسهولة مع كلٍّ من المقدونيين والإغريق. بالطبع يمكن تعلُّم لغات أخرى، لكن كما سنرى، تشي تأريخات السلالة الأرغيَّة الواردة في المصادر الإغريقية بأصلها الإغريقي.

يروي هيرودوت حكاية ثلاثة إخوة مضوا في طريقهم — بعد طردهم من أرجوس في بيلوبونيز — إلى مقدونيا حيث صار أصغرهم، وهو بيرديكاس الأول، في النهاية وفيما يشبه المعجزة، زعيمًا لجماعة من المقدونيين تُعرَف باسم الأرغيِّين، وهم السلالة المالكة (الكتاب الثامن، ١٣٦–١٣٩). ربما تكون هناك حقيقة في نمط التنقُّل (بل في الواقع التنقلات) من اليونان إلى مقدونيا؛ إذ في زمن متأخر، وتحديدًا في القرن الخامس، اتخذ مواطنون من مدينة مسينيا الإغريقية، التي كانت ذات يومٍ متألقةً، من مقدونيا موطنًا جديدًا لهم عندما دُمِّرت أرضهم على يد مدينة أرجوس؛ وعندما استولى الأثينيون على مدينة هيستيايا في جزيرة وابية وطردوا سكانها، أُعِيد توطين اللاجئين في مقدونيا أثناء حكم بيرديكاس الثاني. وعلى نحو ما أسلفنا، فإن موقع مقدونيا ملائمٌ تمامًا للانتقال إلى المنطقة، وكان المقدونيون يعتبرون أنفسهم مهاجرين. الشيء غير المؤكد هو المكان الذي جاء منه الأرغيُّون، وقبولُ حقيقة الارتحال إلى مقدونيا الدنيا لا يقدِّم تفسيرًا نهائيًّا للهُوِيَّة المقدونية.

figure
الخريطة ١: أقاليم مقدونيا ومعالمها الطبيعية ومواقعها.

المنتجات المادية خيط آخَر يقودنا إلى هوية أيِّ شعب بعينه؛ إذ يمكن أن تكشف الأساليب المعينة في صناعة الفخار والعمارة والنحت والقطع النقدية والمشغولات المعنية الأخرى عن تراث ثقافي مشترك. مما يُؤسَف له أن إقليمية مقدونيا تمخَّضَتْ عن مزيجٍ من الأساليب التي تأثَّرَتْ غالبًا بمختلف الجيران، كالإغريق في الجنوب، والتراقيِّين في الشرق، ومختلف الشعوب البلقانية في الشمال والغرب. ولم يتمخَّض التحليل الأنثروبولوجي للبقايا البشرية عن إجابةٍ قاطعة عن هذا السؤال بعدُ، وإن كان تحليلُ الحمض النووي يبشِّر بتقديم أدلةٍ أتمَّ في المستقبل.

ريثما تتوافر أدلة جديدة، يبدو من الأوفق أن نستخدم المصطلح الذي استخدمه هيرودوت لتصنيف سكان مملكة مقدون، وهو المكدونيون (الكتاب الأول، ٥٦، ٣)، وأن نصنِّفهم أيضًا كهنود-أوروبيين. ومن الجائز تمامًا أن المهاجرين الذين وفدوا على مقدونيا الدنيا كانت تجمعهم صلةُ قرابةٍ. وقاد الانتقالُ إلى المناطق الشرقية بعضَ المكدونيين، بقيادة عشيرة تُسمَّى الأرغيَّة، إلى السهل الساحلي على الشاطئ الغربي للخليج الثيرمي، ويومًا بعد يوم بسَطَ الوافدون الجدد سيطرتهم على المنطقة الممتدة شمال جبل الأوليمب إلى رأس الخليج؛ أما الجماعات الأخرى فظلت تسكن العديد من المناطق الأخرى الأبعد من ذلك شمالًا وغربًا، التي كانت منفصلةً بعضها عن بعض كما رأينا بفعل المعالم الطبيعية التي تميِّز جنوب إقليم البلقان. لكن استنباط شواهد من طبيعة لغات هذه الجماعات يظل أمرًا صعبًا.

تزداد مسألة اللغة والإثنية تعقيدًا بما أن الشواهد على الإثنية المقدونية تأتي في المقام الأول من مصادر إغريقية، ولم تكن هناك رؤية إغريقية موحدة. الأكثر من ذلك أن تصور الإثنية المقدونية تغيَّرَ على مر الزمان؛ إذ تغيَّرَ الأساس السابق لتعريف الهُوِيَّة الإغريقية على أساس الإثنية والانتساب إلى جَدٍّ مشترك مُفسِحًا المجالَ أمام المعايير الثقافية. علاوةً على ذلك، كان حُكْم أيِّ كاتب على انتماء المقدونيين إلى أصل إغريقي يعتمد على المعايير التي ينتقيها هذا الكاتب بعينه. وفي ضوء الشواهد الإشكالية في كل فئة من فئات الأدلة، لا نستغرب أن للنقاش حول «المسألة المقدونية» تاريخًا طويلًا ولم يوجد له حل.

وإذ نضع هذا التضارب في اعتبارنا، من المهم أن نقدِّر كلًّا من القربى والاختلافات مع الإغريق في فهم الإسكندر وعالمه. لقد تغلغلت التأثيرات الثقافية الإغريقية بدرجة متزايدة في التقاليد المقدونية حتى من قبل أن يضمَّ فيليب اليونانَ إلى ملكه؛ ومن ناحية أخرى، فإن «آخَرية» مقدونيا في نظر الإيجي الإغريقي تلعب دورًا كبيرًا في مسيرتَيْ فيليب وابنه، وسوف نستجلي مسألة الروابط المقدونية باليونان على نحو أكثر استفاضةً في الفصل الرابع.

(٢) إنشاء مملكة من مجموعة من القبائل

يوحي استخدام كلمة «مقدونيا» الأحادية بوجود كيان موحد، وهذا استنتاج غير دقيق فيما يخص جزءًا كبيرًا من تاريخ هذه المنطقة القديم، إن لم يكن معظمه؛ فلم تتسع السيطرة اتساعًا كبيرًا فيما وراء السهل الأوسط المطلِّ على الخليج الثيرمي ببحر إيجة إلا في عهد فيليب الثاني، وسرعان ما تقوَّضت تلك الوحدة في إطار التنافس على السيطرة بعد موت الإسكندر. وعلى الرغم من نجاح الملوك السابقين على فيليب في إضافة أراضٍ إلى الشمال من المستوطنة الأولى الصغيرة التي استوطنها المكدونيون في بيريا، فقد شهد استحواذهم على السلطة تحديًا مستمرًّا وشديدًا من كل الاتجاهات.

ويخصُّ أقدمُ تأريخ موثوق فيه وصل إلى أيدينا حُكْمَ الملك أمينتاس الأول (٥٤٠–٤٩٨ قبل الميلاد)، الذي أقر له بالمُلك حتى الملوك الفرس فأقاموا علاقات دبلوماسية معه. لكن العلاقة لم تكن علاقة بين نِدَّيْن متساويَيْن، والواقع أنه يجوز تمامًا وصف مملكة مقدون بأنها كانت خاضعة للسلطة الفارسية أثناء تلك الفترة، حتى ولو لم تُخضع رسميًّا تحت سيطرتها كولاية فارسية (مَرزَبَة) أو إقليم. بعد ذلك بسنوات استغل أحشويرش مقدونيا كنقطة انطلاق لانقضاضته على الدول الإغريقية في ٤٨٠-٤٧٩. وعلى نحوٍ ينطوي على شيء من التناقض، ربما يكون إعلاءُ مكانة التحالف الفارسي هو الذي سمَحَ لأمينتاس بأن يضوي إيليميا وأوريستيس ولينكيستيس وبيلاجونيا تحت لواء تحالُفٍ اسميٍّ مع مقدونيا. وأما ابنه وخليفته الإسكندر الأول، الذي يصفه هيرودوت بأنه كان على درجة عالية من الذكاء والقوة، فاستطاع ضمَّ إقليمٍ إضافي جهة الغرب تلقاء جبال بيندوس ويمتد شمالًا بمحاذاة نهر أكسيوس، عند رأس الخليج الثيرمي، أثناء حكمه الممتد من ٤٩٨ إلى ٤٥٤. يصف ثوكيديدس، في معرض وصفه الحرب البيلوبونيزية في الثلث الأخير من القرن الخامس، اللنكستيين والإيليميين وغيرهما من الإثنيات في عمق الإقليم كرعايا للمقدونيين وحلفاء لهم (الكتاب الثاني، ٩٩، ٢). تُعزى أيضًا إلى الإسكندر الأول بعض الابتكارات المهمة في تكتيكات المشاة وعلاقة جنود المشاة بالملك المقدوني. كان الإسكندر قد شهد نجاح المشاة الثقيلة الإغريقية في مواجهة القوات الفارسية، وكانت مقدون يقينًا في حاجة إلى قوة عسكرية قوية لبناء التحالف ثم الحفاظ عليه، ولدَرْءِ الجيران الآخرين العدوانيين، وللتصدي للأطماع الإغريقية المتزايدة، وخصوصًا أطماع أثينا، في شمال المنطقة الإيجية أثناء عهد الإسكندر الأول وما بعده.

لدى موت الإسكندر الأول، تنازع على خلافته أبناؤه الكثيرون، وهذه واقعة متكررة في مقدون في القرنين الخامس والرابع، بل أثناء الفترة الهلنستية أيضًا بعد موت الإسكندر الأكبر. نجح بيرديكاس الثاني في وراثة العرش، لكن هذا لم يحدث إلا بعد القضاء على اثنين من إخوته، وربما أبناء أحدهما، وامتد حكمه إلى ٤١٤ / ٤١٣، وتجسدت أثناء هذا الحكم كل التهديدات المحتملة السالفة الذكر. والحقيقة أن بيرديكاس عانى من أطماع أكبر حتى مما عرفها أبوه من جانب الجهات الخارجية في الإقليم المقدوني والموارد المقدونية، وهو ما يُعزَى إلى حد كبير إلى الوضع في اليونان؛ حيث تصادفت بداية حكمه مع تحويل التحالف الطوعي بين الدول الإغريقية بزعامة أثينا إلى حلف إجباري. أسفَرَ هذا التحويلُ بدوره عن انقسامٍ متزايد بين الدول الإغريقية، أدَّى إلى ٢٧ سنة من الحرب الأهلية (٤٣١–٤٠٤) بين أثينا وحلفائها/رعاياها من ناحية، وإسبرطة كزعيم للحلف البيلوبونيزي من ناحية أخرى.

كان موقع مقدونيا الاستراتيجي ومواردها من الخشب اللازم لبناء السفن والأسلحة حيويَّيْن لكلا طرفَي الصراع الإغريقي. أسَّسَ الأثينيون حضورًا دائمًا في أمفيبوليس على أسافل نهر سترايمون سنة ٤٣٧. واستجاب الإسبرطيون لطلبات المساعدة من بيرديكاس الثاني في نضاله ضد الغزوات التراقيَّة في إقليم أكسيوس. وانتهزت مملكة لنكستيس الكونفيدرالية الفرصةَ لكي تنفصل عن الائتلاف المقدوني الهش وتصبح أقوى دولة قَبَلية في المنطقة أثناء النصف الثاني من القرن الخامس. وأثبت اللنكستيون، في عهد مَلِكهم أرهابايوس، أنهم جيش قوي في مواجهة جيش موحد يتألف من المقدونيين بزعامة بيرديكاس والقائد الإسبرطي براسيداس على رأس قوة قوامها ٣ آلاف من المشاة الثقيلة وألف من الفرسان، بالإضافة إلى قوة من الجنود الخالكيذيكيين. وعلى الرغم من هذه المشكلات العويصة، ظل قلب المملكة المقدونية دون مساس.

استفاد ابن بيرديكاس وخليفته أرخيلاوس (٤١٤–٤٠٠ / ٣٩٩) من التطورات الحادثة في اليونان، التي حوَّلت اهتمام الدول المنافسة إلى أجزاء أخرى من المنطقتين المتوسطية والإيجية، ويُنسَب إليه الفضل في تقوية قلب المملكة بإنشاءِ حصونٍ حدودية لحماية سلامة أراضيها، وطرقٍ تربط أجزاءها بعضها ببعض. ربما كان أرخيلاوس أيضًا مسئولًا عن إنشاء مدينة على أبواب نهر أكسيوس، وعن إنشاء برج مراقبة داخل سور دائري ضخم فوق تل شديد الانحدار على الضفة المقابلة. كما أن له مساهمة أخرى كبيرة هي نشر الثقافة الهيلينية في العاصمة المقدونية؛ فمثلما كان الإسكندر الأول يستضيف الشاعرَيْن الغنائيَّيْن الإغريقيَّيْن بندار وباكيليديس، وكان بيرديكاس الثاني يتلقى زيارات من أبقراط والشاعر ميلانيبيديس، كان أيضًا من بين مشاهير الزوار في زمن أرخيلاوس الشاعران الأثينيان يوربيديس وأجاثون، والرسام زيوكس، والموسيقار والشاعر الغنائي تيموثيوس، ودُعِي سقراط إلى زيارة بيلا لكنه رفض على أساس أنه لا يستطيع ردَّ واجبِ الضيافة. كان هذا الحاكم الأرغيُّ أولَ مقدونيٍّ يفوز بإكليل في سباقات الكدريجة (عربة تجرها أربعة خيول) في أوليمبيا سنة ٤٠٨ قبل الميلاد. وسَّع أرخيلاوس أيضًا المستوطنة الموجودة في بيلا، التي صارت العاصمة أثناء حكم فيليب الثاني إن لم يكن قبل ذلك. جاءت نهاية أرخيلاوس ومساعيه على يد نبيلٍ مقدونيٍّ حانقٍ قتَلَه، تاركًا وريثًا طفلًا. وفي العقود الأربعة التي تلت ذلك، تمكَّنَتِ المملكة بمشقة من النجاة من التحديات الداخلية والخارجية التي واجهَتْ حكَّامَها السبعة أو الثمانية خلال تلك الفترة.

في أقل من عقد من الزمن، تنقَّلَ العرش بين أبناءِ ثلاثةِ أفرعٍ من السلالة الأرغيَّة؛ ففي البداية، اعتُرِف بابن أرخيلاوس الصغير أوريستيس مَلِكًا على البلاد، مع تولِّي أيروبوس — ربما كان عمه — منصبَ الوَصِيِّ على العرش؛ ثم صار أيروبوس نفسه ملكًا لمدة أربع سنوات بعد أن تخلَّصَ من ابن أخيه. وبموته، حكم البلاد أمينتاس الثاني الذي ينتمي إلى فرع الإسكندر الأول لفترةٍ وجيزة إلى أن قُتِل على يد درداس الإيليمي في مقدونيا العليا، فخلفه على العرش بوسانياس، أحد أبناء أيروبوس، لبضعة أشهر إلى أن أُزِيح بتهمة الخيانة. لا تهم الأسماء بقدر ما يهم التعاقب على الحكم وما صاحَبَه من تآمُرٍ وقتلٍ؛ فكَوْنُ الشخص أكبرَ أبناء الملك الأرغيِّ الحاكم لم يكن ضمانةً لوراثته أباه وراثةً سلمية، وإنْ نجح الشخص في اعتلاء العرش والمناداة به مَلِكًا، فليس في هذا ضمانة لبقائه على العرش طويلًا أو بلا منازع.

كان أحد أبناء فرع أمينتاس — يمتد نسبه إلى الإسكندر الأول — قد تمكَّنَ من النجاة من الصراع على السلطة، وصار مَلِكًا للبلاد متخذًا لقبَ أمينتاس الثالث سنة ٣٩٣. وعلى الرغم من استمرار عهده حتى ٣٧٠ / ٣٦٩، شابَتْه القلاقلُ الداخلية والخارجية. دفع اجتياح إليري لمقدون سنة ٣٨٨ / ٣٨٧ أمينتاس إلى التخلِّي عن العرش، فتولَّى الحكم في هذه الأثناء ولفترة وجيزة شخصٌ يُسمَّى أرغايوس، وربما كان أحد أبناء الملك أرخيلاوس. وبمساعدة الإغريق التيساليين في حملةٍ دامت ثلاثة أشهر، استعاد أمينتاس المُلك في ٣٨٧ / ٣٨٦. وبالإضافة إلى الغزاة الإليريين، واجَهَ اجتياحًا على أيدي الإغريق من مدينة أولينثوس في شبه جزيرة خالكيذيكي في ٣٨٣ / ٣٨٢، وهي الحملة التي أسفرت عن الاستيلاء على بيلا؛ فاتجه أمينتاس إلى إسبرطة لإقامة تحالُف وطلبًا للعون في الصراع بين مقدون وأولينثوس، الذي لم يُحَلَّ حتى حكم فيليب الثاني.

يُنسَب الفضل إلى أمينتاس مرتين: أولاهما لقدرته على البقاء في السلطة في مثل هذه الظروف، والأخرى لذريته؛ إذ أنجب الإسكندر الثاني الذي خلفه لمدة سنتين (٣٦٩-٣٦٨)، وبيرديكاس الثالث الذي صمد لنحو سبع سنوات (٣٦٨–٣٥٩)، وفيليب الثاني الذي أسس مملكة مقدونيا الضخمة خلال حكمه الذي دام ٢٣ سنة (٣٥٩–٣٣٦). واجَهَ الإسكندر الثاني حربًا أهلية في الديار، وجُرَّ إلى الأحداث الإغريقية المستمرة في تيساليا المجاورة، ومات قتيلًا، فخلفه أخوه الذي يصغره بيرديكاس الثالث، مع وجود وَصِيٍّ على العرش مارَسَ السلطةَ لعدة سنوات. بالإضافة إلى التهديدات الداخلية لسلطة بيرديكاس، كانت أهمُّ التهديدات الخارجية التي تطلَّبَتْ قيادته الأنشطةَ الأثينية في شمال منطقة بحر إيجة، وغزوات الإليريين الذين كانوا يزحفون بنجاح من منطقة البحر الأدرياتي. ثم هلك ومعه نحو ٤ آلاف مقدوني في ميدان المعركة في ٣٦٠ / ٣٥٩ في إطار تصدِّيه لتهديد الإليريين.

نظرًا للتاريخ الحافل بالمنافسة على السلطة السالف الذكر، ربما كانت هُوِيَّةُ الشخص الذي سيُختار خليفةً غيرَ يقينية. كان لبيرديكاس ابنٌ صغير ربما أُعلِن مَلِكًا، وكان له أيضًا أخ وهو فيليب الثاني، وكان من بين المنافسين الآخرين بوسانياس وأرغايوس من فروع أرغيَّة أخرى، وكلاهما سبق أن وليَ الملك فترةً وجيزةً في تسعينيات ذلك القرن وأوائل ثمانينياته على الترتيب. بعد التعامل مع بوسانياس وأرغايوس، ربما وقع الاختيار على فيليب كوَصِيٍّ على عرش ابن أخيه القاصر، أو ربما أُعلِن مَلِكًا في حد ذاته. ثمة نقاش حافل يحيط بهذه المسألة، لكن ما يهمنا هو المحصلة؛ حيث صار فيليب الثاني الزعيمَ التالي للدولة المقدونية الهشة. وإليكم الكلمات القوية التي كتَبَها تشارلز إدسون:

كانت لحظة الكارثة واليأس تلك هي التي شكَّلَتْ من الشعب المقدوني أمةً. صار بمقدور جميع عناصر المجتمع آنذاك أن تدرك أن مجرد البقاء يتوقف على الطاعة الإرادية للسلطة الملكية … يظل صعودُ مقدونيا الفائقُ السرعة إلى مرتبةِ قوةٍ عظيمة في ظلِّ سماحةِ حُكْمِ أخي بيرديكاس الأصغر، فيليب الثاني الشهير؛ مثالًا حيًّا على الاستجابة الشجاعة والناجحة للضغوط الخارجية التي يبدو أنها لا تُقهَر. (١٩٧٠: ٤٣)

لم يستطع فيليب أن يظل سمحًا باستمرار في محاولة استعادة سلامة أراضي المنطقة الشاسعة، التي كتب عنها ثوكيديدس يقول: «الكل بأكمله يُسمَّى مقدونيا» (الكتاب الثاني: ٩٩، ٦). كان جزء كبير من ذلك الكل في مقدونيا العليا قد انفصل عن التحالف الذي أقامه الإسكندر الأول أو الذي طالَبَ آخَرون، كالإليريين والتراقيِّين والإغريق، بأحقيتهم فيه. واجَهَ فيليب أيضًا منافَسةً على السلطة من خمسة مطالِبِين بها، وكانت مهمته الأولى لكي يقود جيشًا هي اكتساب الشرعية، ومعنى هذا باختصارٍ التعامُلُ مع المنافِسين وترسيخُ حقِّه في القيادة؛ فأبرَمَ في تلك الأثناء معاهداتٍ بدلًا من خوض حروب مع الملك الإليري والشعب الأثيني، وبحلول عام ٣٥٨، كان فيليب قد استبدَلَ بالعمل العسكري الدبلوماسيةَ في تعامُلاته مع القوى الخارجية؛ إذ أدَّتْ حملةٌ ناجحة في إليريا، أعقَبَها زواجٌ بابنة الملك الإليري المهزوم، إلى تخفيف وطأة ذلك التهديد، على الأقل مؤقتًا، واستهلَّ اجتياح تيساليا وزواجه بامرأةٍ من عائلة تيسالية نبيلة ولوجَ مقدونيا إلى الشئون الإغريقية. وفي السنة التالية تمخَّضَ تحالُف — عزَّزَه من جديدٍ الزواجُ بابنة الملك — عن روابط مقدونية قوية مع إبيروس. وأقرب من ذلك إلى قلب مقدونيا، أنه أُعِيد توحيد مقدونيا العليا مع المملكة سنة ٣٥٨، وبدأ فيليب يستخدم القوة في محاوَلة لعرقلة الوجود الإغريقي، وخصوصًا الأثيني، في الأرض الواقعة شمال غرب بحر إيجة. وفي عام ٣٥٧، هاجَمَ مستوطنة أمفيبوليس الأثينية المجاورة لنهر سترايمون واستولى عليها، تلك المستوطنة التي ظلت شوكةً في الجنب المقدوني الشرقي لمدة ٨٠ سنة.

اتبع فيليب طوال حكمه خطة تحالُف مماثِلة يتمِّمها الزواج والدبلوماسية والحملات. كانت القوة العسكرية عنصرًا أساسيًّا في أيِّ أمل في النجاح؛ ومن ثَمَّ، على الرغم من تعذُّر تحديد التواريخ الدقيقة للتطورات، فالأرجح أن إعادة بناء وإصلاح الجيش الذي دُمِّر سنة ٣٥٩ كانت من أولويات فيليب العاجلة. كان قد حظي برؤية الإصلاح الكبير الذي أدخلَتْه مدينة طيبة اليونانية على تشكيل المشاة الثقيلة «الفلنكس» رأْيَ العين، بينما كان رهينة في طيبة (٣٦٧–٣٦٤) في مستهل شبابه (بين ١٥ و١٨ سنة من عمره). وتتجلَّى أهميةُ هذه المعرفة في نجاحها في مساعدة طيبة على إنشاء إمبراطورية خاصة بها بعد هزيمة الجيش الإسبرطي سنة ٣٧١، وكان حتى ذلك الحين صاحبَ اليد العليا. ونناقش التغيُّرات التي طرأت على الجيش المقدوني مناقشةً أتم في وصف ميراث الإسكندر من فيليب في الفصلين الثالث والخامس، بينما سنكتفي هنا ببيان ملامحه الرئيسة، كإنشاء قوات مشاة أخف حركة ومسلحة برماح أطول، والتوسُّع في الخيَّالة، وإنشاء سرايا خاصة من المشاة الخفيفة والخيَّالة الخفيفة، وتطوير آلاتٍ للحصار. ومع اتساع رقعة المملكة، سواء أكان ذلك من خلال الفتوحات أم التحالفات، توافَرَ المزيد من الجنود. وبالاستخدام الكفء للموارد، تسنَّى لهم الوجود دائمًا في الميدان، سواء في حملاتٍ أم لأغراض التدريب.

خدم فيليب قضيتَه لكنه استفاد أيضًا من أفعال أعدائه ومواقفهم، وكان العون الذي قدَّمَه له أعداؤه هو التفرُّق؛ فباستثناء التحالُفات التي كانت تنطلق من مقدونيا بمعدل متزايد، لم يكن يوجد إلا قليل من الوحدة بين مختلف شعوب البلقان أو التراقيِّين أو الإغريق، الذين كانت الحرب فيما بينهم ضد بعضهم بعضًا حقيقةً من حقائق الحياة. أدرك فيليب الصراعات الداخلية واستغلَّها لمصلحته في توسيع نطاق نفوذه بدرجةٍ أكبر جنوبًا في اليونان، وشرقًا ضد الدول الإغريقية في شبه جزيرة خالكيذيكي، ثم داخلَ تراقيا وصولًا إلى البحر الأسود، وغربًا إلى شاطئ البحر الأدرياتي، وشمالًا في بلاد البلقان.

ظلت تيساليا والدول الخالكيذيكية تشغل باله خلال عقد الخمسينيات. وبحلول سنة ٣٥٢، كانت الحملات التي جُرِّدت في تيساليا قد حقَّقت نجاحًا كافيًا، وإنْ لم يكن نصرًا كاملًا، لدرجة تولِّيه منصب «تاجوس» التيسالي، بمعنى قائد القوات العسكرية التابعة لمناطق تيساليا الأربع جميعها. أدَّى استيلاء فيليب على مركز الحلف الخالكيذيكي في أولينثوس سنة ٣٤٨، وما تلا ذلك من تدميرٍ لتلك المدينة، ربما بالإضافة إلى ٣٠ مستوطنة أخرى؛ إلى ضم خالكيذيكي فعليًّا إلى المحيط المقدوني. وبما أن الإغريق الجنوبيين، وخصوصًا الأثينيين، كانوا ناشطين في شمال بحر إيجة؛ آذَنَ عملُ فيليب فعليًّا بمواجَهةٍ مستمرة مع المدن الإغريقية الكبرى. وفي الوقت نفسه كان هؤلاء الإغريق الأَقْصَاء يقدِّرون قوةَ الجيش المقدوني، الذي كان يمكن استخدامه لخدمة قضية أحد الطرفين في الحروب التي لا تنتهي بين الدول-المدن الإغريقية أينما وُجِدت.

شهد النصف الأخير من القرن الرابع استمرارًا للحرب الأهلية المدمرة بين أثينا وإسبرطة وحلفائهما من ٤٣١ إلى ٤٠٤. وفي عددٍ لا نهائيٍّ من محاولات التسيُّد من جانب الدول الكبيرة والصغيرة على السواء، انتقل المشاركون من مراكز السلطة إلى وضع الرعايا المهزومين. وفي تلك الأثناء صار الأعداء السابقون حلفاء، وخرج الحلفاء السابقون إلى الميادين بعضهم في مواجَهة بعض. وبينما كان الإغريق يحارب بعضهم بعضًا، كان انتباههم أولَ الأمر مصروفًا عن مقدونيا، وفيما بعدُ اتجهوا إلى فيليب وجيشه كأداتين في إطار جهودهم، فاستغلَّ فيليب هذا الموقف ببراعةٍ، وعندما دُعِي إلى تسوية الحرب المستَعِرة بين فوكيس والدول الأخرى في وسط اليونان، لبَّى الدعوة؛ فهُزِمت فوكيس سنة ٣٤٦ واكتسب فيليب منصبًا رسميًّا آخَر، وهو عضوية المجلس الحامي لحرم دلفي.

لم يكن بوسع فيليب تجاهل الأعداء التقليديين الآخرين، فسارت الجيوش المقدونية ضد الإليريين في الشمال، وزحفت إلى إبيروس في الغرب وعبر تراقيا ثم سكيثيا في الشرق. أُبرِمت اتفاقيات جديدة، كالتحالُف الذي أُقِيم مع ملك جيتاي، الذي كان يسكن المنطقة الواقعة بين تراقيا والدانوب، وأُنشِئت مستعمرات جديدة. وأما مع جنوب اليونان، فلم تكن العلاقات عسكريةً، على الأقل مؤقتًا. أرسل فيليب السفراءَ واستقبَلَهم، وخصوصًا إلى أثينا ومنها، وسانَدَ العناصر الموالية للمقدونيين في مختلف أصقاع اليونان، فدُعِيت دولتا ميسينيا وميجالوبوليس في بيلوبونيز، على سبيل المثال، إلى الانضمام إلى الحلف الأمفكتيوني الدلفي بجانب الدول الإغريقية الأخرى وفيليب.

على الرغم من هذه الدبلوماسية، كان الخوف من نوايا فيليب في ازديادٍ، ومن جديد كان هذا سائدًا بالأخص في أثينا، التي كانت مصالحها في البحر الأسود معرَّضةً للهجمات المقدونية. لكن المواجهة ستجرُّ أرجلَ دولٍ أكثر من مقدون وأثينا، ولن يكون مكانها في بحر بروبونتيس. بدلًا من ذلك، عندما اشتعل فتيل الحرب في وسط اليونان مجددًا في مطلع ثلاثينيات القرن الرابع، قاد فيليب المقدونيين عائدًا بهم إلى اليونان كملك مقدوني ومسئول إغريقي في آنٍ واحدٍ. تمخَّضَ القلقُ المتنامي إزاء نوايا فيليب النهائية عن قيام تحالُفٍ بقيادة أثينا وطيبة، مع مشاركة حلفاء طيبة البيوتيين وفِرَق عسكرية من الدول الآخيَّة، وفي موقع خيرونية في بيوتيا التقى ما بين ٣٠ و٣٥ ألف جندي إغريقي عددًا مقارِبًا من المقدونيين بقيادة فيليب على رأس الجناح الأيمن، وابنه الإسكندر — الذي كان يقود الخيَّالة — على رأس الجناح الأيسر. كان النصر المقدوني حاسمًا، وفَرَّ الناجون من الإغريقيين إلى ديارهم على أمل الانتقام.

بدلًا من الانتقام، سُوِّيت شئون الدول الإغريقية بتأسيس الحلف الكورنثي لأغراض هجومية ودفاعية، وانضمَّ إليه الجميع باستثناء حليف بارز هو إسبرطة. ولغياب إسبرطة عن الحلف دلالتُه؛ إذ إن وجود الدولة — التي كانت ذات يومٍ الأعلى كعبًا من حيث المشاة الثقيلة بين كل دول اليونان — لم يَعُدْ ضروريًّا لتسيير أمور مملكةٍ صارت رقعتها بحلول سنة ٣٣٦ تمتدُّ من إليريا في الشمال الغربي إلى ساحل البحر الأسود الغربي في الجنوب الشرقي، ومن جنوب البلقان في الشمال إلى البر الرئيس الإغريقي في الجنوب. وتُقدَّر الرقعة الجغرافية للملكة بمساحة ١٦٦٨٠ ميلًا مربعًا (٤٣٢١٠ كيلومترات مربعة)، كان أكثر من ١٢٠٠٠ ميل مربع (٣١٥٠٠ كيلومتر مربع) منها مملوكًا فعليًّا، و٤٥٠٠ ميل مربع (١١٧١٠ كيلومترات مربعة) منها تحت السيطرة المباشِرة. في نهاية الحرب البيلوبونيزية كانت المساحة قد صارت ٨٤٠٠ ميل مربع (٢١٧٥٠ كيلومترًا مربعًا)، بينما كانت أثناء حكم الإسكندر الأول ٦٦٠٠ ميل مربع (١٧٢٠٠ كيلومتر مربع). كان أعضاء الحلف ينتمون إليه بالفتح، وبالتحالُف الذي يعزِّزه الزواجُ بالملك المقدوني، وبالاجتماع على أهدافٍ مشتركةٍ يجري التخطيط لها في اجتماعاتِ مجلسِ المندوبين الموفَدين من لدُن جميع الأعضاء. في قلب كل حلقةٍ كان هناك فيليب الثاني، الذي كان يتشعَّب بطرقٍ مختلفة وفي اتجاهاتٍ متنوعة انطلاقًا من عاصمته في بيلا.

•••

لم يكد النظام الجديد يبدأ حتى اغتيل فيليب سنة ٣٣٦. وما يبرهن على صحة تخطيط فيليب أن ابنه وخليفته الإسكندر الثالث استطاع إعادة تأكيد ترتيبات أبيه أثناء السنتين الأوليين من مُلْكه. قامت ثورتان؛ إحداهما في إليريا، قاد إليها الإسكندر جيشَه المقدوني سنة ٣٣٥، والأخرى في اليونان حيث تمحورت حول طيبة. فتعامَلَ الملك الجديد مع كلتَيْهما بسرعة وفعالية، فدُمِّرت طيبة. كانت مملكة مقدونيا تحت السيطرة، وكانت الأوضاع على حدودها الشمالية قد استتبَّتْ عندما استهلَّ حملتَه ضد الفرس سنة ٣٣٤.

غير أنه من المهم أن نتذكر أن التوحيد كان حديث عهد، وأن التوترات لم تتواصل فحسب بل اشتدت في خضم إنشاء المملكة المترامية الأطراف، التي اتسعت في عهد فيليب اتساعًا كبيرًا في رقعتها الجغرافية وتعداد سكانها، حتى صارت آنذاك تضم فئات كثيرة من البشر وحَّدَتْها الفتوحات أو التحالفات بعد أن كانت كيانات منفصلة تفرِّق بينها معالِمُ الأرض الطبيعية والثقافة على حدٍّ سواء. كان معظم هذه الفئات، إن لم يكن كلها، يحنُّ إلى استقلاله، وستظلُّ الحركاتُ الانفصالية التي كانت مشكلةً تواجِه الحكام الأرغيِّين الأوائل تُقضُّ مضجعَ الإسكندر. علاوةً على ذلك، كانت أنماط الحياة لا تزال متباينةً في عموم المملكة؛ إذ كان الرعي المترحل هو النشاط السائد في بعض المناطق، وكانت الزراعة المستقرة تشغل اهتمام معظم الناس في بعضها الآخر. وقد لاقى الرعاة والمزارعون على امتداد معظم التاريخ صعوبةً في استيعاب أحدهما الآخر. كانت الاختلافات الإقليمية تتمخض عن توتُّر آخر؛ إذ تعرَّضت مواقع معينة لتشكيلة من الشعوب الأخرى، فسادَ التأثيرُ البلقاني والصراعُ المحتمل في مقدونيا العليا، وأما على امتداد الخليج الثيرمي فتعرَّض المقدونيون للتأثير والاجتياح الإغريقي والتراقيِّ.

كان معظم الملوك الأرغيِّين قد سعَوا دأبًا إلى إدماج عناصر من الثقافة الإغريقية؛ إذ برهن الإسكندر الأول في القرن الخامس على حقه في المشاركة في الألعاب الأوليمبية، وجلب أرخيلاوس بضائع ورجالًا إغريقًا إلى عاصمته في آيجي وأقام دورة ألعاب في ديون، واعتمد فيليب الثاني على الابتكارات الإغريقية كالإصلاح العسكري الطيبي، وكذلك على البضائع وعلى الأشخاص مثل أرسطو. عزَّزَ فيليب أيضًا روابطه باليونان بإحراز ثلاثة انتصارات في الألعاب الأوليمبية في السنوات ٣٥٦ و٣٥٢ و٣٤٨. كان هذا الاقتراض الثقافي عمليًّا من منظور معين، لكنه كان سببًا للصدام من وجهة نظر أخرى. والراجح أن كثيرين من رعايا أرخيلاوس وفيليب لم يكونوا راضين بالكلية عن «أغْرَقة» الثقافة المقدونية. ومع قيادة الإسكندر جيشَه وزحفه شرقًا أكثر فأكثر، واجَهَ ما يُعرَف شيوعًا باسم ردود الأفعال المقدونية ضد ممارساته غير المقدونية المكتسبة حديثًا.

كان توسيع المملكة قد تطلَّبَ قدرًا أكبر من المركزية، وكانت هناك مراكز تأسست من قبلُ (في آيجي وبيلا)، لكنْ تعيَّنَ اتخاذ المزيد من الخطوات مع ضمِّ أقاليم جديدة إلى المملكة؛ فوُسِّعت المراكز القائمة، وأُقِيمت حصون ومستعمرات كلما اتسعت حدود المملكة، وتعيَّنَ شقُّ طرق لربط المناطق. كان لزامًا أيضًا وجود قوة عسكرية كبيرة مَرِنة، ومع امتداد جهود فيليب إلى بحر بروبونتيس والبحر الأسود، تعيَّنَ إقامة قوة بحرية. كانت كل هذه التطورات تحتاج إلى موارد، وكانت هذه الموارد موجودة يقينًا، لكن تعيَّنَ آنذاك قيام سلطة مركزية على أمر إنتاجها بكميات كافية واستغلالها، وتطلَّبَتْ تلك المركزية بدورها توسيعَ الأجهزة الإدارية فيما وراء هيكل السلطة المقدونية الأصلي البسيط نوعًا ما. حتى الإنشاء الفعلي لهذه الأجهزة كان من الجائز تمامًا أن يثير نفورَ العناصر المحافظة من السكان، وخصوصًا العائلات النخبوية الأخرى.

وأخيرًا كانت هناك توترات مستمرة في قلب الدولة، وتحديدًا داخل السلالة الأرغيَّة الحاكمة. كان عدد من الفروع الجانبية قد تفرَّعَ من الأسرة بحلول القرن الرابع، وعلى الرغم من أن المُلْك كان ينتقل من الأب إلى الابن، كان من الجائز أن ينتقل — كما في حالة وفاة أرخيلاوس التي أسلفنا بيانها — من الأخ الأكبر إلى الأخ الأصغر أو إلى أحد فروع العائلة الجانبية؛ فأبو فيليب نفسه، وهو أمينتاس الثالث، كان ينتمي إلى فرعٍ جانبيٍّ من فروع السلالة. كانت الأحقية بالمُلْك تتعرَّض للطعن دومًا لدى موت الملك الحالي.

خلاصة القول أنه مع التوسُّع الذي كان مثار الإعجاب وأواصر المركزية داخل المملكة، ظلت المملكة هشَّةً وعرضةً دائمًا للتهديدات الآتية من وراء حدودها.

(٣) طبيعة الحياة في مقدونيا القرن الرابع قبل الميلاد

عندما عنَّفَ الإسكندر رجالَه على نكرانهم الجميل سنة ٣٢٤، كان يصف التغيُّر الهائل في طبيعة الحياة في مقدونيا على عهد أبيه.

تولَّى فيليب أمركم وكنتم رُحَّلًا لا تملكون موارد، وكان معظمكم يرتدي الجلود، ويرعى قليلًا من الغنم على جانب الجبل ولا يُحسِن القتالَ لحماية نفسه في مواجَهة الإليريين والتريباليين والتراقيِّين على حدودنا، فأبدَلَكم بجلود الحيوانات أرديةً كاسيةً، وأنزلكم من الجبال إلى السهول، وجعل منكم محاربين أُولِي بأسٍ في مواجَهة الجيران البرابرة، حتى يمكنكم الاعتماد على أنفسكم بدلًا من الأمن الذي يوفِّره إقليمُكم. جعل منكم سكانَ مدنٍ، وسنَّ قوانين وأعرافًا نافعة. وعلى البرابرة الذين كانوا يحكمونكم وينهبونكم ذات يومٍ جعلكم سادةً لا عبيدًا لهم ولا رعايا. (آريانوس، الكتاب السابع، ٩، ٢-٣)

لو قَبِلْنا بصحة هذا التوبيخ، يكون فيليب هو الذي حوَّلَ المقدونيين من الهيئة البربرية إلى الهيئة المتمدِّنة. وتستدعي الشواهد، على الرغم من ضآلتها، بعضَ التعديل لفجائية عملية التمدين؛ إذ يمكن تتبُّع تاريخ عملية مستمرة قوامُها التحوُّل إلى الاستقرار وسكنى الحضر في تيساليا ومقدونيا وإبيروس إلى نهاية العصر البرونزي وحتى القرن الرابع قبل الميلاد. وعلى الرغم من أن جهود فيليب حفَّزَتْ هذه العملية بشدة، كانت حياة القرية قد اتسعت قبل ذلك في أجزاء من مقدونيا، وخصوصًا المناطق الواقعة في مقدونيا الدنيا المتأثرة بالمستعمرات الإغريقية التي أُنشِئت قبل ذلك في العصر الحديدي، وبدأت تتكاثر عددًا في القرن الثامن وما تلاه. كانت القرى صغيرةً من حيث المساحة وعدد السكان على حدٍّ سواء في معظم مناطق مقدونيا، وكانت المواقع التي تزيد على نحو ٧٫٥ إلى ١٠ آكر (٣-٤ هكتارات) نادرة في غربي مقدونيا. على النقيض من ذلك، كانت بيلا أكبر مستوطنةٍ، وبمساحة ٧٤ آكر (٢٧ هكتارًا) مع أكروبول على مساحة ٤٫٥ آكر (١٫٨ هكتار).

تباينت أيضًا الوظائف والأشغال بين المناطق؛ إذ كانت الزراعة بالإضافة إلى تربية المواشي وسيلةَ كسبِ الرزق للكثيرين في المناطق ذات السهول الخصيبة، أما المناطق الواقعة في النجود والمرتفعات فكان يكثر فيها الرعي المترحل كسبيلٍ للعيش، وهذا هو صنف العيش الذي يذكره آريانوس من خلال خطاب الإسكندر في رجاله. كانت موارد تلك النجود ذاتها تشجِّع على القنص وصيد الأسماك، ومع ازدياد الطلب على الخشب المقدوني، احتاج حصاد منتجات الغابة إلى أيدٍ عاملة من السكان. اشتغل آخَرون باستخراج الموارد المعدنية؛ إذ يسجِّل هيرودوت أنشطةَ تعدينٍ من زمن الإسكندر الأول، منوِّهًا إلى منجمٍ كان ينتج كلَّ يوم وزنةً من الفضة لذلك الملك (الكتاب الخامس، ١٧). كانت الحرب — وهي كما رأينا حاجة مستمرة — مهنة أخرى اعتيادية يمتهنها الذكور البالغون، وتبيِّن الحساباتُ المستندة إلى عدد المقدونيين الأحرار معينَ الرجال الذي كان يمكن تعبئته:

قبل حكم فيليب: ٨٠ ألفًا–١٠٠ ألف
أثناء حكم فيليب: ١٦٠ ألفًا–٢٠٠ ألف
أثناء حكم الإسكندر: ٢٤٠ ألفًا–٣٠٠ ألف

يُقدَّر عدد السكان في زمن فيليب بسبعمائة ألف نسمة، مقارَنةً بمائتين وخمسين ألف نسمة قبل ذلك بما يزيد عن قرن بقليل.

استخدم بعض أثينيِّي القرن الرابع ألفاظًا قاسية لوصف المقدونيين. وسبق أن ذكرنا رأي الخطيب الأثيني ديموستيني، الذي قال إن فيليب بربري من مكان مَهين (الخطب الفيليبية، الخطبة الأولى، ٤)؛ أما التقييمات الحديثة فهي أرفق بوجه عام. ولعل خطبة ديموستيني، التي وُظِّفت لتحريض الأثينيين ضد فيليب، كانت تُضمِر تقييمًا شخصيًّا؛ لأن فيليب — بحسب وصف أحد معاصريه — كان «أعظم الرجال موهبةً» (إيسخينيس، «عن السفارة» ٢، ٤١). كان سيحتاج إلى مواهب خاصة ليتعامل مع مقدونيا، التي كانت تتسم بسمات المجتمع الحدودي الخشن المشاكس. وتتحدث المصادر المكتوبة عن ممارسة الثأر، وضرورة أن يقتل الرجل عدوًّا قبل أن يتسنَّى له استبدال جلد حيوان بالرسن الذين يرتديه، وأن يقتل خنزيرًا بريًّا برمح دون استخدام شبكة قبل أن يتسنى له الجلوس في الندوات (كان كلاهما على الأرجح من طقوس البلوغ والمنزلة الاجتماعية)، والولع بصيد الحيوانات البرِّية، والرقصات التي تحاكي سرقة المواشي، وتمثيل معركة صورية في حفل افتتاح موسم الحملات العسكرية، وحفلات الشراب التي كان يمكن فيها أن تتسبَّب الخمرُ الصِّرفة في موت شاربها. ألَّفَ الشاعر يوربيديس مسرحيته «الباخوسيات» أثناء إقامته في العاصمة المقدونية؛ ومن ثَمَّ يُعتقَد أنه استلهم جوَّ هذه التراجيديا من طبيعة الحياة المقدونية. ربما يكفي أن نتذكر أن الجوقة مؤلَّفة من نساء هائجات من عَبَدة باخوس/ديونيسيوس، وإحداهن أمُّ الملك، الذي لم يكن من عَبَدة ذلك الإله. تمزِّق النساء الملك الشباب إربًا إربًا ظنًّا منهن أنهن اصطدنَ حيوانًا فارًّا يقدِّمْنَه قربانًا للإله.

fig9
شكل ٢-٧: الرعي حرفة باقية، وخصوصًا في النجود، كما هو الحال قرب جريفينا. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.

يجب أن نتذكر أن معظم شواهدنا مستمَدة من روايات تاريخية غير مقدونية، فلا يوجد إلا القليل من الشواهد المقدونية المكتوبة، ويقينًا لا يوجد عملٌ كُتِب له البقاء من وضْعِ مؤرخين أو شعراء تراجيديين مقدونيين معاصرين لفيليب والإسكندر، لكن الشواهد المادية تشير فعلًا إلى إرث فني راقٍ. كان اكتشاف مدافن فيرجينا/آيجي الملكية، التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع، دليلًا مذهلًا على هذا الرقيِّ. يشتمل أحد هذه المدافن، وربما يخص فيليب نفسه، على غرفتين، تضم كبراهما أواني وأسلحة برونزية (من ضمنها درع برونزية تحمل تصميمات زخرفية مذهَّبة، مع شرائط من الذهب مثبتة رأسيًّا) مكدَّسة في أحد الأركان، مع مشغولات فضية تقبع في ركن آخر. وعُثِر في الغرفة الرئيسة على خمسة رءوس صغيرة منحوتة من العاج ومصوَّرة تصويرًا واقعيًّا، والأرجح أنها تعود لفيليب وأبوَيْه وزوجته أوليمبياس وابنهما الإسكندر. أما التابوت الذي وُضِع فيه رفات المتوفَّى المحروق، فصُنِع من ذهب زنة أكثر من ٢٤ رطلًا. ويقبع بالقرب من الرأس تاج جميل مشغول من الذهب.

fig10
شكل ٢-٨: الثروة المعدنية: إكليل لبلاب ذهبي من مدفن أحد الذكور في مقبرة سيفاستي، تل باباس، إقليم بييريا، حوالي ٣٥٠ قبل الميلاد. يوجد الآن في متحف الآثار في سالونيك. صورة بعدسة ريتشارد آر جونسون.

تشير الشواهد المادية، عند النظر إليها فيما يتصل بجهود الملك فيليب الثاني، إلى سمة أخرى «خفية» من سمات المجتمع المقدوني؛ فأي ملك، مهما كان ناجحًا، يحتاج إلى ما هو أكثر من مجلس يتألف من عمداء العائلات الكبرى، وجمعية جيش تتألف من الجنود المقدونيين كافة، لكي يسيطر على مملكة كبيرة. وقد اكتسب الموظفون الإداريون والأجهزة الإدارية أهميةً متزايدةً مع اتساعِ رقعة المملكة وازديادِ تعقيدها وقوتها في مواجهة الدول الأخرى المجاورة. قال البعض إن وظائف البلاط المقدوني الداخلية في الأزمنة الأولى تحوَّلَتْ إلى مناصب إدارية؛ ووفقًا لهذا التفسير على سبيل المثال، ولِيَ «الدايتس»، الذي كان ذات يوم مشرفًا على طعام الملك، مسئولياتٍ ماليةً إداريةً.

عندما صارت المناطق التي كانت مستقلة سابقًا أقاليمَ إداريةً، احتاجت إلى إشرافٍ، وفي بعض الأحيان إلى جمع الضرائب. كان يتعين الإشراف على موارد المملكة الطبيعية الأساسية تحت سيطرة مركزية، وكان التعاملُ مع الرسل وإرسالُ الرسل في المقابل يحتاجان إلى تنسيق. وكان يتعين إحلال الاستقرار في المناطق الحدودية، وصياغة المعاهدات، وإرسال الكشافة لاستجلاء الموقف في الأركان القاصية التي تحظى باهتمام فيليب. وما يدعو للأسف أنه لا يوجد لدينا دستورٌ للمقدونيين، مقارَنةً بالدستور الذي وضعه أرسطو للأثينيين، ليكشف عن طبيعة الآليات التي برزت إلى الوجود لإدارة هذه المسئوليات. غير أن نجاح فيليب لم يكن ليُتصوَّر من دون نظام إداري كفء، وتدل إنجازاتُ الملوك السابقين كالإسكندر الأول وأرخيلاوس على أن جذور ذلك النظام غُرِست قبل حكم فيليب بقرن على الأقل؛ ومن ثَمَّ فمن المنطقي أن نتصوَّر أن المملكة المترامية أنتجَتْ تنظيمًا ذا طابع رسمي أكبر، على الأقل في قلب هذه المملكة.

(٤) الإسكندر في سياق مقدونيا والمقدونيين

هدفنا فهم طبيعة الإسكندر الأكبر. فكيف تُلقِي معرفتُنا بالأرض التي شهدت مولده وشبابه، وبالناس الذين وليَ حكمهم سنة ٣٣٦، وبالطريقة الحياتية المستقرة؛ الضوءَ على هذا الهدف؟

لعل الشيء الأكثر وضوحًا هو الموارد الطبيعية التي كانت تحتوي عليها مقدونيا؛ أيْ معادنها وأخشابها وأمطارها وأنهارها وسهولها الخصيبة وأسماكها وطيورها وحيواناتها البرِّية. ذهب جاريد دايموند إلى أن سكان المناطق التي تتمتع بوفرة في الموارد الطبيعية يملكون ميزةً كبيرة في إنشاء ثقافات ناجحة. لكن الهيمنة على هذه الموارد في مقدونيا لم تتأتَّ دون مجهودٍ جادٍّ، وكما رأينا فإن طبيعة المنطقة المادية تمخَّضَتْ عن أناسٍ أشدَّاء. كان استغلالُ الموارد الطبيعية والسكان، وإنشاءُ دولة مستقلة ثم صيانتها، يعني الهيمنة على الأراضي الجبلية والمياه الوفيرة الجارية في الأنهار الطويلة، وكلٌّ من هذه الجبال والأنهار كان يقسِّم المنطقة إلى قِطَع أصغر. كانت القدرة على تحويل هذه الملامح إلى مزايا ضروريةً لبزوغ دولة فعالة، وسيعرف القائد الناجح أهميةَ هذه القدرة، ليس فيما يتعلَّق بالقوة الاقتصادية فحسب، بل أيضًا فيما يتعلق بتحسين مهارة جيشه العسكرية. وسنمحص قيمةَ هذه القدرة في الفصل الأخير.

دارت رحى المعارك التي خاضها المقدونيون وانتصروا فيها تحت قيادة الإسكندر عند أنهار؛ فكانت المواجهة الأولى عند نهر جرانيكوس، الذي عبره المقدونيون ثم ارتقوا الضفة المقابلة للاشتباك مع العدو. وفي المواجهة الثانية، وتحديدًا في إيسوس، قاد الإسكندر قواته عبر نهر بيناروس للاشتباك مع الجيش الفارسي. وأوقع الهزيمةَ بالزعيم الهندي بوروس وجنوده على ضفاف نهر هايداسبيس (نهر جيلوم حاليًّا) المترع بمياه الأمطار الموسمية. وبعد ذلك النصر، شقَّ المقدونيون طريقهم جنوبًا على ضفاف نهر السند ثم استكشفوا مصبَّيْه والخطَّ الساحلي في قوارب أمَرَ الإسكندر ببنائها لهذا الغرض. كانت المعرفة بأهمية الممرات المائية لأغراض الاتصال والتوحيد ناتجًا ثانويًّا ثمينًا من نواتج إرث الإسكندر المقدوني.

علَّمَتْه مقدونيا أيضًا أحسن تعليم كيف يتعامل مع الجبال، وهو ما كان ضروريًّا للحملة التي شنَّها في آسيا الوسطى؛ فبتعليمات من الإسكندر، استولى المقدونيون على قلاعٍ يُفترَض أنها حصينة كسوقديانا في باخترا (آريانوس، الكتاب الرابع، ١٨، ٥–١٩، ٤) وصخرة أرونوس، وهي موقع اشتهر بصد محاولات هرقل (آريانوس، الكتاب الرابع، ٣٠، ١–٤).

كان الزعماء المقدونيون يثمِّنون قيمةَ مَن استطاعوا إنجازَ هذه المآثر، وهم قلب قواتهم المسلحة. كانت الضغوط على نواة المملكة مستمرة وموجودة على كل الحدود، وكان الجنود المدرَّبون لصد الإليريين والتراقيِّين والإغريق والغارات الأخرى — المأمول التغلُّب عليهم — مفتاحَ سلامة أراضي المملكة. نُشِّئ هؤلاء الجنود الواعدون في ظروفٍ صقلت لياقتهم البدنية، كرعاة يسوقون قطعانهم من مراعي الشتاء الوطيئة إلى المراعي الصيفية في الجبال، وصيادي وحوش برية، ومزارعين؛ ومن شأن أمثال هؤلاء الرجال أن يكونوا محاربين أشاوس، والملك الحكيم يقدِّر قيمةَ هؤلاء الجنود.

سيكون حريًّا به أيضًا أن يقدِّر موقع مقدونيا الوسط؛ أيْ قُرْبها من الآخرين ومواطن جذبها إياهم. كانت العزلة مستحيلة؛ ومن ثَمَّ فاكتساب دراية بالأعداء المحتملين سيكون ميزة مهمة. وعلى نحو ما أسلفنا البيان، شاهَدَ الإسكندر توسُّعَ رقعة مقدونيا وتفاعُلها المتزايد مع الشعوب الأخرى. ويروي بلوتارخُس حديثًا دار بين الإسكندر الصبي ورُسُلِ الملك الفارسي أثناء غياب الملك فيليب (الإسكندر، الكتاب الخامس، ١–٣)، وعُنيت أسئلته بشبكات الطرق وشخصية الملك وعدد الجنود الفرس. وحتى إن كانت هذه الرواية غير دقيقة، فإن بيلا كانت قد تحوَّلَتْ إلى خليةٍ للنشاط الدولي أثناء طفولة الإسكندر، وهكذا امتدَّ عالَمُه إلى ما وراء النطاق المقدوني التقليدي.

لا شك أن هذه معرفة ضرورية لشخص يجب عليه التعامل مع ثقافات أخرى. ومن ناحية أخرى، المبالغة في البُعْد عن «طريقة الحياة المقدونية» كانت تنطوي على خطورة محتملة، وَلْتنظر إلى مشاعر كلايتوس صاحب الإسكندر؛ فوفقًا لرواية آريانوس، اغتمَّ كلايتوس لتبنِّي الإسكندر طرقًا أجنبية، وفي مرحلة معينة عندما كان الثناء يُكال للملك، أبدى رفْضَه ذلك الثناءَ، إيمانًا منه بأن «أفعال الإسكندر لم تكن عظيمة ومعجزة إلى الدرجة التي كان يصفها بها البعض، وأنها لم يُنجِزها رجل واحد بمفرده، بل كانت في أغلبها أعمال المقدونيين» (الكتاب الرابع، ٨، ٤-٥). بل أبدى بلوتارخُس أيضًا صراحةً أكبر حين روى عن كلايتوس قوله بخطأ السخرية من المقدونيين في حضور البرابرة والأعداء؛ لأن المقدونيين يظلون رجالًا أرقى بكثير من الأعداء الأجانب على الرغم من تفوُّق هؤلاء الأعداء على بعض المقدونيين (الإسكندر، ٥٠). وقُتل كلايتوس بسبب هذه الاتهامات على يد الإسكندر نفسه.

كان استخدام الموارد الطبيعية التي حُبِيت بها المنطقة يتطلَّب معرفة معينة وحكمة في تخصيصها، مثلما كان يتطلَّب التفاعل بين المقدونيين وغيرهم نوعًا آخر من التوازن الدقيق من جانب الملك المقدوني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤